دراسات سياسيةدراسات شرق أوسطية

النظام السياسي في تركيا

يتناول بحث النظام السياسي في تركيا (نظام الحكم – المؤسسات) مجموعة من القضايا التي تتعلق بشكل وبنية النظام السياسي في تركيا في المرحلة الممتدة من تأسيس الخلافة العثمانية إلى مرحلة وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، مروراً بتأسيس الجمهورية التركية ومراحل الانقلابات العسكرية.

ويعرض البحث لمحاولات التأثير في تجربة العدالة والتنمية الداخلية والخارجية، ومواقف تركيا من قضايا الأمة…

وتبرز أهمية البحث من أهمية الموقف التركي ودوره الاقليمي الحالي في عددٍ من أزمات المنطقة، إضافة إلى أن فهم أي سياسة خارجية لأية دولة يقتضي دراسة المراحل التاريخية لتطور نظام الحكم فيها، وشكل نظام الحكم فيها وطبيعة مؤسسات الدولة وقدرتها، فضلاً عن المؤسسات الأخرى (مؤسسات الظل) التي تؤثر في القرارات السياسية وصناعة القرار.

يهدف البحث إلى إعطاء صورة واضحة لشكل النظام السياسي التركي الحالي ومراحل تطوره، وطبيعة مؤسسات الدولة وشكلها واختصاصاتها المختلفة ودورها في صنع القرار السياسي. ويتناول البحث مرحلتين زمنيتين: الأولى تاريخية تمتد من الخلافة العثمانية إلى وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002م، والأخرى معاصرة تركز على شكل وأبعاد وطبيعة النظام السياسي الحالي ومؤسساته في ظل حكم حزب العدالة والتنمية.

وتبرز أهمية الدراسة التاريخية أو المدخل التاريخي من ارتباط الأبعاد التاريخية بالقضايا الإستراتيجية والجيوسياسية التي تصدر عنها القرارات السياسية التي تتعلق بالسياسة الخارجية على وجه الخصوص.

ولذلك وجبت العودة إلى التاريخ لفهم أبعاد المواقف السياسية التركية والدولية إزاء تركيا، معتمدين المنهج التاريخي في جزء من البحث، والمنهج الوصفي التحليلي في جزءٍ آخر.

دخل تاريخي ( تركيا من الدولة العثمانية إلى حكم العدالة والتنمية)

1-1- الدولة العثمانية:

تتداخل مسائل وقضايا متعددة عند البحث في تاريخ الخلافة العثمانية، إذ يركز معظم الباحثين على نشأة الخلافة العثمانية وامتدادها وفتوحاتها ومن ثم انهيارها (1299م-1923م). لكننا هنا لن نركز على هذه النواحي التي يستطيع القارئ المهتم أن يجدها في كتب التاريخ التي أرَّخت لتلك الحقبة أو بحثت في تاريخ الدولة العثمانية، بل سيتم عرض بعض الجوانب التي غفل عنها البعض، أو أغفلها وشوهها البعض الآخر.

وفي هذا السياق فإننا سنعرض لعددٍ من شهادات وكتابات بعض المؤرخين والباحثين الغربيين وغيرهم في ما يخص الخلافة العثمانية.

يكتب بين هربين Penne Herpin أحد المفكرين الفرنسيين الذين عاصروا الخلافة العثمانية عام 1629م ” تفوق قدرة الإمبراطورية العثمانية اليوم قدرات مجموع دول العالم أجمع”، ويستهل البارون النمساوي فون هامر Von Hammer مقدمة الأجزاء التسعة عشر من كتابه عن تاريخ الخلافة العثمانية بالقول عام 1835م ” الإمبراطورية العثمانية إمبراطورية واسعة وهي ذات أهمية غير متناهية من الناحية التاريخية، هي أشبه ما تكون بمارد يقبض بأذرعه الجبارة على ثلاث قارات في وقت واحد، ولو أنها سقطت في وقت من الأوقات، كأية إمبراطورية أخرى، فإن أنقاضها سوف تغطي قارات آسيا وأفريقيا و أوربا”.[1]

ويقول المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي Arnold Toynbee” الخلافة العثمانية هي الدولة الوحيدة التي جمعت الشرق الأوسط تحت حكمها أطول حقبة في التاريخ، وذلك أمر لم توفق إليه الإمبراطورية الفارسية أو الرومانية أو العربية. كما أنها جمعت الأقوام الناطقة بالعربية كافة تحت راية واحدة، وإن إدارة الخلافة العثمانية للشرق الأوسط كانت خير إدارة على مدى التاريخ وحتى يومنا هذا”[2]

ورغم قوة وانتشار ما اصطلح عليه دارسو التاريخ العثماني من الغربيين بالإمبراطورية العثمانية، إلا أنها كانت عرضة لموجاتٍ متتالية من الأحقاد والشائعات والتشويه المتعمد المستند إلى أمور عدة يأتي في مقدمها:

فتح القسطنطينية عام 1453م، لتنتهي بهذا التاريخ الإمبراطورية البيزنطية، ولتشكل هذه الحادثة جذور ما يعرف بالمسألة الشرقية. ومع فتح القسطنطينية معقل المسيحية الشرقية ادعت روسيا الأرثوذكسية أنها وريثة هذه الإمبراطورية وأن موسكو أصبحت روما الثالثة، ولتبدأ منذ تلك المرحلة السياسية العدائية التي انتهجتها روسيا إزاء الخلافة العثمانية بمحطاتها التاريخية المتعددة. ويضاف إلى الدافع الديني في العداء الروسي الخلافة العثمانية مصالح حيوية لروسيا في ممرات البوسفور والدردنيل كونها تشكل حاجزاً أمام السفن الحربية والتجارية الروسية في الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط، إضافة لأهميتها الملاحية في فصل الشتاء عندما تصعب الملاحة في بحر البلطيق. ولعل أبرز محطات هذا العداء الروسي هي بين عامي 1770- 1774م، إذ أنزلت روسيا قواتٍ لها في اليونان وبيروت للتحريض على الثورة ضد الخلافة العثمانية، وتم توقيع معاهدة كوتشك قينا رجه عام 1774م التي حصلت بموجبها روسيا على تعهدٍ بحماية الدين المسيحي الأرثوذكسي وضمان حرية القناصل والسفراء الروس والتدخل لصالح الكنيسة ضد أي أمر يسيء إليها. ومن هذا التاريخ بدأت مسألة التدخل الروسي في شؤون الخلافة العثمانية الداخلية وتحريض الأقليات الدينية والعرقية على السلطة العثمانية، الأمر الذي تسبب بحروب وأزمات متعددة دخلتها الدولتان أبرزها حرب القرم 1853-1856م والحرب البلقانية 1877-1878م، ومحطات متعددة من الحروب والأزمات والمعاهدات.[3]

الدولة الصفوية في إيران وسياستها العدائية تجاه الخلافة العثمانية، في عام 1501م أعلن الشاه إسماعيل الصفوي تشيعه وتشييعه إيران بالكامل وإقامة الدولة الصفوية الشيعية، ويمكن ملاحظة أن المرحلة الممتدة من أوائل القرن السادس عشر إلى أواسط القرن الثامن عشر لم تخل من معارك وحروب بين الطرفين، ومعاهداتٍ وتعاونٍ بين الدولة الصفوية والقوى الغربية التي دخلت الخلافة العثمانية في حروب متعددة معها. وقد عملت الدولة الصفوية ومن ثم القاجارية الإيرانية على مواصلة استنزاف وتشويه وخلخلة البنى الاجتماعية والدينية في الخلافة العثمانية وشن حروبٍ متعددة على أراضيها في الشرق والجنوب الشرقي وأطراف الخليج العربي، إضافة إلى بث الدسائس وتحريض الأقليات وعامة المجتمع ضد الخلافة العثمانية.[4]

أثمرت الجهود الروسية والصفوية تحديداً والأوربية عموماً، في تأمين أرضية مناسبة لنشوء عددٍ من الحركات والتوجهات القومية أو الدينية التي تنادي بنزعاتٍ قومية استقلالية وتطرح قضايا إشكالية تتعلق ببنية المجتمع والدولة العثمانية، وتبث إشاعات عن النزعات القومية التركية التي تحكم الدولة العثمانية، ويتضح للمتتبع لمصادر هذه الدعوات أن معظمها يدور في فلك الأقليات الموالية إما لروسيا أو الدول الأوربية أو الدولة الصفوية الفارسية، أو المتأثرين بالبعد العقدي والمعرفي للغرب في أثناء الدراسة فيه.

تضافرت العوامل الخارجية والعوامل الداخلية في إضعاف السلطة السياسية العثمانية على مكوناتها الاجتماعية والجغرافية، وأدت إلى تزايد حالات النزوع الانفصالي عن المركز في عدد من الولايات التابع الخلافة العثمانية كمصر والحجاز واليمن والمغرب العربي والقرم وشرق آسيا.

ومن المعروف أن الخلافة العثمانية مرت بثلاث مراحل أساسية في تاريخها وعددٍ من المراحل الفرعية نستعرضها بإيجازٍ شديد.

أولاً: مرحلة النشوء

وتقسم ثلاث مراحل فرعية هي، مرحلة الإمارة التي أسسها أرطغرل بك 1231-1281م ومن بعده ابنه عثمان بك 1281- 1324م ، وتميزت بتشكيل النواة الأولى للدولة والحروب مع البيزنطيين ومن بعدها بدأت تأخذ الدولة ملامحها، إذ بلغت مساحة الإمارة التي تركها عثمان بك حين وفاته 16000كم2. ومرحلة التوسع واستمرت حتى عهد السلطان مراد 1362- 1389م، وفيها بلغت مساحة الدولة 500000 كم2 منها 291000كم2 في البلقان و 208000كم2 في الأناضول وآسيا. ومرحلة تزايد النفوذ وتمتد من تولي يلدرم بايزيد السلطنة عام 1389م وحتى فتح القسطنطينية عام 1453م على يد السلطان محمد الفاتح، وقد اتسمت هذه المرحلة بتزايد النفوذ العثماني في البلطيق والأناضول والوصول إلى البحر الأسود و تسيير عدد كبير من الحملات الهاميونية باتجاه أوربا والقرم والبلطيق ( يقصد بالحملة الهاميونية هي الجيش الذي يقوده السلطان العثماني بنفسه).

ثانياً: مرحلة الدولة العالمية

وتقسم أيضاً ثلاث مراحل فرعية، المرحلة الأولى تمتد من عام 1453-1520م وفيها بدأت ملامح الإمبراطورية العالمية مع فتح القسطنطينية على يد السلطان محمد الفاتح الذي قاد 25 حملة هاميونية بنفسه تجاه أوربا (البوسنة القرم المجر ألمانيا هنغاريا اليونان إيطاليا …) وعند وفاته عام 1481م كانت مساحة الدولة 2214000كم2 منها 1703000كم2 في أوربا و511000كم2 في آسيا. كما تميز عهد السلطان بايازيد الثاني 1481-1495م بالحرب العثمانية المملوكية، ومن ثم بدأت مرحلة الاحتكاك والنزاع مع الدولة الصفوية والحملة الهاميونية عام 1512-1514م التي وصل فيها العثمانيون إلى تبريز، ومعركة مرج دابق عام 1516م بين المماليك والعثمانيين، وانتقال الخلافة الإسلامية رسيماً من العباسيين إلى العثمانيين في 29/8/1516، ليتم على إثرها إلحاق الشام ومصر والحجاز بالخلافة العثمانية على يد السلطان ياوز سليم، ولتصبح دولة الخلافة العثمانية عام 1517م ممتدة من حدود أوربا وروسيا إلى حدود الهند ومن حضرموت إلى فاس في المغرب العربي، بواقع 6557000 كم2 منها 1702000 كم2 في أوربا 1905000 كم2 في آسيا 2950000 كم2 في إفريقيا.

المرحلة الثانية من عالمية الدولة وترسيخها نفوذها وقمة عصر ازدهارها بدأت مع تولي السلطان سليمان الملقب بالقانوني السلطنة عام 1520-1566م، في دولة مترامية الأطراف مرهوبة الجانب تمتلك مقومات القوة كافة ، ومع ذلك قاد سليمان القانوني 13 حملة هاميونية وأرعب أوربا بكاملها وأصبحت دولة الخلافة العثمانية في عهده الإمبراطورية العظمى في العالم، حتى إنه (القانوني) وافق على عد بعض ملوك أوربا تحت حمايته بوصفه أباً معنوياً لهم (الملك زابوليا 1529م والملك فرديناند 1533م ) ووقع معاهدات مع ملوك أوربا تنص على دفع ضرائب للسلطان العثماني، إضافة لشروط أخرى تتعلق بالتمثيل الدبلوماسي وطرق مخاطبة السلطان العثماني ومنها هذه المادة ” لا تستعمل صفة الإمبراطور في أوربا في المكاتبات الدبلوماسية مع الخلافة العثمانية إلا بالنسبة لبادشاه العالم السلطان سليمان”،[5] وقد وافق جميع ملوك أوربا على هذه المعاهدات. كما أنه (القانوني) وضع حداً لنفوذ الصفويين في المناطق العربية وحررها من نفوذهم وأعاد بغداد وكربلاء والنجف وتبريز في الحملة الهاميونية السادسة التي تعد أشهر حملات السلطان سليمان القانوني عام 1534م، كما قضى على النفوذ الصفوي الشيعي في القفقاس وقضى على كل محاولات الصفويين في نشر التشيع في بلاد الخلافة العثمانية أو المتاخمة لها، فمن بين ثلاث عشرة حملة هاميونية قاد ثلاثاً منها ضد الدولة الصفوية وحقق فيها انتصارات كبرى.

وفي معرض تفسير الهجمة الكبرى التي يُخَص بها السلطان سليمان القانوني من الدوائر الغربية والصفوية يمكننا عرض بعض الشهادات على انجازاته.

تقاضى السلطان القانوني الضريبة من كلٍ من ألمانيا وروسيا وبولونيا والبندقية وأدخل ملك فرنسا تحت حمايته.

حطم المشروع الصفوي في المشرق.

كان متطلعاً على العلوم الشرعية والآداب والحقوق، وطور مع شيخ الإسلام أبو السعود القوانين التي طبقت في دولة الخلافة العثمانية وبقيت قوانينه نافذة حتى القرن التاسع عشر، ولم يطلق لقب القانوني عليه لوضعه هذه القوانين ، بل لتطبيقه القانون بعدالة.

وصلت دولة الخلافة في عهده إلى مرحلة الدولة العظمى الوحيدة وتطورت كل مظاهر الحياة فيها من علوم وآداب وسياسة وزراعة وصناعة.

وصلت دولة الخلافة في عهده إلى مساحة تقدر بـ 14893000 كم2، منها 1998000كم2 في أوربا، 4169000 كم2 في آسيا، 8726000 كم2 في أفريقيا.

المرحلة الثالثة وهي مرحلة ما بعد القانوني وتمتد 1566-1683، من أبرز ملامح هذه المرحلة اقتحام موسكو وإحراق الكرملين وفرار القيصر الروسي إيفان الرابع عام 1571م في عهد السلطان سليم الثاني، إضافة لتحرير المغرب العربي نهائياً من النفوذ الإسباني. وإدخال انكلترا تحت الحماية العثمانية في حربها مع إسبانيا في حكم السلطان مراد الثالث عام 1580م، كما اتسمت هذه المرحلة بحروب مع الدولة الصفوية ودسائس عدة قادها الصفويون ضد الخلافة العثمانية.

وصلت في هذه المرحلة دولة الخلافة العثمانية إلى أقصى اتساع لها 19902191 كم2، وبلغ عدد سكان الإمبراطورية عام 1592م 100 مليون نسمة. كما تميزت هذه المرحلة أيضاً بأطول حربٍ بين الدولة العثمانية والصفوية دامت قرابة خمسة عشر عاماً 1603-1618م وكان لها آثارٌ كبرى في نفوذ الخلافة العثمانية في أوربا نتيجة تحالف الصفويين مع بعض ملوك أوربا، إضافة للحرب الأخرى التي وقعت عام 1624- 1635م.

وقد استمرت في هذه المرحلة القوة العظمى لدولة الخلافة العثمانية، رغم بدء مرحلة التوقف عن التوسع في القارات المختلفة والتي استمرت بوصفها مرحلة رابعة من عام 1683-1768م، وفي هذه السنوات فترت القوة العثمانية وبدأت ملامح الصراعات داخل السلطنة بالظهور وأضحى هدف السلاطين الحفاظ قدر الإمكان على ما تملكه دولة الخلافة وعلى نفوذها داخل حدودها. وكان من أبرز مظاهر هذه المرحلة التحالف بين ألمانيا وروسيا وبولونيا والبندقية والبابوية ومالطة وشن الحرب الكبرى عام 1684م على الخلافة العثمانية وسقوط بودين عام 1686م، كما تميزت هذه المرحلة بالكثير من المعاهدات التي تمت بين الخلافة العثمانية والدول الأوربية وألغيت بموجبها بعض المعاهدات السابقة التي تعطي مزايا كبيرة للخلافة العثمانية.

ثالثاً: مرحلة التراجع والانحطاط

وتنقسم إلى مراحل فرعية وصولاً لنهاية الخلافة العثمانية رسمياً عام 1922م، فالمرحلة الأولى وهي مرحلة التراجع بين عامي 1768-1826م تميزت بهزائم عسكرية متلاحقة وعودة القوة الروسية بالتحديد والأوربية بشكل عام إلى تهديد حدود الخلافة العثمانية الشمالية الغربية وتحقيق انتصارات على الجيش العثماني الذي دبت فيه مظاهر الضعف في القيادة، وعزل السلاطين والتنافس على منصب الصدر الأعظم بين وزراء الدولة العثمانية، والدسائس التي رافقت هذا التنافس غير الشريف في معظم الأحيان. إذ وقعت دولة الخلافة العثمانية معاهدة قينا رجه عام 1774م من موقع الطرف الأضعف مع روسيا وليس كما جرت العادة من قبل، ولتكون هذه المعاهدة مدخل التدخل الروسي باسم حماية المسيحية في شؤون الخلافة العثمانية، ولتؤسس لخروج القرم نهائياً من الحكم العثماني الذي دام قرابة 300 عام. وبدأت تتناقص مساحة الدولة وتطفو مشاكل الحكم الداخلية، وتنمو في الوقت ذاته القوى الأوربية الفرنسية والبريطانية والألمانية والروسية نتيجة الثورة الصناعية والثورة الفرنسية وغيرها من العوامل الأوربية.

المرحلة الثانية هي مرحلة التجديد والتنظيمات وتمتد من عام 1826-1876م، وقد حاول السلاطين العثمانيون في هذه المرحلة تجديد وتحديث الجيش، إلا أن محاولاتهم لم توقف المد الروسي الذي استعاد الساحل الشرقي للبحر الأسود عام 1829م بعد أن كان بحيرة عثمانية يمنع غيرها من استخدامه، وتتابع سقوط الولايات والمحميات العثمانية في القفقاس والقرم بيد الروس، ومن ثم بدأ الاحتلال الغربي لبعض الإمارات العربية التابعة للخلافة العثمانية ومنها الجزائر عام 1830م. ومع تزايد الوضع العالمي تعقيداً وحالة الضعف التي دبت في دولة الخلافة أولى السلطان محمود الثاني الأولوية الكبرى لإصلاح الجيش والقوانين وتحديث المجتمع بما لا يخالف العادات والقيم، ومع النجاح المحدود لهذه الاصلاحات إلا أنها أوقفت انهيار الخلافة وأعادت التماسك النسبي للحكم العثماني من جديد، رغم ما لقيته من معارضة تغريب الدولة والصراع بين أجنحة الحكم. وفي هذه المرحلة نشأ مصطلح “الرجل المريض” بدعوة من روسيا لاقتسام نفوذ دولة الخلافة العثمانية مع بقية الدول الأوربية.

المرحلة الثالثة وتعرف بمرحلة السلطان عبد الحميد الثاني 1876-1909م، الذي عاش وفق التقاليد الشرقية والأعراف الإسلامية وكان داعياً لاقتباس علوم وتكنولوجيا الغرب والحفاظ على الخصوصية الإسلامية، لكن الطبقة الحاكمة لم تكن بمجملها تشاطره هذه الأفكار، نتيجة توزع مراكز القوة في الدولة بين قادة التنظيمات والجمعيات ونفوذ الصدر الأعظم والوزراء وقادة الجيش. تميز عهده بافتتاح مجلس المبعوثان (النواب) عام 1877م، رغم عدم فعالية أو وضوح اختصاصات المجلس. وقد خاضت دولة الخلافة في عهده حروباً متعددة مع روسيا والدول الأوربية لم يحقق فيها أي نصر يذكر وتناقصت مرة أخرى مساحة ونفوذ الخلافة فضلاً عن موقعها العالمي.

ومع أن عصر التنظيمات كان يقيد سلطة البادشاه (السلطان) إلى أن السلطان عبد الحميد باشر أمور الخلافة بنفسه وجمد مجلس المبعوثان، ما أدى لنشوء جمعية الاتحاد والترقي بشكل سري منذ عام 1890م، كبذرة لعصر التنظيمات ولتعلن عن نفسها عام 1908م. وانتشر التنظيم بين الضباط والمثقفين الأتراك، ليعلن أهدافه في إزالة الاستبداد وتطبيق الديموقراطية، وقد أدت الدول الأوربية دوراً كبيراً إلى جانب الوضع الداخلي في توجيه الاتحاد والترقي والتأثير في قياداته وتوجهاتهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة.[6]

المرحلة الأخيرة من عمر الخلافة امتدت من 1909-1922م، في هذه المرحلة تولى السلطنة عددٌ من السلاطين الضعاف، ويعد المؤرخون أن السلطنة الحقيقية انتهت مع السلطان عبد الحميد، ولم يستطع من تولى بعده الحكم أن يحافظ على الحد الأدنى من القوة لاستمرار حكم السلطنة على أقاليمها وولاياتها ، فأضحت معظم هذه الولايات مستعمرات فرنسية أو بريطانية أو إيطالية أو ألمانية، وحققت روسيا نفوذها التام على القوقاز والقرم. وأصبح السلاطين ألعوبة بأيدي رجال الدولة الأقوياء، وأضحت المنافسة والصراع والدسائس بين مراكز قوة الدولة سمة هذا العصر. ومن ثم كان لدخول دولة الخلافة العثمانية الحرب العالمية الأولى 1914م إلى جانب ألمانيا ودول المحور العامل الأساسي في انهيار السلطنة العثمانية بعد انتصار دول الحلفاء فرنسا وبريطانيا وروسيا وغيرها من الدول في الحرب، وبذلك بدأت فعلياً الخطة الروسية التي تمت الإشارة إليها سابقاً في تقاسم تركة ” الرجل المريض”، فانتهت السلطنة رسمياً عام 1922م، وألغي لقب الخليفة عام 1924م، في زمن السلطان عبد المجيد الثاني.

ومما تجدر الاشارة إليه، أنه ، وفي أثناء الحرب العالمية الأولى وفي عام 1916م ، وضع والي الشام جمال باشا وأحد أقوى القادة العثمانيين في تلك المرحلة اليد على أرشيف القنصلية العامة الفرنسية في الشام، وكشفت المراسلات التي وجدت في القنصلية طبيعة العلاقة بين عددٍ من المثقفين السوريين واللبنانيين وفرنسا، وخصوصاً مراسلات محمد شفيق مؤيد بك آل العظم مع الحكومة الفرنسية وطموحه بأن يكون أميراً على سورية بمساعدة فرنسية.[7]

1-1-1- الفاعلون الأساسيون في الحكم في مدة الخلافة العثمانية.

السلطان: أدار السلاطين العثمانيون أمور الدولة بشكل شخصي، فكانت كل القرارات تخرج باسم البادشاه (السلطان)، فهو الحاكم الفعلي وخليفة المسلمين بعد تقليد الخليفة العباسي المتوكل للسلطان سليمان القانوني سيف الرسول صلى الله عليه وسلم.

الصدر الأعظم: هو الرئيس الحقيقي للعاملين في الدولة، أطلق عليه في العصور الأولى وزير أعظم، وهو بمنزلة رئيس وزراء. يشترط فيه أن يجيد اللغة التركية وأن يتدرج في مناصب الدولة وأن يكون مسلماً سنياً، بغض النظر عن عرقه أو لغته الأم. وهو وكيل البادشاه ونائبه في كل ما يتعلق بأمور الدولة بما فيها الجيش، عدا الأمور القضائية والمحاكم.

شيخ الاسلام: هو الشخص الثاني بعد الصدر الأعظم، ويضطلع بكل ماله علاقة بأمور الدين الإسلامي والأوقاف والتعليم الديني، ومراجعة تطابق القوانين مع الاحكام الشرعية. وهو ليس عضواً في الباب العالي ، لكن له نائبان (معاونان) يتمتعان بعضوية الديوان الهمايوني.

الباب العالي: (ديوان همايون) وتعني الحكومة العثمانية بما فيها من وزراء كلٌ بحسب اختصاصه (المالية – العدل – الخارجية وغيرها من الوزارات)، وقادة الجيش وأمراء البحرية. ويعمل في الديوان موظفون وكتاب كلٌ بحسب اختصاصه، ورئيس ديوان همايون هو الصدر الأعظم.

وكان في دولة الخلافة العثمانية نظامٌ صارم للرتب والألقاب الرسمية والعسكرية.

الجيش: هو عماد دولة الخلافة العثمانية ، ويتكون بشكل أساسي من: الخيالة، المدفعية (التي عدت أرقى مدفعية في العالم حتى عام 1700م، الإنكشارية (المشاة) وقائد الإنكشارية عضو في الديوان الهمايوني، جنود الصاعقة، الأسطول الحربي ( الذي يعد اليد الضاربة الخلافة).

وقد أولى السلاطين العثمانيون الاهتمام الأكبر للجيش وطوروه وحدثوه بشكل مستمر، وانتشرت الأقسام المختلفة من فروع الأسلحة على مكوناته كافة كما انتشرت وتعددت اختصاصات المدارس العسكرية التي تخرج الضباط والعسكريين، إضافة لمصانع المدفعية والسفن والذخائر المختلفة.

القضاء: انتشرت المحاكم في الولايات العثمانية كافة ، وكانت تصدر أحكامها وفق المذهب الحنفي، ويجوز للمتقاضين اختيار أي مذهب آخر من المذاهب الأربعة (حنفي شافعي حنبلي مالكي). وكان كل القضاة متخرجين في القسم العالي للمدرسة الدينية، وحاصلين على شهادتها.

1-2- تركيا بعد انهيار الخلافة العثمانية (الجمهورية التركية)

مثلت معاهدة لوزان 23/تموز 1923م، تاريخ ولادة الجمهورية التركية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، ولتبدأ مسيرة التحول نحو أوربا سلوكياً وثقافياً وسياسياً، مع أن بعض المؤرخين يرون أن التوجه نحو أوربا بدأ مع عصر التنظيمات منذ منتصف القرن التاسع عشر، وتجلى في دستور عام 1876م .[8] وفي طريق التحول نحو أوربا انضمت تركيا إلى حلف شمال الأطلسي عام 1953م، كما قدمت في عام 1959م طلباً لتكون شريكاً في السوق الأوربية المشتركة. وقد مثلت معاهدة لوزان الضمانة لوحدة الأراضي التركية كما هي عليه اليوم، بعد المحاولات المتعددة من قبل روسيا وبعض الدول الأوربية لتقسيم هذه الأراضي إثر اتفاقية سيفر عام 1920م، التي كانت تهدف لتقسيم تركيا بين الأرمن والأكراد والدول الغربية وقطعة صغيرة في وسط الأناضول للأتراك، غير أن نجاح مصطفى كمال أتاتورك بقيادة حربٍ ثوريةٍ ضد هذه التطلعات أفضى إلى الشكل الحالي للجمهورية التركية جغرافياً.

1-2-1-مرحلة تأسيس الجمهورية 1922-1938

أعطت المرحلة التي تزعم فيها مصطفى كمال أتاتورك الجمهورية التركية الملامح الأساسية للمشهد التركي في المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية، إذ طبق نظريته في علمنة الدولة والمجتمع على مجالات الحياة كافة في تركيا.[9]

بدأت نواة تشكل النظام السياسي للحكم في الجمهورية التركية عام 1921 بإعلان دستور دولة تركيا الذي أسس الدولة القومية، وينص هذا الدستور على أن الشعب هو مصدر السُلطات دون قيد أو شرط ويُدير الدولة بنفسه وذاته. ومن ثم أُعلنت الجمهورية وفقًا للقانون رقم 364 الصادر عام 1923، الذي حدد شكل الدولة ونظامها ولغتها، وأعطى رئيس البلاد سلطاتٍ مطلقة؛ فرئيس الدولة هو رئيس الجمهورية ورئيس المجلس الوطني كما يتولى رئاسة الوزراء، وله أن يختار من أعضاء المجلس الوطني رئيساً للوزراء.[10] ، ومع أن دستور عام 1921 شكل النواة الأولى للدساتير اللاحقة إلا أنه لم يكن تفصيلياً ، ولم يتطرق إلى بنية النظام السياسي والسلطات واختصاصاتها.

شكَّل مجلس الشعب التركي لجنة أعدت مُسودة دستور جديد مُستفيدةً من دستورَي بولندا والجمهورية الفرنسية الثانية، وتمت الموافقة عليها عام 1924، وحافظ دستور عام 1924 على نظام حكومة المجلس وفقًا لمبدأ الحكم القومي ووضع السُلطة التشريعية في يد مجلس الشعب، والسُلطة التنفيذية في يد هيئة الوكلاء التنفيذيين، ويُمكن للمجلس أن يُراقبَ هذه الهيئة وأن يعزلها. السُلطة التشريعية تقع في يد هيئة تتشكلُ من مجلس الشعب التركي، يُنتَخَب أعضاؤها كل أربعة أعوام. ويُشكل رئيس الجمهورية والوزراء القوة الإدارية، وينتخب مجلس الشعب التركي رئيس الجمهورية من بين أعضائه كل أربع سنوات. ووضع الدستور القضاء في يد المحاكم المُستقلة باسم الأمة، ويتضمن الدستور الحقوق والحريات الفردية والجماعية تحت عنوان (قانون الأتراك العمومي).

أفاد أتاتورك من الإرث المعنوي الكبير الذي حققه في أثناء قيادته لحركة المقاومة التركية، وحول انتصاراته إلى سلطة معنوية مباشرة على كل مرافق الحياة السياسية في البلاد مستفيداً من قيادته للجيش الذي تشكل من كتائب المقاومة التي كان يقودها في المرحلة 1919-1923.

وأرسى أتاتورك تقاليد الجيش المحترف، الذي نصت عليه المادة 35 من اللائحة الداخلية للقوات المسلحة بوصفه حامياً للتعاليم التي قامت عليها الجمهورية التركية، ولم تنفصل قيادة الجيش عن رئاسة السلطة التنفيذية إلا بعد وفاة أتاتورك.[11] كما أن أتاتورك رفض مبدأ التعددية الحزبية وأسس حزب الشعب الجمهوري بوصفه حزباً وحيداً في البلاد، رغم اعتراض عددٍ من أعضاء البرلمان، وبذلك توطدت لأتاتورك السلطة المطلقة في تركيا من خلال قيادته للجيش ورئاسته الدولة والحزب الوحيد الحاكم.

1-2-2- مرحلة التوجه نحو الديموقراطية 1938-1960

بعد وفاة أتاتورك عام 1938 تولى رئاسة الدولة عصمت إينونو، وبذلك انفصلت قيادة الجيش عن رئاسة الدولة رغم أن إينونو يحمل رتبة جنرال إلا أن قيادة الجيش أصبحت من نصيب الماريشال فوزي شاقماق، وبذلك أصبح الجيش مؤسسة مستقلة تراقب وتشرف على عمل السلطة التنفيذية من بعيد. استمرت سلطة الجيش المطلقة حتى إحالة الماريشال فوزي شاقماق عام 1944 إلى التقاعد، ومع تقاعد شاقماق بدأت تتبلور معالم تأسيس سيطرةٍ مدنية نسبية على الجيش والتحول نحو التعددية الحزبية بدل سيطرة الحزب الواحد.

وفي عام 1945 ألمح الرئيس عصمت إينونو إلى ضرورة وجود حزبٍ سياسي معارض بغية تفعيل الحياة السياسية في البلاد، لكن هذا التوجه كان يتمحور حول تشكيل حزب معارضة مستأنس بغية تنفيس الاحتقان السياسي في البلاد.

ومع تزايد الانفتاح السياسي بدأت تظهر توجهاتٌ معارضة من قلب حزب الشعب الجمهوري قادها أربعة نواب هم، جلال بايار، عدنان مندريس، فؤاد كوبرولو، رفيق كوارلتان، الذين أسسوا عام 1946 الحزب الديموقراطي، الذي استقطب أعداداً متزايدة وحظي بشعبية كبيرة في أوساط النخب التركية، وأصبح يمثل رغبة شعبية في التغيير. وفاز الحزب الديمقراطي بـ61 نائباً في انتخابات عام 1946، ومن ثم انضم إليه 47 نائباً من نواب حزب الشعب الجمهوري ليصبح قوة سياسية فاعلة في الحياة السياسية التركية.

لكن الحدث الأبرز كان عام 1950، إذ فاز الحزب الديمقراطي في الانتخابات النيابية فوزاً ساحقاً وحصل على 403 مقاعد من أصل 482 مقعداً ، وينهي بذلك هيمنة حزب الشعب الجمهوري على الحياة السياسية في البلاد. مهدت هذه الانتخابات لتولي المعارضة الديمقراطية مقاليد الحكم في تركيا وليصبح جلال بايار رئيساً للجمهورية ويكلف عدنان مندريس بتأليف حكومة جديدة. ومع تولي هذه الحكومة مقاليد السلطة في البلاد بدأت تعود إلى الحياة الاجتماعية والثقافية وإلى حدٍ ما السياسية بعض الملامح الإسلامية التي كانت محظورة في المرحلة السابقة،[12] مما زاد من شعبية الحزب الديمقراطي وتجذره في المجتمع التركي.

شكل وصول حزب المعارضة للحكم في تركيا صدمة كبيرة للقيادات التقليدية المرتبطة بالحزب الجمهوري، ومع تزايد هجوم رئيس الوزراء عدنان مندريس على تلك النخب والقيادات وما تمثله من توجهاتٍ فكرية وارتباطات مصلحية تحرك قادة الجيش ليضعوا حداً لعشر سنواتٍ من الديموقراطية التركية، في محاولة لإعادة خلق الظروف التي كانت قائمة قبل عام 1950، وتبني الاتجاه الأتاتوركي العسكري في ادارة البلاد.

1-2-3- مرحلة الانقلابات العسكرية 1960، 1971، 1980.

أعاد قادة انقلاب عام 1960 عقارب الحياة السياسية في تركيا إلى الوراء، متذرعين بوضع حدٍ للتطاحن الحزبي وحالة الفوضى والشقاق، وإعادة وضع البلاد على مسار الديمقراطية من جديد. وقد وعد قادة الانقلاب بإجراء انتخابات نيابية وتسليم مقاليد الحكم للحزب الفائز بعد اعتقال رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس المجلس الوطني (البرلمان) وعدد كبير من نواب الحزب الديمقراطي. وكان من نتائج الانقلاب حظر الحزب الديمقراطي وإعدام رئيس الوزراء عدنان مندريس واثنين من وزرائه، إضافة إلى الحكم بالسجن المؤبد على رئيس الجمهورية جلال بايار ورئيس البرلمان رفيق كورالتان وعدد من الوزراء والنواب. كما تم إصدار دستورٍ جديد عام 1961، أصبحت فيه السلطة التنفيذية بيد رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء، كما تم إنشاء المحكمة الدستورية العليا التي تقع عليها مهمة مراقبة دستورية القوانين والتشريعات، إضافة إلى إنشاء مجلس الأمن القومي الذي يعد الأداة الأساسية للحكم في تلك المرحلة.

بعد الانقلاب عاد حزب الشعب الجمهوري ليتصدر الحياة السياسية في البلاد بفوزه عام 1961 بـ 173 مقعداً من مقاعد البرلمان وحزب العدالة (الذي حل مكان الحزب الديمقراطي) بـ 158 مقعداً وتكليف عصمت إينونو برئاسة الحكومة والجنرال جمال جورسيل (زعيم الانقلاب) برئاسة الجمهورية.

عاد حزب العدالة ليتصدر الحياة السياسية في انتخابات عام 1965 بعد الاضطرابات والفشل في تحقيق الاستقرار في المرحلة السابقة، وحصد 53% من مقاعد البرلمان، ليكلف رئيس الحزب سليمان ديمريل برئاسة الحكومة التي شكلها من نواب حزبه.

استمرت في هذه المرحلة مظاهر عدم الاستقرار السياسي وضعف النمو الاقتصادي، وتصاعد الحركات اليسارية والقومية، وفشل الحكومة في تحقيق النمو والاستقرار نتيجة تصاعد المظاهرات الطلابية ونمو الحركات الشبابية والطلابية. فوجهت قيادة الجيش في آذار 1971 إنذاراً لرئيس الوزراء سليمان ديمريل بأنه سيمارس حقه الدستوري في تسلم مقاليد الحكم إن استمرت حالة الفوضى، فقدم ديمريل استقالته، ليشكل عضو الجناح اليميني في حزب الشعب الجمهوري نهات أريم الحكومة الجديدة.

تصاعدت في المرحلة الممتدة من 1971-1980 مظاهر عدم الاستقرار من جديد وتشكلت حكومات متعددة سقطت سريعاً أمام امتحان سيطرة الجيش وعدم القدرة على إدارة شؤون البلاد. وفي هذه المرحلة والمرحلة التي سبقتها تشكل الحزب الإسلامي الأساسي حزب النظام الوطني ومن ثم حزب السلامة الوطني بزعامة نجم الدين أربكان، ودخل الحكومة الائتلافية مع بولنت أجاويد عام 1973.

كما تميزت هذه المرحلة بعدم قدرة أيٍّ من الحزبين الرئيسيين (حزب الشعب الجمهوري وحزب العدالة) على تشكيل حكومة أغلبية، كما أنهما لم يكونا قادرين أو مستعدين للتعاون في حكومة ائتلافية مما شل الحكومات التي تشكلت في هذه المرحلة وبقيت عرضة للإقالة أو الاستقالة. وبدأت بين عامي 1979-1980 موجة عنفٍ واغتيالات أسفرت عن اغتيال عددٍ من قيادات الأحزاب السياسية، وتصاعد العنف السياسي، وانهارت قيمة العملة وارتفعت الأسعار وأصبح الاقتصاد التركي في مهب الريح، الأمر الذي مهد لتدخل الجيش من جديد عام 1980.

قاد كنعان إيفرين رئيس الأركان التركي انقلاباً عسكرياً في 12 أيلول 1980، بعد تصاعد أعمال العنف والفوضى في تركيا، وبذلك ترسخت سيطرة الجيش من جديد على مناحي الحياة السياسية كافة في البلاد. إذ تم حل البرلمان ووقف نشاط الأحزاب ومن ثم حلها، وحل النقابات اليسارية واليمينية القومية، وقُبِض على قادة الأحزاب السياسية، وفرضت الأحكام العرفية ومنع المواطنون من مغادرة تركيا، كما تمت إقالة العمد وأعضاء المجالس المحلية في عموم البلاد. فهدف الانقلاب كان إحداث تغييرٍ جذري في النظام السياسي، فتركزت السلطات في مجلس الأمن القومي الذي سيطرت عليه المؤسسة العسكرية بقيادة الجنرال كنعان إيفرين.

وبعد استقرار الأمر للانقلاب بدأت عملية وضع دستورٍ جديد عام 1982، من خلال لجنة تشريعية فرضتها المؤسسة العسكرية ومجلس الأمن القومي. خرج الدستور الجديد للنور بعد استفتاءٍ شعبي في تشرين الثاني 1982، وتضمن 193 مادة رسخت مبادئ الجمهورية العلمانية وحددت صلاحيات وشكل النظام السياسي في الجمهورية التركية، فترسخت قبضة السلطة التنفيذية وزادت سلطات رئيس الجمهورية (كنعان إيفرين) ومجلس الأمن القومي. إذ تم تقييد حرية التعبير والتنظيم بالمصلحة القومية والنظام العام والأمن القومي وتهديد النظام الجمهوري.[13]

استمر الحكم العسكري ووقف نشاط الأحزاب السياسية حتى أيار عام 1983، تاريخ تأسيس أول حزبٍ سياسي بعد الانقلاب وهو حزب الديمقراطية القومية بزعامة الجنرال المتقاعد تورغت سونالب، ومن ثم حزب تركيا الكبيرة بزعامة سليمان ديمريل (أغلق لاحقاٌ)، وحزب الوطن الأم بزعامة تورغت أوزال. وفي تشرين الثاني عام 1983 جرت الانتخابات النيابية وفاز حزب الوطن الأم بأغلبية المقاعد النيابية وتم تكليف تورغت أوزال برئاسة الحكومة. استمرت سيطرة حزب الوطن الأم على الحكم حتى عام 1989 عندما انتخب مجلس الشعب التركي تورغت أوزال رئيساً للجمهورية، مما أدى لانقسام حزب الوطن الأم بين جناحين الأول إسلامي محافظ والثاني ليبرالي علماني بزعامة مسعود يلماز. ففي انتخابات عام 1991 حصل حزب الطريق القويم (الصحيح) بزعامة سليمان ديمريل على المرتبة الأولى في الانتخابات وتشكلت حكومة ائتلافية بين حزبي الطريق القويم وحزب الشعب التركي.[14]

1-2-4- مرحلة تصاعد التيار الاسلامي

بدأت نواة الافتراق بين المؤسسة الكمالية العلمانية والتيار الإسلامي منذ تأسيس الحزب الديمقراطي عام 1946، ووصول عدنان مندريس وجلال بايار لمنصبي رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية، وتطورت في الأعوام اللاحقة أشكال التنظيمات والأحزاب التي تتبنى إلى حدٍ ما بعض المقاربات الإسلامية في الخطاب الجماهيري وبعض الممارسات السياسية الرسمية المحدودة لوقف تصاعد قوة التيارات الإسلامية والالتفاف عليها من خلال تبني بعض المقاربات النظرية في عهدي الانقلاب الأول والثالث، لكن هذه المرحلة شهدت حظر معظم الأحزاب التي تبنت الخطاب الإسلامي بوصفه مدخلاً للممارسة السياسية، وكذلك إعادة تشكيل هذه الأحزاب تحت عناوين جديدة.[15] ومع أن هذه المرحلة شهدت ممارساتٍ حادة تجاه التيار الإسلامي المستقل عن سيطرة النظام الحاكم (المؤسسة العسكرية)، إلا أنه أسهم في تجذير هذا التيار في اللعبة السياسية التركية بشكلٍ أو بآخر. ويرجع بعض الباحثين إلى الرئيس تورغت أوزال بعض الفضل في هذا المجال، فهو أول رئيس تركي يواظب على صلاة الجمعة بشكل علني كما أنه أول رئيس يقوم بتأدية مناسك الحج، إضافة لعددٍ من القرارات المتعلقة بالتعليم الديني.[16]

لكن المحور الأساسي لنشوء تيار الإسلام السياسي في تركيا هو نجم الدين أربكان، الذي قاد منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي عدداً من الأحزاب ذات الطابع الإسلامي والتي واجهت النفوذ الكمالي، الأمر الذي أدى إلى حظر هذه الأحزاب الواحد تلو الآخر. وتعد تجربة حزب الرفاه هي أنضج تجربة من تجارب الأحزاب التي أسسها نجم الدين أربكان وعددٌ من أصدقائه، وهو الحزب الأول الذي يصل إلى السلطة عام 1996، معلناً أهدافاً ومبادئ واضحة تنسجم مع البنية الثقافية للشعب التركي، وتبتعد عن الأفكار الكمالية العلمانية بشكل واضح.

كان وصول حزب الرفاه إلى رئاسة الحكومة التركية وتشكيل حكومة ائتلافية مع حزب الطريق القويم تتويجاً لمسيرةٍ استمرت على مدى أكثر من 26 عاماً، إذ أسس نجم الدين أربكان أول حزبٍ ذي مرجعية إسلامية (حزب النظام الوطني) عام 1970، الذي ما لبث أن حظر بعد انقلاب عام 1971. ليؤسس حزب السلامة الوطني الذي شارك في انتخابات عام 1973، ولتبدأ منذ تلك المرحلة مشاركته في بعض الحكومات التي لم يستطع أيٌ من الأحزاب التقليدية تشكيلها بأغلبية نيابية منفردة.

ومن ثم عاد الحظر الذي رافق انقلاب عام 1980 لينهي حزب السلامة الوطني ويحل بدلاً منه حزب الرفاه عام 1983، لتبدأ مسيرة طويلة توجت بانتخابات عام 1994 البلدية التي فاز فيها مرشحو الحزب بأكبر نصرٍ في تاريخهم وهو بلدية اسطنبول الكبرى التي تولى رئاستها رجب طيب أردوغان.[17]ولتستمر إلى تولي نجم الدين أربكان رئاسة الحكومة عام 1996.

لم تستمر حكومة أربكان سوى عامٍ واحد ، فمر وجد نفسه في صدامٍ مباشر مع المؤسسة العسكرية، إذ عرضت رئاسة أركان الجيش في 28/شباط 1997 على مجلس الأمن القومي مجموعة من الاجراءات يجب على الحكومة أن تطبقها ، ومنها:[18]

منع أية دعوات مؤيدة لتطبيق الشريعة الاسلامية

رقابة شبكات البث الإذاعي والتلفزيوني الإسلامية

منع ارتداء الحجاب

تحريم العمل ضد النظام العلماني الديموقراطي

زيادة مدة التعليم الإلزامي إلى 8 سنوات مما يعني إلغاء مدارس إمام خطيب

فصل 160 ضابطاً ينتمون للتيار الإسلامي

فصل بعض حكام الولايات الذين ينتمون للتيار الإسلامي

ومن ثم ضغط قادة الجيش ليتم استبعاد أربكان من الحكومة ، وتتألف حكومة جديدة برئاسة زعيم حزب الوطن الأم مسعود يلماز عام 1997.

لم يستطع حزب الرفاه مواجة نفوذ وقوة المؤسسة العسكرية، وأصبح قادته عرضة للمحاكمات ومنع من العمل السياسي، وحظر نهائياً عام 1998 بحكم قضائي من المحكمة الدستورية العليا، كما تمت مصادرة ممتلكات الحزب ومحاكمة بعض قياداته.

كما أن توتراتٍ داخل حزب الرفاه نفسه بين عقليتي التقليديين والتجديديين،[19] أدت لاضمحلال تأثير القادة التقليديين للحزب الذين أسسوا حزب الفضيلة، ولم يستطع الحزب الجديد استقطاب أنصار الحركة الإسلامية في تركيا نتيجة غياب الرؤية الواقعية للعمل السياسي، وتشدد وأبوية قادته الكبار. لكن الحدث الأبرز في تاريخ الحركة السياسية التركية كان تأسيس حزب العدالة والتنمية عام 2001، بجهود شباب حزب الرفاه وتيار الإسلام السياسي الذي فهم واقع الحياة السياسية في البلاد وطُرق مباشرة اللعبة السياسية وكسب الجماهير.

نظام الحكم والتطور المؤسسي في تركيا (2002-2014)

مثل حزب العدالة والتنمية مرحلة متقدمة في تاريخ الأحزاب السياسية التركية ذات التوجه الإسلامي، وحركة تفهم لقواعد ومتطلبات بناء حركة سياسية تركية تعمل بالتوازي على خطي البعد الإسلامي وتوجهات المجتمع التركي، ليشكل بذلك حلقة التوازن بين البعد الإسلامي لجذور المجتمع والثقافة والتوجه العلماني للحياة العامة. وليعبّر عن نفسه بكونه حزب تركي محافظ يحترم التقاليد وهوية المجتمع، ويعمل لصالح أفراد المجتمع كافة بغية النهوض بتركيا دولة ومجتمعاً.

ويمثل عام 2002م التاريخ الأكثر مركزية في وعي مؤسسي وقادة ومحازبي العدالة والتنمية، فهو العام الذي جرت فيه الانتخابات البرلمانية التي فاز فيها الحزب الذي لم يمض على تأسيسه أكثر من عام واحد فوزاً ساحقاً. وحملت هذه الانتخابات ونتائجها أبعاداً شديدة التأثير في مستقبل حزب العدالة والتنمية، ونظام الحكم والمؤسسات الحاكمة في الدولة التركية، وتركيبة الحياة الحزبية في الساحة التركية، إذ خرجت شخصياتٌ سياسية وأحزابٌ كثيرة من ساحة الفعل السياسي كحزب الحركة القومية وحزب الوطن الأم والطريق المستقيم وحزب السعادة…

كما أعادت الانتخابات البرلمانية عام 2007 تأكيد رسوخ وقوة الحركة المجتمعية والسياسية لحزب العدالة والتنمية، ونهجه وإصلاحاته في الحكم، بعد محاولات المؤسسة العسكرية التأثير في انتخابات رئاسة الجمهورية بعد انتهاء ولاية الرئيس أحمد نجدت سيزر في أيار من العام نفسه . ومع نجاح حزب العدالة والتنمية في التعامل مع مسألة انتخاب رئيس الجمهورية وفوز مرشح الحزب عبد الله غول بثقة البرلمان التركي الذي أعيد في انتخابات دورته لعام 2007 تأكيد تجذر الحزب في الحياة العامة والسياسية في تركيا.

ويمكن ملاحظة إعادة طرح قضية تجذر وقوة التيار الشعبي لحزب العدالة والتنمية في كل استحقاق انتخابي على مستوى البلديات والانتخابات البرلمانية، إضافة إلى الانتخابات الرئاسية التي تجري للمرة الأولى هذا العام على مستوى عموم الجمهورية التركية باقتراعٍ مباشر من الشعب وليس من البرلمان كما سبق. وتشكل أية انتخاباتٍ في تركيا فرصة لكل أطراف اللعبة السياسية في تركيا لتأكيد أو تحسين التصاقها بالمجتمع وكسب تأييده، الأمر الذي نجح فيه حزب العدالة والتنمية على مدى اثنتي عشرة سنة منذ دخوله الحياة السياسية عام 2002.

ويواجه حزب العدالة والتنمية تحديدات متعددة تتعلق ببنية وطبيعة توزع القوى السياسية في تركيا وشكل التحالفات الإقليمية والدولية مع بعض قوى المعارضة التركية، ومراكز الثقل الاقتصادي أو الإعلامي، ويضاف إلى كل ذلك تركيبة نظام الحكم بحد ذاته والتي أدخلت عليها تعديلات دستورية جوهرية، لكنها ما تزال تؤثر في توجهات العدالة والتنمية وقدرته على تحقيق الاستقرار في منظومة الحكومة الداخلية في الجمهورية التركية.

ويمكننا استعراض مؤسسات نظام الحكم الرسمية وشبه الرسمية وغير الرسمية لنقف على طبيعة مؤسسة الحكم ومدى تأثير كل مؤسسة في شكل وبنية القرار السياسي في الحكومة التركية بشكل خاص، والحياة السياسية التركية بشكل عام.

2-1-الدولة العميقة والكيان الموازي

2-1-1-الدولة العميقة

يعطي مصطلح “الدولة العميقة” إشاراتٍ ذات مدلولات تركية نظراً لبداية تداول المصطلح بين الصحفيين والكتاب وعموم الأتراك منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي،[20] وعكس المصطلح في ذلك الوقت حقيقة شكل النظام السياسي التركي ووجود نخبٍ سياسية وإعلامية وعسكرية واجتماعية واقتصادية بنت شبكة من علاقات المصالح والمخاوف، لتتحكم بالقرار السياسي والحكومات المختلفة بغض النظر عن وجود أفراد هذه النخب في واجهة العمل السياسي الرسمي.

استمر تصاعد قوة الدولة العميقة في المرحلة الممتدة من ثمانينيات القرن العشرين إلى مطلع القرن الحالي بقوة نظراً لحالة الفساد الحكومي وعدم قدرة أي حزبٍ سياسي تركي على الوصول إلى الحكم بهامشٍ تصويتي يؤهله لقيادة البلاد وتطبيق خطة سياسية واقتصادية واضحة، فترافقت قوة الدولة العميقة مع ضعف الحكومات التركية التي وصلت للحكم في هذه المرحلة. ويضاف إلى ضعف الحكومات المتعاقبة، رغبة القوى الغربية وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية في التصدي لمشاريع دولية لا تخدم مصالحها في موقعٍ إستراتيجي يربط قارتين ببعضهما، فكان الخوف من التمدد الشيوعي في تركيا من جهة وتصاعد وتيرة نشاط الحركات الكردية دافعين إلى تشكيل تنظيمات سرية وشبكة علاقات خارج الأطر الرسمية للدولة، تعتمد بتمويلها على بعض الدول الغربية، وشبكات الجريمة المنظمة وتحظى بحماية بعض السفارات الأجنبية وبعض قادة الجيش والأجهزة الأمنية التركية.[21]

ومع تطور حضور حزب العدالة والتنمية على المستوى الشعبي والجماهيري، وقيادته الحكومة التركية بنجاح لم يسبق له مثيل في تاريخ الجمهورية التركية، كان هدف تنظيمات وشبكات الدولة العميقة وضع كل العراقيل الممكنة في وجه نجاح حكومة حزب العدالة والتنمية، واستخدام مختلف قنوات التأثير الإعلامي والقضائي والأمني على الحزب وأعضائه منذ عام 2002- 2008. لكن الشكل الأكثر وضوحاً لبنية ومفهوم الدولة العميقة توضح بجلاء بعد اكتشاف شبكة أو تنظيم “أرجينيكون”.

في حزيران 2008 ألقت السلطات التركية القبض على عددٍ من المتورطين فيما بات يعرف بشبكة أرجينيكون” ، ومن بينهم جنرالان متقاعدان في إطار التحقيق في نشاطات الشبكة القومية المتطرفة التي دارت تساؤلاتٌ وشبهاتٌ كثيرة حول دورها في السياسة الداخلية التركية.[22] وقد اتهمت الشبكة بالتخطيط للإطاحة بحكومة حزب العدالة والتمية عن طريق إثارة الاضطرابات والقلاقل تمهيداً لانقلابٍ عسكري مخططٍ له عام 2009، في حال فشل ما بات يعرف بالانقلاب القضائي. إذ تزامن نشاط الشبكة مع بدء جلسات النظر في الدعوى التي رفعها المدعي العام التركي أمام المحكمة الدستورية التركية بحظر حزب العدالة والتنمية ومنع 69 شخصية من قادة الحزب من مزاولة العمل السياسي من بينهم رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان ورئيس الجمهورية عبد الله جول.

وتضم شبكة أرجينيكون أكثر من مئة شخصية بينهم جنرالاتٌ ورؤساء جامعات وصحفيون ومحامون ورجال أعمال، وتمت إماطة اللثام عنها بعد العثور على قنابل تعود للجيش التركي في منزل أحد الضباط المتقاعدين في إسطنبول أواسط عام 2007، بينما تم العثور لاحقا على أكثر من 700 كليو غرام من المتفجرات في شاحنة يعتقد أن للشبكة علاقة بها.[23]

أثار اكتشاف الشبكة وعلاقاتها داخل مؤسسات الحكم في تركيا وصلاتها الأجنبية موجة من التحليلات والمواقف داخل تركيا وخارجها، ومكن اكتشافها حزب العدالة والتنمية من تفادي مصيرٍ مشابه لمصير الحزب الديمقراطي وقادته (عدنان مندريس وجلال بايار)، وبذلك قضت الحكومة التركية على العمود الفقري للدولة العميقة في تركيا، بعد أن طبعت الحياة السياسية في تركيا بطابع المؤامرات والانقلابات والاضطرابات الأمنية وتدخل الجيش في السياسة.

أسهم تحجيم ومحاصرة نفوذ الدولة العميقة في استقرار الحكومة التركية وتفرغ العدالة والتنمية لتحقيق الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية وتحسين حياة ودخل الفرد التركي، الأمر الذي انعكس أيضاً على قدرة الدولة التركية لاتخاذها سياساتٍ مستقلة إلى حدٍ كبير عن التبعية الغربية. فالشبكة التي تشير تقارير متعددة إلى علاقتها بالمنظومة الاستخبارية الأميركية، التي أنشئت في مراحل الحرب الباردة أصبحت أضعف من أن تشكل رأس حربة للتأثير في الحياة السياسية في تركيا، وعلى قرارات الحكومة فيها. وبذلك حذت تركيا حذو الكثير من الدول الأوربية في التخلص من الشبكات والمنظمات التي كانت تدار من قبل المخابرات الأميركية، كمنظمة “الغلاديو” الإيطالية، و”الغال” الإسبانية و”المشروع 26″ في سويسرا، وغيرها من المنظمات التي كان يعتمد عليها في تنفيذ السياسات الاستخبارية في الدول الأوربية وتركيا.[24] ومع اضمحلال دور شبكات الدولة العميقة في التأثير في الحياة السياسية والقرار الحكومي، بدأ يظهر ما بات يعرف الآن بـ ” الكيان الموازي”.

2-1-2-الكيان الموازي

يشير المصطلح إلى الحركة التي اتخذت من الإسلام منصةً سياسية لإحداث تأثير اجتماعي، ودخول معترك الحياة السياسية وفق رؤية طويلة المدى تعمل بموجبها على تشكيل حاضنة اجتماعية تدور في فلك زعيم أو مؤسس. وقد أتى بناء هذه الأرضية العقدية لـ” الكيان الموازي” نتيجة عدم وجود منصةٍ فكرية تدفع باتجاه أداء دورٍ سياسي في ظل الاستقطاب القومي والكمالي والعلماني للساحة السياسية التركية. ويدور الكيان الموازي في فلك زعيمه الأوحد فتح الله كولن،[25]الذي أسس هذه الحركة الاجتماعية ذات الامتدادات السياسية والإعلامية والاقتصادية.

اختار فتح الله كولن طريقاً اجتماعياً لتأسيس النفوذ داخل المجتمع والدوائر السياسية في تركيا، عبر الإرشاد والتبليغ والتعليم والتربية وتأسيس المؤسسات الاجتماعية التربوية، والمالية، والإسكانية، والصحية، والإعلامية، والثقافية.

ورغم النفوذ الاجتماعي والإعلامي والاقتصادي الكبير لفتح الله كولن إلا أن اتباعه يرفضون وصفهم بجماعة أو مجموعة وبشكل عام فإن جماعة ” فتح الله كولن ليست حزباً أو تنظيماً ، بل هي أشبه بحالة أو تيار نما وتغلغل داخل مؤسسات الدولة من خلال المؤسسات التعليمية والثقافية والإعلامية وأصبح لأنصار كولن حضور واسع في دوائر صنع القرار القضائي وجهاز الشرطة والإعلام والمؤسسات المالية والتعليمية، بعد أن تمكن في السنوات السابقة من تدريس وتعليم الكثير من خريجي الجامعات والمدارس الثانوية في مختلف أنحاء الجمهورية التركية وخارجها.[26] وتسيطر شبكة فتح الله كولن على بعض أبرز الصحف التركية كصحيفة زمان، ومجلة أكسيون، وعدد من القنوات الفضائية التركية. كما يمتد نفوذها ليصل إلى الولايات المتحدة الأميركية، إذ أسست مجموعة من مراكز الأبحاث الاجتماعية وعدداً من الشبكات المالية والاقتصادية.[27] وتتعدى مؤسسات الشبكة المجالات الاجتماعية والإعلامية والتربوية لتأخذ منحًى اقتصادياً بدأ مع تأسيسه بالتعاون مع رجال أعمال سعوديين لشركة الراجحي للصيرفة، ولتمتد نشاطاته الاقتصادية والمالية إلى عددٍ كبير من أوجه النشاط الاستثماري في تركيا والخليج.

تحالف حزب العدالة والتنمية منذ تأسيسه واستلامه السلطة مع بعض القوى الليبرالية وجماعة فتح الله كولن ذات النفوذ الواسع، لكن هذا التحالف ما لبث أن بدأ يتحول إلى مواجهةٍ واضحة بعد تغلغل أنصار جماعة كولن في أجهزة الدولة مستفيدين من نشاطاتهم التعليمية والثقافية من جهة،[28] وتحالفهم مع حزب العدالة والتنمية الحاكم. فتبنى أنصار الكيان الموازي محاولات زعزعة استقرار الحكومة التركية مستفيدين من تأثيرهم الكبير في جهازي القضاء والشرطة.

وجاءت الهزة الأعنف والأكثر وضوحاً لدور الكيان الموازي بعد استدعاء المدعي العام التركي صدر الدين صاريقايا، رئيس الاستخبارات هاكان فيدان، للإدلاء بأقواله بصفته مشتبهاً به في قضية اللقاءات مع قادة حزب العمال الكردستاني، وأدى هذا الاستدعاء إلى أزمة كبيرة بين الحزب الحاكم وجماعة كولن، إذ رأى رئيس الوزراء التركي أن هذه الخطوة تستهدفه مباشرة.

ومن ثم أتت الاعتقالات الأخيرة لعدد من المسؤولين الحكوميين وأبنائهم بقرار من النائب العام المقرب من جماعة كولن، وتم القبض على المتهمين دون علم رئيس الوزراء أو وزير الداخلية، كما أن القوة التي قامت بالاعتقالات في العاصمة أنقرة قدمت من إسطنبول، وهو ما يخالف القانون التركي.

إذاً تشكل جماعة “الخدمة” كما يحلو لأنصار فتح الله كولن تسميتها المرحلة الثانية من الدولة العميقة التي تحاول إدارة المفاصل الأساسية للحكم بعيداً عن الواجهة السياسية ودون الخوض في اللعبة الحزبية التركية، بعد أن تستكمل بحسب توجيهات زعيمها السيطرة على مراكز القوة ومفاصل الدولة الأساسية.[29] فهي (الكيان الموازي – الخدمة) تدرك أن تشكيلها لحزب سياسي لن يكون له أي أثر في الحياة السياسية في تركيا فلجأت بالتعاون مع أطرافٍ إقليمية ودولية،[30] للتأثير في الحكومة التركية من داخلها من خلال التغلغل في مفاصلها الأساسية، وتنفيذ سياساتٍ تخدم هذه الأطراف الدولية بعد النجاح الكبير لحزب العدالة والتنمية في بناء قاعدة شعبية كبيرة وتحقيق نجاحات اقتصادية وانتهاج سياسة خارجية جعلت من تركيا وقادتها نموذجاً شعبياً يحتذى به في المنطقة.

ومع أن قوة الكيان الموازي وانتشاره وتغلغله شكلت عامل ضغطٍ على الحكومة التركية، إلا أن نجاح حزب العدالة والتنمية في اكتساح الانتخابات البلدية صيف 2014، في أوج الهجمة الإعلامية الداخلية المدعومة خارجياً عليه، شكل خطوة أولى نحو تحجيم أثر وتأثير الكيان الموازي تمهيداً للقضاء عليه بعد الانتخابات الرئاسية.

2-2-الأحزاب السياسية

تعود جذور نشوء الأحزاب السياسية في تركيا إلى أواخر العهد العثماني مع ظهور جمعية الاتحاد والترقي، وحزب الأحرار في المرحلة الممتدة بين عامي 1909-1924. وقد ترافق ظهور هذه الجمعيات والأحزاب مع ضعف السلطة المركزية للدولة والتأثير المتنامي للأقليات وموجة التغريب وارتباطها بالدول الغربية.

ويمكن القول إن التاريخ السياسي التركي الحديث حافلٌ بالكثير من الأحزاب السياسية التي أسست في مراحل مختلفة أضمحل بعضها وتلاشى، أو استمر بأشكالٍ وأسماء وصيغٍ أخرى، أو بقي كما هو كحال حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه مصطفى كمال أتاتورك عام 1923.

غير أن التصنيف الأساسي لتوجهات الأحزاب السياسية التركية يعد الخطوة الأولى لفهم خريطة التوزع الحزبي في تركيا، وتقسم الأحزاب التركية إلى تيارات أساسية هي:

التيار المحافظ الديمقراطي: ويمثله حزب العدالة والتنميةAKP

تيار اليسار العلماني الأتاتوركي: ويمثله حزب الشعب الجمهوري CHP، وحزب الشبابCP

التيار القومي التركي: ويمثله حزب الحركة القوميةMHP

تيار يمين الوسط: ويضم أحزاباً مثل حزب الطريق الصحيح (القويم)، حزب الوطن الأم.

الأحزاب الكردية: حزب السلامة والديمقراطية، الحزب الديمقراطي الشعبي.

أحزاب صغيرة تشكل خليطاً من التوجهات القومية والعلمانية والديمقراطية، ويعد تأثيرها السياسي محدوداً نظراً لعدم قدرتها على تجاوز العتبة الانتخابية لدخول البرلمان.

وتتوزع القوى الحزبية داخل البرلمان الحالي (548نائباً) على الشكل التالي:

320نائباً لحزب العدالة والتنمية، 134 نائباً لحزب الشعب الجمهوري، 52 نائباً لحزب الحركة القومية، 26 نائباً لحزب السلامة والديمقراطية، أربعة نواب للحزب الديمقراطي الشعبي، 12 نائباً مستقلاً.

2-3-المؤسسة العسكرية والأمنية

يمتد تاريخ الجيش التركي بعيداً ليستلهم نفوذه في الدولة من العصر العثماني، الذي كان فيه الجيش الركيزة الأساسية في الحكم والنفوذ نظراً لارتباطه بالفتوحات والحروب وتوسيع رقعة الإمبراطورية. ومع نشوء تركيا الحديثة على أنقاض الخلافة العثمانية برز دور الجيش بوصفه المحافظ على وحدة البلاد والواقف في وجه تقسيم تركيا، ومنذ ذلك الحين يؤدي الجيش التركي دوراً كبيراً في الحياة السياسية في البلاد، ويعد مصدر الاعتزاز القومي. ومع تراجع تأثير دور المؤسسة العسكرية في مجريات العمل السياسي بعد القضاء على شبكة أرجينيكون إلا أن تعزيز قوة الجيش بقي الشغل الشاغل للحكومة التركية وفي الآن نفسه بقاء هذه المؤسسة تحت سلطة المؤسسة السياسية التي تدير البلاد.

ويشكل نجاح حزب العدالة والتنمية في تحويل المؤسسة العسكرية إلى جهازٍ يدار من قبل الحكومة، نجاحاً سياسياً يؤشر على قدرة الحكومة على إدارة البلاد.

فأي تدخلٍ للجيش في السياسة يعبر عنه بالانقلابات أو التهديد بها ودفع السياسيين لتبني مواقف تنبع من رغبات العسكر وتتوافق معها، ومن هنا فإن أي انقلاب يندرج في سياق (المسلك الطبيعي) لتدخل قوة ما (الجيش) لوضع حدٍ للفوضى السياسية والاجتماعية، وتندرج في هذا السياق ثلاثة افتراضات لسلوك هذا (المسلك الطبيعي). الافتراض الأول يتضمن وجود أزمة في انتقال السلطة وتغيير البناء الاجتماعي والسياسي، والافتراض الثاني هو عدم وجود أية قوة أخرى باستثناء الجيش قادرة على إحداث التغيير المطلوب، والافتراض الثالث هو قدرة ورغبة قادة الجيش في إجراء التغيير الذي يريدونه.

ومن خلال هذه العرض يتضح مدى الاستقرار السياسي وقوة الحكومة والحزب الحاكم، وتأسيسها لشكل أكثر قوة واستمرارية من الممارسة السياسية الديمقراطية بعد تحقيقها لمتطلبات المجتمع والدولة ما مكنها من الخروج من دائرة تأثير قادة الجيش في الحياة السياسية وتدخلهم المتكرر فيها.

ومع تراجع تأثير ودور الجيش في السياسة برز الجيش التركي في الأعوام الأخيرة بوصفه قوة تحفظ مكتسبات الدولة وتدافع عنها، لينتقل من دائرة التجاذبات السياسية إلى رحابة الدور المحترف في حماية الدولة والمجتمع والعملية السياسية، بعد أن أقر البرلمان التركي تعديلاً دستورياً مطلع عام 2014، يحصر بموجبه مهمته في حماية البلد من الأخطار الخارجية فقط.

2-3-1-القوات المسلحة

تصنف القوات المسلحة التركية على أنها أكبر وأقوى جيشٍ في منطقة الشرق الأوسط، وتحتل المرتبة الثامنة عالمياً وفق تقديرات مركز fire power العالمي المتخصص في ترتيب الجيوش وقوة الدول العسكرية لعام 2014.

وتقسم القوات المسلحة التركية إلى:

القوات البرية (الجيش):

القوات البرية التركية هي الثانية من ناحية العدد في حلف شمال الأطلسي (NATO) بعد الولايات المتحدة، بتعداد يصل إلى 402,000 فرد عامل ، إذ إن الخدمة العسكرية الإلزامية هي النظام المتبع في تركيا وتختلف مدة التجنيد (من 6 إلى 15 شهر) باختلاف المستوى التعليمي للمجند.

خضعت القوات البرية لعملية إعادة هيكلة كاملة في نهاية الثمانينات ويقسم الجيش إلى 4 فيالق (جيوش) تتكون من ألوية مقاتلة، وتتضمن القوات البرية الإدارات التالية:

رئاسة الأركان

المشــــاة

سلاح الفرسان

الــمدرعات

طيران الجيش (طيران عامودي)

كما تتضمن وحدات مساندة هي: المدفعية، الردع، الدفاع الجوي، الاستخبارات.

القوات البحرية:

القوات البحرية التركية تتكون من حوالي 183 قطعة بحرية عاملة هي:

(14 غواصة، 7 طرادات، 16 سفينة دورية، 17 فرقاطة، 10 سفن تدريب، 20 كاسحة ألغام، 2سفن نقل، 45 قطعة برمائية، 13 سفينة خزان،27 زورق صواريخي، 3 قاطرات، 75 طائرة بحرية). وتضم حوالي 50,000 فرد عامل وتتبعها قوة من مشاة البحرية وحرس السواحل.

القوات الجوية:

القوات الجوية التركية هي ثالث أكبر قوة جوية في حلف الناتو بعد أميركا وبريطانيا، وتتكون من 755 طائرة عاملة و28 طائرة من دون طيار. ويتبع للقوات الجوية وحدة الاستطلاع الإلكتروني المحمولة جواً وتتكون من 4 طائرات إنذار مبكر من نوع بوينج 737 ووحدات الطائرات من دون طيار، وطائرات للتزود بالوقود جواً. وتمكنت من الدخول بوصفها شريكاً حيوياً في مشاريع تصنيع طائرات حديثة مثل الإيرباص A-400 المخصصة للنقل العسكري والطائرة المقاتلة الأميركية F-35 ، إذ ستشتري 116 طائرة من هذا النوع وكذلك تقوم بتصنيع الطائرة F-16 محلياً بترخيص من أمريكا ، وتجدر الإشارة إلى أن طائرات F-16 التي تستخدمها القوات الجوية المصرية مصنوعة في تركيا.

قوات الدرك (الجندرما):

تعمل بوصفها قوة شبه عسكرية مهمتها حفظ الأمن في الأماكن النائية والحدود وتتبع لوزارة الداخلية في أوقات السلم وتنتقل تبعيتها إلى الجيش في حالة الحرب وينتسب إليها أكثر من 200,000 فرد.

خفر السواحل:

تتبع وزارة الداخلية في أوقات السلم وتنقل تبعيتها إلى القوات البحرية في أثناء الحرب ووظيفتها الأساسية البحث والإنقاذ وخفر السواحل وتتكون من أكثر من 115 قطعة بحرية و16 طائرة.

ويتم رفد القوات المسلحة التركية بالضباط وصف الضباط المتخرجين في المدارس والأكاديميات العسكرية، إذ يعد التعليم العسكري التركي واحداً من أعرق أنواع التعليم العسكري في العالم.

ففي النظام التعليمي العسكري التركي يكون معظم الملتحقين بالأكاديميات العسكرية متخرجين من الثانويات العسكرية التخصصية وتبقى نسبة حوالي 10 % لطلبة الثانويات العامة، وهنالك الكثير من الأكاديميات والكليات العسكرية تدرس كل التخصصات العسكرية ، ومنها:

– الأكاديمية العسكرية:

تأسست سنة 1834 بنظام 4 سنوات تقع في أنقرة وتمنح بكالوريوس العلوم العسكرية.

– الكلية الحربية: يلتحق بها الضباط لتحضير الدراسات العليا (الأركان).

– كلية القوات المسلحة: تحضير الأركان العليا في التخطيط الإستراتيجي وتعاون القوات.

– كلية الأمن الوطني.

– معهد الدراسات الإستراتيجية.

– الأكاديمية البحرية: تأسست سنة 1773 وبنظام 4 سنوات تقع في إسطنبول ويلتحق بها خريجو الثانوية البحرية العسكرية وتدرس العلوم البحرية مثل الملاحة والتسليح والميكانيكا وكذلك التخصصات الهندسية مثل الهندسة الصناعية وتصميم السفن والحاسب وتمنح الأكاديمية كذلك درجة الماجستير في التخصصات نفسها.

– الأكاديمية الجوية: تأسست بوصفها مدرسة للطيران سنة 1912 وتحولت إلى كلية سنة 1951 يدرس الطالب لمدة 4 سنوات في تخصصات الطيران والهندسة والإدارة وتمنح الأكاديمية كذلك الدراسات العليا في تخصصاتها.

– كلية الطب العسكري: تأسست سنة 1898 ونظام الدراسة بها 6 سنوات وتدرس جميع التخصصات الطبية.

وقد تطورت القوات المسلحة التركية بشكل كبير في الأعوام العشرة الأخيرة، وتم تحديثها من خلال عددٍ من الشركات التركية التي انتجت التكنولوجيا العسكرية المتقدمة كشركةVestel التي تنتج أنواعاً مختلفة من الطائرات من دون طيار، وشركة الدفاعات الوطنية التركية التي أنتجت الدبابة التركية ألتاي (ALTAY)، وشركة الصناعات الفضائية التركية (TAI) التي أنتجت المروحية الهجومية التركية T-129 ATAK، بالإضافة إلى الكثير من الشركات والمصانع التي تنتج بعض القطع البحرية وأنظمة الرادار والمدفعية والذخائر والبنادق الهجومية وقطع الغيار.

ومن المعروف أن تركيا دولة عضو في حلف شمال الأطلسي (NATO)، وهي بهذه العضوية تتقاسم مع كلٍ من بلجيكا وهولندا وألمانيا وإيطاليا القدرات النووية للحلف، وتستضيف قاعدة إنجرليك التركية 90 قنبلة نووية من طراز B61 ووفق معاهدات الحلف فإن سلاح الجو التركي يمكنه استخدام 40 منها.[31]

2-3-2-الاستخبارات

تأسس جهاز الاستخبارات التركي عام 1965، ليحل بديلاً عن جهاز الأمن الوطني، ويرمز اختصاراً لوكالة الاستخبارات التركية بـ (MIT) وتعني بالتركية Milli İstihbarat Teşkilatı.

وتضطلع الاستخبارات التركية بمهمة كبرى هي التنبؤ بأية مخاطر أو تهديدات من الممكن أن تواجه البلاد، ويندرج ضمن هذه المهمة الكبرى عددٌ من المهام المنبثقة عنها أبرزها جمع المعلومات الاستخبارية، عن مختلف التهديدات الداخلية والخارجية التي تعرض سلامة وأمن الدولة التركية وشعبها، وتقديم المعلومات الاستخبارية لرئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ومجلس الأمن القومي، واعتراض عمليات التجسس والاستخبارات المضادة، والحفاظ على أمن الاتصالات الرسمية.[32]

يعمل في جهاز MIT وفق التقديرات الرسمية حوالي 8000 موظف، وتبلغ ميزانية الوكالة 1.06 مليار ليرة تركية للسنة المالية 2014.[33]

وقد خضع جهاز الاستخبارات التركي عام 2009 لإعادة بناء شاملة وتنظيفه من بقايا الدولة العميقة، كما شكل تعيين هاكان فيدان على رأس جهاز المخابرات التركية نقلة نوعية في عمل الجهاز بعد أن اخترق خارجياً وداخلياً لسنوات طويلة.

فمباشرة بعد وقوع أحداث سفينة مرمرة عام 2010، تم تعيين هاكان فيدان الذي تصفه وسائل الإعلام بأنه رجل المهمات الصعبة، ورجل الظل وأكثر المقربين من أردوغان، على رأس جهاز الاستخبارات خلفا لسلفه أمير تانير الذي كان متهماً بالتعاون مع الموساد الإسرائيلي، ولكن جماعة فتح الله كولن، ولأسباب غير معلنة في ذلك الوقت، رفضت هاكان فيدان، ووظفت كل قوتها للإطاحة به.

ويعد هاكان فيدان من أقوى الشخصيات في الحكومة التركية، فهو ضابط صف سابق في الجيش التركي، يحمل شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة بيلكنت التركية، تدرج في المناصب الحكومية ، إذ تولى رئاسة وكالة التعاون والتنمية الدولية عام 2003، ومن ثم مستشاراً في مكتب رئيس الحكومة للشؤون الخارجية عام 2007، كما عمل مساعداً لوزير الخارجية، ومن ثم رئيساً لجهاز المخابرات التركي عام 2010 وحتى الآن.

ويتضح مدى العمل الوطني للجهاز بعد إعادة بنائه وتولي هاكان فيدان رئاسته من خلال أطراف الهجوم عليه والتي تقسم إلى خارجية وداخلية. فقد أثار خبر تعيينه على رأس جهاز الاستخبارات التركية غضباً شديداً خاصة لدى الاستخبارات الإسرائيلية، إذ تسرب عام 2010، تسجيل صوتي لجنرالات في الموساد الإسرائيلي وهم يناقشون خبر تعيين فيدان، قالوا فيه إن رئيس الاستخبارات السابق كان صديقاً لإسرائيل وإن الاستخبارات الإسرائيلية أودعت بعض الأسرار لدى الاستخبارات التركية لأنها كانت تثق به، وإن الموساد بات يخشى من أن يقوم الرئيس الجديد بتسريب هذه المعلومات، حتى بلغ الأمر أن عنونت صحيفة إسرائيلية صفحتها الأولى، قائلة: “هاكان فيدان يستحق هدية صباحية جيدة داخل سيارته”.[34]

كما تنظر الولايات المتحدة بعدم الارتياح لسلوك واستقلالية جهاز الاستخبارات التركية، وتبدي في تصريحاتٍ شبه رسمية قلقها من هذا السلوك. غير أن الهجوم الأبرز على الجهاز ورئيسه أتى من الداخل التركي، إذ حاول أكثر من مرة مدعون عامون أتراك محسوبون على جماعة فتح الله كولن رفع قضايا على رئيس الجهاز منذ 2010 وحتى 2014، محاولين اعتقاله بتهمٍ ملفقة مختلفة، الأمر الذي أدى إلى إصدار قانون جديد من البرلمان التركي يهدف لتطوير عمل الجهاز وتحصينه من الملاحقة بالقضايا المغرضة. فالقانون الجديد يجبر السلطات القضائية على الحصول على إذن من جهاز الاستخبارات قبل ملاحقة أي عامل فيه أو تتبع بعض الأعمال التي يشرف عليها الجهاز سرًا، مع إمكانية امتناع الجهاز عن السماح للقضاء بالتحقيق في هذه الملفات في حال رأى أن التحقيق فيها يمس سرية عمله ويهدد المنتمين إليه.

كما أن القانون يسمح للاستخبارات بمراجعة بيانات ومعلومات سرية للمشتبه بهم، ويتيح للجهاز طلب ومراجعة بيانات خاصة ومعلومات مصرفية للمشتبه بهم، مع ضمان عدم استغلال هذه البيانات بطريقة سيئة.

ويرى محللون أن الحكومة التركية تتجه إلى تقوية ودعم جهاز الاستخبارات بسبب عدم ثقتها في جهاز المخابرات التابع للشرطة وكذلك في القضاء التركي، إذ تقول الحكومة إن هذين الجهازين مخترقان من قبل جماعة فتح الله كولن وقد تستغرق عملية إصلاحهما مدة من الزمن.

2-3-3-مجلس الأمن القومي

تأسس مجلس الأمن القومي التركي عقب انقلاب عام 1960، وسيطرة العسكر على مقاليد الحكم في البلاد، أتى تأسيس المجلس في ذلك الوقت ليضمن سيطرة قادة القوات المسلحة التركية على مقاليد الحكم بعد تسليم السلطة لحكومة مدنية وليبقى النفوذ الأساسي بيد قادة القوات المسلحة الذين يشكلون مجلس الأمن القومي ويديرون البلاد من خلاله.

استمرت الصبغة العسكرية على مجلس الأمن القومي التركي لأكثر من ثلاثة عقود، ففي عام 2003، أقر البرلمان التركي مجموعة من التعديلات الدستورية تتعلق بصلاحيات ونطاق عمل وتشكيلة مجلس الأمن القومي، والتي هدفت للحد من دور الجيش من خلال إصلاح مجلس الأمن القومي، وقد وصفت هذه التعديلات الدستورية في صحيفة الفايننشال تايمز بأنها ليست سوى “ثورة هادئة” على نفوذ قادة الجيش في الجمهورية التركية.[35]

أسهمت التعديلات الدستورية في إصلاح المجلس ليصبح جهازاً استشارياً بغالبية مدنية، وليتمكن منذ ذلك الحين مدني من تولي مهمة سكرتير مجلس الأمن القومي، ولم يعد للمجلس سلطاتٍ تنفيذية على بعض أجهزة الدولة كالإعلام والاتصالات، واقتصرت مهمته على تقديم توصياتٍ لرئيس الجمهورية ورئيس الوزراء.[36]

ويضم مجلس الأمن القومي في عضويته كلاً من: رئيس الجمهورية، رئيس الوزراء، وزير الدفاع، وزير الخارجية، وزير الداخلية، رئيس الأركان، قائد القوات البرية، قائد القوات البحرية، قائد القوات الجوية، قائد الدرك (الجندرما). ومنذ عام 2004 تعاقب على سكرتاريا المجلس أربعة مدنيين ويشغل حالياً معمر تركر هذا المنصب منذ عام 2012.

ورغم التعديلات الدستورية على صلاحيات وتشكيلة المجلس عام 2003، بقي مجلس الأمن القومي التركي المكان الذي ترسم فيه السياسة العامة للبلاد، وبالتحديد سياسة الأمن القومي التركي طويلة ومتوسطة المدى. وتظهر هذه السياسة مستنداً أو ملفاً فائق السرية يعرف بـ (الكتاب الأحمر)، يحدث مرة أو مرتين كل عشر سنوات.

2-4-الشكل القانوني لنظام الحكم ومؤسساته

صنف نظام الحكم في تركيا على أنه نظامٌ برلماني نظراً لانتخاب رئيس الجمهورية من قبل البرلمان، وتكليف الحزب الذي حاز أكثر المقاعد النيابية تشكيل مجلس الوزراء. لكن دارسي أنظمة الحكم يحارون في شكل النظام السياسي التركي من الناحية الأكاديمية، وخصوصاً بعد إقرار التعديل الدستوري الذي ينص على انتخاب رئيس الجمهورية مباشرة من الشعب. وهنا لا بد من توضيح بعض النقاط ؛ فنظام الحكم في الجمهورية التركية يعد نظاماً خليطاً من النظام البرلماني والرئاسي، وبغض النظر عن البنية القانونية والجدل في طبيعة وشكل نظام الحكم في تركيا، نظراً لتطورات المشهد الدستوري التركي منذ عام 2003حتى الآن بعد التعديلات المتعددة على دستور الجمهورية التركية الذي أقر عام 1982 والمعمول به حالياً، ونظراً لتوجه حزب العدالة والتنمية الحاكم إلى طرح تعديلاتٍ جديدة مستقبلاً، فإن دراستنا في هذا الجانب ستقتصر ، وعلى نحو موجز ، على ما يتعلق بصلاحيات وتشكيل كل سلطة من السلطات الرسمية الثلاث.

2-4-1-السلطة التشريعية

خول الدستور التركي لمجلس الأمة التركي (البرلمان) الذي يتم انتخاب أعضائه من قبل الشعب مباشرة كل أربع سنوات مهام السلطة التشريعية ، وطبقاَ للدستور فإن مهام وسلطات مجلس الأمة التركي يمكن حصرها على نحو التالي:

سن وتغيير وإلغاء القوانين.

مراقبة مجلس الوزراء والوزراء.

السماح لمجلس الوزراء بإصدار المراسيم فيما يخص مسائل معينة.

مناقشة مشاريع قانون الميزانية والحسابات المؤكدة والموافقة عليها.

القرار بشأن طباعة العملة.

القرار بشأن إعلان حرب.

الموافقة على تصديق الاتفاقات الدولية.

القرار بشأن إعلان العفو العام والخاص.

تعديل الدستور.

الموافقة على خطط التنمية.

إعداد النظام الداخلي للبرلمان.

12- إقرار المراسيم والتعديل أو الرفض.

تصديق قرار حالة الطوارئ أو الأحكام العرفية وتمديد المدة والإزالة التي لا تتجاوز أربعة أشهر في كل مرة.

تصديق المراسيم التي يصدرها مجلس الوزراء الذي يجتمع برئاسة الرئيس في حالة الطوارئ أو الأحكام العرفية.

انتخاب رئيس البرلمان وأعضاء مكتب البرلمان.

انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية.

انتخاب أعضاء المجلس الأعلى للإذاعة والتلفزيون.

انتخاب رئيس ديوان المحاسبات العالي وأعضائه.

انتخاب رئيس المفتشين العام.

اتخاذ قرار لإجراء تجديد الانتخابات البرلمانية قبل انتهاء المدة.

إعطاء الثقة لمجلس الوزراء في مرحلة التأسيس والتوظيف.

يتمكن البرلمان من تقديم رئيس الجمهورية أمام المحكمة العليا بتهمة الخيانة العظمى للبلاد.

إزالة الحصانة عن النواب.

اتخاذ قرار لإسقاط العضوية البرلمانية.

اتخاذ قرار إرسال القوات المسلحة الى الدول الأجنبية والسماح بوجود القوات المسلحة الأجنبية في تركيا.

2-4-2-السلطة التنفيذية

ما يميز السلطة التنفيذية في تركيا هو أنها ثنائية البنية، وتتكون من رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء وتتوزع الصلاحيات التنفيذية بين طرفي السلطة التنفيذية.

فرئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ويمثل الجمهورية التركية ووحدة الشعب التركي. يتم حالياً انتخاب الرئيس باقتراعٍ شعبي عام بعد أن كان يتم التصويت على الرئيس من قبل البرلمان، ومدة الولاية الحالية خمس سنوات يمكن أن تجدد لمرة واحدة فقط. وقد أدى هذا التعديل الدستوري إلى إضفاء مزيدٍ من القوة الشعبية لمنصب رئيس الجمهورية نتيجة تصويت الشعب على اختياره، وهو بذلك يمتلك قاعدة شعبية كبيرة نتيجة حصوله على نسبة الأغلبية من أصوات الناخبين الأتراك في خطوة تشير إلى مدى قوته بوصفه شخصاً إذا ما نظرنا إلى تاريخ نتائج الانتخابات النيابية التي لم يحصل فيها أي حزب حتى العدالة والتنمية على نسبة 51% من أصوات الناخبين الأتراك.[37]

وبحسب دستور عام 1982، يعد رئيس الجمهورية مسؤولاً عن ضمان تطبيق الدستور واتساق وانتظام المهام التنفيذية للجهات الحكومية. ولرئيس الجمهورية أن يترأس جلسات مجلس الوزراء، يمثل منصب القائد العام للقوات المسلحة التركية نيابة عن المجلس الوطني، وله صلاحية اتخاذ القرار باستخدام تلك القوات، ويعين رئيس الأركان العامة، ويعلن قانون الأحكام العرفية، وحالة الطوارئ.

كما أنه يصدر قرارات لها قوة القانون بما يتمشى مع قرارات مجلس الوزراء الذي يترأسه، ويعين أعضاء المجلس الاستشاري للدولة ورئيسه ويبلغ المجلس نفسه بإجراء الاستطلاعات والتحقيقات والتفتيش. فضلاً عن تعيين أعضاء مجلس التعليم العالي ورؤساء الجامعات يصدر رئيس الجمهورية بموجب المادة (104) من دستور 1982 قرار تعيين أعضاء المحكمة الدستورية و25 % من أعضاء مجلس الدولة، ورئيس الادعاء العام ونائبه في محكمة الاستئناف العليا وكذلك أعضاء محكمة الاستئناف العسكرية العليا وأعضاء المحكمة الإدارية العسكرية العليا فضلا عن أعضاء المجلس الأعلى للقضاء ووكلاء النيابة.[38]

كما يحظى رئيس الجمهورية بصلاحياتٍ تشريعية، فهو يستدعي المجلس الوطني (البرلمان) للانعقاد عند الضرورة، ويدعو إلى إجراء انتخابات جديدة للمجلس نفسه، ويضع القوانين ويعيدها إلى المجلس الوطني لإعادة النظر فيها، وكذلك يطرح للاستفتاء وعند الضرورة التشريع المتعلق بتعديل الدستور. ويلجأ إلى المحكمة الدستورية بخصوص الإلغاء الجزئي أو الكلي لأحكام قوانين معينة أو قرارات لها قوة القانون.

وهنا لابد أن نعيد التأكيد أن هذه الصلاحيات المتنوعة لا يمكن اعتدادها صلاحياتٍ شكلية، لكن طريقة انتخاب الرئيس من قبل المجلس الوطني (البرلمان) فرضت على الرئيس نوعاً من الحد على بعض هذه السلطات كونه ينتخب من داخل البرلمان ويخضع لشروط المساومة السياسية بين كتل البرلمان.

أما رئيس الوزراء ومجلس الوزراء، فيعدان السلطة التنفيذية الأساسية في الدولة، إذ يكلف رئيس الجمهورية أكبر الأحزاب التي فازت في الانتخابات البرلمانية بتشكيل الحكومة، التي تأخذ الثقة من البرلمان، وبذلك تناط السلطات التنفيذية بالحكومة، الأمر الذي تصبح بموجبه مسؤولية صياغة السياسات الداخلية والخارجية للدولة وتنفيذها من اختصاصات الحكومة التركية.

فكل ما يتعلق بتنفيذ وصياغة السياسات الاقتصادية والاجتماعية والمالية والدفاعية والأمنية والسياسة الخارجية هي من اختصاص الحكومة التركية، والوزارة المختصة، بعد إقرارها من البرلمان. كما يترأس رئيس الوزراء جلسات مجلس الأمن القومي التركي، ويعد مسؤولاً أمام البرلمان عن تنفيذ السياسات الداخلية والخارجية.

2-4-3-السلطة القضائية

تمارس السلطة القضائية في تركيا من خلال محاكم مستقلة وجهات قضائية عليا نيابة عن الشعب التركي. يستند القسم القضائي في الدستور إلى مبدأ سلطة القانون، إذ تم تأسيس السلطة القضائية وفقًا لمبادئ استقلال المحاكم وتأمين مدة تولي القضاة لمناصبهم. ويعمل القضاة بشكل مستقل، فهم يحكمون وفقًا لقناعتهم الشخصية واستنادًا إلى أحكام الدستور والقانون والنظام القانوني.

ويجب أن تنصاع الجهات التشريعية والتنفيذية لأحكام المحاكم ولا يمكنها تغيير أو تأخير تطبيق هذه الأحكام. وبشكل عملي، تبنى الدستور النظام القضائي ثلاثي الجهات وتبعًا لذلك، انقسم النظام القضائي إلى القضاء الإداري والقضاء القانوني والقضاء الخاص.

وقد نص القسم القضائي في الدستور على المحاكم العليا التالية: المحكمة الدستورية ومحكمة الاستئناف العليا ومحكمة الاستئناف العسكرية العليا والمحكمة العسكرية الإدارية العليا ومحكمة النزاعات القضائية.

2-5-البيئة الاقتصادية التركية

شكل الوضع الاقتصادي البائس والانهيار التجاري والمالي لتركيا التحدي الرئيسي لحزب العدالة والتنمية عند تسلمه لمقاليد السلطة في تركيا، إذ استطاع الحزب النهوض بالاقتصاد التركي بما يشبه المعجزة، بعد عقود طويلة من فضائح الفساد والرشاوى والبؤس المالي الذي عاش فيه الأتراك.

وكانت تركيا قد بدأت بسلسلة من الإصلاحات في اتجاه اقتصاد السوق سنة 1999 برعاية من صندوق النقد الدولي، وقد ترافقت بشكل متواز مع وجود مشاكل اقتصادية أدت إلى إضعاف الاقتصاد التركي، وبالرغم من وجود بعض الإشارات التي دلت على أن الأمور تسير على ما يرام في مطلع سنة 2000، إلا أن هذه السلسلة من الإصلاحات انتهت بأزمة عميقة سنة 2001، كان من مظاهرها: انخفاض معدل النمو ، وزيادة معدلات التضخم ، وارتفاع العجز في خزينة الدولة إلى درجة لا يمكن التحكم بها ، وارتفاع سعر الفائدة ، وعدم استطاعة القطاعات الاقتصادية في الدولة تحمل هذه التغيرات وتردي أوضاعها، وبعد مجيء حزب العدالة والتنمية تم تغيير قسم كبير من الافتراضات والمبادئ الأساسية التي اعتمد عليها برنامج صندوق النقد الدولي، ومنها الاعتماد على نظام الصرف الثابت عوضا من نظام الصرف المرن، وتم التزود باحتياطي خارجي بلغ ما يقارب 25 مليار دولار من أجل ضمان نجاح البرنامج، ومن هنا بدأت موجة كبيرة من الإصلاح تجتاح القطاعات المالية والإدارية.

ويمكن تقسيم المراحل التي تطور فيها الاقتصاد التركي حتى الآن في حكم حزب العدالة والتنمية إلى مرحلتين أساسيتين:

مرحلة التأسيس للنقلة الاقتصادية 2002-2008[39]

يمكن القول من الناحية التقنية إن أي دولة إذا استطاعت تحقيق معدلات نمو طيلة مدة خمس سنوات مستمرة ، فهذا يعني أنها قد أسست لبرنامج نمو مستمر، ولقد استطاعت تركيا الخروج من تلك الأزمة بسرعة عن طريق الإصلاحات التي اتبعتها والتي تمثلت بالدعم الخارجي والتعامل مع الأسواق الخارجية، ولهذا فقد حققت نمواً ملحوظاً.

وعند مقارنة التطورات الاقتصادية في المرحلة الواقعة ما بين 2002-2007 بالمرحلة التي سبقتها يمكن استخلاص النتائج التالية:

– استمرت معدلات النمو بالصعود طيلة المدة الواقعة بين 2002-2008، وباستثناء سنة الأزمة العالمية 2008 فقد كان معدل النمو طيلة المدة الواقعة بين 2002-2006 يقدر بـ 6.9%.

– قفز الناتج المحلي الإجمالي من 350 مليار سنة 2002 إلى 750 مليار سنة 2008.

– قفز نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من 3300 دولار سنة 2002 إلى 10000 دولار سنة 2008.

– ارتفع حجم الصادرات من 33 مليار إلى 130 مليار في نهاية سنة 2008.

كما اعتمدت زيادة معدلات النمو في تركيا بعد عام 2002 على استثمارات القطاع الخاص، وتراجعت المراقبة الحكومية للقطاع الخاص بشكل سريع في المواضيع المتعلقة بمصادر رؤوس الأموال والإنتاج والبيع، ومن نتائج ذلك: ارتفاع حجم الاستثمار بحوالي أربعة أضعاف ونصف، وارتفاع حجم الإنتاج ضعفين، وارتفاع معدل استخدام رؤوس الأموال من 75% إلى 80%، وارتفاع معدلات استثمار القطاع الخاص في المرحلة الواقعة بين 2001-2008 ما نسبته 300%، أما استثمارات القطاع الحكومي فقد زادت بنسبة 100%، وارتفاع نسب الاستهلاك في المرحلة نفسها بنسبة وصلت 39% في القطاع الخاص و22% في القطاع الحكومي، وبلغ مجموع قيمة الاستثمارات من الناتج المحلي الإجمالي ما نسبته حوالي 25% محققة أعلى مرتبة على مستوى أوروبا.

وبالنسبة إلى التضخم فبعد أن وصلت نسبة التضخم سنة 2001 إلى 70% انخفضت في نهاية سنة 2007 إلى 8.4%، ثم عادت وارتفعت قليلا حتى وصلت سنة 2008 بسبب زيادة الأسعار العالمية لتصل إلى 10%.

وفي هذه المرحلة تحققت تطورات مهمة فيما يخص التجارة الخارجية، فقد ارتفعت الصادرات من 28 مليار سنة 2000 إلى 131 مليار سنة 2008 وارتفعت الواردات في المرحلة نفسها من 55 مليار إلى 202 مليار، وبشكل متواز مع الإصلاحات التي عقبت الأزمة الاقتصادية تم تغطية جزء كبير من عجز الموازنة العامة للدولة، لكن عجز القطاع الخاص استمر لأسباب تنظيمية، ومن أجل حل هذه المشكلة كان لا بد من إحداث تحول صناعي فاعل، وتعميق دور الإصلاحات التي تزيد من حجم الادخار وإعادة توظيف المدخرات في الاستثمار من جديد.

مرحلة تثبيت النمو الاقتصادي وتطويره 2008-2013

تم في هذه المرحلة تحقيق انجازاتٍ اقتصادية ومالية متعددة بالاعتماد على تطوير القطاعات المنتجة في الاقتصاد التركي وزيادة معدلات الاستثمار الخارجي، إضافة إلى تعزيز خطة تطوير الصادرات التركية.

فقد وصل إجمالي الناتج المحلي التركي إلى 820 مليار دولار عام 2013، وارتفعت حصة الفرد من الناتج المحلي إلى 10782 دولار بالرغم من الزيادة السكانية البالغة حوالي مليون نسمة سنوياً. وارتفعت قيمة الصادرات إلى 152 مليار دولار، ووصلت قيمة الواردات إلى 251 مليار، في حين بلغت إيرادات السياحة 33 مليار دولار. وبلغ حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة 12.9 مليار دولار، وعدد الشركات ذات رؤوس الأموال الأجنبية 36450 شركة، وانخفضت نسبة التضخم إلى 7.5%.[40]

كما وصل الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية عام 2014 إلى 135.245 مليار دولار، وانخفضت نسبة البطالة إلى 8.8%، ومعدل التضخم إلى 5%.

وعمدت السياسة الاقتصادية التركية على تطوير القطاع الصناعي والخدمي بشكل كبير، إذ بلغت نسبة إسهام قطاع الخدمات في الناتج القومي 36%، والقطاع الصناعي 28.1%، والزراعة 8.9%، وتتنوع الصادرات لتضم النسيج والملابس والأغذية المصنعة إضافة إلى الصناعات المعدنية والسيارات والشاحنات وقطع الغيار، والإلكترونيات والأجهزة المنزلية. كما بدأت الشركات العملاقة التركية بالظهور لتحتل مواقع عالمية، ففي عام 2010، وجدت 12 شركة تركية ضمن قائمة فوربس جلوبال 2000، وهي الترتيب السنوي لأكبر 2000 شركة في العالم ، وهذه الشركات هي:

2-6-السياسة الخارجية

توضع محددات السياسة الخارجية التركية وفق مقاييس المصلحة القومية التركية، والتغيرات في البيئة الدولية والإقليمية ومستجداتها، وتتولى الحكومة التركية ممثلة برئيس الحكومة ووزير الخارجية برسم معالم السياسة الخارجية، وبما يتسق مع المتطلبات والتهديدات الأمنية والسياسية التي تناقش في مجلس الأمن القومي.

وقد عمد حزب العدالة والتنمية بعد توليه الحكم في تركيا إلى إعادة بناء السياسة الخارجية التركية وفق مفاهيم ومبادئ جديدة تنسجم مع بنيته الفكرية، وتاريخ ومصالح تركيا. هذه المفاهيم والمبادئ أكسبت السياسة الخارجية التركية بعداً جديداً وخصوصاً بعد تولي أحمد داوود أوغلو مهام وزارة الخارجية، ويمكن توصيف وعرض أبرز هذه المبادئ والمفاهيم على الشكل التالي:

مفهوم التصور الذاتي: تقوم السياسة الخارجية التركية وفق هذا المفهوم على رسم أبعاد ومنظور السياسة الخارجية من خلال تحليل الاستمرارية الحضارية والتحولات الدولية، وبناء السياسة الخارجية على العمق التاريخي والحضاري، فكل سياسية خارجية يجب أن توضع في إطارها الهادف والمستند إلى التصور الذاتي (التركي) لها.[41]

العمق الإستراتيجي: وهو مفهوم طرحه لأول مره وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو، ويعتمد في بناء السياسة الخارجية التركية على البعد الجيوبوليتيكي، والامتداد الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والتاريخي التركي في محيطها الجغرافي، والأمر الذي ينقل تركيا لدائرة التأثير الاقليمي والدولي المباشر في مختلف القضايا العالمية.

مركزية الدور الإقليمي والدولي: يستمد من هذا المفهوم عنصران أساسيان، الأول: مفهوم ” الجسر” أو صلة الوصل بين الشرق والغرب من الناحية الجغرافية والثقافية والسياسية. والثاني: يطرح فيه الدور التركي بوصفه دوراً بناءً ومحورياً في إعادة إنتاج مفاهيم توازن القوى الإقليمية والدولية.

التوجه الشرقي: حرص حزب العدالة والتنمية على تطبيق هذا التوجه وتفعيله باتجاه البلدان العربية، ودول الجوار التركي، فبدلاً من السياسة السابقة القائمة على عدم التدخل أو التدخل المحدود تحول الدور التركي إلى دورٍ فاعل ومؤثر في مختلف قضايا المنطقة وأزماتها.

القوة الناعمة: إذ تعتمد السياسة الخارجية التركية على عناصر الدبلوماسية والثقافة والتعاون الاقتصادي والتفاهمات التاريخية لأداء دورٍ إقليمي في محيطها الجغرافي القريب والبعيد. وفي الوقت نفسه تطوير قوة خشنة (عسكرية) رادعة تحفظ وتدافع عن السيادة والمصالح التركية.

الدبلوماسية الاستباقية: وفق هذا المفهوم تعمل الدبلوماسية التركية على توقع الأزمات القادمة وطرح حلولٍ لها قبل استفحالها من خلال تطوير علاقاتها مع دول الجوار، والقيام بدورٍ قيادي في حل الأزمات في المنطقة.

الدبلوماسية المتوازنة: بحيث تؤدي تركيا دوراً في مختلف القضايا والمواقف الدولية، وتأخذ تركيا بذلك موقع العامل القوي في التوازنات الدولية.

نموذج جديد من الدبلوماسية بين الشرق والغرب: فالسياسة الخارجية التركية تتعامل مع دول الشرق من منطلق تاريخها وثقافتها وهويتها الشرقية، ومع الدول الغربية وفق منظورٍ غربي يقوم على معايير الديمقراطية والحكومة المدنية، والمصالح الاقتصادية المشتركة.

الدبلوماسية الإنسانية: ووفق هذا المبدأ على السياسة الخارجية التركية أن تقوم على أسس إنسانية، ولذلك فتركيا ستتدخل وتهتم بمختلف الأزمات ذات الأبعاد الإنسانية في نطاقها الجغرافي الإقليمي وحتى الدولي.

وبحسب النبذة التعريفية لوزارة الخارجية التركية، فإن الهدف الأساسي لسياسة تركيا الخارجية هو خلق وضع إقليمي ودولي يتمتع بالسلام والرخاء والاستقرار ومبني على التعاون وتطوير الطاقة البشرية سواء في تركيا أم في الدول المجاورة لها أم في المناطق الأخرى.

وبشكل تقليدي، ما برحت السياسة الخارجية التركية تهدف إلى تحقيق الأمن للبلاد، وحماية وتطوير المصالح الوطنية في منظور منبثق من التأريخ وممتد إلى المستقبل، وتسخير المصادر الخارجية للتنمية والرفاء، والدخول في تحالفات وصداقات، والحفاظ على مكانة تركيا وتعزيزها في العالم الحديث. ومن أجل تحقيق كل هذه الأهداف، فقد تبنت مبدأ تأسيس علاقات تعاون جيدة مع جميع الدول وعلى رأسها الدول المجاورة، والإسهام في السلام والاستقرار والأمن والرفاء العالمي.[42]

إن العلاقات المؤسساتية التي أسستها تركيا سواء على شكل عضوية أم مراقبة أم شراكة مع الكثير من المنظمات الإقليمية والدولية البارزة ذات المهام والمناطق الجغرافية المختلفة، تظهر ميزة تعددية الأوجه لسياستها الخارجية. فإلى جانب عملية الانضمام لعضوية الاتحاد الأوروبي، فإن تركيا عضوة في منظمات مختلفة مثل الأمم المتحدة، اللجنة الأوروبية، حلف شمال الأطلسي، منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، المنظمة الأوروبية للتعاون والأمن، منظمة التجارة العالمية، منظمة المؤتمر الإسلامي، منظمة البحر الأسود للتعاون الاقتصادي، منظمة التعاون الاقتصادي، مجموعة الثمانية، مؤتمر تدابير زيادة الثقة والتعاون في آسيا.

ومع أن السياسة الخارجية التركية قامت على إستراتيجية تعاونية متبادلة بين تركيا ودول الجوار، فإن مرحلة الربيع العربي شكلت عائقا في الوصول إلى أهداف السياسة الخارجية التركية، فحسب قول أمر الله إيشلر نائب رئيس الوزراء التركي “فإن الحكام الذين حكموا شعوب المنطقة منذ عقود بالحديد والنار آثروا مواصلة سياساتهم القمعية ضد شعوبهم، وارتكاب الفظاعات بدلاً من تلبية مطالبهم المشروعة”.[43]

وفي وسط تلك الأجواء، وقعت السياسة الخارجية التركية بين خيارين أحلاهما مر، فإما دعم الأنظمة الاستبدادية أو دعم مطالب الشعوب المشروعة المتمثلة بالحرية والديمقراطية، ولعلها اتخذت واحدا من أفضل القرارات في تاريخها عندما آثرت الوقوف إلى جانب الشعوب.

الموقف التركي من قضايا الأمة

يتعدى هدف البحث في مواقف تركيا في مرحلة حكم حزب العدالة والتنمية، تعداد وإبراز هذه المواقف التي بات يعلمها الجميع، إلى محاولة فهم الأرضية التي تنطلق منها السياسة الخارجية التركية في وقوفها مع قضايا الأمة، وإعادة رسم دورها الإقليمي بوصفها مدافعاً عنها.

ومن هنا فإن البحث في أسباب ودوافع هذه العودة التركية للمنطقة منذ عام 2002 وحتى الآن، سيكشف لنا الباعث الحقيقي وراء المواقف التركية المتعددة في الدفاع عن القضايا العادلة لشعوب المنطقة.

وقد أسهم في إظهار وتبني هذه المواقف قاعدتان أساسيتان بنيت عليهما السياسة الخارجية التركية إزاء المنطقة، القاعدة الأولى هي النسق العقدي لحزب العدالة والتنمية ممثلاً بقادته وعلى رأسهم رجب طيب أردوغان. والثانية هي المصلحة السياسية التركية في أداء أدوارٍ أكثر فاعلية في المنطقة، بحيث تنقل تركيا من حالة الدولة المتأثرة والخائفة من الانتكاسات الأمنية والسياسية لمنطقة تعج بالفوضى إلى حالة الدولة المؤثرة واللاعب الإقليمي.

3-1- دور النسق العقدي في المواقف التركية من قضايا الأمة

مع أن حزب العدالة والتنمية لم يطرح نفسه بوصفه حزباً دينياً (إسلامياً) منذ تأسيسه عام 2001، فإن الجذور الإسلامية واضحة في تكوينه وخطابه السياسي وممارسته السياسية الداخلية والخارجية. فقد خرج حزب العدالة والتنمية إلى النور بعد تجارب حزبية وسياسية طويلة للحركة الإسلامية التركية ومن عباءتها، وفي حين حاول الحزب استخلاص نتائج المرحلة السابقة وطرح نفسه بوصفه حزباً محافظاً ديمقراطياً يتكون من نواة مركزية ذات مرجعية إسلامية إلى جانب تيارات قومية وليبرالية، وبذلك يمكن توصيف العدالة والتنمية بأنه حزب ديمقراطي ليبرالي على المستويين السياسي والاقتصادي ومحافظ على المستويين الاجتماعي والثقافي.

فالحزب الحاكم في تركيا لا يخفي مرجعيته وجذوره ، بل يحاول موائمة الموروث العقدي والتاريخي مع البيئة السياسية في تركيا ومحيطها، ما يفسر المواقف السياسية للحكومة التركية إزاء القضايا الشائكة في المنطقة وتوجهاته السياسية تجاهها، وبذلك إحالة مرجعية المواقف التركية الداعمة لقضايا الأمة إلى انسجامها مع النسق العقدي للحزب الحاكم وبنيته الثقافية والفكرية.

ويستمد حزب العدالة والتنمية بنيته الفكرية من جوانب متعددة ، أبرزها:

البيئة المجتمعية التركية: فمعظم قادة الحزب نشؤوا في بيئة اجتماعية محافظة ذات توجهات إسلامية، وانضووا تحت عباءة الحركة الإسلامية التركية. كما أن المجتمع التركي بقاعدته العريضة ورغم موجة العلمانية الجارفة لم يبتعد عن موروثه الثقافي الإسلامي ولم يتنكر لمبادئه الإسلامية.

التعليم الديني: يلحظ أن معظم قادة الحزب تخرجوا في ثانويات (إمام-خطيب) وأكملوا تحصيلهم الجامعي بعد أن أثرت فيهم تلك الثانويات التي تدرس العلوم الدينية إلى جانب العلوم التطبيقية والدنيوية.

التاريخ التركي: يمكن القول إن الحزب عامةً ومؤسسه رجب طيب أردوغان خاصةً متأثرون بعمق بالتاريخ التركي وخصوصاً التاريخ السلجوقي والعثماني، الأمر الذي يظهر بصورة متكررة في خطابات أردوغان ، فعلى سبيل المثال قال أردوغان ” تاريخ الأمة التركية لم يبدأ في 29 تشرين الأول عام 1923، يوم إعلان الجمهورية، بل إن هذا التاريخ امتداد لما سبقه. وقبل تسعة قرون كان بطل من الأناضول يخوض معركة مكلفة لحماية دمشق والقدس، إنه السلطان السلجوقي كيليتش أرسلان الذي بدأ من إزنيق معركة قهر الجيوش المعادية التي كانت تتقدم إلى القدس ودمشق. كان كيليتش أرسلان يرى في القدس ودمشق شرفه وكرامته، وكان يعمل ليحافظ، من الأناضول وإزنيق، على أمن القدس ودمشق”[44].

فالبعد التاريخي هو بعدٌ هوياتي إسلامي في منظور حزب العدالة والتنمية، وليس بعداً قومياً شوفينياً متعصباً، الأمر الذي يفسر الدفاع عن قضايا يعدها الحزب ضمن دائرة تكوينه الفكري والثقافي والتاريخي.

3-2-المصلحة السياسية التركية في أداء أدوارٍ أكثر فاعلية في المنطقة

تعد مسألة الهوية (إدراك الدولة أو الحزب لنفسه في مواجهة محيطه)، العنصر الفاعل في رسم السياسة الخارجية إلى جانب عوامل المصلحة والقدرة والتبعات المحتملة في انتهاج سياسة ما، وقد سبق مناقشة مسألة الهوية لدى حزب العدالة والتنمية، ويمكن إضافة نقطة أخرى في هذا الصدد تتعلق بالرؤية الوطنية للحزب وكوادره النابعة من القومية التركية بأبعادها التاريخية والثقافية إلى جانب الإسلام.

أما عوامل المصلحة السياسية في انتهاج سياسات الوقوف إلى جانب قضايا الأمة ، فيمكن استعراضها على الشكل التالي (بعد الأخذ بعين النظر طبعاً النسق العقدي والتاريخي والثقافي الذي ترتكز عليه هذه السياسات):

يعد الدكتور أحمد داوود أوغلو منظر السياسة الخارجية التركية، إذ يعتقد أوغلو أن بإمكان تركيا الاختيار بين ثلاثة أساليب للتعاطي مع المنطقة، وهي: الأول الابتعاد التام عن قضايا الشرق الأوسط ومشكلاته، الثاني تطوير سياسات متناغمة مع معسكر دولي ما وتجنب مخاطرة المبادرة منفردة في المنطقة، الثالث تطوير مقاربة تركية خالصة مركزها أنقره حول المنطقة وسياسة تركيا حيالها.[45]ومن الواضح للجميع أن الأسلوب الثالث هو المحدد العام للسياسة التركية ومواقفها إلى جانب قضايا الأمة.

يعاني الشرق الأوسط والمنطقة العربية على وجه التحديد من انهيار للنظام الإقليمي العربي، ما دفع تركيا لأن تضطلع بدور الثقل الموازي للدور الإيراني في المنطقة.

يعد تطوير العلاقات مع الدول في المنطقة مصلحة مشتركة للطرفين في المجالات الاقتصادية والسياسية والدولية.

وقد شكل موقف تركيا من الثورات العربية (الربيع العربي) نقطة جوهرية في سياستها الخارجية المتناسقة والمؤيدة لقضايا الأمة، إضافة لموقفها من “اسرائيل” وغزة والمقاومة في فلسطين.

وكانت المبادئ الثلاثة لحزب العدالة والتنمية من الثورات العربية، مهمة جدا بالنسبة لفهم موقف تركيا:

هذه المبادئ هي:

الحاجة للتغير في منطقتنا هي أمر أساسي، ولا يمكن أن تستمر الأنظمة التي تمارس الظلم على شعبها والتي تتبع الأساليب النخبوية والإقصائية، في الحكم في المنطقة.

يجب أن يضمن تنفيذ مسيرة التغيير هذه القاعدة الشعبية في أوسع أشكالها.

يجب تحمل مسيرة التغير، إرادة المجتمعات بكل أطيافها وتنسجم معها.

(المبدأ الاول هو إرادة التغيير والثاني هو الإرادة الشعبية والثالث هو السياسة المتعددة.)[46]

محاولات افشال تجربة العدالة والتنمية في الحكم وأسبابها

حقق حزب العدالة والتنمية نموذجاً فريداً للحكم في منطقة الشرق الأوسط برمتها، إذ زاوج بين الاهتمامات المحلية الداخلية ونقل تركيا في أقل من عقد من دولة غير مستقرة سياسياً، تتقاذفها الانقلابات وسيطرة العسكر على الحكم، ومهلهلةٍ اقتصادياً يسودها الفساد والتضخم، إلى دولة ديموقراطية مستقرة ذات اقتصادٍ قوي وبنية استثمارية ومالية رائدة على مستوى العالم.[47] وقد نجح الحزب أيضاً في إيصال تجربة الحزب ذي الجذور والميول الإسلامية إلى الحكم في قلعة من قلاع العلمانية الحادة في المنطقة، ما شكل حالة إزعاجٍ للكثير من القوى الإقليمية والدولية، وإذا ما أقررنا بحالة الحراك السياسي داخل تركيا وعزونا بعض المحاولات الداخلية لإبعاد العدالة والتنمية عن الحكم من منطلق أن ظروف الممارسة السياسية والحزبية في دولةٍ ديمقراطية تستدعي ذلك، إلا أن بعض هذه المحاولات يخرج عن إطار المنافسة السياسية ليدخل في إطار العمالة الواضحة للمشاريع الإقليمية والدولية. وتقسم محاولات إفشال تجربة العدالة والتنمية في الحكم إلى ثلاثة نطاقاتٍ أساسية هي:

4-1-المحاولات الداخلية

يتميز النظام السياسي في تركيا بديناميكية واضحة تؤدي الأحزاب والقوى السياسية دوراً كبيراً فيه، وتسهم قواعد الديمقراطية وآلياتها في إيجاد بيئة سياسية تمكن الأحزاب من تداول السلطة وفق قواعد الدستور والنظام الانتخابي التركي. ومع الإقرار بأهمية الآليات الديمقراطية والحريات وتأثيرها في بلورة نموذجٍ سياسي تركي ناجح في المنطقة، إلا أن بعض الجماعات السياسية تحاول استغلال المدى الديمقراطي وفسحة الحرية السياسية لإفشال تجربة العدالة والتنمية في الحكم من خلال الارتباط بنسقٍ خارجي وتقديم نفسها بوصفها رأس حربة في مشاريع إقليمية ودولية.

وبعد القضاء على فرص بعض القادة العسكريين في الانقلاب على العملية الديمقراطية وخيارات الشعب التركي، بدأ ما يعرف بالكيان الموازي (جماعة خدمة) بقيادة فتح الله كولن بمحاولة إرباك الحكومة التركية وقد بدا ذلك واضحاً في عددٍ من المواقف منها:

محاولة استدعاء رئيس الاستخبارات التركية هاكان فيدان أكثر من مرة أمام القضاء، حيث يتغلغل أعوان الجماعة والمحسوبون عليها.

الاتهامات والاعتقالات التي قام بها جهاز الجريمة المالية بحق عددٍ من رجال العمال والمسؤولين القريبين من الحكومة التركية، والحملة الإعلامية التي قادتها وسائل الإعلام التابعة للجماعة على حزب العدالة والتنمية والحكومة ورئيسها.

تغلغلها في أجهزة الشرطة والأمن والقضاء، وتنصتها على عددٍ كبير من المكالمات الهاتفية لمسؤولين حكوميين وساسة يقدر عددهم بأكثر من 7000 شخص.

تسريب تسجيلٍ لاجتماع ضم رئيس المخابرات التركية هاكان فيدان ووزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو ومستشار وزير الداخلية فريدون سينيرلي أوغلو والرئيس الثاني للأركان يشار غولير. وكان الاجتماع لبحث التدخل العسكري في سوريا على خلفية تهديد “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)” بالهجوم على مقام سليمان شاه شمال سوريا والذي هو تحت حماية الجيش التركي حتى الآن. الأمر الذي عدته الحكومة عملاً يهدد الأمن القومي التركي، ويعرض أمن البلاد للخطر.

ويمكن القول إن الحكومة وحزب العدالة والتنمية قد استوعبا الصدمة الأولى من هذه الأعمال، وبدأت الحكومة بحملة إعلامية وقضائية وسياسية ناجحة للتخلص من نفوذ الجماعة داخل أركان ومفاصل الدولة. وتكلل هذا النجاح في الانتخابات البلدية التي حقق فيها الحزب نصراً واضحاً رغم توقيت هجمة الكيان الموازي قبيل هذه الانتخابات، وأعقبها الحزب بنصرٍ واضحٍ أكبر بعد نجاح مرشحه رجب طيب أردوغان في الانتخابات الرئاسية في 10/8/2014.

ولا يخفى على المتابع للشأن التركي ارتباط هذه الجماعة وشراكاتها القديمة الممتدة في بعض دول الخليج العربي، إضافة إلى علاقاتها مع الدوائر الأميركية والإسرائيلية. الأمر الذي يفسر الانقلاب المفاجئ على الحكومة التي كانت متحالفة معها في الماضي القريب، بعد اتخاذها لمواقف واضحة فيما يخص الصراع العربي – الاسرائيلي، وقضية فلسطين، وهو ما صرح به علناً فتح الله كولن ، إذ أكد عدم رضاه ومعارضته للسياسة الخارجية التركية إزاء الثورات العربية، و”اسرائيل”، والمواقف التركية الداعمة لغزة. ومن بين هذه المواقف أيضاً معارضتها الشديدة لتولي هاكان فيدان مسؤولية الاستخبارات التركية الأمر الذي تلتقي فيه الجماعة مباشرة مع “إسرائيل”، وبدرجة أو بأخرى مع الولايات المتحدة الأميركية التي لا تخفي عدم رضاها عن جهاز الاستخبارات التركي ورئيسه.

4-2-المحاولات الاقليمية والعربية

لا يختلف اثنان بكل تأكيد على وجود محاولات حكومية ورسمية إقليمية -عربية لإفشال تجربة حزب العدالة والتنمية في حكم تركيا، ويظهر ذلك واضحاً في المواقف المعلنة أو التسريبات الصحفية أو التحليلات السياسية والإعلامية المرتبطة بدوائر بعض الدول العربية والإقليمية.[48] ويمكن إرجاع أسباب هذه المحاولات إلى ما يلي:

ظاهرة الإعجاب بالنموذج التركي في الرأي العام العربي، وهي ظاهرة تنقسم إلى منحيين الأول هو الإعجاب بالنموذج التركي الاجتماعي والسياسي الداخلي الذي تقدمه تركيا، والثاني هو الإعجاب بسياساتها الإقليمية المتقدمة على مختلف السياسات العربية في القضايا التي تهم الشعوب العربية. ولربما كان المنحى الأول أشد تأثيراً في الرأي العام العربي، وأكثر رسوخاً فالوعي السياسي للشارع العربي يكاد يجزم أن النموذج التركي يكاد يكون النموذج الوحيد في المنطقة الذي يتجه نحو المستقبل على كل الأصعدة: السياسية والاجتماعية والسياسية وليدفع تركيا لتبوُّء مكانة إقليمية ودولية بفعل عوامل الاقتصاد والاستقرار ومظاهر قوة الدولة المختلفة. الأمر الذي يدفع حكومات بعض الدول العربية إلى محاولة إفشال هذا النموذج في ظل عدم قدرتها البنيوية على تقديم نموذجٍ مشابه أو منافس لشعوبها.

شكلت المواقف التركية السياسية في دعم خيارات الشعوب العربية، ووقوفها إلى جانب حقوقها في مختلف القضايا بدءاً بفلسطين مروراً بخيارات الشعوب في الثورات العربية، وسياستها الإقليمية المستقلة والقوية عامل ضغطٍ شديد على حكوماتٍ ضعيفة ومهلهلة تنتظر رضا الدول الكبرى أو تسير في ركب معسكرٍ دولي ما ولا تجرؤ على مخالفة أو مناقضة سياساته في المنطقة ولو تعارض ذلك مع مصالحها الوطنية الكبرى.

خوف الأنظمة من الحركات أو الأحزاب ذات التوجهات الإسلامية، والتي قد تستلهم من النموذج التركي تصوراً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً لحل مشاكل الشعوب العربية، وتقديم نموذج عربي يحترم خيارات الشعوب وتراثها ومبادئها ويقدر على بناء دولة قوية، الأمر الذي يدفع هذه الدول لتقويض هذا النموذج قبل أن يتمكن من إشعال منارة الفعل السياسي في المنطقة.

ترى بعض الحكومات العربية ممن ترى في نفسها القوة والتأثير الإقليمي أن التوازن في منطقة الشرق الأوسط يخضع للمعادلة الصفرية عندما يتعلق الأمر بتركيا، ووفق هذا الفهم القاصر ترى هذه الحكومات أنه كلما ازدادت قوة الدولة التركية إقليمياً ودولياً ضعفت هذه الدولة أو تلك من الدول العربية التي تفكر وفق هذا المنطق. ولذلك يجب إفشال هذا النموذج التركي الجديد أو تحجيمه قدر الإمكان.

يمكن القول أيضاً إن محاولات إفشال النموذج التركي لا تتم فقط من قبل بعض حكومات الدول العربية، بل يساعدها في ذلك أو تلتقي مصالحها في ذلك مع نخبة ثقافية يسارية أو علمانية أو قومية أو طائفية متطرفة، بحيث يتم تسخير هذه الفئة للتقليل أو الهجوم على النموذج التركي من زوايا دينية أو قومية ذات نظرة ضيقة وشديدة التعصب مرتكزين في ذلك على قراءة تاريخية ودينية مشوهة.

كما أن بعض هذه المحاولات وهي الأكثر وضاعة، مرتبطة بأجنداتٍ دولية أخرى أو تلتقي معها، ويمكن تصنيف هذه الأجندات الدولية والإقليمية بالمحاولات الإيرانية أو الإسرائيلية أو الأميركية.

رغم تبادل الزيارات والعلاقات الاقتصادية بين كلٍ من تركيا وإيران، فإن التنافس الواضح على المنطقة بين الطرفين يضعنا أمام نقطة جوهرية لبحث العلاقات التركية-الإيرانية من منظور التنافس الذي يتسم بالعلن بالصبغة غير العدائية، وهو الأمر الذي يحافظ عليه كلا الطرفين. غير أن التصور الإيراني لمنطقة الشرق الأوسط يختلف ويتناقض مع التصور التركي في قضايا مفصلية، كما أن التاريخ والموروث الثقافي إضافة لموازين القوى الإقليمية ينتج سياسة إيرانية (فارسية) لا تستطيع تقبل دورٍ تركي أكبر في المنطقة مما يجعلها أحد أبرز سياسات بناء الدور الإقليمي والدولي التركي الأمر الذي يدفعها لانتهاج سياسات علنية تعاونية وأخرى سرية تآمريه تهدف إلى تقويض النموذج التركي بوصفه كلاً أو تحجيمه وحصره في نطاقات لا تتمتع فيها إيران بأي تأييد. فالنفوذ التركي في القوقاز وآسيا الوسطى والشرق الأوسط يهدد ركائز النفوذ الإيراني في هذه المناطق.

4-3-المحاولات الدولية

بالرغم من التاريخ الطويل لعلاقات التحالف بين الولايات المتحدة الأميركية وتركيا وعضويتها في حلف شمال الأطلسي، وما نتج عن هذا التحالف والعضوية من سياسات، فإن العلاقات بين الطرفين لم تكن علاقات تبعية واضحة وخصوصاً بعد انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفيتي، فقبل وصول حزب العدالة والتنمية للحكم بعقد، عارضت تركيا ما نتج عن حرب الخليج الثانية عام 1991، من إضعافٍ للدولة العراقية.

وبعد وصول حزب العدالة والتنمية للحكم لم توافق الحكومة التركية على استخدام أراضيها لمهاجمة العراق عام 2003، وأحالت القرار بذلك للبرلمان الذي رفض التعاون مع الولايات المتحدة في هذا المجال. هذه الخطوة دقت ناقوس الخطر في أروقة السياسة وصنع القرار الأميركي، فتركيا أصبحت تتبنى نهجاً متزايداً في الاستقلالية في سياستها الخارجية. ورغم ذلك تراوحت العلاقات بين الطرفين بين التحالف والتناقض نظراً لعوامل متعددة، فكلما انتهجت تركيا سياسات أكثر استقلالية بردت هذه العلاقات، الأمر الذي ترتب عليه محاولات أميركية لتحجيم هذه الاستقلالية من خلال التأثير في الحكومة في الداخل ودفع بعض الدول الإقليمية لموازنة النفوذ والاستقلالية التركية في المنطقة، محاولين استخدام ما يعرف بتوازن “بسمارك” في المنطقة والذي يقتضي أن تتوازن الدول الأساسية في المنطقة مع بعضها بحيث لا تستطيع دولة ما أن تعيد إنتاج مفاعيل حضورها الإقليمي بصورة تجعلها اللاعب الأساسي في المنطقة، وبذلك تحافظ الولايات المتحدة على قواعد اللعبة السياسية في المنطقة دون أن تتدخل بصورة مباشرة فيها.

ومع أن الإستراتيجية الأميركية لا تفضل انهيار النموذج التركي في الحكم، إلا أنها لا ترغب كذلك في وصول هذه النموذج إلى مستوى اللاعب الاقليمي المنفرد في المنطقة المحيطة بالجغرافيا التركية (المجال الحيوي التركي). ويتداخل هذا المجال الحيوي التركي بالمجال الحيوي الذي تراه أميركا مجالاً حيوياً لها في المنطقة (الشرق الأوسط – البلقان-القوقاز – الدول المحيطة بالبحر الأسود)، لما تشكله هذه المنطقة من أهمية إستراتيجية وحيوية للولايات المتحدة من منطلق التأثير في منافسيها الدوليين (روسيا والصين) في هذا المجال الحيوي شديد التعقيد والأهمية لكل اللاعبين الدوليين.

ولذلك تحاول الولايات المتحدة التأثير في تركيا لأداء أدوارٍ أكثر اتساقاً مع الرؤية الأميركية، وعند تبني السياسة الخارجية التركية لمواقف لا تنسجم مع الرؤية الأميركية أو تتعارض معها تحاول الولايات المتحدة افتعال بعض المشاكل لتركيا للتأثير في قراراتها الإستراتيجية.

وبالرغم من ذلك ما تزال السياسية الخارجية التركية تنحو باتجاه مزيدٍ من الاستقلالية في إطار التعاون الدولي مع اللاعبين الدوليين والإقليميين ضمن توجهٍ إستراتيجي واضح يحافظ على مكانة ومصالح الدولة التركية.

خاتمة وتوصيات

تبرز أهمية دراسة النظام السياسي في تركيا من عاملين، أولهما مفهوم النظام السياسي بوصفه مفهوماً مجرداً يعني النظم الاجتماعية التي تتمثل في شكل مؤسسي وقانوني يسمى “الدولة”، وبالتالي فدراسة النظام السياسي لا تعني دراسة نظام الحكم بحسب بعض المدارس الحديثة في دراسة النظم السياسية المقارنة. وعليه فإن دراسة النظام السياسي في تركيا خرجت من إطار الدراسة لشكل نظام الحكم إلى بحث مجموعة العوامل الاجتماعية والثقافية والتاريخية والحزبية والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية في إنتاج الشكل الحالي لنظام الحكم في تركيا. والثاني هو أهمية معرفة التسلسل التاريخي الذي قاد الحركة السياسية التركية إلى شكلها الحالي والفاعليين الأساسيين فيها.

ولذلك يمكننا القول إن التحول في شكل النظام السياسي التركي وماهيته هو تحول استمر منذ سقوط الخلافة العثمانية، ليستقر على الشكل الحالي من النظام السياسي وهي أطول مدة استقرار في تاريخ الدولة التركية الحديثة، يقترب فيها حزب العدالة والتنمية الحاكم من توصيف الحركة التاريخية والاجتماعية في تشابه كبير إلى حدٍ ما من الحركة التاريخية التي مثلها السلاجقة أو العثمانيين. ويتضح ذلك من خلال عاملين هما، النتائج الكبيرة التي حققها الحزب على ساحة العمل السياسي داخل تركيا، والنموذج الذي شكله نجاح هذا الحزب على المستوى الداخلي إضافة لسياسته الخارجية على مستوى الإقليم والأمة.

ورغم التحديات الكبيرة التي تعترض تواصل مسيرة نجاح هذا النموذج على المستوى الداخلي والخارجي فإن عوامل النجاح تكاد تكون أضعاف محاولات إفشال النموذج، وخصوصاً بعد نجاح مؤسس الحزب رجب طيب أردوغان في الانتخابات الرئاسية ليصبح أول رئيسٍ لتركيا يدخل القصر الرئاسي من بوابة الإرادة الشعبية. الأمر الذي سينعكس في المستقبل ولا شك على قوة الحزب على مستوى الانتخابات النيابية العام القادم، وعلى مستوى التعديلات الدستورية التي يمكن أن تفرز شكلاً جديداً لنظام الحكم في تركيا.

ولكن، لا بد هنا من الاشارة إلى بعض النقاط التي تشكل برأينا نقاطاً يجب التنويه بها:

شكل الرئيس رجب طيب أردوغان محور حركة الحزب الشعبية والفكرية في الأعوام السابقة، وهو بلا شك أمام تحدٍ مستقبلي يتوجب عليه الاستجابة له وهو ديناميكية إفراز قيادات جديدة تملأ الفراغ الكبير في رئاسة الحزب ومؤسساته وقدرته على حشد الالتفاف الشعبي وتقديم برامج تضمن استمرار الحركية التاريخية للحزب.

تشكل ظاهرة المعارضة التركية الحالية الضعيفة والمهلهلة والمرتبط بعضها بالخارج تحدياً آخر أمام حزب العدالة والتنمية، فعندما تكون المعارضة بهذا الشكل من الضعف والارتباط الخارجي فهي تشكل عبئاً على العملية الديمقراطية في تركيا. ومن نافل القول أن وجود معارضة وطنية في أي نظام يشحذ من رؤى الحزب الحاكم ويدفعه باتجاه التحسين والتطوير المستمر. أما هذا الشكل من المعارضة فقد يفرز على المدى الطويل عملية تآمريه مرتبطة، ما يدفع الحزب الحاكم إلى مواقع التشدد والاستئصال لها وهو أخطر ما قد يواجه التجربة التركية الحالية.

أهمية تقوية وتفعيل وتحديث الإعلام التركي الناطق بالعربية، فالإعلام التركي الحالي لا يعكس أهمية النموذج كما أنه لم يلق الاهتمام العربي المطلوب، ولا يستطيع التصدي لأباطرة الإعلام العربي التآمري ضد تركيا الجديدة. ولذلك يتوجب تفعيل هذا الإعلام من ناحية وإيجاد منصات إعلامية يمكنها التصدي للهجوم الإعلامي الكبير على هذه التجربة التركية، وتستطيع أن تعكس البعد الذي يمثله النموذج التركي الحالي.

تشكل السياسة الخارجية التركية ومواقفها تجاه قضايا الأمة أحد أعمدة التأييد في الرأي العام العربي خصوصاً للنموذج التركي، وهي ستلقي بأعباء إضافية على تركيا، الأمر الذي يتوجب بناءً عليه العمل على تقوية هذا النموذج انطلاقاً من منطقتنا، وليس أفضل من إيجاد نموذجٍ يستلهم روح ونجاح التجربة التركية في دولةٍ عربية ما، ليؤكد أن هذا النموذج التركي ليس عملية طارئة بل هو سياقٌ تاريخي سيكتب له النجاح. أما دعم التجربة التركية عبر الأقوال دون الأفعال فهي مضيعة للوقت وجهدٌ لن يأتي بأي ثمرة.

رغم أهمية دعم النموذج بنموذجٍ مشابه، فإن المسؤولية الكبرى على عاتق مثقفينا وباحثينا وسياسيينا تكمن في فضح المؤامرات التي تحاك ضد النموذج التركي، بأسلوب واعٍ ومدروس، وحشد الرأي العام معه وتشكيل حراكٍ سياسي وشعبي يدعمه ويقف في صفه.

إن المسؤولية الكبرى الآن تقع على عاتق حركات الاسلام السياسي في منطقتنا، وذلك لأهمية اللحظة التاريخية وعظم التحديات، فتطوير هذه الحركات لنفسها وبناء تجربة سياسية شعبية حقيقية هو واجب هذه الحركات التي يجب عليها الإفادة من تجربة حزب العدالة والتنمية وليس استخدام أسماء مشابهة فقط.

15/ 8 / 2014م

[1]يلماز أوزتونا، تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة عدنان محمود سلمان، المجلد الأول، منشورات مؤسسة فيصل، استانبول، 1988، ص 7.

2 Kemal H. Karpat, Arnold Toynbee, The Ottoman State and its Place in the World History, E.J.Brill, Leiden, 1974, p 15-18.

[3]للمزيد حول الحروب والمعاهدات الروسية العثمانية راجع: عبد الرؤوف سنو، العلاقات الروسية العثمانية سياسة الاندفاع نحو المياه الدافئة، مجلة تاريخ العرب والعالم، العدد 73-74، بيروت، 1984، ص 48-61.

[4]للمزيد حول الحالة العدائية للدولة الصفوية ومن ثم القاجارية تجاه الدولة العثمانية وتأثيرها راجع: نادية محمود مصطفى، خبرة العصر العثماني من القوة والهيمنة إلى المسألة الشرقية، دراسة بحثية، ص 46- 49.

[5]يلماز أوزتونا، تاريخ الدولة العثمانية، مرجع سابق، ص 284.

[6]للمزيد حول التنظيمات العثمانية راجع: وجيه كوثراني، التنظيمات العثمانية والدستور بواكير الفكر الدستوري، مجلة تبين، العدد 3 شتاء 2013، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة ، آذار 2013، ص 7-22.

[7]للمزيد حول هذه القضية ووجهات النظر المختلفة حولها راجع: يلماز أوزتونا، تاريخ الدولة العثمانية، الجزء الثاني، مرجع سابق، ص 247- 253.

[8]محمد نور الدين، تركيا الجمهورية الحائرة، مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق، بيروت، 1998، ص 25.

[9]للاطلاع على بعضٍ من هذه الاجراءات راجع: رضا هلال، السيف والهلال تركيا من أتاتورك إلى أربكان، دار الشروق، القاهرة، 199، ص 85.

[10]المرجع السابق، ص 64.

[11] رضا هلال، المرجع السابق، ص 15.

[12]للمزيد حول التوجهات الاسلامية لهذه الحكومة راجع: محمد نور الدين، قبعة وعمامة مدخل إلى الحركات الاسلامية في تركيا، دار النهار، بيروت، 1997، ص 21-22.

[13]راجع المواد 13، 14، قبل تعديلها عام 2001، الدستور التركي.

[14]رضا هلال، السيف والهلال، مرجع سابق، ص 147.

[15]للمزيد حول هذه الاجراءات والسياسات المتبعة من قبل الحكومات المختلفة خلال هذه الفترة راجع:

Angel Rabasa , Stephen Larrabee, The Rise of Political Islam In Turkey , RAND Corporation, Arlington, 2008, 2008, p 36-42.

[16]للمزيد راجع: رضا هلال، السيف والهلال، مرجع سابق، ص 153-155.

[17]حسين بسلي و عمر أوزباي، رجب طيب أردوغان قصة زعيم، ترجمة طارق عبد الجليل، الدار العربية للعلوم، بيروت، 2011، ص 123.

[18]رضا هلال، السيف والهلال، مرجع سابق، ص 169.

[19]للمزيد حول التوترات بين أجنحة حزب الرفاه، راجع: حسين بسلي، رجب طيب أردوغان قصة زعيم، مرجع سابق، ص 291-296.

[20] يرى بعض الباحثين الأتراك أن نشأة الدولة العميقة بدأت مع نشوء جمعية الاتحاد والترقي، وبعضهم الآخر يعيد نشأة الدولة العميقة التركية إلى مرحلة التنظيمات في الدولة العثمانية بين عامي 1839-1876.

[21]للمزيد حول التأثير الأجنبي ونشاطات الجريمة المنظمة وعلاقتها بالدولة العميقة في تركيا راجع:

Patrick H. O’Neil, The Deep State: An Emerging Concept in Comparative Politics, University of Puget Sound, Draft Paper: August 2013, p 11-14.

[22]www.bbc.co.uk/arabic/midlle_east 1/6/2008.

[23]تشير تسمية الشبكة “أرجينيكون” إلى دلالات قومية متطرفة فهي تحمل اسم الوادي السحيق الذي حوصر فيه الاتراك ودلتهم ذئبة على طريق الخروج منه ليستمروا في الحياة. ويرتبط هذا الاسم باسم مجموعة الذئاب الرمادية التي نشطت في سبعينات وثمانينيات القرن الماضي وكان لها نشاطاتٌ جرمية متعددة من بينها عمليات اغتيال لسياسيين. للمزيد راجع:

H. Akin Unver, Turkey’s “Deep-State” and the Ergenekon Conundrum, The Middle East Institute Policy Brief, No. 23, April 2009, p 2.

[24]للمزيد حول اسماء المنظمات المشابه في الدول الأوربية الأخرى راجع:

H. Akin Unver, Turkey’s “Deep-State” and the Ergenekon Conundrum, The Middle East Institute Policy Brief, No. 23, April 2009, p 6-7.

[25]ولد فتح الله كولن (خوجا أفندي) في مدينة أرضروم عام 1942، عمل في تدريس القرآن، عام 1968 في أحد المراكز الدينية في أزمير، تأثرت بنيته الفكرية بالمدرسة النورسية (سعيد النورسي) وعمل على شرح كتابه رسائل النور. غادر تركيا عام 1990 ويعيش حالياً في الولايات المتحدة الأميركية.

[26]للمزيد حول توزع هذه المدارس خارج تركيا راجع: طلال يونس الجليلي، قراءة في أفكار النخبة السياسية التركية، دون دار نشر، الموصل 2006، ص 111-114

27 Carol Migdalovitz, Turkey: Politics of Identity and Power, Congressional Research Service, R41368, 2010, p21.

[28]جماعة كولن لديها مشروع يهدف إلى التغلغل في المؤسسات الحكومية وأجهزة الدولة. وفي شريط مسرب قديم للقاء جمع كولن مع أقطاب جماعته، يحث فتح الله كولن أتباعه على التخفي وعدم الظهور قبل أن يتمكنوا من السيطرة على جميع الأجهزة والمؤسسات الاستراتيجية، وكذلك يطلب منهم “شراء قضاة” لكسب القضايا في المحاكم.

29 Carol Migdalovitz, Turkey: Politics of Identity and Power, Congressional Research Service, R41368, 2010, p21-22.

[30]سيتم التطرق لهذا التحالف لاحقاً…

31 Hans M. Kristensen, “NRDC: U.S. Nuclear Weapons in Europe” , Natural Resources Defense Council, 2005.

[32]http://en.wikipedia.org/wiki/National_Intelligence_Organization_(Turkey)

[33]http://t24.com.tr/haber/mitin-personel-sayisi-ilk-kez-aciklandi/251793

[34]http://www.noonpost.net/26/4/2014

34 A quiet revolution: Less power for Turkey’s army is a triumph for the EU”, Financial Times (editorial), July 31, 2003

34 European Commission, Regular Report on Turkey’s progress towards accession, November 5, 2003

[37] تحدي الصلاحيات خيارات أردوغان في معركة الرئاسة، مركز الجزيرة للدراسات، 3 أيار 2014، http://studies.aljazeera.net

[38]حنا عزو بهنان، موقع رئيس الجمهورية في صنع القرار في تركيا، مركز الدراسات الاقليمية، جامعة الموصل، دون دار نشر، ص 15.

[39]الاحصاءات الواردة في هذه الفقرة مأخوذة من مصادر متعددة منها: معهد الاحصاء التركي، مؤسسة الاحصاءات الرسمية للاتحاد الأوربي Eurostat، الإدارة العامة للشؤون المالية والاقتصادية في المفوضية الأوروبيةECFIN. كما أن الأرقام الواردة في هذه الفقرة هي بالدولار الأميركي.

[40]http://www.invest.gov.tr/ar-SA/turkey/factsandfigures/Pages/TRSnapshot.aspx

41 Murat Yeşiltaş, Ali Balcı, A Dictionary of Turkish Foreign Policy in the AK Party Era A Conceptual Map, Republic of Turkey Ministry of Foreign Affairs Center for Strategic Research (SAM), Ankara, 2013, p 7.

[42]http://www.mfa.gov.tr/arabic.en.mfa

[43]http://www.aljazeera.net/knowledgegate/opinions/2014/1/21

[44]عن صحيفة السفير 28 / 6/ 2012، في منتديات روسيا اليوم، .http://arabic.rt.com/forum/showthread.php/184310

[45]أحمد داوود أوغلو، سياسة تركيا في الشرق الأوسط والعلاقات التركية -المصرية، مجلة شرق نامه، مركز الشرق للدراسات الاقليمية والاستراتيجية، عدد خاص، 2010، ص 13.

[46]http://www.akparti.org.tr/arabic/akparti/2023-siyasi-vizyon#bolum_ رؤية حزب العدالة والتنمية حول السياسة والعالم.

[47]للاطلاع على الانجازات الدستورية القانونية والاجتماعية والثقافية التركية لتجربة حزب العدالة والتنمية في الحكم بين عامي 2002-2012 راجع:

الثورة الصامتة: حصاد التغيّر والتحول الديمقراطي في تركيا 2002-2012، رئاسة وزراء الجمهورية التركية،مستشارية النظام العام والأمن، 2013.

[48]نشرت بعض وسائل الاعلام الالكترونية تفاصيل اجتماعات سرّية احتضنتها مدينة العقبة الأردنية، وحضرها داعمو الانقلاب العسكري في مصر، وهم ملك الأردن عبد الله الثاني والأمير السعودي بندر بن سلطان بالإضافة إلى ولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ومدير المخابرات المصرية محمد تهامي.

وقالت مصادر دبلوماسية مطلّعة على تفاصيل الاجتماعات إن ممثل الإمارات أكد أن بلاده سحبت جزءً كبيراً من استثماراتها في اسطنبول وأنقرة، والتي كانت تقدر بعشرات ملايين الدولارات، احتجاجا على رفض الحكومة التركية الاعتراف بالانقلاب العسكري في مصر. وكشف بن زايد خلال الاجتماعات أن بلاده قدمت دعماً مالياً ضخماً لصالح مجموعات سياسية معارضة لأردوغان، لا سيما حزب العمال الكردستاني، وجماعة فتح الله كولن وأحزاب وأقليات تركية.

كما تم تداول معلومات سرية مفادها أن بشار الأسد طرح على روسيا وإسرائيل صفقة تضمن تحويل “حزب الله” اللبناني إلى كيان سياسي منزوع السلاح، وإيجاد حل نهائي يضع حداً للملف النووي الإيراني المتنازع عليه إقليمياً، والعمل على إطاحة الحزب الحاكم في تركيا، وذلك في سبيل البقاء في السلطة.

وأشارت الصفقة إلى ضرورة دعم المعارضة السياسية في تركيا، وخلق مشاكل وأزمات حياتية داخل المدن والأقاليم التركية من خلال دعم حزب العمال الكردستاني والطائفة العلوية، وصولا إلى الإطاحة برئيس الوزراء رجب طيب أردوغان وحزبه الحاكم.

وكشفت وسائل اعلامٍ غربية، تفاصيل لقاء سرّي عقد في تشرين الأول 2013، بمعهد (امبريال كوليج) بالعاصمة البريطانية لندن، بدعوة من مركز الامارات للدراسات الاستراتيجية الذي تموله وزارة الدفاع الإماراتية، ضم عدداً من الأكاديميين العرب ومسؤولون أمنيين إسرائيليين، إضافة إلى ديبلوماسيين غربيين سابقين، للبحث في كيفية مواجهة آثار الربيع العربي وإمكانية إغراق تركيا بالفوضى، احتجاجاً على مواقف الحكومة التركية المؤيدة لثورات الشعوب العربية.

 

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى