قضايا فلسفية

النخب المعولمة وأثرها على البحث العلمي في فلسطين: إشكاليات ومعيقات في سياق الدكتور خليل نخلة وساري حنفي

اعداد :محمود زيدان باحث في المركز العربي للدراسات العليا 

  • المركز الديمقراطي العربي

تذهب هذه المقالة إلى معرفة أثر عولمة النخب الفلسطينية ومدى انعكاساتها على البحث العلمي في فلسطين. علماًأن ما وصلت إليه القضية الفلسطينية هو نتاج اتفاقيات ومؤثرات خارجية وإقليمية لعبت دوراً في تحديد وبلورة الإطار الشكلي والتكويني للقضية الفلسطينية داخل المجتمع الفلسطيني، مرورا باتفاقية أوسلو وباريس وغيرها من الاتفاقيات التي خلقت انعطافات تاريخية عصفت المجتمع الفلسطيني، والتي ساهمت في انتقال خطاب المقاومة البطولي إلى خطاب التسوية والمشاركة في نظام دولي جديد.

يرى الكثير من المهتمين في دراسة النظام الدولي الجديد، أكثر وضوحا عقب ظهور منظورات دولية جديدة في علم العلاقات الدولية وقد ظهر هذا المنظور في كتابات المفكر الأمريكي” فرانسيس فوكو ياما” صاحب كتاب” نهاية التاريخ” الذي يعبر عن هذا الاتجاه بالحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحددة، والذي تمثل في انهيار سور برلين وانهيار الاشتراكية، وانتصار المعركة الأيدولوجية الأمريكية والتي تمثلت بانتصار الرأسمالية والتي ظهرت بما يسمى بالنظام العالمي الجديد ” العولمة”.

وقدعرفمحمد الجابري العولمة بأنها” العمل على تعميم نمط حضاري يخص بلداً بعينه، وهو الولايات المتحدة الأمريكية بالذات، على بلدان العالم أجمع. يقودنا الجابري إلى تفسير العولمة في سياقها العام بأنها إرث من المعلومات والإيديولوجيات والقيم والديانات والمعارف تم إنتاجها من قبل أفراد وجماعات، وهي تنتشر بواسطة أفراد وجماعات أخرى يطلق عليهم”نخب معولمة”، يؤطرون بداخلها من خلال تفضيلاتهم وميولهم لهذا النهج المنتج من قبل جماعات وأفراد مختلفة.

أخذ مفهوم العولمة أهمية كبيرة في حقول علم الاجتماع والسياسية والاقتصاد والثقافة، من خلال نشوء نخب معولمةتأثرت بقيم وتوجهات منظومة العولمة، وخصوصا في مجال البحث العلمي لارتباط البحث العلمي بخيوط الاقتصاد والثقافة والسياسية بصورة أصيلة داخل المجتمعات، وكون البحث العلمي من أدوات الكفاح والمقاومة في العديد من المجتمعات، فهي يعتبر رصيد الشعوب في التقدم والتطور، من خلال ملامسته لنظام احتياجاتهم وإخراجهم من بؤرة الهيمنة والانحلال في جميع الأصعدة.

من الجدير بالذكر عندما نتناول مفهوم النخب المعولمة، أن نتطرق إلى ما قاله الدكتور خليل نخلة في كتابه” فلسطين :أرض للبيع”(2011)، حيث استخدم خليل مفهوم هدجز في تفسيره للنخب المعولمة حيث فسرها ” هي الطليعة، والنخب المختارة للخلاص، وهي الرسل الذين يفقهون وحدهم الحقيقة المطلقة، ولهم الحق في فرض هذه الحقيقة على شعب أسير مهما كانت التكلفة، فيتم التعاضي عن معاناة الإنسانية …، وتفتقر هذه النخبة إلى الرؤية لتقديم أي بديل أخر ولا يمكن لأفراد هذه النخبة إلا أن يعلموا فقط كمدراء أنظمة، أنهم سيجوفون الدولة وسيفرغونها من مضامينها للحفاظ على ” رأسمالية الكازينو” المحكومة بالفشل”.

فالدلالات التي تحملها النخب المعولمة،تبين أنها دلالات تحمل معايير الهيمنة والقوة والتأثير، فهي تشكل دلالات اجتماعية ثقافية سياسية، قادرة على بسط نفوذها من خلالها افرازاتها لهيمنة ثقافية وفكرية تجعل الأخرين قادرين على تقبل فكرة الأخر بشكله” الاستعماري”.

وهذا المفهوم تعزز في المنطقة العربيةحيث عمل على إحداث نقلة نوعية من أرضية التحرر الوطني والاجتماعي والاقتصادي كعنوان أساسي ” سابق” إلى أرضية التقيد والانفتاح والهيمنة والاستغلال والسيطرة كعنوان جديد.

فلسطينيا كان لها النصيب الأكبر من مفهوم العولمة والنخب التي أفرزتها، حيث رسمت اتفاقية أوسلو الموقعة بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، إطارا يتمثل في تشكيل مرحلة انتقالية لمدة خمس سنوات وإقامة حكم ذاتي للفلسطينيين ضمن مشروع السلطة الوطنية الفلسطينية،  حيث فرضت أوسلو على الجانب الفلسطيني كحمور أساسي لقيام الحكم الذاتي العمل على تعزيز قيم السلام والدفع باتجاهها والابتعاد عن المفاهيم التي تعظم القوة والعنف والكفاح المسلح، وفي نفس السياق عززت الاتفاقية من زيادة الدعم المالي والتمويل الغربي والأجنبي لفلسطين والذي عزز  نشوء مؤسسات غير حكومية تمارس مشاريع مختلفة سواء كانت اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية  أو بحثية والتي تعمل على رسم ودعم  سياسات تخطيطه اجتماعية واقتصادية وثقافية  عامة تساعد السلطة الوطنية والمجتمع الفلسطيني الولوج داخل عملية تغير مجتمعي للوصول إلى حياة كريمة في ظل احتلال كولونيالي استعماري استيطاني توسعي، وفي هذه المقالة سوف اتناول الجانب البحثي لهذه المؤسسات، والتي اعتمدت على التمويل الغربي في رسم سياساتها وأبحاثها العلمية.

عند النظر للدراسة التي قام بها ساري حنفي(2010)، قد تبين بأن الأنشطة البحثية في فلسطين تجرى بشكل أساسي من خلال نوعين مختلفين من المؤسسات والتي كانت على النحو الاتي:

الأول: يتمثل في المراكز البحثية التي نشأت داخل الجامعات بطابع أكاديمي، مثل جامعة بيرزيت، والتي تشكل (4 مراكز بحثية جامعية، أي نسبة 10%).

الثاني: يتمثل في المنظمات الغير حكومية(NGOs).، تشكل 41% من عملية انتاج البحث العلمي، أما باقي العملية البحثية فهي تتم من قبل المنظمات الغير حكومية العاملة في مجال التنمية الدفاع عن حقوق الإنسان.

أيضا في دراسة الدكتور خليل نخلة (2011)، بين أن هناك أكثر من 60% من المؤسسات غير الحكومية التي لها علاقة بجانب إنتاج المعرفة والبحث العلمي تم إنشاؤها بعد التسوية السياسية ” أوسلو”، والتي تعتمد بشكل كبير على التمويل من الصناديق السياسية التي إلى حد كبير هي الحكومات الغربية. والتي غالبا يترأسها نخب معولمة تدعي بأنها تعمل تحت غطاء وطني واجتماعي، لكن في واقعها العملي تعمل بما يمليه عليهم أصحاب التمويل، وقد وضح نخلة، بأن لا يوجد اتساق بين الموضوعات المنشورة والمختارة وبين الأهداف الرئيسة التي إنشات من أجلها المؤسسات البحثية.

كما وضحت الدراسة بأن هناك منعطف سياسي داخل المؤسسات البحثية في فلسطين لاعتمادها الأول والأخير على التمويل الغربي، وأنها تحولت من مؤسسات بحثية مستقلة تهتم بالقضية الفلسطينية والقومية الوطنية إلى مؤسسة غير حكومية تستعين بها الأجندة الغربية وتعمل نيابة عنها، وأيضا يثير تساؤلات عدة من أهمها، ما علاقة التمويل الغربي في دعم مواضيع بحثية معينة؟ وهل في حال خروج المؤسسة عن النص التمويل الغربي تتوقف عملية التمويل ويعمل على أيقاف انتاج المعرفة والبحث العلمي، كما حدث على سبيل المثال قيام المركز الكندي لبحوث التنمية الدولية قرار إلغاء المنحة التي أقرها لمركز مدى للأبحاث الاجتماعية التطبيقية في حيفا بعد تدخل السفارة الإسرائيلية في كندا.

مما سبق يظهر لنا عملية تهميش وتجزئة مكان إنتاج البحث العملي في فلسطين بشكل واضح، مما يؤثر على خصوصية المرافق المترتبة عليها تسهيل العملية البحث العلمي، حيث بينت لنا دراسة حنفي أن هناك الكثير من الباحثين يشكون من صعوبة ومشكلة العثور على المراجع والمعلومات، فالبحث الفلسطيني يقوم بالبحث والذهاب إلى جميع أنحاء الضفة الغربية للحصول على مراجع أو كتب هنا وهناك، في حين أنه لا يوجد مكتبة مركزية تكون نقطة لجوء ومرجعية للباحثين للحصول على مصادر ومراجع، وهذا يعبر عن الفجوة بين المؤسسات البحثية الغير حكومية وطبيعة المشاريع البحثية التي تقوم بها داخل المجتمع الفلسطيني.

وأيضا تمركز النخب المعولمة داخل مؤسسات البحث العلمي، خلق إطار مغاير للقيمة البحثية داخل المجتمع الفلسطيني، وهذا ما رأيناه في دراسة نخلة، حيث يتضح لنا تشكيل منعطف اجتماعي وبحثي جديد، وقيم جديدة تحاول هذه المؤسسات من نشرها من خلال مشاريع وبرنامج تكون بيئة خصبة لنمو بذور السلام والتي هي واحدة من أجندة التمويل الغربي الموالي للاحتلال الصهيوني، وتسعى بأن يكون فضاء العملية البحثية على تقاطع كبير مع هذه القيم،حيث قامت هذه المؤسسات الغير حكومية من اجتذاب الباحثين واعطائهم تسهيلات مالية واجتماعية وغيرها وإقامة مشاريع مغايرة للطبيعة الفلسطينية وليس لها بالواقع المجتمعي ولا البحثي داخل فلسطين، حيث اعتمدت على رهن الموظف أو الباحث الفلسطيني داخل اجندتها التي تمثل مثال ليبرالي، وهذا كله ساعد على انخراط الباحثين داخل مجتمع النخب المعولمة. وأدى هذا كله إلى خلق إطار جمعي ثقافي يدفع المواطن الفلسطيني عن التخلي عن الهوية الفلسطينية والوطنية والتعليمية، مما ساهم في خلق بيئة بحثية لا تخرج عن نصوص السلام التي ترسمها الاتفاقيات المشؤومة.

وعطفا على ما سبق، يعتبر البحث العلمي من أهم وسائل ورقي وتقدم الشعوب، وهو ركن أساسي من المعرفة الإنسانية، والسمة البارزة للعصر الحديث، وهو ناصية تقود الشعوب إلى التخلص من الانعزال الهيمنة وسطوة الاخر، ومنطلقة إلى عجلة التنمية والانتماء. وهذا كله تلاشا واندثر داخل منظومة الفكر الليبرالي الكولونيالي التوسعي الاستعماري، حيث خلقت النخب المعولمةمنصة استعمارية تمارس الهيمنة الثقافية والفكرية، والتي أثرت على البحث العلمي داخل فلسطين من خلال الانفتاح على وسائل الاتصال وتدفق المعلومات عبر شبكات الانترنت المسيطر عليها من قبل الشركات المعولمة، وهذا خلق إشكالية الهوية البحثية في فلسطين، وسوف أتطرق إلى أهم النقاط التي ساعدت في ذلك:

  1. التمويل المشروط” التمويل المسيس” والقروض في جوانب لا تخدم البحث العلمي، بل بإهمال عملية البحث العلمي من عملية التمويل بشكل كبير وواضح داخل المجتمع الفلسطيني. وهذا ما نجده في الفجوة بين الجامعات التي هي أصل العملية البحثية وبين المؤسسات الغير الحكومية التي تهتم بإنتاج المعرفة والبحث العلمي والتي تحصل على تمويل غربي.
  2. خلق شبكة لا بأس بها من مؤسسات بحثية غير حكومية تحملفكر ليبرالي ترتبط بأجندة التمويل، مما ساعد في خلق نخب تحمل واقع فكري جديد داخل المجتمع الفلسطيني، يحمل قيم وأفكار ليصبح أكثر تعطشا للتعايش السلمي.

وأيضا عندما ننظر إلى مخرجاتها البحثية لا نجد شيء له علاقة بصميم القضية الفلسطينية أو المقاومة الفلسطينية. وهذا كله ساعد في خلق نمط الهيمنة على صناعة النخب ذات البعد الثقافي والسياسي، وذلك بتسليط الضوء على الادباء والشعراء وأصحاب الرأي الأكثر استجابة لمقولات العولمة.

  1. خلق بيئة خصبة للباحث الفلسطيني للولوج داخل معادلة استهلاكية تحولهم إلى نخب ليبرالية تساعد في المشاركة في عملية صنع القرار ووضعهم داخل قوالب جاهزة للتفكير والسيطرة على السلوك.
  2. ان الاحتياجات البحثية تحدد من قبل الممولين وليس اعتمادا على ما يحتاجه سواء الفرد او المجتمع الفلسطيني اضافة الى محاولة فرض انماط من البحث العلمي على المجتمع وعلى الباحثين قد لا تتناسب مع ما يحتاجونه من عملية البحث.

هذا ما أكدته دراسة حنفي ونخلة، فجميع الخطابات والمشاريع داخل هذه المؤسسات تتعلق في عملية بناء قدرات وقيادات شابة وديمقراطية وغيرها من برامج التنمية والمفاهيم الليبرالية الجديدة، ومن النادر أن نجد داخل هذه المراكز برامج تدريب لها علاقة بعملية البحث العلمي أو برنامج له علاقة بتعزيز البيئة البحثية العلمية، وأيضا الشواغر داخل هذه المراكز متعلقة بالشؤون الإدارية، وليس لها ما يتعلق بالبحث العلمي، وإذا كان ذلك يكون ضمن عقود للباحث ولا تتجاوز مدة 12 شهرا، وأيضا عدم إشراك الباحث في بلورة الاستراتيجية البحثية داخل المؤسسات، وهذا الوضع يجبر الباحثين والخرجين الجدد العزوف من عالم البحث العلمي وانخراطه داخل المهن الأكثر استقرار.

وأيضا هذا ما وضحته دراسة نخلة في أن غالبية المؤسسات البحثية غير حكومية لا يوجد لديها وقفيات مالية تستند إليها لإقامة مشاريع بحثية ضخمة، بالتالي إذا اهتزت علاقتها مع الجهات المانحة سوف تؤثر على عملية التمويل وتتوقف العملية البحثية ويضعف من استمرارها.

  1. توجيه الباحث الفلسطيني إلى خوض التحدي في مجال البحث العلمي بأدوات ناقصة، بحيث يؤدي دورها إلى زعزعة الثقة بالواقع الاجتماعي، واحباطه من ممارسة عملية البحث العلمي، والكفر بالثقافة البحثية والقيم العلميةعلى أقل تقدير.

ولعل أكثر المتضررين من ذلك هم الباحثين أنفسهم، فهم متضررون بافتقاد القيمة المعنوية لمعنى البحث العلمي، وهذا يساعد لفقدان مفهوم الرسالة والرؤية التي يحملها الباحث الفلسطيني، أيضا أن الباحثين بأغلبيتهم سيكونون موضوع المساومة، بين البحث العلمي وبين نظام الاحتياجات الخاص بهم، بتالي سوف يتعرضون للجمود وفقدان أي امتيازات قد حصلوا عليها.

وأخيرا، من الأدق النظر إلى النخب المعولمة كقطاع من الفاعلين ذوي المواقف المعتمدة على السياقات المختلفة، بدلا من النظر إليها كفئة واحدة. وإدراك مدى خطورة هيمنة هذه المراكز على الباحث والبحث العلمي، ومدى قدرتها على الاندماج داخل فئات المجتمع من خلال تغنيها بمفاهيم حقوق الانسان والديمقراطية والتي تعبر مصدر ليبرالي غربي هدفه تغير تضاريس المجتمع الفلسطيني من خلال التأثير على عملية البحث العلمي واضعافها وادراجها في قوالب جاهزة ضمن رؤية غريبة، وأيضا إعادة صياغة مفهوم التنمية المعتمدة على التمويل الغربي والصناديق السياسية التي تغذيها القوى الغربية لتصبح تنمية مرتكزة على الناس، تعزز النسيج المجتمعي واستغلال الموارد المتاحة وتحويل المواطن من مستهلك إلى منتج محلي،  علما بأن فلسطين لها رصيد ضخم يعتز به من الباحثين القادرين على تطويع المنجزات العلمية لخدمة المجتمع وتنمية موارده وقدراته على تحقيق المصير والدفاع عن وطنه من خلال مراكز البحث العلمي، حيث إن كل ما سبق يمكن مواجهته عبر إنشاء مراكز بحثية وطنية ذات تمويل وطني فلسطيني ملتزم بقضاياه ويسعى لتحقيق تطلعاته الوطنية والعلمية.

 

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى