نظرية الردع في العلاقات الدولية (deterrence)

نظرية الردع في العلاقات الدولية (Deterrence)
د/ جيدور الحاج بشير

تعهد مشروط بالثأر أو بالعقوبة إذا فشل طرف آخر بالسلوك بالطريقة المطلوبة والمطاوعة. فالردع إذاً يتعلق بالعلاقات بين الأفراد والجماعات. بل يمكن القول إنه يشمل مجموعة واسعة من العلاقات من تربية الأطفال عبر الأنظمة الجزائية إلى الشؤون الدولية. يمكن تحديد هذه العلاقة بأبسط مظاهرها بين شخصين: الفارض والمفروض عليه. فالفارض يسعى لردع المفروض عليه عن التصرف بطريقة غير مقبولة من خلال التهديد بالعقوبة.

يركز الردع حصراً على الجزاءات السلبية، أو التهديدات، ومنع حدوث سلوك غير مقبول. لذا يغلب أن يكون أكثر انتشاراً أو أهمية في علاقات الكراهية وليس في علاقات الانسجام. فيغلب أن تقوم الجهة الفارضة – بالتهديد في ظروف تجدها غير ملائمة وإزاء الجهة المفروض عليها التي تريد الجهة الفارضة أن تعارض سلوكها أو حتى وجودها. من هنا يعتبر الردع حالة خاصة من علاقة القوة – تلك الظروف للمعارضة الاجتماعية التي تتميز باستخدام العقوبات. ثم إن الردع يتعلق صراحة بالجزاءات السلبية.

بما أن الردع يستند إلى أفكار عن أنظمة التهديد والتعهدات المشروطة بتنفيذ العقوبة فقد برهن على أنه مناسب بشكل خاص لأخوة الدراسات الاستراتيجية ضمن التقليد الواقعي. وقد شكل مجيء الأسلحة النووية بعد 1945 تحدياً جديداً لأولئك البحاثة, لأنه بدا للكثيرين أن توجيه واحتمال تنفيذ التهديدات النووية ينطويان على مشاكل خاصة لكل من المحلل ولراسم السياسة. فالصعوبة المتأصلة في هذه الفئة من التهديدات هي أنها تفتقر إلى المصداقية. فبالنظر لمعرفة أن الخصم يمتلك أسلحة نووية فإن التهديد النووي تعهد مشروط لا تملك الجهة الفارضة الدافع لتنفيذه، عقلانياً، لأنها لن تكسب شيئاً من تنفيذ التهديد. فإذا وضعت الجهة الفارضة في ظرف تكون مضطرة فيه إلى التنفيذ الفعلي للتهديد فعندئذ يكون غرضها قد ضاع ولا يكون لتنفيذه أي قيمة. ومن المفارقة أن هذا ليس بالضرورة إذا كان بالإمكان إقناع الجهة المفروض عليها أن التهديد ليس فارغاً وأن الجهة الفارضة لن تتردد في تنفيذه. والخلاصة كلما كان التنفيذ المشروط مؤكداً كلما قل احتمال التنفيذ الفعلي.

يشار إلى مشكلة جعل هذا التهديد المشروط قوياً بدرجة كافية بأنها مشكلة مصداقية. فالمصداقية هي العملية التي يتم بها تفعيل التهديدات. أولاً، يقتضي تفعيل التهديدات الإبلاغ عنها – بأكبر قدر من الوضوح. ثانياً، يجب أن يجرد التهديد الجهة المفروض عليها من قيم نادرة تفضل الاحتفاظ بها بخلاف ذلك. ويتعين على الجهة المفروض عليها أن تقدر ما ستتم التضحية به، في حالة عدم الإذعان، على أنه أغلى من أي قيم يتم التنازل عنها في حالة الإذعان. وهنا تكمن الصعوبة في إكراه جهة مفروض عليها الردع إذا كانت تشعر بأنه ليست لديها ما تفقده. في مثل هذه الحالات قد يفشل الردع ويتعين على الجهة الفارضة مواجهة احتمال تنفيذ التهديد بغية المحافظة على مصداقيتها – فلا تُرى على أنها تتظاهر وتخادع. ويشار إلى هذه المشكلة في الأدبيات على أنها حالة نتيجة فعل لاحق لفعل سابق (ex post ex ante)، أي أن التهديد قد يبدو معقولاً جداً قبل تنفيذه ولكنه يبدو غير معقول كلياً بعد ذلك. ويرى المعارضون لاستراتيجية الدمار المتبادل المؤكد (mutual assured destruction) أن هذه الاستراتيجية تبدو أقل مصداقية بكثير في ضوء هذا التمييز.

ينظر شيللنغ (Schelling) إلى قضية نتيجة فعل لاحق لفعل سابق بطريقة مختلفة في مؤلفه لعام 1966. فانطلاقاً من التمييز بين الردع والإكراه (compellence)، يسعى إلى فصل الأوضاع التي تسعى فيها الجهة الفارضة لمنع سلوك ما (ردع) عن الأوضاع التي تسعى فيها الجهة الفارضة إلى كشف ظلامة بعد ذلك (الإكراه). ويجادل شيللنغ بأن تحقيق علاقة إكراه فعال قد يكون أصعب لأن السلوك يكون جارياً وتكون الجهة الفارضة تسعى، في واقع الأمر، إلى “إرجاع عقارب الساعة” بأن تطلب من الجهة المفروض عليها تغيير ما هي قائمة به.

تقتضي المصداقية أن تكون الجهة الفارضة مالكة للقدرة العسكرية اللازمة لتوجيه التهديدات وتنفيذها. يميز غلين سنايدر (Glen Snyder) (1961) بين نوعين من حالات الردع التي تعتمد على قدرات مختلفة وبالتالي نوايا مختلفة. فيميز “سنايدر” بين ردع الحرمان وردع العقوبة. فردع الحرمان يعمل عبر المنازعة في السيطرة على الأراضي والسكان مما يقترن تقليدياً بأي دفاع إقليمي. قبل تطوير الأسلحة النووية كان يمكن تنفيذ وظائف الحرمان والعقاب بالقدرة نفسها. على أن تطوير القوة الجوية طويلة المدى والصواريخ البالستية وأسلحة الانشطار والانصهار أصبح يعني أنه قد يكون بإمكان أي دولة تمتلك هذه القدرة إلحاق ضرر كبير بخصم من الخصوم دون أن تكون لديها القدرة على حرمان الخصم من مكاسب هامة. فانطلاقاً من هذه الحجة يصبح الردع والدفاع بديلين، إن لم يكونا وضعين متعاكسين.

بوجود الدمار المتبادل المؤكد يتم فك الربط بين الردع والدفاع. فالدمار المتبادل الشامل لا يؤدي إلى التهديد بحرمان العدو من مكاسبه المحتملة، بل يهدد بإنزال العقوبة على شكل إبادة جماعية. ولقد تمثلت إحدى نتائج فك الربط بين الردع والدفاع بنشوء تشويش بشأن دور مختلف أنظمة الأسلحة. فمن وجهة نظر الدفاع يمكن تبرير صاروخ مضاد للصواريخ البالستية إذا كان يتيح لمالكه أن يحدد الضرر الذي يلحق بأراضي مالكه. ومن وجهة نظر الردع قد يبدو نظام الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية أنه يسبب زعزعة الاستقرار لأنه يخفض من درجة التأثر، وهو شرط أساسي مسبق للدمار المتبادل المؤكد.

تثير نظرية الردع أسئلة خطيرة بشأن الظروف التي يمكن أن تكون فيها التهديدات وسيلة فعالة للسيطرة على السلوك و، من جهة معاكسة، الشروط التي قد يكون لها أثر عكسي. وتوجد أدلة كثيرة على رأي مقيد جداً بشأن افتراضات الردع. أولاً، كثيراً ما يرى الطرف المفروض عليه التهديد أن الباعث هو الرغبة في إلحاق الأذى وليس احتياجات الدفاع عن النفس. ثانياً، يمكن اعتبار التهديد محاولة لمنع سلوك مشروع يشعر الطرف المفروض عليه بأن من حقه ممارسته. ثالثاً، قد لا يردع التهديد السلوك العدواني بل يحوله إلى أغراض بديلة. رابعاً، قد يؤدي التهديد عبر إيجاد توتر ضمن جماعة صناعة القرار إلى إبطال نمط السلوك العقلاني الذي يشكل شرطاً أساسياً ضرورياً لكي يحقق الردع أغراضه. فقد يكون السلوك خاصة تحت الضغط عكس المطلوب فيما يتصل بالردع. فقد تصبح الاتصالات الدقيقة أكثر صعوبة. وقد يعمل التوتر على الازدياد الكبير لاحتمال الإدراك الخاطئ لبعض القيم وإمكان اعتبار القضايا على أنها مسألة مبدأ لا يمكن التنازل بشأنه. وتدل مناقشة جيرفس (Jervis) لنظرية التصاعد اللولبي في عمله عن الإدراك والإدراك الخاطئ أن العداء يمكن أن يؤدي إلى عكس المراد في بعض الظروف ويعزز التساؤلات المثارة آنفاً عن هذه النظرية ذات التأثير الكبير ولكن التي تنطوي على الخلل والتي تتعلق بالسيطرة الاجتماعية.

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button