قضايا فلسفية

“القوامة” في الفكر الإسلامي بين التفسير الكلاسيكي والمعاصر

اعداد : عبد اللطيف حيدر – باحث في الإعلام والعلاقات الدولية

المركز الديمقراطي العربي

تمهيد:

تعتبر مسألة “القوامة” في الإسلام من أعقد القضايا في الفكر الإسلامي تاريخياً، والتي أخذت سجالاً واسعاً بين المفكرين في سياق نقاش مكانة المرأة وموقعها الطبيعي في الإسلام، وكيف ينظر الإسلام الى المرأة ودورها في المجتمع. وقد تم التركيز على مسألة القوامة بشكل خاص؛ ذلك أن القوامة تمثل الجذور الأساسية في التأسيس لطبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة في الفكر الإسلامي، حيث تصبح مختلف القضايا متفرعة بطريقة أو بأخرى من قضية القوامة. وقد اتخذ فهم مسألة القوامة أوجهاً عدة بين المفكرين الإسلاميين وغير الإسلاميين، فمن ناحية اتخذت قضية القوامة كذريعة لاتهام الإسلام باضطهاد المرأة، وسلب حريتها، وجعلها عنصراً ثانوياً خاضعاً لسلطة الرجل. ومن ناحية أخرى تتجسد في مستوى الخلاف في الفكر الإسلامي نفسه في تناول مسألة “القوامة” وفهم طبيعة علاقة الرجل بالمرأة ونظرة الإسلام إليها بصورة شاملة. وتعددت أوجه الخلاف بين فكر يجعل من حرفية النص محدداته الأساسية في التفسير والتأويل للغاية التي يريدها الإسلام، وبالتالي لا يعطي مجالاً لتفسير السياقات المختلفة للنص القرآني. وفي المقابل من ذلك توجه أخر يسعى إلى البحث في مقصدية النصوص والغايات الكبرى التي يريد الإسلام تحقيقها من خلال هذه التشريعات. وهذا الفكر يتجه نحو دراسة كل العناصر والمتغيرات المختلفة التي تساهم في مقاربة تفسير النص بصورة تتناسب ومتغيرات العصر، باعتبار أن القرآن صالح لكل زمان ومكان. وبالتالي السعي إلى فهم مركب ومتداخل لفهم مقاصد النصوص وطبيعة الظروف التي نزلت فيها الآية ومراعاة المتغيرات المختلفة التي يستحدثها كل زمان ومكان، باعتبارها عناصر مهمة في فهم مقاصد النصوص بصورة أكثر مرونة واستيعاب لمتغيرات حركة الزمن، وذلك من شأنه أن يحقق فهماً صحيحاً لشرائع الإسلام، ويزيل حالة اللَّبس في المفاهيم التي تسببت في إساءة فهم مقاصد الإسلام وتشويهه. ومن هذا المنطلق تسعى الورقة إلى تقصي تناول المفسرين الكلاسيكيين والمعاصرين لقضية “القوامة” تاريخياً، ومقارنة هذه الطروحات في ضوء مدى مقدرتها على فهم مسألة “القوامة” بمنظور شمولي يتسم بالمرونة وسعة الأفق وحيوية التفاعل مع النص القرآني في تفسير مسألة “القوامة”. حيث ستركز الورقة على تناول المفسرين ل الآية 24 من سورة النساء وتفسيراتها بشكل أساسي.

مفهوم القوامة:

من الطبيعي اختلاف تعريف القوامة بحسب المفاهيم التي تشير إليها مسألة القوامة والاختلاف الحاصل في تفسيرها، وسنسعى هنا إلى استعراض بعض تلك التعريفات ومناقشتها. ويعد لفظ “قوَّامون” جمع قوام وهو مأخوذ من مادة “قوم”، يقال: قام قوماً وقياماً، وأصل المادة تدل في أصل الوضع على الانتصاب والعزيمة. وقد جاء في لسان العرب: القيام: نقيض الجلوس، والقامة: جمع قائم، والقيام: العزم، ويجيئ بمعنى المحافظة والإصلاح والوقوف والثبات، والقيِّم: السيد، وقيِّم القوم: الذي يقومهم ويسوس أمورهم، وقيِّم المرأة: زوجها أو وليها؛ لأنه يقوم بأمرها وما تحتاج إليه[1].  وقوامة الرجل على المرأة تعني أنه المحافظ عليها مما يؤذيها، والساعي لإصلاح حالها، والسائس لأمرها والحازم في تقويم إي اعوجاج يحدث أدنى خلل في شخصيتها وأسرتها. ويأتي ذلك لكون الرجل متمسك بالحق وحازم في الدعوة إليه، والمستمر بالعزم والإصرار دون كلل. كما أنها تنبع من عراقة الرجل ورسوخه، وقدرته على القيام بكل جوانبها من أمور التربية والنفقة وغيرها [2]. وهنا يتضح أن التعريف قائم على اعتقاد أفضلية البنية الجسمانية والسيكولوجية والفكرية للرجل، حيث يرى أن التفضيل هنا والاختصاص بالقوامة؛ نتيجة لذلك. وهذا التوصيف من الواضح أنه يفتقر إلى الدقة، فبعض النساء تمتلك قدرات تفوق الرجل أحياناً، ولديها قدرة على تحمل أعباء العائلة بصورة أفضل من الرجل، وتتمتع بمسؤولية وحرص على الترابط العائلي بمستوى متميّز على الرجل أيضاً، كما أنها تمتلك الصبر والحكمة أحياناً بصورة نادراً ما يمكن أن تكون لدى الرجل. فأي افتراض بضعف المرأة وتفوق الرجل جسمانياً وذهنياً وسيكولوجياً في الحكم على علاقة الرجل بالمرأة لا يبدو دقيقاً باعتقادي. كما يأتي تعريف القوامة في الاستعمال القرآني في اللغة والإصطلاح على أنها تأتي “بمعنى المحافظة والإصلاح والسياسة والنظام، وفيها دلالة واضحة على أن القوامة شُرعت لأجل الحفاظ على الأسرة وإصلاح شؤونها” [3]. وهذا التعريف يشير إلى الغاية التي ترمز إليها مسألة القوامة متمثلة في السياق الأُسري. وقد وردت مسألة “القوامة في سورة النساء الآية 24 التي يقول الله فيها: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللآتي تخافون نشوزهن فعضوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغو عليهن سبيلاً إن الله كان علياً كبيراً). وسورة النساء هي صورة مدنية تأتي في ترتيب سور القرآن السورة الرابعة بعد سورة الفاتحة والبقرة وآل عمران وهي أطول سورة بعد سورة البقرة. وتشترك مع باقي السور المدنية في معالجة القضايا الاجتماعية وتنظيم أحوال المجتمع الإسلامي وتطهير أفراده [4]. وهنا سنقوم بتناول نماذج من المفسرين الكلاسيكيين والمعاصرين حيث أعني بالكلاسيكي مجموعة المفسرين الإسلاميين قبل القرن التاسع عشر. أما المفسرين المعاصرين فهم المفسرين الإسلاميين منذ القرن التاسع، باعتبار أن هناك تحولات عديدة ساهمت في تحديث الخطاب الديني والدعوة الى تجديده. ومن ثمّ مقارنة تناول كلاهما مسألة القوامة وكيفية التفاعل مع النص في التفسير. والسعي لمقاربة مختلف المتغيرات التي تساهم في تفسير مقصدية النص وغاياته العليا وليس فقط بالتقيد في ظهرانيته. وتقسيم من هذا النوع سابق في دراسات النسوية في الإسلام [5].

الفكر الكلاسيكي:

يعتبر محمد بن جرير الطبري (224-310 هجـ) من أبرز العلماء وتبوء مكانة عالية في تاريخ الثقافة الإسلامية وقد قيل فيه أنه ” جمع من العلوم مالم يشاركه فيه أحداً من أهل عصره ” ويعتبر تفسير الطبري من أشهر مؤلفاته [6]، حيث يتمثل منهجه في التفسير أنه كان يسير على منهاج السلف ويدين بما يدينون به، كما كان يتجنب أهل البدع وأهل الكلام والإعتزال*، كما قد لا يجد المرء في مؤلفاته ما يتفق معه فكرياً وعقائدياً مع الفرق التي ظهرت في الساحة الإسلامية خلال القرن الثالث الهجري باستثناء أهل السنة والجماعة [7]. وهذا يعني أن تفاعله مع النص كان محدوداً، حيث كان يعطي المساحة الأوسع في التعاطي مع النص للنهج الذي سار عليه من سبقه.

يرى الطبري في تفسير آية القوامة على أنها تخص بالدرجة الأولى العلاقات المنزلية بين الزوج والزوجة، وهي تسنّ سلطة الرجال على نسائهم، والتي تنسحب إلى حق الذكر في تأديب نسائه من أجل ضمان طاعة الأنثى لله وللرجل. كما يرى أن هذا النظام عادلاً كونه يحدد التزام متبادل من قبل الرجل بدفع الصداق للمرأة والإنفاق عليها من ماله. وتأمين معيشتها. بالمقابل يتوجب على المرأة تحمل مسؤلياتها التي تتضمن الإخلاص الزوجي والسلوك الودي وحسن المعاشرة، وحق العفة الجسدية. وفيما يتعلق بالنشوز يرى أن نشوز المرأة تتضمن تمردها على سيادة الزوج، والحرية غير الضرورية في الحركة، والإمتناع عن الإتصال الجنسي عند رغبة الزوج، والممارسات التي من شأنها تحدي سلطات الرجل. كما يشير الطبري في تفسيره لعبارة ” بما فضل الله بعضهم على بعض” إلى امتياز الرجل في القدرة الإقتصادية للرجل على المرأة، وقدرته على إعالة زوجته وما يصاحب ذلك من التزامات يجب عليه القيام بها [8].

تتضح منهجية الطبري في تفسيره لهذه الآية بالاستناد بشكل رئيس على حرفية النص، وبالتالي السعي على حشد مختلف الأدلة التي تؤيد أفضلية الرجل على المرأة كمعيار سببي لإثبات شرعية القوامة ومبرراتها. وتركزت تلك السببية من ناحيتين أولهما هي الالتزامات المتبادلة بين الرجل والمرأة، وثانيها وهي القدرة الاقتصادية للرجل في إعالة الأنثى. ومثل هكذا تفسير من الواضح أنه ينطلق من مسلّمات أو افتراضات على الأقل أن المرأة كائن ضعيف وعاجز عن إعالة نفسها وتوفير احتياجاتها. بينما المرأة في العصر الحالي أصبحت تتمتع بمكانة اقتصادية ربما أكثر من الرجل أحياناً، وأصبحت مؤهلة لمزاولة مختلف الأعمال والمهن، بل أحياناً أنها تقوم بإعالة أُسرتها ومن ضمن ذلك زوجها. وبالتالي لم تعد المسألة الاقتصادية عنصر مناسب في تفسير طبيعة علاقة الرجل والمرأة في النص القرآني. أما فيما يتعلق بالمسؤوليات الواجبة بينهما فهي متبادلة بالطبع، فما دامت تلتزم بمسؤوليات نحو زوجها كذلك زوجها بالمقابل عليه مسؤوليات مشتركة نحوها، ومن حقها أن لا تسلب منها حريتها وحقها في أن تكون انساناً مكتمل الإرادة والاختيار.

ويرى البيداوي المتوفي (1286)، حيث يُعتبر تفسيره تلخيصاً للأعمال التفسيرية السابقة، وخصوصاً لتفسير الزمخشري والرازي، حيث يرى أن القوامة ترتبط بقوامة الحكام على رعاياهم. ويرجع ذلك إلى القدرات الضمنية والصفات المكتسبة لدى الرجل. كما يشير في عبارة ” فضل بعضهم على بعض” إلى أن الله قد فضل الرجال على النساء بمنحهم ذهناً كاملاً، ومهارات جيدة في تصريف الأمور. وقوة فائقة يؤدون بها الأشغال العملية والفِعال الخيّرة. ومن هنا خص الرجال وحدهم بالنبوّة، والإمامة، والحكم وأداء الشعائر الدينية، والشهادة في جميع القضايا القانونية، وفريضة الجهاد، وحضور صلاة الجمعة، ولبس العمامة والحصول على القسط الأكبر من الميراث، واحتكار قرار الطلاق [9].

يبدو هناك ثمّ تقارب بين الأسس التي استند عليها تفسير الطبري والبيداوي وهي مسألة أفضلية الرجل معنوياً ومادياً على المرأة. إلا أن البيداوي ذهب أبعد مما تطرق إليه الطبري. حيث أنه يربط القوامة بأفضلية مطلقة للرجل على المرأة في مختلف الجوانب وليست كما حددها الطبري في الإمتياز الاقتصادي والإلتزام الحقوقي نحو الزوج، بل يرى بامتياز الرجل كرجل على المرأة امتيازاً مطلقاً أسَّسَت له الشريعة منذُ التشريع الأول القائم على اصطفاء الأنبياء وسن الشرائع السماوية منذ نبي الله آدم عليه السلام وحتى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وهو افتراض فيه كثير من الإشكاليات حيث لا تجد هذه الافتراضات ما يدعمها من أدلة قاطعة سواء في القرآن أو السنة. إضافة إلى عدم وجود ما يثبت قطعاً الفوارق الذهنية بين الرجل والمرأة، كما أن اختصاص الأنبياء من الذكور لا يعني الأفضلية من النساء فقد أوحى الله إلى أم موسى وإلى مريم وأثنى عليهنَّ، كما ضرب مثلاً للمؤمنين في زوجة فرعون وأعلى من شأنها كأمثلة كثيرة على ذلك. كما أن المرأة في الأحكام والشعائر لا تختلف عن الرجل ولا توجد شرائع اختص بها الرجال دون النساء إلا في حالات استثنائية محدود، وكذلك الرجل هناك استثناءات يختص بها حيث مثلاً لا يستطيع دخول المسجد وهو في غير طهارة أو مسّ المصحف الشريف أو التمكن من الصيام وهو على غير طهارة وحالات استثناء كثيرة. علاوة على ذلك فالخطاب القرآني خطاباً عاماً موجهاً للمؤمنين والمسلمين وليس للرجال والنساء بشكل منفصل عن الآخر، وهذا ما لا يتيح مجالاً للقول بذلك التفريق في الشرائع والأحكام، حتى وإن اختلفت المسألة في حضور صلاة الجمعة، لكن لا يوجد مانع للمرأة من القيام بها إن هي أرادت ذلك. كما أن الجهاد ليس ممنوعاً على المرأة حيث أن نساء النبي ونساء الصحابة كنّ يخرجن برفقة الجيوش ويلعبن أدواراً مهمة في أرض المعركة. إضافة إلى ذلك قضايا الميراث فإنه ليس في كل الأحوال أن تأخذ المرأة أدنى من الرجل وإنما هي حالات محددة، وهناك بعض الحالات تحصل المرأة على قدر أكثر من الرجل. وبالتالي فمن غير الممكن اسقاط مقاصد النص وتفسيره على هذه النوع من المسائل كونها غير قطعية، وتكشف أيضاً قصوراً في فهم النص ذاته وسياقاته المختلفة.

التفسير المعاصر:

ينبثق الفكر الإسلامي المعاصر من حالة وعي بضرورة التغيير والتجديد في البنية الفكرية والمعرفية للمجتمع الإسلامي. والفكر- بطبيعة الحال- عملية متجددة ودينامية تتفاعل مع المتغيرات المختلفة من حولها. ولذا فإن الإخفاقات والإشكاليات التي تعمقت وتجذرت في بنية الفكر الجمعي في المجتمعات الإسلامية؛ نتيجة لمتغيرات عديدة تأتي في مقدمتها فقدان الفكر الواعي والنقدي والمتجدد في طبيعة التفاعل مع النصوص المقدسة التي تمثل مصدر وروح الوعي والسلوك في الإسلام. ولذا فإن إي إشكالية في تفسير النصوص الدينية، التي تحمل سلطة على فكر وتوجهات المجتمعات، ذلك من شأنه أن يصيب أمم وأجيال عديدة بعاهات فكرية، وتشوهات سلوكية تظل تتوارثها وتعاني منها جيلاً بعد آخر. بل أنها تتسبب في إبعادهم عن مراد وغايات الشريعة، والتسبب في شقاوتهم في دنياهم وآخرتهم. حيث أن شرط قبول الأعمال في الإسلام ركنين أساسيين هما إخلاص النية لله تعالى، والعمل بمقتضى السنة النبوية المطهرة. فهناك الإخلاص والإتباع شرطان رئيسيان؛ وذلك لضمان تأدية الأعمال بصورة موافقة لما تريده الشريعة. وهنا نتيجةً للإختلالات التي استشرت في البيئة الفكرية الاسلامية، وساد الجمود والسلبية في فهم الغايات والمقاصد الدينية، وعم الجهل بالشرائع، وسيطر التقليد السلبي في عبادات الناس وسلوكياتهم على الفهم والوعي الصحيح، أصبح من الضروري إعادة بعث وإحياء لروح الفكر القائم على الوعي والمعرفة وكسر الجمود والسلبية عن الفهم، والإتجاه بإيجابية مع معطيات الحركة الزمنية المعاصرة. وتصدى لذلك مجموعة من المصلحين والمفكرين الإسلاميين الذي انتهجوا خطاً اصلاحياً في بنية الفكر الإسلامي خلال القرنين الأخيرين (التاسع عشر والقرن العشرين). ويعتبر المفكر المصري والمجدد محمد عبده المتوفي (1905) أهم ممثل لحركة الحداثة الإسلامية المبكرة في العالم العربي، حيث يرى محمد عبده بتماشي الإسلام مع الحداثة، وكان يسعى إلى تجديد الأخلاق الإسلامية، وإصلاح النظم الاجتماعية التقليدية، وذلك من خلال العودة إلى الإيمان المتجدد والأخلاق النقيّة كما نشأت عليها الأجيال المسلمة الأولى [10]. وأبرز ما تمثَّلَه منهجه هو الفصل بين العبادات والمعاملات باعتبار أن العبادات خارج الإطار التفسيري، بينما المعاملات بطبيعتها تتطلب التفسير والتكييف من كل جيل من المسلمين على ضوء الحاجات العملية لعصرهم [11].

من الملاحظ أن توجه محمد عبده التجديدي ينطلق من وعي بأن الإشكالية تكمن أساساً في المنظومة الفكرية بصورة شاملة، وبالتالي فإن هناك حاجة ماسّة لاستعادة حالة الوعي واليقظة وذلك من خلال ترميم وإصلاح مختلف النظم الاجتماعية وتجديد الفكر نحو مختلف القضايا واستعادة تصويب المسار على الصورة الأولى للإسلام. ذلك أن الجهل يعمل على تغليف وتزييف الوعي بما يخلق حالة مشوهة من السلوك الجمعي الذي يبعد كثيراً عن الغايات والمقاصد الشرعية. كما أن أبرز صورة من صور التجديد التي قدمها محمد عبده تتمثل في إيجابية التفاعل مع مختلف العصور والأزمان، ومرونة التعامل مع متطلبات كل عصر بوسائله التي تتناسب معه. وبهذا فإنه ينفي صلاحية اسقاط تفسير النصوص في عصور قديمة على أزمنة تختلف عنها جذرياً، تختلف معها المفاهيم وأساليب الحياة ومتطلباتها. ويفتح الباب مشرعاً أمام الإجتهاد والمرونة في الفهم والتفسير بوسائل وطرق تتناسب والحاجيات التي يتطلبها كل عصر. ويرى محمد عبده في تفسير آية القوامة أن المراد بالقيام هنا هو الرياسة التي يتصرف فيها المرؤس بإرادته واختياره وليس معناها أن يكون المرؤوس مقهوراً مسلوب الإرادة لا يعمل عملاً إلا ما يوجهه إليه رئيسه، فإن كون الشخص قيّماً على آخر هو عبارة عن إرشاده والمراقبة عليه في تنفيذ ما يرشده إليه. وكأنه يرى أنها مسألة توجيه وترشيد إدارة الشؤون العائلية. كما يشير إلى مسألة التفضيل في قوله تعال “بما فضل الله بعضهم على بعض” حيث أنه لم يقل ” بما فضلهم عليهن” وهي كما يرى إفادة أن المرأة من الرجل والرجل من المرأة بمنزلة الأعضاء من البدن فإذا الرجل بمثابة الرأس فالمرأة بمثابة الجسد ولا عار على الشخص أن يكون رأسه أفضل من يده ولا ضرر في ذلك إنما هو لمصلحة البدن [12].

يرى محمد عبده أيضاً أن مسألة التفضيل قائمة، كما يرى المفسرون الكلاسيكون، على تميُّز الرجل بصفات وخصائص تمنحه مسألة القيادة مثل القوة والقدرة على الكسب والحماية، وذلك من شأنه أن ييسر مهمة المرأة بطبيعتها الفطرية كالحمل والاودة وتربية الأطفال وهي آمنة مكفية ما يهمها من أمر رزقها. إلا أنه يرى أن التفضيل إنما هو للجنس على الجنس لا لجميع أفراد الرجال على جميع أفراد النساء، فكم من أمرأة تفضل زوجها في العلم والعمل بل وفي القوة البدنية والقدرة على الكسب [13]. ولكن تميُّز الرجال بصفات القوة والكمال جعلهم هم المكلفين بالإنفاق والإعالة على النساء وحمايتهن ويقوموا بأمر الرياسة العامة في مجتمع العشيرة، إضافة إلى أن إبرام عقدة النكاح جعلت في يد الرجل، وحلّ ذلك بالطلاق بيد الرجل كذلك. لكنه هنا ينفي مسألة التفضيل العائدة على ما ذكره بعض الفقهاء في التفضيل في النبوة والإمامة وإقامة الشعائر وغيرها، وإنما عائدة إلى ما تقدم ذكره [14]. ويشير أيضاً إلى قول الله تعالى: “فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله” حيث يرى أن هذا تفضيل لحال النساء في الحياة المنزلية تحت رياسة الرجل [15]. ويمكن هنا الإشارة إلى أن مسألة الطلاق وعقدة النكاح أساساً لا تعني نفي دور المرأة فيهما، حيث أن النكاح لا يقوم إلا برضى وموافقة المرأة، فضلاً عن أحقية المرأة في طلب الطلاق في القضاء في حال رغبتها في ذلك عند وجود خلل في منظومة العلاقة المقدسة.

وهنا من الملاحظ أن مسألة التفضيل ثابتة في التفسير الكلاسيكي ولا تزال حاضرة، ولو بصورة مختلفة، في التفسير المعاصر خصوصاً هنا في نموذج محمد عبده وتلميذه رشيد رضا، لكنها تبدو أفضلية غير مطلقة كما كانت هي عليه في تفسير الطبري على سبيل المثال. فهنا يبدو أن هناك محاولة للتعمق في فهم سياق النصوص ومراعاة مختلف الظروف التي ترمي إليها مقصدية الشريعة. حيث يمكن القول أن التوجهات الإصلاحية في قضايا المرأة عند محمد عبده تجلت في الإجراءات التي اقترحها ومنها: أولاً: تعليم النساء حقوقهن وفروض دينهن “فكيف يتسنى لأمة أن تفلح في هذه الحياة وفي الحياة الأخرى إذا كان نصف أفرادها يعيش عيشة البهائم، متخلياً عن واجباته تجاه الله ونفسه وأقاربه؟” ثانياً تخلي الرجال عن الأنانية والجوع إلى السلطة وحب الطغيان والتحلي بالرحمة والمودة التي جاء بها القرآن. ثالثاً، ذلك من شأنه أن يقود إلى العودة للزواج السليم بصفته العقد المقدس الذي يتعبر جزء من النظام الطبيعي للوجود والتأكيد على المساواة العادلة للزوجين ضمن الأسرة [16].

ويتضح هنا وجود تحديث لبنية الخطاب الديني تجلت في عملية التفاعل الإيجابي مع النصوص وعدم التقيّد بظاهريتها، بل من خلال النظر إلى أبعاد السياق المختلفة والتدبّر في المقاصد والغايات التي تهدف إليها الشريعة الإسلامية. فالزواج وثاق مقدس يرتجى من الرحمة والمودة والسكن والحُبّ، وأنّى لذلك أن يحصل بين عبد وسيده، واستحالة حدوث ذلك بين سلطان متجبر وعبد ممتهن الكرامة. وتعالى الله أن يظلم وهو العدل بأن يجعل المرأة مظلومة في مقابل تعزيز سلطان الرجل عليها. ولذا فلابد لتحقيق مقاصد الزواج في الدين من السعي إلى بناء العش الأسري القائم على التفاهم والمساواة بين الطرفين، وتحقيق الإنسجام، وتفعيل مبدأ المسؤولية في الحقوق لدى الطرفين، وأن تبنى العلاقة على شراكة وليس على اتباع. وهنا تأتي مسألة القوامة باعتبار الرجل قائد دفة العائلة ككل في جو من الحب والود والتراحم وليس العنجهية والغلظة ومبدأ القوي والضعيف.

يرى سيد قطب في تفسيره (في ظلال القرآن)، وهو من أبرز المفكرين والمجددين الإسلاميين في القرن العشرين (أُعدم شنقاً 1966)، عند تفسير آية القوامة أن تفسير هذه الآية يأتي في سياق بيان مجمل لنظرة الإسلام إلى مؤسسة الأسرة وأهميتها ومدى حرصه على توفير ضمانات البقاء والاستقرار والهدوء في جوها، إلى جانب تكريمه للمرأة، ومنحها استقلال الشخصية واحترامها، والحقوق التي أنشأها لها إنشاء – لا محاباة لذاتها ولكن لتحقيق أهدافه الكبرى من تكريم الإنسان كله ورفع الحياة الإنسانية في سبيل تنظيم المؤسسة الزوجية وتوضيح الاختصاصات التنظيمية فيها- يحدد أن القوامة في هذه المؤسسة للرجل، ويذكر من أسباب هذه القوامة: تفضيل الله للرجل بمقومات القوامة، وما تتطلبه من خصائص ودربة، وتكليف الرجل الإنفاق على المؤسسة.

وبناء على إعطاء القوامة للرجل، يحدد كذلك اختصاصات هذه القوامة في صيانة المؤسسة من التفسخ، وحمايتها من النزوات العارضة، وطريقة علاج هذه النزوات حين تعرض – في حدود مرسومة – ويبين الإجراءات الخارجية التي تتخذ عندما تفشل الإجراءات الداخلية، ويلوح شبح الخطر على المؤسسة، التي لا تضم شطري النفس الواحدة فحسب، ولكن تضم الفراخ الخضر، الناشئة في المحضن، المعرضة للبوار والدمار. حيث أن الذي خلق هذا الإنسان جعل من فطرته “الزوجية” شأنه شأن كل شيء خلقه في هذا الوجود، ثم شاء أن يجعل الزوجين في الإنسان شطرين للنفس الواحدة. وأراد بالتقاء شطري النفس الواحدة فيما أراد، أن يكون هذا اللقاء سكنا للنفس، وهدوءاً للعصب، وطمأنينة للروح، وراحة للجسد. ثم ستراً وإحصانا وصيانة.. ثم مزرعة للنسل وامتداد الحياة، مع ترقيها المستمر، في رعاية المحضن الساكن الهادئ المطمئن المستور المصون. ومن تساوي شطري النفس الواحدة في موقفهما من الله، ومن تكريمه للإنسان، كان ذلك التكريم للمرأة، وتلك المساواة في حقوق الأجر والثواب عند الله، وفي حقوق التملك والإرث وغيرها. وكما أن الأسرة هي المؤسسة الأولى في الحياة الإنسانية فهي نقطة البدء التي تؤثر في كل مراحل الطريق. والأولى لأهميتها في إنشاء وتنشئة العنصر الإنساني، وهو أكرم عناصر هذا الكون، في التصور الإسلامي [17].

كما يرى أن المنهج الرباني يراعي الفطرة، والاستعدادات الموهوبة لشطري النفس لأداء الوظائف المنوطة بكل منهما وفق هذه الاستعدادات، كما يراعي به العدالة في توزيع الأعباء على شطري النفس الواحدة، والعدالة في اختصاص كل منهما بنوع الأعباء المهيأ لها، المعان عليها من فطرته واستعداداته المتميزة المتفردة. والمسَلم به ابتداء أن الرجل والمرأة كليهما من خلق الله. وأن الله – سبحانه – لا يريد أن يظلم أحدا من خلقه، وهو يهيئه ويعده لوظيفة خاصة، ويمنحه الاستعدادات اللازمة لإحسان هذه الوظيفة!  وقد خلق الله الناس ذكرا وأنثى.. زوجين على أساس القاعدة الكلية في بناء هذا الكون.. وجعل من وظائف المرأة أن تحمل وتضع وترضع وتكفل ثمرة الإتصال بينها وبين الرجل. وهي وظائف ضخمة أولاً وخطيرة ثانيا. وليست هينة ولا يسيرة، بحيث تؤدى بدون إعداد عضوي ونفسي وعقلي عميق غائر في كيان الأنثى! فكان عدلا كذلك أن ينوط بالشطر الثاني – الرجل – توفير الحاجات الضرورية، وتوفير الحماية كذلك للأنثى؛ كي تتفرغ لوظيفتها الخطيرة ولا يحمل عليها أن تحمل وتضع وترضع وتكفل.. ثم تعمل وتكد وتسهر لحماية نفسها وطفلها في آن واحد [18].

يتضح مما سبق أن تفسير سيد قطب ينطلق من رؤية شاملة وعامة لطبيعة التكوين البشري، والسنة التي تجري عليها الطبيعة. حيث ترتكز رؤية قطب على التكوين الأسري في سياق تفسيره لهذه الآية. ذلك أن بناء كيان الأسرة يمثل العنصر الرئيس في الغاية التي يرمي إليها النص. فهنا التفضيل لا يعني إطلاقاً التمايز المجرد بين الجنيسين، باعتبار أحدهم أفضل من الآخر، إنما يعني تهيئة كل منهم نفسياً وعضوياً بخصائص يتميز بها عن الآخر وذلك لإتمام العلاقة بين الطرفين وتحقيق التكامل بين شطري الكيان الأسري الواحد. حيث تتميز المرأة بميزات خاصة بها لا يمتلكها الرجل بما يؤهلها بالقيام على أداء وظائفها في تنشئته أطفالها وامتيازها بالعاطفة والحنان الذي يساهم في حماية الكيان الأسري من داخله. بينما يمتاز الرجل بمواصفات مقابلة لتلك التي تملكها المرأة ومنها قيامه على الإنفاق وحماية هذا البناء الاسري، والحفاظ عليه من أي مخاطر تتهدده، ويتحمل مختلف الأعباء بما يقابل الأعباء التي تحملها المرأة وفقاً للخصائص والاستعدادات الفطرية التي تؤهلها للقيام بذلك. وهذه الرؤية تأتي في الإطار العام في طبيعة النظرة الإسلامية لمجمل علاقة الرجل بالمرأة، لكن هما في الواقع شريكان لبعض في إتمام بعضهم الآخر وفي بناء الكيان الأسري والمحافظة عليه وإعانة بعضهم في تيسير أمور الحياة وفقاً لاعتبارات المساواة في نظر الشريعة. وهنا فيما يتعلق بالمهام التي يبنى عليها الخطاب الديني لدى المفسرون، حتى المعاصرون منهم، حول انحسار دور المرأة في تربية النشء ورعاية الزوج والحرص على الاستقرار العائلي يرى حامد أبو النصر أن ذلك يدور حول مسألة محورية الرجل وتحميل الزوجة وحدها هذا العبء بالرغم من دورها المهم كأم في ذلك، إلا أنه لا يجب تناوله بعيداً عن مسؤولية الإطار الأسري والمجتمعي ككل [19]. وهذا صحيح ما ذهب اليه أبو النصر ولكن المعنى باعتقادي فيما ذهب إليه سيد قطب مثلاً يشير إلى الإستعداد الفطرية للمرأة في الحفاظ على الطفل والعناية به، أما دور الرجل هنا فهو حاضر بتوفير كل الإحتياجات لهم، وهذا دور تنشئه بحد ذاته لا يمكن فصله بحال من الأحوال.

إضافة إلى ذلك فالرؤية هنا بالقدر الذي هي فيه بصورة عامة في النظرة إلى طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة، فهي ليست عامة لكل النساء وكل الرجال، فهناك نساء تقوم بأدوار الرجل بأفضل مما يقوم به، وهناك رجال غير قادرين على القيام بواجبهم ومسؤلياتهم المنوطة بهم. ولذلك من الممكن القول أن الغاية الكبرى التي يرمي اليها الشرع في هذا السياق تقتصر في سياق التكليف في أداء المهام المنوطة بين الرجل والمرأة في تكوين الأسرة والحفاظ على هذا اللبنة المقدسة في المنظور الإسلامي.

بين النص والسياق والتأويل:

من الواضح أن هناك تحولاً جوهرياً في تحديث آلية التفكير والتعامل مع النصوص في التفسير المعاصر بناءً على ما تقدم سابقاً، حيث يعكس نموذج الخطاب التجديدي لدى محمد عبده وتلميذه رشيد رضا وسيد قطب في قراءة آية القوامة، حالة من الوعي الشمولي للغايات والمقاصد التي يرمي الإسلام إلى تحقيقها من خلال هذه التشريعات. وتشير هذه التوجهات الجديدة في طبيعة فهم النصوص والاندماج معها إلى وجود تطور ملموس في بنية الفكر الإسلامي في فهم مقاصد الدين وتحقيق غاياته الكبرى. وهذا التحول يأتي نتيجة لعوامل عديدة أبرزها محاولة الفكر المعاصر الإنعتاق من حالة الجمود والسلبية للفكر الكلاسيكي في التعامل مع النصوص المقدسة، والسعي إلى موائمة فهمها مع المتغيرات الجديدة التي يحفل بها العالم المعاصر، والتي تسبب الجمود الفكري في بناء ثقافة مشوهة في بيئة الفكر العربي والإسلامي نحو المرأة باعتبارها عنصراً ضعيفاً وتابعاً ولا يمكنه ان يعيش إلا خاضعاً لسلطة فوقية هي التي تدير شؤون حياته. حيث يركز الخطاب المعاصر هنا على التلمّس الواعي لجوهر قضية القوامة وأبعادها وسياقاتها المختلفة وتناولها في إطار شمولي أوسع يراعي مختلف العناصر التي تتداخل في تشكيلها، وفقاً لما تراه المقصدية الشرعية من وراء ذلك وفي الحدود التي شرعت لأجله، مع الإحتفاظ بكيان المرأة كعنصر فاعل ومتساوي مع الرجل أمام الشرع.

يرى حامد أبو النصر أن التمسك بالمعاصرة على مستوى الحياة المادية، والإصرار في نفس الوقت على التفكير كما كان يفكر فيه السلف، يمثّل حالة من الانفصام المرَضي. وتلك الحالة المرضية هي ذاتها التي لم تستطع الكنسية في العصور الوسطى في أوربا مواجهتها إلا بعد أن كفر الناس بسلطتها وثاروا عليها [20]. كما يرى أننا ملزمون باستعادة السياق التاريخي لنزول القرآن من أجل التمكن من فهم مستويات المعنى وآفاق الدلالة؛ لمقدرة التمييز في التشريعات بين مستويات لم يتنبه لها أسلافنا عند تناولها [21].  وهنا يشير أبو زيد إلى الإشكالية المزمنة والمتجذرة في قراءة النصوص والتعامل معها وهي التمسك الحرفي بظاهرية النص، حيث أن تلك القراءات كانت في أزمنة مختلفة عن العالم الحالي، بينما يجب التفكير بلغة العصر ووسائله المختلفة ودراسة مختلف العوامل التي لها دوراً أساسياً في فهم النص، كالسياق التاريخي الذي نزلت في الآيات، والاجتهاد في الدراسة العلمية بوسائل البحث المتقدمة التي توصل إليها العلم في الفترة المعاصرة. إضافة إلى فهم المرحلة الزمنية ومتغيرات العصر في مختلف المستويات، والسعي إلى قراءة النصوص وتفسيرها بما يتطلبه عالمنا اليوم وما تقتضيه الحاجة في زماننا وليس بالاستناد على تفسير السلف المبني على ظروف تاريخية معينة.

ويمثّل مفهوم التأويل في التراث الفلسفي الإسلامي إشكالية أخرى في طبيعة التفاعل مع النصوص، حيث يعد التأويل في الفكر الفلسفي الإسلامي جهداً عقلياً ذاتياً يسعى إلى إخضاع النص لتصورات المفسّر ومفاهيمه وأفكاره. حيث يرى أبو زيد أن هذه النظرة غفلت دور النص في تأثيره على المفسِّر. وبالتالي فإن العلاقة هنا بين النص وبين المفسر ليست اخضاع من المفسر وخضوع من النص، وإنما هي بالأحرى علاقة تبادلية وتفاعلية بين النص والمفسر [22]. ومسألة التأويل برغم تميّزها بجانب من التفاعلية بين المفسر والنص إلا أنها قد تتغلب عليها الذاتية أحياناً، لذا فإن المقاربة التفسيرية ينبغي أن تستند على أساس موضوعي يتمثل في محددات معينة قائمة صراحة على ما يتضمنه النص، ومن ثمّ النظر في مختلف العناصر التي ترتبط في فهم النص للخروج برؤية أكثر اتزاناً وموضوعية لفهم النصوص المقدسة وفقاً لما تقتضيه الغايات والمقاصد الإسلامية من وراء هذه التشريعات وليس في التوقف على ما تحمله حرفية النصوص. ذلك أن المقاصد الإسلامية لا تُحمل بمفردها وإنما تأتي مرتبطة بمنظومة مكتملة، يسعى الإسلام إلى إيجادها والحفاظ عليها بصورة أكثر شمولاً.

إذن بصورة عامة يمكننا القول أن مسألة القوامة جاءت في سياق محدد وهو سياق البناء الأسري وفق ما تقتضيه مصلحة العش الأسري والمهام المنوطة بكلا الطرفين في بناءه؛ وذلك لكونهما عنصران مكملان لبعضهما في بناء الأسرة التي تعد أهم اللبنات الاجتماعية التي يركز الإسلام على أهميتها. وبالتالي فإن مسألة التفضيل هنا لا تعني التمايز والأفضلية إنما تعني توفر خصائص معينة في كليهما على الآخر. كما أن القوامة لا تعني استخدام السلطة والسيطرة والقهر ضد المرأة، ولكنها تشير الى دور الحماية والرعاية والحفاظ على بنية الأسرة والتعاون في تحقيق السعادة الاٍسرية. وهنا لا يمكننا اسقاط القوامة على مسائل مختلفة مثل قضايا إمامة المرأة والمساواة في الميراث فكل قضية لها سياق محدد.

الخلاصة:

من المسَلّم به أن الفكر هو طريقة إعمال العقل في التفكير وأن التفكير عملية متجددة باستمرار قابلة للتطور والتحول بحسب المعطيات التي تحفل بها مختلف البيئات التي يعايشها المفكر. ولذا فإننا نلحظ أن مسألة الفكر الإسلامي في قضية القوامة أخذت في التحديث والتجديد بشكل ملحوظ من جيل إلى آخر. فالفكر المعاصر يمتلك رؤية تحديثية في تعاطيه مع النصوص المقدسة بطريقة تختلف عنها في الماضي البعيد. ونجد من خلال استعراضنا لتفسير آية القوامة بين التفسير الكلاسيكي والتفسير المعاصر وجود توجهات حديثة وأكثر نضجاً في فهم شمولية الإسلام والسعي لفهم الغايات الكبرى بصور أكثر عمقاً، والتي من شأنها أن تساهم في تصحيح المفاهيم الخاطئة عن مسألة القوامة وطبيعة علاقة الرجل بالمرأة من منظور شراكة وتكامل بديلاً عن التابع والمتبوع. ويمكن القول أن تحولات الفكر المعاصر في مسألة القوامة تشير إلى تطور مهم وفاعل في الفكر الإسلامي ومحاولات جادة في إجلاء الشبهات عن روح الشريعة الإسلامية، ودحض للتفسيرات والتأويلات الضيقة التي اجتهد بها أصحابها في ظروف زمنية معينة وفي مستويات معرفية لا تراعي الأبعاد المختلفة التي ترمي إليها الشريعة الإسلامية بصورة عامة، كما أنها تتسق والظروف الزمنية في تلك العصور. وبالتالي فإن هذا التطور والتحديث حالة طبيعية تشير إلى أهمية إعادة قراءة النصوص وتفسيرها بصورة مستمرة في كل عصر بما يتوافق مع متطلبات ذلك العصر ووسائله المختلفة وذلك من منطلق أن القرآن الكريم صالح لكل زمان ومكان، وهذا ما تقتضيه سنة الله في خلقه.

المصادر والمراجع

  • أبو زيد، نصر حامد. دوائر الخوف: قراءة في خطاب المرأة، المركز العربي الثقافي، بيروت، 2007.
  • أبو زيد، نصر حامد. فلسفة التأويل: دراسة في تأويل القرآن عند محي الدين ابن عربي، درا الوحدة، بيروت، 1983.
  • آية القوامة، دراسات، علوم الشريعة والقانون، مج 41، ع 2، 2014.
  • الكربي، جمعة. “قوامة الرجال على النساء في كتب التفسير”، أطروحة ماجستير، جامعة قطر، 2017.
  • حداد، أيفون، أسبوزيتو، جون. الإسلام والجنوسة والتغيير الاجتماعي، ترجمة: أمل الشرقي، الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، 2003.
  • رضا، رشيد، عبده، محمد. تفسير المنار، ج 5، مطبعة المنار، 1328هـ.
  • سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، ج 2، 2003.
  • توفيق، عباس. محمد بن جرير الطبري ومنهجه في تفسير القرآن الكريم وكتابة التاريخ، دار ناشري.

[1] – عبد الله الزيوت، آية القوامة، (دراسات، علوم الشريعة والقانون، 2014)، مج 41، ع 2، ص 1509.

[2]  عبد الله الزيوت، مرجع سابق، ص 1509.

*أحد الفرق الإسلامية التي تتبنى التفسير العقلي للقرآن.

[3]  جمعة الكربي، “قوامة الرجال على النساء في كتب التفسير”، أطروحة ماجستير، (جامعة قطر، 2017)، ص11.

[4]  عبد الله الزيوت، مرجع سابق، ص 1506.

[5]  أيفون حداد، جون أسبوزيتو، الإسلام والجنوسة والتغيير الاجتماعي، ترجمة: أمل الشرقي (عمّان: الأهلية للنشر والتوزيع، 2003)، ص92.

[6] – عباس توفيق، محمد بن جرير الطبري ومنهجه في تفسير القرآن الكريم وكتابة التاريخ، دار ناشري، ص 10.

[7] – عباس توفيق، مرجع سابق، ص 7.

[8]  أيفون حداد، جون أسبوزيتو، مرجع سابق، ص 96-97.

[9]  المرجع السابق، ص 97.

[10]  أيفون حداد، جون أسبوزيتو، مرجع سابق، ص 98.

[11]  أيفون حداد، جون أسبوزيتو، مرجع سابق، ص 98-99.

[12]  تفسير المنار، فسره محمد عبده، وحرره تلميذه رشيد رضا، الجزء الخامس، (مطبعة المنار، 1328هـ) ص69.

[13] تفسير المنار، مرجع سابق، ص 69.

[14]  تفسير المنار، مرجع سابق، ص70.

[15]  تفسير المنار، مرجع سابق، ص 70.

[16]  أيفون حداد، جون أسبوزيتو، مرجع سابق، ص 100.

[17]  سيد قطب، في ظلال القرآن، (دار الشروق، 2003)،ج 2، ص 650-652.

[18]  سيد قطب، مرجع سابق، ص 651.

[19]  نصر حامد أبو زيد، دوائر الخوف: قراءة في خطاب المرأة، (بيروت: المركز العربي الثقافي، 2007)، ص 82.

[20]  نصر حامد أبو زيد، مرجع سابق، ص 11.

[21]  نصر حامد أبو زيد، مرجع سابق، ص 11.

[22]  نصر حامد أبو زيد، فلسفة التأويل: دراسة في تأويل القرآن عند محي الدين ابن عربي، (بيروت: درا الوحدة، 1983)، ص 5-6.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى