دراسات استراتيجية

أسباب وعوامل تطور علم الاستراتيجية

الإستراتيجية بصورة عامة واحدة في هدفها وأسلوبها ، ولكنها تنقسم خلال مراحل التنفيذ إلى عدة إستراتجيات متنوعة ومتخصصة تهدف كل منها لتحقيق الإستراتيجية الأصلية (الأم) وهكذا نجد أنفسنا_ كما قال الجنرال ( اندريه بوفر) في كتابه ( مدخل إلى الإستراتيجية العسكرية ) _أمام هرم متكامل من الإستراتجيات المتبانية والمترابطة مع بعضها البعض

والتي تعمل بشكل متسلسل ومنتظم وتسعى جميعها للوصول إلى نفس الهدف ونجد في قمة هذا الهرم (الإستراتيجية الأم) التي تخضع للإرادة السياسية ومهمتها الأساسية هي تحديد المهام للاستراتيجيات الأخرى مع ضمان توافق عملها مع بعضها في سبيل تحقيق الأهداف المرسومة.وسوف نحاول في هذا الجزء من البحث التعرف على مستويات هذه الاستراتيجيات المتنوعة ومدى ارتباطها بالإستراتيجية الأصلية ( الأم) إلى جانب دراسة أشكال وأنواع الإستراتيجية.

مستويات الإستراتيجية:
سبق وأن اشرنا في الجزء الأول من هذا البحث إلى أن تعبير الإستراتيجية هو ذو اصل عسكري أساسا ولكن مع تطور العصر تشعب استخدامها ولذا تطلب الأمر إجراء العديد من الدراسات لوضع أسس يمكن من خلالها تمييز مستويات محددة للإستراتيجية ، وقد توصل الخبراء الإستراتيجيون إلى ثلاث مستويات للإستراتيجية:

أولاً/ الإستراتيجية الشاملة: 
وهي الإستراتيجية الأم، وقد اختلف الكتاب الإستراتيجيون في تسمياتها وذلك حسب اختلاف مدارسهم الفكرية فأطلق عليها في الولايات المتحدة الإستراتيجية الوطنية أو القومية وأطلق عليها في الاتحاد السوفيتي الإستراتيجية العامة بينما اختار لها المفكر الاستراتجي (ليدل هارت 1895-1970) الإستراتيجية العليا، ولكني رأيت أن أستخدم تسمية الجنرال (اندريه بوفر) بهذا البحث (الاستراتيجية الشاملة) لاعتقادي بتوافق هذه التسمية مع ظروف العصر الراهن ولما تحمله من معنى شمول هذه الإستراتيجية لغيرها من معاني الاستراتيجيات الأخرى.
وبالرغم من اختلاف هذه التسميات إلا أنها تلتقي جميعها في المضمون وتشير لحقيقة واحدة وهي[استخدام كافة المقومات المتاحة لمجتمع ما لتحقيق الأمن القومي في ظل كل الظروف المعاصرة أو المتوقعة]، ومن ثم فإن الإستراتيجية الشاملة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم الأمن القومي للدولة وهي الأداة لتحقيق أهدافه.
ولمزيد من التوضيح نقول أن الإستراتيجية الشاملة للدولة هي الوسيلة لتحقيق أهدافها وغاياتها الرئيسية ويأتي في مقدمة هذه الأهداف والغايات المحافظة على استقلال الدولة والبقاء على السيادة القومية لها في ظل التكامل الإقليمي وحماية المؤسسات والقيم الرئيسية للمجتمع.
وهكذا نجد أن الإستراتيجية الشاملة تهتم بكيفية استغلال كافة قوى الأمة في ظروف السلم والحرب لتحقيق أهدافها وغاياتها القومية وبمعنى أدق نستطيع القول أنها عبارة عن[عملية توجيه الاستراتيجيات المختلفة الداخلية والخارجية السياسية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية والتنسيق فيما بينها بهدف تأمين الأمن القوي للدولة في وقت السلم ودعم القوات المسلحة في وقت الحرب]، ويختصر جمال عبد الملك في كتابه (السياسة والإستراتيجية)، حيث يعرف الإستراتيجية الشاملة بقولة (هي فن استخدام وتطور قوى الأمة السياسية والاقتصادية والعسكرية والمعنوية أثناء الحرب والسلم على السواء لدعم السياسة القومية للدولة).
لذلك نجد أن تحديد عناصر الإستراتيجية الشاملة يتم من قبل السلطة السياسية بالدولة بالتشاور مع القيادات العسكرية و المدنية على سواء.

ومما سبق عرضه نستطيع أن نستخلص أربع صفات رئيسية يمكن من خلالها تحديد مفهوم الإستراتيجية الشاملة على أنها:

  1. ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالأمن القومي والسلامة القومية للدولة.
  2. تشير إلى تعبئة وتنظيم وتوجيه كافة موارد المجتمع.
  3. تتغير وتتطور بتغير الظروف والموارد والاختيارات المتاحة.
  4. تشمل في محتواها عدة استراتيجيات متنوعة تسعى كل منها من خلال مجالها لتحقيق الأهداف والغايات القومية للدولة.

ثانياً/ الإستراتيجية الفرعية:
وهذا المستوي من الإستراتيجية يهتم ويركز على احد جوانب أو مجالات المجتمع ويسعى لتحقيق غايات وأهداف الإستراتيجية الشاملة من خلاله ومن أمثلة ذلك ما يعرف الآن بالاستراتيجيات المتخصصة مثل الإستراتيجية العسكرية والإستراتيجية السياسية والإستراتيجية الاقتصادية والإستراتيجية الاجتماعية والدبلوماسية والإعلامية وغيرها من الاستراتيجيات المتخصصة والتي جميعها تخضع للإستراتيجية الشاملة وتمثل جزءًا من عناصرها وأدواتها.
وسوف نتعرض للإستراتيجية العسكرية كمثال لهذا المستوى من الإستراتيجية بالدراسة والتحليل.

الإستراتيجية العسكرية:
كما سبق وأن ذكرنا في الجزء الأول من هذا البحث أن الإستراتيجية العسكرية من الناحية التاريخية هي البذرة التي أنبتت ما يعرف في العصر الحديث بالفكر الاستراتيجي، ويقصد بالإستراتيجية العسكرية استخدام الدولة لقواتها المسلحة لغرض تحقيق أهدافها.
وكانت الإستراتيجية العسكرية في القرون الماضية عبارة عن فن مارسه بمهارة العديد من القادة العسكريين الأولين مثل الإسكندر الأكبر وجنكيزخان وهانيبال وخالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي ومحمد الفاتح، ولكن بالرغم من ممارسة هؤلاء القادة العسكريين للإستراتيجية فإنهم لم يدونوا خبرتهم عنها.
ولهذا ساد الاعتقاد لفترة طويلة من الزمن أن الإستراتيجية العسكرية مجرد فن يمارسه القادة الموهوبون عن حدس وعبقرية ذاتية وأنه ليس للإستراتيجية العسكرية قواعد ونظريات علمية ولكن مع تطور التقنية العسكرية وازدهار العلوم الطبيعية وسيادة الفلسفة العقلية في أوروبا في القرن التاسع عشر بدأت دراسة ظاهرة الحرب على أسس الفلسفة العقلية وأخذت محاولات دراسة الإستراتيجية نهجها العلمي والفلسفي وقد تطور مفهوم الإستراتيجية العسكرية على يد العديد من المفكرين العسكريين ولكن يمكن حصر الذين أثروا الإستراتيجية وتم بفضل دراساتهم وأرائهم نقل الإستراتيجية خطوات متقدمة نحو مفهومها في العصر الحديث في ثلاثة من الخبراء الاستراتيجيين.
ففي البداية كان كلاوزفيتز والذي يعتبر المؤسس الفعلي للفكر الاستراتيجي العسكري حيث قدم تعريفه القائل (الإستراتيجية العسكرية هي فن إعداد المعارك ووضع الخطط العامة للحرب) وبذلك جعل الإستراتيجية محصورة في مفهوم تحقيق الهدف النهائي للحرب وهو سحق العدو، ثم جاء المفكر الاستراتيجي الانجليزي ( ليدل هارت) وانتقد تعريف كلاوزفيتر وعاب عليه أنه جعل الحرب هي الأسلوب الوحيد لتحقيق الأهداف للإستراتيجية الشاملة من ناحية تحقيق الأهداف.
وقدم ليدل هارت تعريفه الجديد في الثلث الأول من القرن الماضي والقائل (الإستراتيجية العسكرية هي فن توزيع واستخدام مختلف الوسائل العسكرية لتحقيق الغاية السياسية).
وجوهر هذا التعريف أن الهدف من الإستراتيجية العسكرية ليس البحث عن المعركة بل البحث عن وضع استراتيجي ملائم وإن لم يؤد بنفسه إلى النصر فإنه يخلق ظروفاً ملائمة لمعركة تأتي بعده وتنتزع النصر.
ثم جاء المفكر الاستراتيجي الفرنسي الجنرال(اندريه بوفر) وعرف الإستراتيجية العسكرية بأنها (فن استخدام القوة للوصول إلى أهداف سياسية وهي حوار الإرادات التي تستخدم القوة لحل خلافاتها) وأصبح هذا التعريف هو أساس الإستراتيجية العسكرية منذ الستينات وقد جمع (بوفر) في تعريفه الجانب العسكري الذي قصده ( ليدل هارت) في تعريفه السابق وكذلك لم يغفل عن الجانب النفسي (السيكولوجي) الذي نادي به الجنرال الفرنسي ( فوش) في بداية القرن العشرين حيث عرف الإستراتيجية بأنها (عملية تنبع من اشتباك بين إرادتين متنازعتين) وأضاف ضرورة استخدام القوة بصورة تجعلها تمارس أكبر تأثير لتحقيق الغايات التي وضعتها السياسة وهذا ما حاول ( كلاوزفتيز) قوله في تعريفه للاستراتيجية وهكذا فإن المفهوم المعاصر للإستراتيجية العسكرية أبتعد عن تعريف (كلاوزفيتز) السابق وأصبح يقترب أكثر من النتيجة التي وصل لها المفكرون الاستراتيجيون التقدميون وهي أن الهدف الحقيقي للإستراتيجية العسكرية ليس بالضرورة السعى الى المعركة وتحقيق النصر فيها وإنما هي العمل على إيجاد موقفا ملائما للدولة يمكننا عن طريقه تحقيق أهدافها السياسية سواء حدثت المعركة أم لا وهذا الفهم المعاصر للإستراتيجية العسكرية يؤكد ما قاله الحكيم الصيني (صن تزو) في كتاباته منذ زمن بعيد (إن إخضاع العدو دون قتال هو قمة المهارة).
نستطيع أن نستخلص مما سبق أن الهدف العسكري للإستراتيجية العسكرية لم يعد يقتصر على تحقيق نصر في معركة حاسمة مهما كانت الخسائر وإنما الهدف هو إعداد الظروف لخوض هذه المعركة بحيث تكون الخسائر أقل والنتائج أفضل والعمل على تحقيق التفوق الاستراتيجي وذلك بالوصول إلى نتيجة حاسمة دون الخوض في معارك ضاربة.

وهنا قد يتساءل القارئ كيف يمكن تحقيق التفوق الاستراتيجي بدون خوض معارك ضاربه؟ وللإجابة عن هذا التساؤل نقول أنه على الرغم من أن ذلك شيئ نادر في التاريخ ولكن كما هو معروف أن ندرة الشيء لا يقلل من أهميته وقيمته بل قد تزيدها لأنها تسلط عليه الأضواء وتبرز الإمكانات المتوفرة فيه.
وعليه فإن الإستراتيجية العسكرية تحوى في مضمونها إمكانات وقدرات أن وجدت من يستغلها لأصبح بالإمكان تحقيق غاية الإستراتيجية الشاملة عن طريقها بدون المبالغة في إراقة الدماء.
فإذا افترضنا أن استراتيجيا عهد إليه بالعمل على تحقيق نصر عسكري فإن مسئوليته تنحصر في تحقيق هذا النصر في أحسن الظروف والتي تضمن الحصول على أفضل النتائج ولن يضع هدفه الأوحد البحث عن معركة كما يقول كلاوزفيتز، بل يعمل على خلق وضع استراتجي ملائم أن لم يؤدى بنفسه إلى تحقيق النصر فهو بلا شك سيخلق وضعاً ملائماً لمعركة تأتي من بعده لتحقيق النصر بأقل خسائر وأفضل النتائج، ولذلك يقول المفكرين الاستراتيجيين: إن هدف الإستراتيجية العسكرية لتحقيق النصر هو تفتيت قوات الخصم بدلا من سحقها كما ينادي به أنصار كلاوزفيتز فتفتيت
قوات الخصم سيؤدى بالتالي إلى تحطيمه بطريقة أسهل خلال المعركة وقد يتطلب تحقيق هذه التحطيم في بعض الحالات نشوب معارك واشتباكات ولكنها لا تكون ضاربة ودموية بالمعنى المتعارف عليه.
والسؤال الآن هو كيف يمكننا تحقيق عملية تفتيت قوات الخصم؟
يقول ( ليدل هارت) في كتابه (الإستراتيجية وتاريخها في العالم) إنه يمكن تحقيق عملية التفتيت عن طريق الحركة الدائمة والناتجة عن العمل العسكري الاستراتيجي والذي يمكن حصره في العناصر التالية:

  1. إحداث إرباك في تشكيلات الخصم الأساسية بحيث تجبره على إجراء تغيير مفاجئ في جبهته تؤثر على توزيع وتنظيم قواته.
  2. تقسيم وفصل قوات الخصم بالتأثير على نقاط التمفصل بين قواته.
  3. تهديد خطوط تموينه.
  4. تهديد الطرقات التي تستطيع منها التراجع نحو قاعدته الرئيسية.

وقد يمكن تحقيق عملية التفتيت بتنفيذ أحد هذه العناصر ولكن غالبا يتطلب تنفيذ عدة عناصر منها لتحقيق الهدف المنشود.
قبل أن نختم حديثنا عن الإستراتيجية العسكرية يتوجب علينا أن نميز في هذا المجال بين ثلاث عناصر أساسية في الإستراتيجية العسكرية وهي الإستراتيجية (STRATEGY) والتعبئة (TACTICS)والشؤون الإدارية(LOGISTICS) فالتعبئة هي نظرية استخدام القوات المسلحة في الاشتباك أو هي (فن استخدام الأسلحة في المعركة على أكبر قدرة من الفاعلية) والشؤون الإدارية (ويقصد بها هنا مفهومها الواسع والذي يشمل الامداد والمساعدة) هي (فن التحركات ونقل المعدات والأسلحة إلى ميدان المعركة) أما الإستراتيجية فهي (علم تنسيق هذين النوعين من العلوم العسكرية لتحقيق النصر وكيفية استخدام القوة العسكرية لتحقيق غايات الدولة السياسية) وكان (هلمرت مولتكة) أول من أوجد العلاقة الوثيقة بين الإستراتيجية والتعبئة في قوله (أن الإستراتيجية تقوم من خلال قيادتها للجيوش وتركيز القوات في ميدان المعركة بتأمين فرصة النجاح للتعبئة وفي المقابل تتحمل الإستراتيجية نتائج التعبئة).
وفي النهاية يجب التنبيه على أن الفكر الاستراتجي العسكري يتطور باستمرار وذلك نتيجة للتطور الهائل في تقدم التقنية والتسليح وكمثال على ذلك ظهور ما يعرف الآن بالإستراتيجية العسكرية الشاملة والتي برزت بعد ظهور الأسلحة الذرية واحتمال استخدامها في أي حرب عالمية قادمة.

ثالثا/ الإستراتيجية النوعية:
هذا المستوى من الإستراتيجية يعمل على وضع تنفيذ أهداف قطاعات مختلفة من إحدى الاستراتيجيات الفرعية المتخصصة مثلا الإستراتيجية العسكرية تنقسم إلى عدة استراتيجيات نوعية تخدم كل منها قطاع معين فتوجد إستراتيجية بحرية وإستراتيجية جوية وإستراتيجية الردع النووي وغيرها، ولكل نوع من هذه الاستراتيجيات مفكرين استراتيجيين متخصصــين في دراستها ووضع نظرياتها فنجد (الفرد ماهان) (1840-1914) – الضابط البحري الذي وضع الأسس الأولى للفكر الاستراتيجي البحـري وعمــل علـى تطـور مفهوم الإستراتيجية البحرية وكذلك الايطالي (جوليو دوهي)6(1869-1930) والذي يعتبر مؤسس الإستراتيجية الجوية، وأهتم الفرنسي (اندريه بوفر) بإستراتيجية الردع النووي وضع دراسات لها في مؤلفات هامة هي (إستراتيجية المستقبل) (والردع النووي والإستراتيجية).
ولمزيد من توضيح الإستراتيجية النوعية نقول مثلا إن إستراتيجية التنمية الاقتصادية لإحدى الدول تضع الإطار العام للتطور الاقتصادي في هذا المجتمع ومن خلالها تبرز عدة استراتيجيات فرعية تهتم كل منها بتحقيق أهداف هذه الإستراتيجية في كل قطاع من القطاعات الاقتصادية فتتكون إستراتيجية التصنيع وإستراتيجية الزراعة إلى غير ذلك من الإستراتيجيات النوعية والتي تهدف جميعها إلى تحقيق أهداف الإستراتيجية الاقتصادية للدولة.

العلاقة بين المستويات المختلفة للإستراتيجية:
كما أوضحنا سابقاً أن المستويات المختلفة للإستراتيجية يجب أن تعمل مع بعضها البعض بشكل موسيقي منتظم متسلسل، فلو افترضنا أن كل مستوى للإستراتيجية هو عبارة عن آلة بفرقة موسيقية وحتى يتم الحصول على لحن موسيقي متكامل يتوجب وجود نوتة موسيقية تعمل على التحكم في النغمة الموسيقية الصادرة من كل آلة وبذلك يمكننا تشبيه النوتة الموسيقية بالغاية والهدف بالنسبة لمختلف مستويات الإستراتيجية، فالغايات والأهداف يجب أن تكون متوافقة ومتسلسلة تسلسلاً منطقياً ويجب أن لا تتناقض سواء في إطار الإستراتيجية الواحدة أو بين الاستراتيجيات المختلفة في إطار نفس المجتمع، ففي حالة وجود أي تناقض في الأهداف سيؤدى هذا حتما لفشل الإستراتيجية ويخل بتسلسلها، فمثلا لا يجب أن تركز الإستراتيجية العسكرية على الحصول على نوعية معينة من السلاح من دولة ما في حين يكون الهدف من الإستراتيجية الإعلامية أو السياسية هو مهاجمة هذه الدولة إعلاميا وعدم مساندتها سياسياً أو أن تهدف الإستراتيجية الصناعية في دولة ما على إقامة صناعات ثقيلة في حين ترتكز إستراتيجيتها الزراعية على زراعة الفواكه والخضروات.
ولذا يجب أن يتم رسم الاستراتيجيات على أي مستوى من خلال تطابق الغايات والأهداف بينهما وهكذا فإن الغاية والهدف التي تسعى كل إستراتيجية لتحقيقها يجب أن تتسم بالاتي:

  1. الوضوح.
  2. التكامل والشمول بين الأهداف بالقطاعات المختلفة.
  3. التناسق الداخلي وعدم التناقض مع غيرها.

أنواع الإستراتيجية:
للإستراتيجية العديد من النماذج والأشكال ويتوقف كل نموذج على الموقف الذي وضعت له فعند دراسة الاستراتيجي لأي معضلة ويود وضع إستراتيجية محددة لها فإنه يضطر إلى تبني موقف يتلائم مع العقيدة الصالحة في الوضع المتواجد به وبالتالي سيواجه اختيار أحد النماذج أو الأشكال الإستراتيجية وللمساهمة في تقليص هذه المشكلة حصر الجنرال (اندريه بوفر) في كتابه (مدخل إلى الإستراتيجية) هذه النماذج والأشكال الأستراتيجية في نوعين رئيسيين هما الإستراتيجية المباشرة والغير المباشرة، ولخص آرإءه فيها نظريا في الآتي:

الإستراتيجية المباشرة:
تعتمد في جوهرها على فكرة البحث عن النتيجة الحاسمة وذلك باستخدام القوة العسكرية أو التلوح بها وهي نابعة من إستراتيجية كلاوزفيتز، والتي تعتبر تعميقا للعقيدة المبنية أساساً على مبدأ (الديناميكية العقلانية) التي كانت مصدر الهام للقادة العسكريين في الحربين العالميتين السابقتين وأصبحت في عصرنا الحالي أساس المجابهة الذرية.

الإستراتيجية الغير مباشرة :
تعتبر مصدر إلهام جميع أنواع الصراعات في هذا العصر حيث لا تبحث عن الحل المباشر عن طريق الصدام المسلح ولكن تستخدم وسائل غير مباشرة سياسية أو إقتصادية أو غيرها وتستخدم القوة العسكرية في عمليات محددة متعاقبة تتخللها مفاوضات، وقد اشتهر هذا النوع من الإستراتيجية حيث أصبح استخدام الإستراتيجية المباشرة محدوداً لأنها قد تتصاعد ويؤدى إلى مواجهة ذرية يحاول العالم أن يتفاداها حاليا وأصبحت الإستراتيجية الغير مباشرة هي الوحيدة التي يمكن استخدامها بعد أن شل التهديد بالخطر النووي إمكانية العمل بالإستراتيجية المباشرة في أغلب المواقف، ولذلك أصبحت النظريات التي تستخدمها الإستراتيجية الغير مباشرة معقدة وشديدة الدقة وأغلب أساساتها غامضة وانحسر دورها فيما يعرف بالحروب الباردة بين القوى العظمي وقد استخدمت كثيرا في المجال العسكري وخاصة بعد أن أبرز (ليدل هارت) ما يعرف الآن (بنظرية الهجوم الغير مباشر) والتي اعتبرت أفضل الاستراتيجيات العسكرية المعاصرة والتي تعتمد أساسا على عدم الدخول مع الخصم في مواجهة إلا بعد العمل على وجود ظروف ملائمة لصالحنا بمعنى عدم مجابهة الخصم في إختبار مباشر للقوة ولكن يجب قبل مجابهتة إزعاجه ومفاجأته وزعزعة توازنه باتجاهات غير متوقعة بغرض إرباكه وإضعافه للحصول على أفضل النتائج لصالحنا عند مواجهته مباشرة.
وفي الحقيقة إن هذين النوعين من الإستراتيجية يتعايشان ويتكاملان مع بعضها البعض والدليل على ذلك هو أن الحوار العالمي الحالي حوار ذري نابعاً من الإستراتيجية المباشرة والتي تهدف إلى إبطال وشل القوى المعادية الكبيرة إقتصادياً وعسكريا بإقامة نظام ردع نووي رهيب، بينما نجد أن أشكال من الحوار السياسي يتسلسل من حين لآخر من شروخ هذا الحوار العالمي ويتخذ مسارا على هذه الإستراتيجية الغير مباشرة وهكذا فالإستراتيجيه مثل الموسيقى لها نغمات وطبقات عالية وأخرى منخفضة يتوقف اختيار النغمة المناسبه على الموقف وعلى الغاية.

الخــــاتمة:
مما سبق عرضه يمكننا أن نستخلص أن الإستراتيجية ليست قاصرة على مجال معين دون غيره من المجالات والقول الشائع أنها مرتبطة بالجوانب العسكرية قد بطل مفهومه في هذا العصر وأصبح في استطاعتنا وضع إستراتيجية لأي قطاع أو مجال بالمجتمع بحيث تكون خاصة به وتتلائم مع إمكاناته بشرط أن تتضح رؤية الهدف وتحديده، وتكونت نتيجة لذلك إستراتيجيات متنوعة منها العسكرية والإقتصادية والإجتماعية وجميعها تخدم الإستراتيجية الشاملة وتحقق أهدافها والتي هي في الواقع أهداف المجتمع ككل.
وإن الإستراتيجية لم تعد ترتبط بعملية إدارة الصراع وإنما تطورت حتى أصبحت ترتبط أساسآ بتحقيق الغايات والأهداف سواء أخذت شكل صراع مع طرف آخر مثل الحديث عن إستراتيجية الصراع العربي الصهيوني أو أخذت شكل مواجهة لمشاكل المجتمع مثل الحديث عن إستراتيجية التنمية الإقتصادية أو الإجتماعية أو غيرها.
في الجزء الثالث من هذا البحث سنتناول بالتحليل الصراع العربي الصهيوني وإمكانية وضع ملامح الإستراتيجية العربية الشاملة المطلوبة وفقا لما تم دراسته في الجزءيين السابقين من هذا البحث.

هــــوامش:

1. أندريه بوفر:
جنرال بالجيش الفرنسي ومفكر استراتيجي ومنظر عسكري معاصر شارك في الحرب العالمية وبالحرب الفرنسية الفيتنامية وحملة العدوان الثلاثي على مصر الثورة، وتقلد العديد من المناصب العسكرية كان أخرها مندوب فرنسا بالقيادة العامة للحلف الأطلسي، مكنته هذه الخبرة من تكوين قاعدة متينة للتفكير السليم لدراسة مبادئ الإستراتيجية وتطبيقاتها على أوضاع وعمليات حقيقية، وقام بتأليف العديد من الكتب العسكرية والتي تتناول الإستراتيجية بالتحليل والدراسة المعاصرة ومن أهم مؤلفاته (إستراتيجية المستقبل) و (مدخل إلى الإستراتيجية العسكرية) والذي يعتبر أكثر الدراسات الإستراتيجية التي ظهرت في هذا العصر كمالاً ودقة وتماسكاً.
2. ليدل هارت:
ضابط بالجيش البريطاني ولد بكورنويل عام 1895م وتوفى عام 1970 شارك في الحرب العالمية الأولى وتقاعد من الجيش مبكرا وهو برتبة نقيب وعمل مراسلا حربيا ثم كاتباً متخصصا في الشؤون العسكرية من أهم مؤلفاته (أفكار الحرب) (والإستراتيجية وتاريخها في العالم) ويعتبره العسكريون من أعظم المفكرين العسكريين في القرن العشرين وأغزرهم أنتاجاً وأعمقهم فكرا وكان له الفضل في إدخال العديد من المفاهيم العسكرية الحديثة في المجال التعبوي والعملياتي وساهم مساهمة فعالة في تطور الإستراتيجية ومن أهم أفكاره ما يعرف حالياً بإستراتيجية الهجوم الغير مباشر والتي تعتبر أفضل إستراتيجية لانتزاع النصر الحاسم قال عنه رومل ( لو استوعب القادة البريطانيين نظريات ليدل هارت لتغيرت نتائج معاركنا معهم).
3. فيردينالدفوش:
مارشال فرنسي الأصل ولد عام 1851 م وتوفى عام 1929م يعتبر بطلاً من أبطال الحرب العالمية الأولى تولى منصب القائد العام لجيوش الحلفاء في هذه الحرب وأحرز لها نصرا تاريخياً أثرت النظريات التي صاغها في مؤلفه ( مبادئ) على القادة العسكريين الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية وكان يؤمن بمبدأ الاقتصاد في القوة والحرية في العمل، ومن أشهر أقواله (ليس النصر محصلة متميزة وجزئية ولكنه محصلة جهود متكافئة بعضها ناجح وبعضها فاشل ولكنها تتجه كلها رغم ذلك نحو الهدف الرئيس نفسه.
4. هلموت مولتكة :
أحد مارشالات بروسيا المشهورين بالقرن التاسع عشر ومن أول المنادين بالاهتمام بتوزيع القوات في المعركة حسب ما تمليه مجريات الأحداث أثناء سير المعركة وكان يردد دائما كلمته المشهورة (في الحرب التغيير هو الممكن قبوله).
5. الفر د ماهان :
أدميرال بالبحرية الأمريكية ، عمل كمحاضر في مادة التاريخ البحري والاستراتيجي بالكلية البحرية الأمريكية في بداية حياته ثم أصبح مديرا لهذه الكلية لاحقا ، يعتبر المؤسس الأول للإستراتيجية البحرية حيث كان أول من وضع النظريات الإستراتيجية حول القوة البحرية وأبرز أهميتها الإستراتيجية وذلك من خلال مؤلفاته العديدة والتي من أهمها (البحرية في الحاضر والمستقبل) و(تأثير القوة البحرية على التاريخ) وقد أثر بأفكاره الجديدة تأثيرا عميقا ومباشرا على مفهوم القوة البحرية وأثرت كتاباته بطريقة أو أخرى على خصائص الفكر الاستراتيجي البحري لأغلب البحريات في العالم ويعتبر أول من أطلق المصطلح الاستراتيجي (الشرق الأوسط) وتنبأ بأهمية السيطرة البحرية في بحر الأبيض المتوسط لإحراز السيادة البحرية .
6. جيوليود وهي:

بدأ حياته العسكرية كضابط سلاح المدفعية بالجيش الايطالي في نهاية القرن التاسع عشر ومعا بداية القرن العشرين وجه اهتمامه إلى شؤون البحث العلمي وسائل الطيران والقوة الجوية وذلك مع بداية ظهور أول طائرة كتب العديد من المقالات أبرز فيها أفكاره حول أهمية القوة الجوية ونادى في كتاباته بضرورة تحقيق التفوق الجوي كشرط أساسي من شروط إحراز التفوق الاستراتيجي، لذا أعتبر من أوائل المفكرين الاستراتيجيين فــي مجال السلاح الجوي وعهد إليه بتأسيس السلاح الجوي الايطالي عام 1912.
7. إستراتيجية الهجوم الغير مباشر :
يرجع الفضل لظهور هذه الإستراتيجية إلى المفكر الاستراتيجي ( ليدل هارت) وهي تعني عدم مجابهة الخصم مباشرة وبديلاً عن ذلك نستعين بخطة دقيقة نرمي من ورائها لتعويض النقص الذي نجد أنفسنا فيه بالنسبة للخصم والتقدم نحو الخصم من اتجاهات غير متوقعة بالنسبة له والقيام بتنفيذها بحيث تصرف الخصم عن أهدافنا الحقيقية.
وقد برع القادة الألمان في تنفيذ هذه الإستراتيجية خلال الحرب العالمية الثانية ونجحوا فيها في حين لم يلتفت لأهميتها القادة البريطانيون وأصيبوا بهزائم متعاقبة .

عميد بحار / حسن علي ابو شناق

*******

أساسيات الإستراتيجية العربية الشاملة إن طبيعة الصراع الدولي أو الإقليمي على حد سواء أصبح في عصرنا الراهن يشمل جميع مظاهر الحياة البشرية،

وبفعل التطور الحضاري أصبح الصراع يدور على جميع الأصعدة وفي جميع المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية.. ولضمان النجاح في خوض أي صراع يجب تبني إستراتيجية معينة، وحيث أن الصراع يأخذ أشكالاً وأنماطاً متعددة فإنه ليس من إستراتيجية في هذا العصر سوى الإستراتيجية الشاملة لمواجهة أي صراع دولي أو إقليمي، ولأن الأمة العربية تواجه أخطر التحديات في تاريخها فإنها في أشد الحاجة لنهج إستراتيجية شاملة لمواجهة هذا التحدي الحضاري الذي يشمل جميع الأمة العربية وليس جزءً واحدًا منها.

الجزء الثالث

إن احتلال الأرض العربية بفلسطين ومحاولة إقامة كيان استعماري استيطاني صهيوني توسعي على أنقاضها هو في جوهره عملية تحدي للأمة العربية ككل، وهو الدليل على الاستهانة بقدراتها، فاقتطاع جزء من كيان الأمة العربية لا يعتبر تحدياً لذلك الجزء بقدر ما هو تحدي للأمة كلها. ومن الطبيعي أن يتفرع عن هذا التحدي الحضاري عدة تحديات، فعملية استنزاف القدرة العربية بالحروب الجانبية المتتالية هو في الأساس نوع من التحدي الاقتصادي، وقيام العدو الصهيوني بدور الجدار الفاصل جغرافيا بين الأقطار العربية هو في الأساس تحدٍ قومي، وعملية تهويد الأراضي العربية تعتبر تحديا للعروبة، وإظهار العدو الصهيوني بمظهر المتفوق يعبر عن التحدي للقدرة العربية، وغيرها .. وغيرها من التحديات، ولذلك فإن الأمة العربية في أمس الحاجة للربط بين الإستراتيجية والعلوم الأخرى لوضع إستراتيجية عربية شاملة لمواجهة جميع هذه التحديات واجتيازها.

بديهيات الصراع العربي – الصهيوني:
من أبجديات الصراع العربي – الصهيوني والتي يحفظها كل عربي قومي عن ظهر القلب أن الصراع هو في عمومياته صراع مصيري عدائي الطابع ولا يتحمل أنصاف الحلول وبالتالي فإنه لا يمكن أن ينطبق عليه حوار الإرادات بمعناه البسيط وإنما بمعناه العنيف الشامل الذي لا يتوصل أحد الطرفين فيه لتحقيق غايته إلا بتحطيم كيان الطرف الآخر وتكبيده خسائر مادية ومعنوية كبيرة لكي يحسم الصراع لأحدهما.
ولذلك فإن محاولة تنفيذ حلول الوسط لا يلغي هذا الصراع بل يحوله من حالة الصدام المكشوف إلى حالة الصدام المتواري والذي ينتظر اللحظة الملائمة محلياً ودولياً لينفجر بعنف أشد.

وبالتالي فإن محاولة طمس هذه البديهيات بالحلول الفردية والاستسلامية ما هي في الواقع إلا مثل السابح ضد التيار، فالصراع (العربي _الصهيوني) اتخذ الصبغة التاريخية، ولهذا يصبح من الصعب فرض حل لهذا الصراع بدون الأخذ بعين الاعتبار هذا المعضل الرئيسي.
فالصراع (العربي – الصهيوني) ليس اقتتالا بين مجموعتين مسلحتين (كما يحاول الغرب إيهام ضعاف النفوس من العرب)، وبالتالي فإن أي اقتتال يمكن حله سلمياً أو هو عبارة عن حاجز نفسي يمكن بتحطيمه أن يسود السلام بين أطراف الصراع، وإنما جوهر هذا الصراع أن الأمة العربية تدافع عن حقها في الوجود والبقاء ضد قوة صهيونية مسلحة تساندها قوى أخرى بهدف زرع الفكر الصهيوني محل القومية العربية والعمل على تشريد الشعب العربي بعد أن يمارس ضده جميع أنواع الاضطهاد والعنصرية والقهر.
إن أي تجاهل لهذه البديهيات والحقائق الواضحة بغرض الوصول إلى صيغة حل تلفيقي يمكن من خلاله فرض إمكانية التعايش مع الكيان الصهيوني المزروع في قلب الأمة العربية، عن طريق القوة وإجبار الجماهير العربية بالتكيف مع أهدافها ومكوناتها، ما هو إلا عبارة عن مجابهة محدودة وعاجزة عن حل التناقض العدائي القائم، ومحاولة فاشلة أساسًا ولا يمكن لها البقاء حتى وأن قُدِّر لها النجاح أثناء ولادتها العسيرة، لأنها تتناقض مع المسار التاريخ والحضاري لهذا الصراع.
وهكذا فإنه لا يمكن للأمة العربية إلا الاعتماد على إمكاناتها وقدراتها الهائلة والعمل على وضع إستراتيجية شاملة تسخر لها جميع مواردها وإمكاناتها المادية والبشرية والمعنوية لمواجهة هذا التحدي الحضاري المتمثل في الخطر الصهيوني العنصري والذي يعمل وينفذ مخططات العدوانية التوسعية وفقا لإستراتيجية واضحة ومعلنة ولا يبذل أي مجهود لإخفائها والتي يجب علينا معرفة أساسياتها حتى يمكننا التعرف على ملامح الإستراتيجية العربية الشاملة المطلوبة لمواجهة هذا العدو الشرس بنفس أسلحته وأٍساليبه.

ملامح وأساليب الإستراتيجية الصهيونية : –
الغاية الأساسية لوضع أي إستراتيجية هو رسم معالم التدابير الكفيلة لمواجهة تحدٍ معين في زمان ومكان محددين، ولذا فإن الإستراتيجية تستقى طابعها من طبيعة التحدي الذي تواجهه وهذا التحدي غالبا يتمثل في قهر إدارة الخصم بقصد إجباره على التخلي عما يسيطر عليه أو منعه من بلوغ ما ينوي السيطرة عليه.

وما دام الغرض الأسمى للإستراتيجية في كل الحالات هو قهر إرادة الخصم فمن الطبيعي أن يبدأ أي بناء استراتيجي من نقطة انطلاق حتمية وهي تحديد العدو ومعرفة إستراتيجيته والتنبؤ بغايته السياسية حتى يتم إعداد إستراتيجية مضادة تتناسب مع إستراتيجية الخصم وغاياته السياسية.
فلنبدأ بتحديد العدو الرئيسي للأمة العربية، بدون أي تردد، إن هذا العدو هو الكيان الصهيوني، ولكن الأمر الذي يجب أن ننتبه إليه هو أن هذا الكيان ذو مقومات مفتعلة وأن مقوماته تصدر أجزائها من الخارج ويعاد تركيبها فوق الأرض التي اغتصبها بالقوة، وأن هذا الكيان الدخيل في جسم الأمة العربية لا يملك أصلا الأسس الموضوعية أو التاريخية لتبرير وجوده، وبذلك يفقد أسس بقائه، ولكن مساندة قوى أخرى هي التي تعمل على بقائه واستمراريته، ولهذا فإن العدو الرئيسي للأمة العربية ليس فقط الكيان الصهيوني وإنما أيضاً القوى التي تعمل على بقائه واستمراريته .
والآن لنحاول التعرف على الغاية السياسية لهذا العدو، من المتعارف عليه أن الحركة الصهيونية بَنَتْ أساسيات حركتها العنصرية على الأرض، وجعلتها المحور الأساسي الذي يدور حوله جميع نشاطاتها ومخططاتها الاستيطانية الاستعمارية التوسعية، ولهذا يمكننا الجزم بأن الغاية السياسية والإستراتيجية لهذا العدو هي تحقيق إمبراطورية صهيون الكبرى أو ما يسمونه (حلم إسرائيل الكبرى)، وإذا عدنا إلى ما كتبه مؤسس الصهيونية (هرتزل )(1) في يومياته سنتعرف على حدود هذه الإمبراطورية أو الحلم، يقول (هرتزل) محددا هذه الحدود: (الحدود الشمالية هي جبال كبادويكا بتركيا والحدود الجنوبية هي قناة السويس والحدود الشرقية هي الفرات، أما شعارنا فهو فلسطين داوود وسليمان)، ومع مرور الوقت اكتشف الصهاينة أن تحديد حدود كيانهم الدخيل يجب أن يترك لمدى قدرتهم العسكرية، فيقول (بيجن) -في زمن التشتت العربي الذي نعيشه- (إن حدود دولة إسرائيل الكبرى تقف عند قدم آخر جندي إسرائيلي).
وهكذا فإن التوسع الاستيطاني وإنشاء ما يسمى إمبراطورية صهيون الكبرى هو الغاية السياسية الأولى في الإستراتيجية الشاملة للعدو الصهيوني والذي تندرج في إطاره وتعمل لخدمته بقية الأهداف والإستراتيجيات الأخرى.
ولتحقيق هذه الغاية وضع الكيان الصهيوني إستراتيجيته الشاملة والتي ترتكز على خمس عناصر وأهداف أساسية هي :-

  1. جعل باب الهجرة مفتوحا دائما.
  2. إقامة علاقة إستراتيجية مع القوة الغالبة في كل عصر.
  3. المحافظة الدائمة على التفوق العسكري في المنطقة.
  4. عدم التفريط في الأراضي المستولى عليها ولا اعتراف بأحقية أهلها فيها.
  5. القضاء على كل محاولة لجمع الشمل العربي والعمل على مجابهة الدول العربية منفردة.

وتستمد هذه الإستراتيجية قوتها من اتساق عناصرها مع التفكير الصهيوني في التوسع والردع وكذلك من طبيعة الكيان الصهيوني السياسي كامتداد للحركة الصهيونية العالمية المتشعبة في جميع أنحاء العالم وما تمثله الفكرة الصهيونية من عامل ضغط على اليهود في المهجر.
أما الخطة التي ينفذ بها الكيان الصهيوني هذه الإستراتيجية فهي مفتوحة للاجتهاد بحيث لا يمس هذا الاجتهاد المبادئ الأساسية للإستراتيجية أو يضر بالغاية السياسية، ولذلك نرى عدم تغيير سياسة الحكومات المتنوعة والمتعاقبة بالكيان الصهيوني، ربما تختلف في الأسلوب ولكن لا تختلف في الإستراتيجية والغاية، وهذا هو مصدر القوة الحقيقي للكيان الصهيوني.
ومن دراسة الصراع (العربي-الصهيوني) طوال السنوات السابقة نستطيع أن نستنتج أن الكيان الصهيوني يطبق نوع (الإستراتيجية الغير مباشرة) في هذا الصراع مستخدما عدة استراتيجيات مع بعضها البعض وتتناسق وتتكامل في النهاية من أجل تنفيذ العناصر الرئيسية للإستراتيجية الشاملة، وبالتالي يعمل على تحقيق الغاية السياسية مستخدما في ذلك القوة والقهر العنصري لحمل العرب على الخيار بين الرضوخ أو الرحيل بغية إقامة مجتمع صهيوني عنصري، ويعتمد في ذلك على تطبيق إستراتيجية القضم أو ما يعرف لدى العسكريين (بمناورة الخرشوفة)(2)، والتي تعتمد على تجزئة الهدف الرئيسي إلى عدة أهداف جزئية صغيرة والسعي إلى تحقيق كل هدف جزئي على حدا، وكأنه الغاية الأساسية النهائية والانطلاق بعد ذلك لتحقيق الجزء التالي استناداً إلى ما هو محقق بالفعل وأصبح واقعاً يمكن الارتكاز عليه في انطلاقه جديدة نحو هدف جزئي صغير آخر، وهكذا حتى يتم تحقيق الغاية السياسية.
أوجه القصور العربي في مواجهة الإستراتيجية الصهيونية:
يعاب علينا نحن العرب أننا نتناول أغلب جوانب حياتنا وفقاً لرؤية جزئية غير شاملة مما يجعلنا ننظر لكل موقف يواجهنا على أساس أنه منقطع الصلة من باقي الأحداث والمواقف التي سبقته أو التي تلحقه، وبالتالي تكون نتيجة مواجهتنا للمواقف بهذه الرؤية الجزئية إحدى احتمالين اثنين وكلاهما في غير صالحنا.
الاحتمال الأول: حدوث قصور في مدى تأثير المواجهة وبالتالي الفشل في ردع الخصم في تنفيذ مخططاته.
الاحتمال الثاني: الحصول على نجاح جزئي في وضع حد لمخطط الخصم سرعان ما يتمكن من استيعابه ويكرر الهجوم بعد تعديل مخططه وتصحيح الثغرات التي سبق اكتشافها فيه.
وهذا ناتج عن عدم وضوح الرؤية للفكر الإستراتيجي في عالمنا العربي وقصوره، وهذا القصور ليس نظريا أو فكرياً وإنما عملياً وقيادياً.
إن الخلط الذي أحدثته القيادات العربية بين ما هو ثانوي يمكن الاجتهاد فيه والاختلاف في حدوده وبين ما هو رئيسي وأساسي لا يمكن المساس به أدى إلى خلط الأولويات، وأصبح من الصعب التمييز بين ما هو رئيسي يجب حشد جميع الطاقات من أجل تحقيقه وما هو ثانوي يمكن تأجيله.
ومن المؤسف القول إن القيادات العربية اهتمت بالأمور الثانوية فتفجرت صراعات جانبية تورطت فيها الجماهير العربية أجهضت طموحاتها وأضرت بالقضية الرئيسية والمركزية للأمة العربية وهى قضية الصراع العربي ضد الصهيونية، وهذا هو في اعتقادي مصدر الضعف من الجدار العربي المواجه إستراتيجية الكيان الصهيوني.
ولابد أن المفكر الاستراتيجي البروسي الجنرال (كارل فون كلاوزفيتز) يتقلب في قبره… فقد قال: (إن كل ما يتعلق بالإستراتيجية بسيط, ولكن ليس سهل التحقيق, وإن النجاح يعتمد على المزج بين الغايات السياسية (الأهداف) والقوة العسكرية (الأداة) والموارد المتاحة (السُّبُل)، كما شدد على أن الإستراتيجية يجب أن تكون قادرة على التطور والتكيف وفق تغير الظروف).
لكن وللأسف فإن الإستراتيجية العربية تتمرد على هذه الأسس المنطقية، فليس ثمة غايات واضحة, والنتائج المنشودة غائمة, والموارد بخيلة, وكل ذلك سيحد من السبل الممكنة من أجل تطبيقها.

أسس الإستراتيجية العربية الشاملة المطلوبة:
إن أي دعوة لبناء إستراتيجية عربية واحدة (والدعوات اليوم إليها كثيرة وعلى كل لسان) لابد أن يسبقها تحديد الغاية من هذه الإستراتيجية، فالتضامن العربي والتنسيق والقيادة الواحدة وبناء الجبهات والتكامل الاقتصادي وسياسية التسليح وغيرها تعتبر بلا شك أمورًا هامة وأساسية ولكنها تأتي في المرتبة الثانية، فهذه الأمور بالرغم من أنها أساسية لبناء الإستراتيجية الشاملة ولكنها تفصيلات يمكن تركها للخبراء والمتخصصين لاحقاً، والأهم منها في بداية الحديث عن بناء أي إستراتيجية هو تحديد غايتها وأهدافها الإستراتيجية والاتفاق المبدئي عليها.
فالأمة العربية وحتى يومنا هذا لم تحدد ما هي الغاية السياسية والأهداف الإستراتيجية لها.. وعندما تغيب الغاية والهدف الإستراتيجي يصبح من الصعب الاتفاق على الأساليب والخطط السياسية والعسكرية والاقتصادية والتي من المفروض أن تصل بنا إلى تحقيق هذه الإستراتيجية المطلوبة.
قد يحتج القارئ على ذلك قائلا بأنه قد سبق للأمة العربية تحديد غايتها، والقارئ على حق في احتجاجه هذا، فمما لا شك فيه أن الأمة العربية قد حددت غايتها السياسية مع بداية تنامي الوعي القومي العربي، ولكن هذا التحديد كان ضعيفاً ولم يكن أساساً قوياً لبناء إستراتيجية شاملة وذلك لسببين: أولهما هو أن تحديد الغاية لم يكن ثابتا ولكن متغيراً، فمن إزالة الكيان الصهيوني إلى تحرير فلسطين إلى تحرير الأراضي المحتلة وأخيرا الأرض مقابل السلام، وعلى الرغم من التشابه اللفظي بينها إلا أن مضمون كل منها يختلف على الآخر وبالتالي فإن الإستراتيجية التي تُبنى على أساس كل منها تكون مختلفة عن الأخرى.
والسبب الثاني هو أن هذا التحديد لم يتعدَّ كونه مجرد شعار مرفوع ولم يقترن بالتطبيق، ولذلك لا يقوى على تحمل أعباء بناء إستراتيجية شاملة على أساسه.
ولهذا نجد أن لكل قطر عربي إستراتيجيته الخاصة والتي للأسف تكون في أغلب الأحيان متناقضة مع بعضها البعض، ولذلك يصبح من الصعوبة بمكان وضع إستراتيجية شاملة للأمة العربية إلا بعد أن يتم توجيه جميع القيادات العربية نحو اتجاه واحد ووفقا لرؤية شاملة وموحدة وهدف وغاية واحدة.
فإذا افترضنا حسن النية لدى القيادات العربية وأنه تم اتفاقها على غاية واحدة فإننا نستطيع أن نتلمس ملامح هذه الإستراتيجية الشاملة لمواجهة هذه التحديات التي تواجهها الأمة العربية وبالتالي يمكننا وضع عناصرها بناء على ما سبق توضيحه في الجزأين السابقين من هذا البحث.
عناصر الإستراتيجية العربية الشاملة:
سبق لنا القول إن أي قرار استراتيجي يتوجب أن يتوفر فيه ثلاث عناصر أساسية هي الغاية والإستراتيجية والخطة.

أولاً الغاية السياسية للأمة العربية:
يجب على الإستراتيجية العربية الشاملة أن تبنى أساسها على الغاية السياسية للصراع العربي -الصهيوني، ونستطيع أن نقول أن الغاية تتحدد في الآتي:
( إنشاء دولة فلسطينية عربية ذات سيادة يديرها أبناء الشعب الفلسطيني وعاصمتها القدس الشرقية، والانسحاب لحدود قبل 5يونيو1967م وإنهاء الاستيطان الصهيوني داخل هذه الحدود، وتطبيق حق اللاجئين سنة1948م بالعودة، وهذه الدولة لا تستهدف إبادة اليهود بل تستهدف القضاء على الاحتلال العسكري الصهيوني وعلى الطابع العنصري للسياسة الصهيونية)، وهذه الغاية السياسية هي محتوى ومضمون مبادرة السلام العربية بهذا الشأن والمتفق عليها من جميع الدول العربية.
إن تجسيد هذه الغاية السياسية ووضوحها كفيل بحشد كل الطاقات العربية وبالتالي تعمل على تزايد وأهمية هدف الصراع واتخاذه طابعًا مصيريًا حاسمًا لا تنازل عنه ولا نقاش فيه، بحيث يشمل كل الأمة العربية ويجعل من إرادة المواجهة قوةً ذات تأثير بالغ الأهمية في مواجهة الإستراتيجية الصهيونية المعادية.
لا شك أنه كلما كانت الغاية السياسية مجسِدة لآمال وطموح كل فرد من الأمة العربية ومحددة للأخطار التي تهدده وموضحة لأهداف العدو وغاياته كلما تحولت هذه الغاية إلى طاقة هائلة لدى الفرد العربي العادي تدفع به إلى تحقيق هذه الغاية بكل إمكاناته وقدراته.

ثانيا الإستراتيجية العربية:
إن المهمة الرئيسية للإستراتيجية تنحصر في وضع تصور عام للتعامل مع المعضلة التي تواجهها، وتتولى مسئولية تحديد الأهداف للإستراتيجيات الفرعية، وتؤَمِّن عملها بشكل هرمي بحيث تصل في النهاية إلى تحقيق الغاية السياسية.
إن نوعية الصراع (العربي – الصهيوني) تفرض على الإستراتجية العربية الشاملة الأخذ بنوع الإستراتيجية المباشرة كاتجاه لتحقيق غاياتها السياسية، وتنحصر ملامح الإستراتيجية العربية في حشد جميع الإمكانات المادية والبشرية والمعنوية لتحقيق الأهداف التالية:

  1. هزيمة العدو الصهيوني (سياسيا وليس بالضرورة عسكريا)، وقيام الدولة الفلسطينية، وهذا يتطلب وضع إستراتيجية تضمن التفوق السياسي والاقتصادي الساحق كماً وكيفاً على العدو.
  2. الدفع بالمواطن العربي لتحمل مسئولياته في هذا الصراع وتعميق الإحساس لديه بعدم تكامل حريته بدون تحقيق غاية الأمة العربية، وهذا يتطلب وضع إستراتيجية سياسية تهدف لقيام ديمقراطية حقيقية أساسها الثقة بقدرات الفرد العربي وإمكاناته.
  3. التشبث بالأرض وتأكيد الهوية الفلسطينية لأنهما العنصران اللذان يؤكدان الصفة التاريخية والحضارية لهذا الصراع، وهذا يتطلب وضع إستراتيجية إعلامية ومعنوية تعمل على ترسيخ الصفة التاريخية لهذا الصراع وإبرازه على أنه (تحدٍّ حضاري) يتوارثه الأبناء عن الآباء حتى لا يُطمَس الصراع في خضم تراكم السنوات والصراعات الأخرى.
  4. قيام تنمية عربية مستقلة ومتحررة من كافة أنواع التبعية، وهذا يتطلب وضع إستراتيجية اقتصادية متكاملة تهدف إلى الاعتماد على الذات العربية وتحرير القرار العربي من أي تبعية اقتصادية أو سياسية.
  5. إيجاد مساندة سياسية متينة من بقية دول العالم وقوى التحرر العالمية وهذا يتطلب وضع إستراتيجية دبلوماسية تضمن ظهور علاقة إستراتيجية قوية مع دول العالم الثالث والدول التقدمية، وتعمل على تحييد الدول الغربية في هذا الصراع.

ثالثًا الخطة:
إن الخطة تشمل كافة القضايا الثانوية التي لا يُفسِد فيها الاجتهاد أو حتى اختلاف وجهات النظر المسارَ العام للإستراتيجية أو المساس بالغاية السياسية. ويمكن القول إن الخطة هي مجال الاجتهاد المفتوح على مصراعيه أمام القيادات العربية بشرط عدم الإضرار بالإستراتيجية الشاملة أو الغاية السياسية للأمة العربية.
وبمعنى أوضح نقول: إن للحكام العرب إمكانية الاجتهاد في وضع الخطط الخاصة بدولهم على الكيفية التي يرونها بشرط عدم الحياد عن الغاية السياسية للأمة العربية وعدم الإضرار بالإستراتيجية العربية الشاملة، مع مراعاة توفر الشروط اللازمة والتي تعمل على نجاح تنفيذ هذه الخطط.

خـــــاتمة…
إن انتصار أمتنا العربية ليس حلماً يصعب تحقيقه، وإن هزيمة الكيان الصهيوني سياسيا وليس بالضرورة عسكريا ممكنة، بل هي الممكن الوحيد من أجل استقرار الأمة العربية ونموها وازدهار أجيالها القادمة، تلك الأجيال التي تملك طاقات وقدرات هائلة لم يدركها حكام هذه الأمة بعد.. ولكن هذا لا يمكن تحقيقه إلا بعد أن تعي الجماهير كافة الأخطار التي تهدد وجودها وبعد أن تنتبه إلى الحقيقة الوحيدة الثابتة وهي أنها لا يجب أن تدع قضاياها المصيرية حكراً على اجتهادات فردية.
فالأمة العربية في هذا العصر وتحت هذه الظروف في أمس الحاجة إلى الاستناد على العلم والتفكير الاستراتيجي والبحث المستقبلي، والتي تكون نتائجها معبرة عن النبض العام للمواطن العربي وليست انعكاسا لآراء فردية واجتهادات خاصة من طرف الحاكم العربي.
وقد يلاحظ القارئ الفاضل أن الحديث في هذا الجزء من البحث أخذ شكلَ الحديث السياسي بدلا عن التحدث في عمق الإستراتيجية نفسها، وهذا يؤيد ما سبق التأكيد عليه في الجزأين السابقين من الارتباط الوثيق بين الإستراتيجية والسياسة وخضوع الأولى للثانية في جميع مراحل الإعداد والتخطيط والتنفيذ.

وختاماً نقول: إن الطريق الأمثل والأوحد لتحقيق طموحات وآمال الأمة العربية، ولتنفيذ الإستراتيجية الشاملة لتحقيق الغاية السياسية للأمة العربية، وللقضاء على السلبيات الناتجة عن اختلاف الخطط الموصلة إلى الغاية المطلوبة، هو بلا أدنى شك أو تردد طريق التكامل العربي سياسيا واقتصاديا وعسكريا وصولاً إلى الاتحاد العربي الموحد.
ومن أجل تحقيق الغاية السياسية العربية يجب على الجماهير العربية تحقيق الهدف الأول لها وهو التكامل العربي بأي صيغة أو مفهوم يتم الاتفاق عليه، خاصةً بعد أن فشل الحكام العرب في وضع أقدامهم على البوابة المؤدية إلى تكامل نجاح الإستراتيجية العربية الشاملة والموصلة إلى تحقيق الغاية السياسية للأمة العربية.

إن تحقيق التكامل العربي سياسيا واقتصاديا وعسكريا يجب أن يشكل الحافز الأساسي للعمل الجِدي للجماهير العربية لإعادة الأمور الشاذة في أمتنا العربية إلى وضعها الطبيعي، لأن تحقيق الغايات المصيرية لا ينزل من السماء ولا يخرج من باطن الأرض إنما تصنعه أيدي العاملين المخلصين من جماهير هذه الأمة العظيمة وتلك سنة الله عز وجل في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلاً.

هــــــوامش

1. تيودور هرتزل:
صحفي نمساوي يهودي ولد عام 1860م، يعتبر المؤسس الفعلي لما يعرف الآن بالحركة الصهيونية الكبرى، والتي حدد مبادئها في مؤلفاته بجمع اليهود وتوطينهم في دولة يهودية عنصرية خالصة، وكان قد بدأ في عام 1879م في عقد مؤتمرات سنوية لأقطاب اليهود في العالم وتمخضت هذه المؤتمرات على ما اشتهر باسم (مقررات حكماء صهيون)، وعلى ضوئه تكّون التنظيم الحديث للصهيونية العالمية الجامع لكل قوى الشر والحقد في العالم والتي لا تتورع عن شيء في سبيل تنفيذ مخططاتها المدمرة لجميع أجناس العالم.. وتوفي عام 1904م حيث استلم من بعده (وايزمان) الذي تحالف مع بريطانيا وانتهى هذا التحالف بوعد بلفور المشئوم باغتصاب فلسطين العربية.
2- مناورة الخرشوفة:
يتم استخدام هذا النوع من المناورة أو التحرك في مختلف المجالات السياسية والعسكرية وغيرها عندما تكون الإمكانات والقدرات المتاحة أقل من الهدف النهائي المراد تحقيقه أو عندما تكون الظروف المختلفة غير مواتية أو تكون المقاومة المتوقعة كبيرة وتعرقل تحقيق هدف الإستراتيجية في شكلها النهائي.

الخــــــــلاصة:
إن ما يمكننا استخلاصه من هذا البحث بأجزائه الثلاثة هو أن الإستراتيجية لها جذور تاريخية بعيدة، وأنه كانت بداياتها ذات اتجاه عسكري إلا أنها تطورت وتشعبت وتعدد استخدامها لتشمل جميع مجالات الحياة بهذا العصر، وأدى ذلك إلى وضع مفهوم عام لها وتم تأسيس مستويات لتحديدها دون أن يؤدي ذلك لتجميدها في إطار عقيدة واحدة، لأن الإستراتيجية في جوهرها عبارة عن (أسلوب في التفكير) وفي مضمونها (علاقة بين وسائط وغايات)، ولذلك توجب ارتباطها بالسياسة، حيث أن تحديد الغايات من مهمة السياسة أصلاً.
كما أن الإستراتيجية يتم وضعها بقصد مواجهة تحدٍ سواء كان هذا التحدي سياسياً أو عسكرياً أو اقتصاديا، وتظل الإستراتيجية فكراً وعملاً أكاديمياً إذا لم تقترن بخطة لتنفيذها، فالفكر شيء وتنفيذه شيئاً آخر، ويقاس نجاح الإستراتيجية فيما يمكنها تحقيقه في دنيا الواقع، فمن السهل رسم إستراتيجية معينة لمواجهة تحدٍ ما يتعرض له المجتمع، ولكن التحدي الحقيقي للإستراتيجية هو تحويل هذا التصور إلى واقع ملموس يستطيع مواجهة الإرادات المتعارضة ويقف بصلابة في مواجهة المعضلات الصعبة التي وضعت الإستراتيجية من أجلها، ولذلك يتوجب ارتباط الإستراتيجية بالخطة التي تحيل الإستراتجية إلى أشياء مادية ملموسة على أرض الواقع.. وعليه فإن أي قرار لا يمكن وصفه بالإستراتيجي إلا إذا اكتملت عناصره وهي (الغاية والإستراتيجية والخطة).
إن الإستراتيجية في العصر الحديث لم تعد أمراً ثانوياً بل أصبحت ضرورة حتمية وتشكل النواة الأولى لأي انطلاقة منظمة نحو تحقيق الغايات المصيرية في جميع مجالات الحياة بأي مجتمع لأنها تستوعب دروس الماضي وتدرس معطيات الحاضر وتتنبأ بتطورات المستقبل لتستخلص منها منهج عمل منظم ومحدد لتحقيق الغاية المرسومة. وحيث أن الأمة العربية في هذا العصر تواجه تحدٍ حضاري مصيري لا مثيل له، تحدٍ يهدد كيانها ووجودها وعقيدتها، لهذا يبرز السؤال الملح الذي ينتظر الجواب: (هل تتصدى الأمة العربية لهذا التحدي الحضاري والمصيري كما يجب لها أن تتصدى وكيف؟).
يقول (ادموند بورك) وهو أحد الفلاسفة المشهورين (إن كل ما تحتاج إليه قوى الشر لكي تنتصر هو أن يظل أنصار الخير مكتوفي الأيدي دون القيام بعمل ما) ولعل في هذا القول ما يشير إلى أن على قوى الخير المتمثلة في جماهير الأمة العربية أن تفعل شيئاً لإنقاذ حقها وأرضها وعقيدتها ولكي تحرم قوى الشر المتمثلة في الصهيونية من تحقيق غاياتها.

 

حسن علي ابو شناق – مجلة المسلح 07 يوليو 2013 –

قراءات في الإستراتيجية

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى