تطور و تحول العلاقات الأمريكية – الروسية

لقد شهدت العلاقات الروسية الأمريكية عبر تاريخها تبيان طبيعة هذه العلاقات بين علاقات صراع – تنافس – تحالف – شراكة منذ عهد روسيا القيصرية مرورا بالاتحاد السوفييتي وتفكك هذا الأخير في بداية التسعينات.

وقد أدخل تفكك الاتحاد السوفيتي بيانات جديدة على صعيد العلاقات الروسية – الأمريكية، فروسيا (وريثة الاتحاد السوفيتي السابق)، التي ورثت معظم ما كان للاتحاد السوفيتي وعليه، انتهجت سياسة جديدة قوامها الاتجاه نحو الغرب بصفة الشراكة، وليسر بصفة القوة المضادة، رغبة من القائمين على القرار الروسي بكسب منافع محددة، اعتقادا بأن الشراكة مع الغرب ستخرج روسيا من ضائقتها الاقتصادية، وهي الضائقة التي كانت السبب الأساس في تفكك القوة العظمى السابقة، حينما أدى سباق التسلح مع الولايات المتحدة إلى نتائج كارثية على الاقتصاد السوفيتي. من هنا، حدث التحول في العلاقات الروسية -الأمريكية، فبعد أن كان الصراع هو محور العلاقات بينهما، أضحى “التعاون” هو العلامة المميزة التي أريد لها أن تطبع العلاقات البينية. وطوال المدة الممتدة منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، وحتى بدايات القرن الحالي، ظلت العلاقات الروسية -الأمريكية أقرب إلى التعاون من الصراع.

‏إلا أن العلاقات الروسية -الأمريكية ما لبثت أن شهدت تحولا جديدا، هذه المرة من ‏التعاون نحو التنافس، وليسر نحو الصراع، كما كان أيام الاتحاد السوفيتي، إذ ارتفعت مقدرات القوة الروسية بعد أن حقق الروس نجاحات اقتصادية عديدة، كما ارتقى نمط القيادة الروسية الجديد فوق “أزمة القيادة”، التي عانتها روسيا طويلا، مما أدى إلى أن تبحث روسيا عن دورها الذي أفل بعد تفكك الاتحاد السوفيتي. والبحث عن الدور الروسي هو ما أدى إلى تحول جديد في العلاقات كانت له مسبباته ونتائجه، وهو الأمر الذي سيناقش في ثنايا هذا البحث.

كما أن تفكك الاتحاد السوفيتي أدخل بيانات جديدة على صعيد العلاقات الروسية – الأمريكية، فروسيا (وريثة الاتحاد السوفيتي السابق)، التي ورثت معظم ما كان للاتحاد السوفيتي وعليه، انتهجت سياسة جديدة قوامها الاتجاه نحو الغرب بصفة الشراكة، وليسر بصفة القوة المضادة، رغبة من القائمين على القرار الروسي بكسب منافع محددة، اعتقادا بأن الشراكة مع الغرب ستخرج روسيا من ضائقتها الاقتصادية، وهي الضائقة التي كانت السبب الأساس في تفكك القوة العظمى السابقة، حينما أدى سباق التسلح مع الولايات المتحدة إلى نتائج كارثية على الاقتصاد السوفيتي. من هنا، حدث التحول في العلاقات الروسية – الأمريكية، فبعد أن كان الصراع هو محور العلاقات بينهما، أضحى “التعاون” هو العلامة المميزة التي أريد لها أن تطبع العلاقات البينية. وطوال المدة الممتدة منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، وحتى بدايات القرن الحالي، ظلت العلاقات الروسية – الأمريكية أقرب إلى التعاون من الصراع.

‏إلا أن العلاقات الروسية – الأمريكية ما لبثت أن شهدت تحولا جديدا، هذه المرة من ‏التعاون نحو التنافس، وليسر نحو الصراع، كما كان أيام الاتحاد السوفيتي، إذ ارتفعت مقدرات القوة الروسية بعد أن حقق الروس نجاحات اقتصادية عديدة، كما ارتقى نمط القيادة الروسية الجديد فوق “أزمة القيادة”، التي عانتها روسيا طويلا، مما أدى إلى أن تبحث روسيا عن دورها الذي أفل بعد تفكك الاتحاد السوفيتي. والبحث عن الدور الروسي هو ما أدى إلى تحول جديد في العلاقات كانت له مسبباته ونتائجه، وهو الأمر الذي سيناقش في ثنايا هذا البحث.

أولا: التحول في العلاقات الروسية الأمريكية (1991-1999)

سقط الاتحاد السوفييتي مطلع التسعينات، وتحديدا 1991م، ونشأ عن تحلله مجموعة دول مستقلة أكبرها روسيا ثم أوكرانيا وكازاخستان واستونيا ولاتفيا وليتوانيا، ودول منها انضمت للاتحاد الأوروبي كبولندا والمجر.
 


(دول الاتحاد السوفييتي منفصلة)

 ورغم اندحار الأيديولوجيا كثيرا بعد الحرب، والتي كانت عنوان الصراع بين البلدين طوال فترة الحرب الباردة، أصبحت المصالح الجيوبوليتيكة وموازين القوى الدولية العنوان الأبرز للتنافس والصراع الثنائي.

أما العداوة فتتركز غالبا في رغبة الولايات المتحدة في إقامة علاقات ثنائية وثيقة مع الدول الغربية مبنية على الهيمنة والحلول أحادية الجانب، دون أي اعتبار للجانب الروسي

التكاتف في مواجهة الانتشار النووي المدمر

كونهما أكثر وأقدم دول العالم امتلاكا للأسلحة النووية، فإليهما يعزا انتشار هذه الأسلحة، والمعروفة بأسلحة الدمار الشامل. وعليهما أيضا يقع عبء الحد منها ومنع انتشارها لمنع المزيد من الخراب والدمار. ودائما ما كان الحديث عنها يستحضر إلى الأذهان مأساة هيروشيما وناجازاكي، وكذلك الأزمة الكوبية التي كانت على وشك إحراق الولايات المتحدة.

الخطوة الأولى فى هذا الاتجاه اتخذها جورج بوش الأب ونظيره غورباتشوف 1991م، بتقليص الأسلحة النووية لـ 6000 قطعة لكل منهما. (هذا العدد كبير جدا لكن بالنظر لكونه أول اتفاق بهذا الشأن. وجاء مباشرة مع انتهاء الحرب الباردة فهو يعد إنجازا كبيرا للبلدين اللتين كانتا تملكان 13,000 قطعة للجانب الأمريكي و11,000 قطعة للجانب الروسي)

الاتفاق الثاني كان بين الرئيس يلتسن ونظيره الأمريكي كلنتون 1993م، لتقليص القدرات النووية العسكرية لـ 3000 قطعة. وفي 2002م وصل الاتفاق لـ 1700 قطعة.

‏كان السوفيت منذ بداية القرن العشرين متشبثين بالأيديولوجيا، بينما كان الغرب أساسا متمسكا بالطابع البراغماتي. أما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، فقد تحول الروس إلى رأسماليين بدائيين، مستعدين لأن يسلكوا أي طريق. وبعد سقوط جدار برلين عام 1989، عقدت الحكومات الغربية عددا كبيرا من اتفاقيات الشراكة مع خصومها الشيوعيين السابقين، في محاولة منها لنقل قيمها ونفوذها إلى ما وراء أنقاض الجدار، وكانت تأمل في أن تنضم بعض البلدان بسرعة إلى أوروبا[1].
‏كانت القيادة الروسية الجديدة التي جاءت إثر تفكك الاتحاد السوفيتي، وهي قيادة بوريس يلتسن، تنظر إلى العلاقات الجديدة مع الغرب، وفقأ لهذه النظرة، ولذلك نجد أنها حاولت الظهور بمظهر القيادة الليبرالية أمامه، وعرضت على أنها الشريك الجديد له، وقد ارتضت بذلك لروسيا دورا إقليميا بدل الدور العالمي الذي كان للاتحاد السوفيتي السابق[2].
‏لقد خلق تفكك الاتحاد السوفيتي وضعا سياسيا جديدا لدى روسيا، الأمر الذي أدى إلى حدوث تغيرات سياسية مهمة على الصعيدين الداخلي والخارجي. إن تأثير السياسة الداخلية في سياسة روسيا الخارجية كان واضحا عبر التحول الذي شهدته السياسة الروسية في تعاملها مع الولايات المتحدة، إذ تحولت السياسة الروسية تحولا كاملا من طرف مناوئ للولايات المتحدة إلى طرف يطرح نفسه تابعا لها. وقد كان هذا انعكاسا للتغيرات والتحديات من البرلمان الروسي الذي تنافست فيه ثلاث مجموعات على السلطة[3]:

1 ‏- المجموعة الأولى

‏كانت تدعم سياسة يلتسن التابعة للولايات المتحدة، التي قامت على أساس علاقات جيدة مع الغرب وإسرائيل، والدعم الكبير لعمليات الخصخصة، والتحول إلى اقتصاد السوق في الاقتصاد الروسي. وقد كان لتلك التوجهات آثارها السلبية في قضايا المنطقة العربية، ولا سيما في ما يتعلق بدعم العقوبات المفروضة على العراق.
2 ‏- المجموعة الثانية

‏تؤيد التركيز على سياسة روسيا الأورو- آسيوية في السياسة الخارجية، أي التركيز على إقامة علاقات جيدة مع الشرق الأوسط والصين، فضلا على العلاقات مع الغرب. كما تدعم تقوية العلاقات مع دول الجوار، ومع الإصلاحات، ومع الخصخصة البطيئة للاقتصاد الروسي.

3 ‏- المجموعة الثالثة

‏تجمع القوميين والشيوعيين، وعلى رغم اختلافهم، فإن ما يجمعهم هنا الوقوف بقوة مع إقامة سلطة مركزية قوية في روسيا، وعلى أن تلعب روسيا دور القوة العظمى، وتواجه الولايات المتحدة، والوقوف مع إيران والعراق، والدعوة إلى إعادة سيطرة روسيا على جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق.
‏وغير بعيد عما تقدم، وفي محاولة الابتعاد عن الماضي الشيوعي، مع الإبقاء على نمط معين من العلاقات الودية مع أبرز الحلفاء السابقين، ظهرت ثلاثة توجهات داخل الطبقة السياسية الروسية لكيفية وشكل التوجه الروسي الخارجي للمرحلة المقبلة، وهي توجهات تكاد تتشابه إلى حد كبير مع المجموعات الثلاث التي سبقت الإشارة إليها. وهذه التوجهات هي:

‏- التوجه الأول: يركز على العلاقة مع الدول الغربية، وينظر إلى الغرب كشريك محتمل أو فعلي، وأن روسيا دولة أوروبية وجزء من الحضارة الغربية.
‏- التوجه الثاني: يركز على الامتداد الأورو- آسيوي.
‏- التوجه الثالث: ينظر بعدائية إلى الغرب، ويرى فيه مهددا لأمن روسيا القومي، وعاملا قويا يدفع بروسيا نحو التفكك، وتحقيق امتيازاته على حساب المصلحة القومية الروسية.

‏وعليه، وبناء على ما يراه أصحاب التوجه الأول، فإن مصالح روسيا تكمن في التحالف مع الغرب، والاندماج في هياكله الاقتصادية والسياسية. ولأن الرئيس الروسي يلتسن كان من دعاة هذا التوجه، فقد اتجه بالعلاقات الروسية – الأمريكية وجهة جديدة تماما، قوامها أن روسيا شريك لأمريكا، وليست عدوا[4]. ويبدو أن السبب الأساس لموقف يلتسن هو إعادة ‏بناء الاقتصاد الروسي المنهار عبر الدعم الاقتصادي الأمريكي والأوروبي، ولذلك طرح يلتسن فكرة الشراكة الاقتصادية مع الأوروبيين.

‏وفي الداخل الروسي، قوبلت سياسات يلتسن بمعارضة شديدة، إلا أنه وجد حليفا له مؤيدا لتوجهاته، وهو أندريه كوزيريف، وزير الخارجية الذي أيد توجهات يلتسن نحو الغرب، والتعامل معه من مبدأ الشراكة، كما أيد إتباع سياسات اللبرلة بالصدمة[5]، والخصخصة، وهو الأمر الذي حذر منه خبراء روس بوصفه عاملا للانهيار، وليس تحولا مدروسا سيؤتي نتائجه سريعا[6].
‏وبتحديد أهداف السياسة الخارجية الروسية، انتصر الاتجاه الداعي إلى التحول في العلاقات مع الولايات المتحدة والغرب من الصراع إلى التعاون. وقد عبرت مجموعة خطوات اتخذتها الحكومة الروسية تمام التعبير عن هذا التوجه، وهي[7]:

‏أ – إسراع روسيا إلى الانضمام إلى المؤسسات الغربية الاقتصادية والسياسية.
‏ب – التوافق مع الغرب في القضايا ذات الأهمية للطرفين، في محاولة لجعل الغرب يتقبل روسيا كدولة صديقة بعد الحرب الباردة، باتخاذها مواقف ضد الدول الحليفة السابقة لروسيا، ومنها العراق وصربيا.
‏ج – التعامل مع أوروبا في إطار السياسة الأوروبية لروسيا، وعدم وجود سياسة روسية متميزة تجاه دول شرق أوروبا، ومواصلة عملية سحب القوات الروسية منها[8].
‏د – المضي قدما في محادثات نزع السلاح، بعد أن رأت روسيا أن لا إمكانية لديها من استمرار إنتاجه، أو تحمل تكاليف تحديثه وإدامته.
‏هـ- على مستوى العلاقات الثنائية، حظيت الدول الغربية بالاهتمام الأكبر، وكانت أولى الدول التي قام الرئيس يلتسن بزيارتها عقب الانهيار السوفيتي في محاولة لجذب المساعدات والاستثمارات الغربية.

‏على الجانب الآخر، رأت الولايات المتحدة في التوجه الروسي استسلاما وإعلانا بالخسارة في الحرب الباردة، وقد وقف جورج بوش الأب منتشيا بالنصر، وهو يعلن أمام الأمم المتحدة عن بداية عصر جديد تقوده الولايات المتحدة وحدها دون منازع، وترى فيه روسيا أشبه بقوة إقليمية ليست لديها الإمكانية للتحدث عن دور عالمي، فهي حتى لم تعد قوة كبرى يعتد بها. ولذلك كان أبرز أسباب فشل التوجه الروسي هو أن الولايات المتحدة لم تساند روسيا في توجهها الجديد، بل عمدت إلى محاولات إضعاف الجسد الروسي عبر تعزيز الدعم الاستخباري للمقاتلين الشيشان في معركتهم للانفصال عن روسيا، وكذلك تطويق روسيا في آسيا الوسطى وبحر قزوين، فضلا على تجاهل الرغبة الروسية في أن تصبح روسيا شريكا لها. ومن هنا، فإن علاقات روسيا بالولايات المتحدة لم تتعد حدود العلاقات السياسية الودية لإنهاء مظاهر الحرب الباردة أساسا، ولم تصبح الولايات المتحدة أحد الشركاء الاقتصاديين الرئيسيين لروسيا، إذ إن حجم التبادل التجاري بين روسيا والولايات المتحدة ظل محدودا عندما حلت الأخيرة ضمن الأمريكيتين في المرتبة الرابعة بين الشركاء التجاريين لروسيا بعد أوروبا ودول الكومنولث والدول الآسيوية[9].

‏ولكن، وللأسباب الواردة، وعلى رغم كل محاولات التقارب مع الغرب، فإن المساعدات الغربية لروسيا ظلت محدودة، بل استمرت السياسات الأمريكية عدائية تجاه روسيا، وهو ما ولد بالنتيجة بحثا روسيا جديدا لإعادة تعريف علاقاتها مع الولايات المتحدة، فكان بداية التحول الذي توضح جليا بعد وصول الرئيس فلاديمير بوتين إلى السلطة في روسيا.
‏ووفقا لما تقدم، فقد ساعدت عوامل عديدة في اتجاه الابتعاد عن السياسة المؤيدة للغرب، وعن البحث عن دور روسي متراجع، وكذلك البحث عن سياسة أكثر استقلالية تأخذ بعين الاعتبار المصالح القومية الروسية أساسا[10]، وهذه العوامل هي:

‏أ – فشل سياسة العلاج بالصدمة الاقتصادية.
‏ب – الانتخابات البرلمانية عام 1995 التي كانت نتيجتها أن أصبح الشيوعيون هم الأكثرية في مجلس الدوما، وسيطروا على أكثر الوزارات أهمية، مثل الدفاع والداخلية والأمن، وأصبح البرلمان معارضا كبيرا لسياسات يلتسن الخارجية والداخلية.
‏ج – السلوك الأمريكي الذي تجلى بعدم تنفيذ الوعود التي قطعت لروسيا بمساعدتها اقتصاديا.
‏د – قرار حلف الناتو بالتوسع شرقا ليصل إلى حدود روسيا، وهو الأمر الذي عدته روسيا عاملا مهددا لأمنها القومي، كما استغلته المعارضة الداخلية بالضد من سياسات يلتسن الموالية للولايات المتحدة.
‏وقد شكلت هذه الخطوات مقدمات أساسية باتجاه التحول الجديد الذي طرأ على العلاقات الروسية – الأمريكية، ولا سيما بعد عام 2000، إذ حاولت روسيا العودة لتؤدي دور القوة الكبرى المؤثرة من جديد بعد سبات استمر عقدا من الزمان.

ثانيا: العلاقات الروسية – الأمريكية منذ عام 2000

‏شهدت العلاقات الروسية – الأمريكية تحولا جديدا ابتداء منذ العام 2000 ‏صعودا، والقول إن التحول يقترن بـ “الألفية الجديدة” له مسبباته ودواعيه، وهو مرتبط بالتحول الذي طرأ على نوعية القيادة أو الزعامة في كلا الطرفين الروسي والأمريكي. ففي الجانب الأمريكي، وصلت إلى البيت الأبيض إدارة من أكثر الإدارات الأمريكية تطرفا وعدوانية وهمجية، تبنت آراء محافظة للغاية، ونظرت من منظار واحد سيئ إلى العالم، فالعالم إما أبيض، وهو من يقف وراء السياسات الأمريكية أيا كانت؛ أو أسود، وهو من يعارض السياسات الأمريكية. في المقابل، وصلت إلى سدة الرئاسة في روسيا قيادة من نمط جديد مختلف، فهي لم تنسلخ عن الصورة السوفيتية السابقة التي رسمت على طول القرن العشرين للروس دورا كبيرا في قيادة العالم، كما أنها تكونت من الواقعيين الذين لا ينظرون إلى العلاقات الدولية من وجهة النظر المبدئية فقط، وإنما نظرة واقعية إلى طبيعة الحراك السياسي الدولي. ولذلك، اصطدمت توجهات القيادتين، ولم تلتقيا إلا في نقاط قليلة، فكان التنافس والصراع هو الطاغي على العلاقة، وكانت أطراف كثيرة قد استفادت من هذا الشكل من العلاقة، وربما تعد إيران من أبرز المستفيدين، حيث أدت الحاجة الروسية إلى لعب أوراق الضغط إلى أن توسع من تعاونها مع إيران في برنامجها النووي.

‏نظرت الولايات المتحدة إلى روسيا بوتين بعين الريبة، ولا سيما بعد تصاعد الطموحات الروسية بالعودة من جديد لتأدية دور القوة المؤثرة فعليا في النظام العالمي الجديد، ومن ثم اتجهت السياسة الخارجية الأمريكية إلى استمالة روسيا من جديد نحو أوروبا، عبر إقناعها بعدم جدوى المحاولات لاستعادة مكانة الاتحاد السوفيتي السابق، بسبب المشكلات الاقتصادية التي يعانيها الاقتصاد الروسي، فضلا على المخاطر التي تهدد روسيا الاتحادية بالتفكك. وفي سبيل ذلك استخدمت الإدارة الأمريكية أساليب متنوعة، منها ضم روسيا إلى مجموعة الدول الصناعية السبع (G7)[11]، وتشكيل لجنة خاصة بالأمن في نطاق منظمة الأمن والتعاون الأوروبي تكون لروسيا العضوية فيها. ولكنها من ناحية ثانية، اتبعت سياسة العصا والتهديد والتطويق مع روسيا، فاتجهت إلى توسيع حلف الناتو، لاحتواء روسيا من جهة أوروبا الشرقية، كما اتبعت سياسة نشطة في قلب أوراسيا للحد من النفوذ الروسي في المنطقة[12]، وتبنت ‏استكمال برنامج الدرع الصاروخية الأمريكي. وعملت الولايات المتحدة كذلك على إلغاء المعاهدات الموقعة سابقا مع الاتحاد السوفيتي، لأن الأوضاع الدولية قد تغيرت، واستبدلتها بمنظومات إقليمية تحجم روسيا وتضعها في دائرة صغرى لا تستطيع من خلالها الخروج من العزلة التي فرضت عليها. كما وجهت الإدارة الأمريكية انتقادات كبيرة إلى السياسة الروسية في مجال تجارة السلاح، ونقل التكنولوجيا الخاصة بأسلحة الدمار الشامل، ولا سيما إلى كوريا الشمالية وإيران[13].

‏أما على الجانب الروسي، فقد تمحور الحديث حول دور الرئيس السابق بوتين في نقل السياسة الروسية، وبالنتيجة العلاقات الروسية – الأمريكية، إلى مجال آخر. ومع أن التغيير في السياسة الخارجية الروسية تجاه الولايات المتحدة لم يأت مع الرئيس بوتين بشكل مفاجئ، إلا أن مجيء بوتين قوى كثيرا من فكرة الابتعاد الروسي عن الغرب، وكان في مقدمة سياسات بوتين التغيير من الداخل، وتخفيض الاعتماد قدر المستطاع على الخارج.

‏بعد انتخاب بوتين رئيسا لروسيا في آذار/ مارس 2000، كان في مقدمة اهتماماته إلغاء الفوضى لدى صناع القرار في البلاد، وهي الفوضى الناجمة عن مشاركة سبعة ‏لاعبين أساسيين في رسم السياسة الخارجية الروسية[14]. ولذلك عمل بوتين مع جميع ‏اللاعبين المستقلين تحت رقابة مركزية يشرف عليها شخصيا كرئيس لروسيا الاتحادية. وكان أول ما أقدم عليه هو إزالة التأثير السياسي لبوريس بيريزوفكسي وفلاديمير غوسينسكي، الزعيمين الماليين اللذين يحملان الجنسية الإسرائيلية، إضافة إلى جنسيتهما الروسية، وتجريدهما من وسائل الإعلام بأنواعها التي كانا يسيطران عليها. وقد أقال بوتين وزير المطاقة الذرية يفغيني أداموف الذي كان ينتهج سياسية مستقلة عن إدارة الكرملين، كما أقال وزيري الدفاع والداخلية ورئيس شركة غاز بروم العملاقة التي كانت تتدخل بشكل كثيف في سياسة آسيا الوسطى والشرق الأوسط. وقلل بوتين من صلاحيات زعماء المقاطعات والجمهوريات التابعة لروسيا، وعين عنه ممثلين كاملي الصلاحية فيها[15]، فضلا على أنه جمع كل شركات تصدير السلاح في شركة روسوبورون إكسبورت الحكومية. وكانت أولى الخطوات التي قام بها بوتين باتجاه رسم إستراتيجية روسية جديدة ‏تعيد إلى روسيا سمعتها العالمية التي أفلت، هي الانسحاب الأحادي الجانب من اتفاقية غور- تشيرنومردين التي وقعت مع الجانب الأمريكي في 30 ‏حزيران/ يونيو 1995، والتي تمنع روسيا من بيع أسلحة إلى إيران[16].

‏وقد أعلن بوتين أن روسيا لا يمكنها استعادة مكانتها كقوة كبرى، والحفاظ على استقرارية قراريها الداخلي والخارجي، ما دامت معتمدة على ما تتلقاه من مساعدات خارجية، منطلقا من أن غنى روسيا من المواد الأولية لا بد من أن يمكنها من تجاوز الأزمة الاقتصادية التي أنهكتها. وإضافة إلى عوائد تجارة السلاح، فقد كان قطاع الطاقة إحدى دعامتين نهض عليهما الاقتصاد الروسي، والفضل في ذلك يعود إلى حس الإدارة والترشيد في توظيف العائدات لخدمة الأهداف القومية[17].

‏وحسب بيانات مجلة الإيكونوميست البريطانية، بلغ معدل النمو في الناتج المحلي الإجمالي في روسيا نحو 7 بالمئة سنويا ابتداء من عام 2000، الأمر الذي يعني زيادة هذا الناتج بنحو 50 ‏بالمئة خلال سبع سنوات منذ حكم بوتين. فقد أصبح الاقتصاد الروسي أحد أكبر عشر اقتصادات في العالم. وحسب إحصائيات العام 2008، امتلكت روسيا أكثر من 500 ‏مليار دولار من احتياطيات النقد الأجنبي، مقابل لا شيء تقريبا في عام 1998. وبلغت الاستثمارات الأجنبية نحو 45 ‏مليار دولار. وقد انعكس هذا الأمر على أبناء الطبقة المتوسطة في روسيا، إذ تحسن مستوى معيشة كثيرين منهم خلال فترة حكم بوتين. كما استطاع بوتين أيضا إعادة سيطرة الدولة على مجموعة من القطاعات المهمة، خاصة قطاع النفط والغاز، وهو أمر استفادت منه الخزانة الروسية كثيرا مع ارتفاع سعر النفط من 15 دولارا للبرميل، قبل أن يتولى بوتين الحكم، إلى أكثر من 90 ‏دولارا للبرميل في عام 2007[18]. وقد كان هذا عاملا أساسيا لتوقف روسيا تماما عن طلب أية مساعدات من الولايات المتحدة وباقي دول مجموعة السبع الصناعية الكبرى[19]، كما كان هذا سببا وراء وفاء روسيا كليا بالتزاماتها في دفع الدين الخارجي المستحق عليها منذ عام 2002، يضاف إلى ذلك الاتجاه نحو توظيف هذا الانتعاش الاقتصادي للنهوض بباقي قطاعات الاقتصاد الروسي، وتحديث البنية ‏الصناعية الروسية وتطويرها وإكسابها قدرات تنافسية في الأسواق العالمية[20].

‏على المستوى السياسي، نجح بوتين في وقف التدهور والتخبط اللذين عانتهما روسيا في نهاية حقبة التسعينيات، واستطاع تكوين إدارة قوية. وبدلا من تراجع دور روسيا دوليا، عادت لتؤدي دورا مؤثرا، وكان حضور موسكو في عدة ملفات مهمة تعارض فيها الموقف الغربي، مثل ملف البرنامج النووي الإيراني، بارزا.

‏ولأن الدور الروسي غدا فاعلا بسب الإنجازات التي تحققت، فإن الولايات المتحدة استمرت في محاولتها للحد من التأثير الروسي ومحاصرته وتطويقه. وهذا الأمر كان مدعاة إلى أن يوجه الرئيس بوتين انتقاداته الحادة اللهجة إلى نظام أحادية القطب الذي تتزعمه الولايات المتحدة، وقال: “إن منظومة قوانين دولة واحدة، بالطبع الولايات المتحدة بالدرجة الأولى، تجاوزت حدودها القومية في كل المجالات، في الاقتصاد والسياسة، وفي مجال فرض قوانين هذه الدولة على الدول الأخرى… وهناك الكثير من الجوانب الإيجابية في تطور العلاقات مع أمريكا، لكننا نزداد قناعة بأن كل الأدوات موجهة نحو هدف واحد: تحقيق واشنطن لأهدافها الذاتية من علاقاتها مع روسيا”. هذه العبارة تعني أن بوتين يدرك سعي الولايات المتحدة إلى تسخير علاقاتها مع موسكو، ليس من أجل بناء شراكة حقيقية، بل لخدمة المصالح الأمريكية فقط.

‏وقبل انتهاء ولايته، ومجيء الرئيس الحالي ديمتري ميدفيديف[21]، ألقى بوتين خطابا أشبه بكشف حساب أمام البرلمان الروسي، استعرض فيه ما تحقق خلال ثماني سنوات من رئاسته لروسيا، كما توقف عند المهام التي لم تنجز بعد، ولا بد من إنجازها استكمالا لبناء الدولة الروسية. في هذا السياق، جاء عرضه لطبيعة العلاقات مع الغرب، فقال: “واضح اليوم أن سباق تسلح جديدا بدأ في العالم، ولسنا نحن من بدأ به”. هذه هي العبارة التي اختصر فيها بوتين طبيعة العلاقات الدولية. وأشار إلى التزام روسيا بكل الاتفاقيات الدولية، مقابل عدم التزام الطرف الآخر- أوروبا والولايات المتحدة – بالجزء الأكبر منها. كما تناول مسألة الدرع الصاروخية، وقال: “يحاولون إقناعنا بأن كل هذا ليس موجها ضد روسيا. لكننا لم نسمع حتى الآن إجابات عن أسئلتنا المنطقية (…). لقد دار الكثير من الأحاديث بهذا الشأن، لكن للأسف أقول إن هذا كله لم يكن أكثر من غطاء إعلامي- دبلوماسي لتنفيذ مخططاتهم الخاصة”[22].

‏انتهت ولايتا الرئيسين بوتين وبوش، وقد تحولت العلاقات الروسية – الأمريكية في ‏عهدهما إلى التنافس و/أو الصراع، وهو أمر متعلق، إضافة إلى ما سبق طرحه، بتقاطع إستراتيجية كلا الجانبين عالميا، وتجاه أحدهما الآخر، إذ لم يمنع نجاح الولايات المتحدة في البقاء منفردة على قمة الهرم الدولي، طوال العقد الأخير من القرن العشرين وحتى يومنا الحاضر، من مواصلة إستراتيجية خنق الدولة الروسية بوسائل شتى، منها الابتزاز الاقتصادي للدولة المنهارة باستخدام المؤسسات الاقتصادية الدولية، مثل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة الدولية، والتطويق الجيوستراتيجي عبر توسيع حلف الناتو، وذلك كله بغرض التأثير سلبا في معادلة القوة الروسية والدور الروسي[23].

‏وبعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001، ورغم دخول روسيا في محور الحرب على الإرهاب، إلا أن الإستراتيجية الأمريكية لم تتعامل مع روسيا على أساس الحليف الموثوق به، بل إن احتلال أفغانستان ما هو إلا خطوة متقدمة لتطويق روسيا[24]. هذا فضلا على صدور تقارير أمريكية بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 ‏أفادت بقيام البنتاغون بإعداد خطة طوارئ لشن هجمات نووية محتملة على سبع دول، من ضمنها روسيا[25].

‏وفي المقابل، استندت الإستراتيجية الروسية إلى ضرورة إيقاف التمدد الغربي، ولا سيما الأمريكي، في مجالات روسيا الحيوية في أوروبا الشرقية وجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، والعمل على استعادة مجالاتها الحيوية، والاقتراب على نحو واسع من مياه البحر الأسود[26].
‏وقد واجهت روسيا الإستراتيجية الأمريكية الرامية إلى احتوائها بإستراتيجية قائمة على التحرك العسكري المباشر لضمان مصالحها، وأيضا توسيع وزيادة الإنفاق العسكري، فضلا على التهديد بالانسحاب من عدد من الاتفاقيات التي عقدت في أوقات سابقة.

تعتبر العلاقات مع الولايات المتحدة من اولويات السياسة الخارجية الروسية وعاملا هاما في اشاعة الاستقرار الدولي.في 3-5 يونيو/حزيران عام 2000 عقد في موسكو اول لقاء بين رئيس روسيا الاتحادية ڤلاديمير پوتين ورئيس الولايات المتحدة بيل كلينتون. ووقع زعيما الدولتين في اثناء المباحثات بعض الوثائق، بينها البيان المشترك حول مبادئ الاستقرار الاستراتيجي والمذكرة حول الاتفاق الروسى الامريكي على انشاء المركز المشترك الخاص بتبادل المعلومات الواردة من منظومات الانذار المبكر والابلاغ عن اطلاق الصواريخ.

وقد ثبتت مبادئ حوار الشراكة الثنائي في اعلان موسكو حول العلاقات الاستراتيجية الجديدة الذي وقعه الرئيسان الروسي والامريكي في مايو/أيار عام 2002 . وحددت الاتجاهات الاولية للتعاون الثنائي وهي العمل المشترك لصالح الامن الدولي والاستقرار الاستراتيجي ومكافحة الارهاب الدولي ومواجهة الاخطار والتحديات الاخرى الشاملة الجديدة ودعم حل النزاعات الاقليمية وتطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية وتوسيع الاتصالات بين الافراد.

وفي اللقاء الذي جرى في 14 – 15 يوليو/تموز عام 2006 في بطرسبورغ عشية قمة مجموعة “الثماني” صدر البيان المشترك للرئيسين الروسي والامريكي المتعلق بالتعاون في مجال الاستخدام السلمي للطاقة الذرية ومقاومة الانتشار النووي وكذلك الاعلان المشترك حول المبادرة الشاملة في مكافحة الارهاب النووي.

وفي ختام المباحثات التي جرت في 1 – 2 يوليو/تموز عام 2007 اصدر الرئيس فلاديمير بوتين والرئيس جورج بوش في كينيبانكبورت(ولاية مين) البيان حول صناعة الطاقة النووية وعدم الانتشار الذي يتضمن برنامج الخطوات الملوسة في مجال تعميق التعاون الثنائي والدولي في مجال الاستخدام السلمي للطاقة الذرية بشرط الالتزام الصارم بنظام عدم الانتشار.

في 6 أبريل 2008 عقد في مدينة سوتشي الروسية لقاء رئيس روسيا المنتخب دميتري مدڤييدڤ بالرئيس الأمريكي جورج بوش الابن الذي وصل إلى سوتشي في 5 أبريل/نيسان بزيارة استغرقت يومين .

وفي 6 ابريل/نيسان عام 2008 صدر في ختام قمة سوتشي اعلان الاطر الاستراتيجية للعلاقات الروسية الامريكية الذي عكس الطابع الشامل للتعاون بين روسيا والولايات المتحدة في الاتجاهات الرئيسية بهدف ضمان التواصل المستقر في المستقبل. وتتضمن الوثيقة بصورة موجزة ما تم تحقيقه في الاعوام الاخيرة في مجال الامن وعدم الانتشار ومكافحة الارهاب وبضمنه الارهاب النووي وتطوير الذرة في الاغراض السلمية والمضي قدما في الشراكة بمجال الاقتصاد والتجارة وصناعة الطاقة. كما عكس الاعلان الخلافات الجدية بين الجانبين حول بعض القضايا مثل الدفاع المضاد للصواريخ و معاهدة تقييد القوات المسلحة في اوروبا وتوسيع الناتو وسحب الوسائل الضاربة من الفضاء والتي يجب ان يتواصل العمل في معالجتها.

وأدى دعم واشنطن للعدوان الجورجي في اغسطس/آب عام 2008 ضد قوات حفظ السلام الروسية والاهالي المسالمين في اوسيتيا الجنوبية الى توتر العلاقات الروسية – الامريكية.

ومع هذا بدأت ترد من واشنطن بعد ان تولت السلطة في الولايات المتحدة الادارة الديمقراطية الجديدة أشارات حول الرغبة في اعادة التعاون الثنائي الى مجرى العمل الطبيعي. وصدرت عن الجانب الامريكي موضوعات حول وجوب “اعادة النظر ” في العلاقات الروسية – الامريكية والاستعداد لأقامة تعاون شامل في حل المشاكل الحيوية. وقد أعطى ذلك نبضة بناءة الى اول لقاء شخصي بين الرئيس دميتري مدفيديف والرئيس باراك اوباما في اول ابريل/نيسان عام 2009 على هامش قمة ” العشرين” في لندن. وتبادل الرئيسان الآراء حول جميع قضايا العلاقات النثائية والوضع الدولي وحددا الاولويات واجندة العمل في الفترة القريبة القادمة. وصدر بيانان مشتركان – حول المباحثات بصدد التقليص اللاحق للأسلحة الاستراتيجة الهجومية والاطر العامة للعلاقات الروسية – الامريكية.

ويتضمن البيان المشترك حول الاطر العامة للعلاقات عمليا جميع جدول العمل الآني وثبت ليس فقط مبادئ التعاون الرئيسية (وجود مصالح مشتركة كثيرة ، والتصميم على العمل المشترك من اجل تعزيز الاستقرار الاستراتيجي والامن والمواجهة المشتركة للتحديات الشاملة وتسوية الخلافات بروح الاحترام المتبادل والاعتراف بمصالح بعضهما البعض)، وكذلك اعداد المهام للمستقبل.

اوصلت الـ”پرسترويكا” وما اعقبها من مميزات عصر بوريس يلتسين العلاقات بين البلدين الى مستوى جديد. ولكن اعترف المسؤولون الروس الكبار فيما بعد بخيبة آمالهم، اذ ان موسكو التي ضعفت نتيجة تفكك الاتحاد السوفيتي تنازلت امام الغرب وبالدرجة الاولى امام الولايات المتحدة الامريكية في اتجاهات كثيرة دون أن تحصل على اي بديل عملي، فيما تزايد النقد حيالها من طرف الغرب وخاصة فيما يتعلق بحملة مكافحة الارهاب في الشيشان، الامر الي ادى الى وقوع توتر في العلاقات بين موسكو وواشنطن وخاصة في مسائل مثل العلاقات بين روسيا والناتو والاختلاف في الاراء إزاء الوضع في الجمهوريات السوفيتية السابقة. وتفاقم الوضع في فترة رئاسة جورج بوش الابن على الرغم من وجود العلاقات الشخصية الجديدة بينه وبين الرئيس بوتين.

والتقى الرئيس الروسي الجديد دميتري مدڤييدڤ بعد توليه الرئاسة في روسيا برئيس الولايات المتحدة جورج بوش الابن في 7 يوليو/تموز عام 2008، وذلك في اطار قمة الثماني الكبار في جزيرة هوكايدو باليابان.

واشار مدفيديف الى انه يعول على اقامة الحوار مع الولايات المتحدة في كافة المسائل سواء كان مع الادارة الحالية في البيت الابيض او الادارة القادمة. وبحسب قول الرئيس فان اكثر القضايا حدة هي قضايا الامن الاوروبي والدرع الصاروخية.

في 1 أبريل/نيسان عام 2009 عقد لقاء الرئيس دميتري مدڤييدڤ بالرئيس باراك اوباما الذي رسم نهجا نحو اعادة اطلاق العلاقات الروسية الامريكية.

ثالثا: الملفات المفضية إلى الصراع في العلاقات الروسية – الأمريكية

‏الملفات المؤثرة في العلاقات الروسية – الأمريكية كثيرة، وهي معقدة ومتشابكة، إلا أن هناك أربعة ملفات أثرت في رفع حالة الصراع الروسي – الأمريكي، وهي:

1 ‏- توسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو)

‏لقد سعت الولايات المتحدة إلى توسيع حلف شمال الأطلسي وزيادة عدد أعضائه، وأصبحت جمهوريات التشيك وهنغاريا وبولندا بذلك أولى دول حلف وارسو المنحل التي انضمت إلى حلف شمال الأطلسي. ثم قرر وزراء الناتو في اجتماع لهم في براغ عاصمة التشيك في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2002 ‏توجيه دعوات رسمية إلى كل من استونيا ولاتفيا وسلوفينيا وسلوفاكيا وبلغاريا ورومانيا للانضمام إلى التحالف السكري الأطلسي. كما تقدمت كرواتيا وألبانيا وجمهورية مونتينيغرو بطلبات الانضمام إلى حلف الأطلسي، الأمر الذي أغاظ وأقلق وزاد من مخاوف روسيا الاتحادية، التي اعتبرته تحديا أمريكيا لوصول الناتو حتى حدودها[27].

‏على أن أعضاء الحلف من غير الولايات المتحدة، وإن واصلوا عدم حماستهم بشأن توسيعه في أعقاب التوسع الكبير الأخير عام 2004، إلا أن الولايات المتحدة، وبغرض تطويق روسيا، دعمت الجهود لانضمام الدول الأخرى الراغبة إليه. فقد اجتمعت ألبانيا وكرواتيا وجمهورية مقدونيا وجورجيا في مدينة دوبروفنيك في كرواتيا في أواسط عام 2006 ‏لتعزيز طموحاتها بالعضوية، وقد دعمت الولايات المتحدة صراحة بلدان البلقان الثلاثة، لكنها دعت إلى قبول جورجيا وأوكرانيا أيضا[28].

‏أما روسيا، فقد رفضت خطط التوسع، وقد وجه الرئيس السابق بوتين تحذيرا صريحا إلى المسؤولين الأمريكيين، حيث أكد معارضته لأي توسع لحلف شمالي الأطلسي يضم أوكرانيا وجورجيا، إذ رأى أن هؤلاء قد استغلوا حالة الضعف الروسي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي بغية رسم خريطة جيوسياسية جديدة لتلك المنطقة، بحيث تكون خارج النفوذ الروسي، إلا أن روسيا، وكما هو الحال بالنسبة إلى الولايات المتحدة، ترفض أن تحدث أية تدخلات على حدودها.
‏وعليه، فإن بقاء أمر توسيع الناتو مطروحا سيسهم في استمرار التوتر بين الولايات المتحدة وروسيا.

2 ‏- برنامج الدرع الصاروخي الأمريكي

‏يعد ملف برنامج الدرع الصاروخية الأمريكي من أبرز الملفات التي طبعت بصماتها على العلاقات الروسية – الأمريكية، إذ إنه عد من قبل الطرفين ذا علاقة مباشرة بالأمن القومي. فبينما عدته الولايات المتحدة عاملا فاعلا لصالح حفاظها على أمنها القومي وأمن ‏مصالحها المنتشرة عبر العالم، عدته روسيا في المقابل عاملا مهددا لأمنها النووي، حيث شكل خروجا عن المألوف العالمي بعد عام 1972، عندما اتفقت القوتان العظميان آنذاك على استمرار العلاقة البينية محكومة وفق مبدأ الردع المتبادل. فقدرة الطرف الأول على الهجوم، وقدرة الطرف الثاني على الردع المقابل، تمنع الطرف الأول من التفكير بالهجوم م حتى لو امتلك القدرة على ذلك، بينما تعد روسيا إكمال مشروع الدرع الصاروخية طاردا لنظرة الردع المقابل، فإكماله يعني تفوق أمريكي غير مسبوق، وانكشاف استراتيجي لظهر روسيا التي فقدت بذلك ميزة الردع المقابل.
‏ومن هنا، فقد أثر ملف الدرع الصاروخية سلبا في العلاقات الروسية – الأمريكية للأسباب الواردة سلفا، فكلما تصاعدت الدعوات الأمريكية – ولا سيما في إدارتي بوش الابن – لاستكمال بناء المشروع، زاد ذلك من توتر العلاقات بين الطرفين، وعلى العكس، كلما صدرت تلميحات أو إشارات بإمكانية وقف البرنامج، ازداد الحديث عن قرب انفراج في العلاقات بينهما. ولذلك، وفضلا على عوامل التكلفة الكبيرة، وعدم وضوح الجدوى العملية للبرنامج، ورفض الكثير من الأطراف الأوروبية له، فإن الرفض الروسي، واتخاذ روسيا لإجراءات متعددة، أبرزها البدء بسباق تسلح عالمي جديد، تعد من العوامل التي وقفت في وجه استكمال المشروع.

‏رفضت روسيا المشروع رفضا قاطعا، ورفضت التبريرات الأمريكية بأنه موجه نحو إيران، وليسر نحوها، وقالت إنه يهدد أمنها النووي والقومي، كما عدت نشر النظام الراداري في جمهورية التشيك بمثابة نشر نظام كامل للتجسس عليها. ولذلك، قال الرئيس الروسي السابق فلاديمير بوتين: “لن أخفي أن واحدة من أصعب القضايا كانت وما تزال الدفاع الصاروخي في أوروبا”. وقد شن بوتين هجوما قويا على الولايات المتحدة، متهما إياها بمحاولة فرض سيادتها العسكرية على العالم، وقال إن إقامة أمريكا لهذه النظم الصاروخية في بولندا هي أكبر مثال على عدم احترام المصالح الروسية. كما رفض الرئيس الروسي الحالي ميدفيديف البرنامج الصاروخي الأمريكي، فأشار بتاريخ 27 ‏حزيران/ يونيو 2008 ‏إلى أن هذا النظام الصاروخي لا يخدم أمن أوروبا، لأنه – في رأيه – سينظر إليه كدعوة إلى المشاركة في سباق التسلح.

‏وعلى ما تقدم، نرى أن استمرار الولايات المتحدة في تنفيذ المشروع، سيقود العلاقات الروسية – الأمريكية إلى مزيد من التوتر، وسيضاعف من سرعة سباق التسلح العالمي. أما العكس، أي التوقف عن البرنامج، سيقود إلى نتائج أخرى نرى أنها إيجابية.

3 ‏- القضية الجورجية

‏ترتبط القضية الجورجية بقضية توسيع حلف الأطلسي ارتباطا مباشرا، فروسيا عدت انضمام جورجيا إلى الحلف خطا أحمر لا يمكن تجاوزه. ولذلك، نظرت بعدائية إلى المطالبات الجورجية بالانضمام إلى الحلف، وأسهم ذلك في اشتداد العداء بين روسيا وجورجيا.
‏وعند إلقاء نظرة استشرافية على تاريخ العلاقات الروسية – الجورجية تسهل ملاحظة أجواء المد والجزر التي سادته، فلطالما رغبت روسيا في القضاء على الخيار الأطلسي بالنسبة إلى جورجيا، إلا أن تطور الأحداث أدى إلى تدهور العلاقات في ما بين البلدين. ورغم الخطوات التي اتخذها الكرملين الروسي، من تهديد بالتدخل العسكري على الحدود مع الشيشان، والغارات الجوية، ورفع الحصار عن أبخازيا. ، إلا أن جملة هذه التهديدات دعمت العلاقات في ما بين تبليسي وواشنطن بشكل ملحوظ، إذ اتخذت في المقابل الولايات المتحدة عدة خطوات مضادة للسياسات الروسية[30]. فقد تم، وفقأ لمبادرة أمريكية عام 1997 تشكيل “جمعية الدول المعارضة للموقف الروسي في المناطق الانفصالية” (GUMA
‏وفي ضوء ما سبق، يجب أن يقرأ أثر الحرب الروسية – الجورجية في العلاقات الروسية – الأمريكية، حيث عملت الولايات المتحدة على درجة عالية من التنسيق مع الجانب الجورجي، وكشف عن ذلك التنسيق قيام الولايات المتحدة بنقل المقاتلين الجورجيين من ساحة الحرب في العراق إلى ساحة الحرب الجورجية، فضلا على الحشد الإعلامي الأمريكي ضد روسيا. وإذا كان من أهم تداعيات حرب القوقاز أنها أعادت إلى روسيا هيبة الدولة الكبرى عسكريا، وبخاصة في أوروبا، فإن هذا الملف لا يمكن أن يغلق إلا إذا انتهت خطط توسيع حلف الناتو، أو إذا تخلت جورجيا عن خططها بالابتعاد عن المنظومة الروسية.

4 ‏- الملف النووي الإيراني

‏يعتبر الملف النووي الإيراني من أهم بنود الصراع بين روسيا والولايات المتحدة، وقد بان أثره في العلاقات مؤخرا، فإيران، من وجهة النظر الأمريكية، تشكل أكبر التحديات التي يجب التعامل معها على وجه السرعة، بينما لا ترى روسيا في البرنامج الإيراني ‏ما يستدعي تخوف الولايات المتحدة أو المجتمع الدولي[32]، إذ تراه سلميا إلى حث الآن[33].

‏لقد أصبحت الأزمة النووية الإيرانية واحدة من القضايا التي تثيرها الإدارة الأمريكية مع جميع زوارها، وكان من الطبيعي أن تثير الإدارة الأمريكية هذه القضية مع روسيا التي تعدها أمريكا الحليف العسكري لإيران، في سعي منها إلى فك طلاسم ذلك الحلف ومنع تصدير التكنولوجيا النووية إلى إيران، لما في ذلك من تهديد للمصالح الأمريكية والغربية، حسب زعمها، في كل من الخليج العربي والصراع العربي- الإسرائيلي.
‏وفي ضوء مواصلة روسيا موقفها الداعم لطهران بامتلاك التقنية النووية، وإنشائها المزيد من المفاعلات النووية الإيرانية[34]، فلم يكن مستبعدا لجوء الكونغرس الأمريكي إلى صياغة قانون يفرض حظرا على الشركات الروسية المتعاملة مع طهران.

‏وعلى ما تقدم، فإن هذا الملف يعد مهما في تحديد العلاقات التي ستقوم مستقبلا بين روسيا والولايات المتحدة، كما تعتمد عليه ملفات أخرى، إذ ربطت الولايات المتحدة بين إمكانية إيقاف برنامج الدرع الصاروخية، في مقابل تعاون روسيا مع الولايات المتحدة بالضد من إيران في قضية البرنامج النووي الإيراني.
‏نخلص مما تقدم إلى أن طريقة معالجة هذه الملفات ستكون لها آثارها في العلاقات الروسية – الأمريكية، فاستمرار السير على النهج ذاته يعني أنها ستبقى أدوات للصراع الروسي- الأمريكي.​

رابعا: مستقبل العلاقات الروسية – الأمريكية

‏يعد حقل العلاقات الدولية من الحقول المهمة في علم السياسة، وذلك إلى درجة التشابك والتعقيد العالية التي تحيط بأشخاص المجتمع الدولي، والمتمثلة بالدول المختلفة المصالح والأهداف، التي تستمد إستراتيجيتها الدولية من طبيعة هذه الأهداف المستقبلية والآنية، دونما انفصال عن تاريخها والظروف التي رافقته وأحاطت به.
‏وكذلك، فإن البحث في مستقبل العلاقات الروسية – الأمريكية ليس بالأمر السهل، نظرا إلى سرعة الحراك الدولي، وتعقد الملفات المشتركة، وطبيعة التغيير التي يمكن أن تحصل على مستوى الداخل في كلا الطرفين. فالتغيير الذي حصل أمريكيا بمجيء أوباما ‏إلى السلطة، رجح الكثيرون أنه سيترك بصماته على التوجه السياسي الخارجي للولايات المتحدة، ومنها توجهها نحو روسيا. لذلك، توقع الكثيرون من الإدارة الأمريكية الجديدة، مع تسلم أوباما مسؤولياته رئيسا للولايات المتحدة، أن تتبنى سياسة جديدة تستند إلى مزيج معقول من الدبلوماسية والاعتدال والشراكة.‏وعلى الجانب الروسي، فإن روسيا ماضية قدما في محاولة الارتقاء بدورها الإقليمي/ العالمي. وهي تتحرك خارجيا في ضوء ما عرف – “مبدأ ميدفيديف” الذي تضمن النقاط الغمس الآتية[35]:
‏ا – تعترف روسيا بأولوية المبادئ الأساسية للقانون الدولي التي تحدد العلاقات بين الشعوب المتحضرة، على أن تبني روسيا علاقاتها مع الدول الأخرى ضمن إطار هذه المبادئ.2 ‏- ترى روسيا أنه يجب أن يكون العالم متعدد الأقطاب، فعالم وحيد القطب عالم غير مقبول، والهيمنة أمر لا يمكن السماح به. فليس في وسع روسيا قبول نظام عالمي تكون ناصية اتخاذ جميع القرارات فيه ملك بلد واحد، كالولايات المتحدة. فعالم كهذا سيكون غير مستقر ومهددا بالصراعات.3 ‏- لا تريد روسيا مواجهة مع بلد آخر، وليس عند روسيا نية لعزل نفسها، بل تتوخى إقامة علاقات ودية مع أوروبا والولايات المتحدة وأكبر عدد ممكن من البلدان الأخرى.

4 ‏- ترى روسيا أن حماية أرواح مواطنيها وكرامتهم، حيثما يكونون، هي أولوية للبلد لا نقاش فيها، ويجب أن تكون قرارات سياستها الخارجية قائمة على هذه الضرورة. وهي ستحمي أيضا مصالح رجال الأعمال الروس في الخارج، وينبغي أن يكون واضحا للجميع أن روسيا سترد على أية أعمال عدوانية ترتكب ضدها.

5 ‏- كما هي حال بلدان أخرى، هناك أقاليم لروسيا فيها مصالح في ذات امتيازات. وستولي روسيا اهتماما خاصا لعملها في هذه الأقاليم، وستبني علاقات ودية مع هذه البلدان التي هي جاراتها الحميمة.
‏وختم ميدفيديف بالقول: “هذه هي المبادئ التي سأتبعها في تطبيق سياستنا الخارجية. أما بالنسبة إلى المستقبل، فإنه لا يتوقف علينا فحسب، وإنما يتوقف أيضا على أصدقائنا وشركائنا في المجتمع الدولي، والخيار متاح لهم”.

‏هذه النقاط تعني أن روسيا عاقدة العزم على الحضور الفعال إذا ما تطلبت مصلحتها القومية ذلك، وأنه إذا كان للولايات المتحدة حق التدخل لحماية مصالحها ومواطنيها، فإن لروسيا أيضا الحق ذاته.
‏إلا أن روسيا اليوم تتمتع بميزة إضافية للتحرك، تعطيها نقطة أولوية على صعيد ‏التعامل مع الملفات العالقة، فأمريكا غارقة في العراق وأفغانستان، وإستراتيجيتها في الحرب على “الإرهاب الإسلامي” أفضت إلى أن تتحرك روسيا بقوة ضمن محيطها الإقليمي، إذ لا تستطيع الولايات المتحدة اليوم خوض حربين في آن واحد.
‏إذن، المعضلة الكبيرة أمام الولايات المتحدة أنها محددة بشكل كبير في الخيارات، بينما تتمتع روسيا بهامش واسع من خيارات التحرك، أقله استطاعتها توجيه ضربة قوية إلى صميم الإستراتيجية الأمريكية في حربها على الإرهاب (في العالم الإسلامي).

‏لذلك، وضع البعض أربعة خيارات أمام الولايات المتحدة للتحرك تجاه الإستراتيجية الروسية، تصب كلها في صالح ضرورة أن تغير الولايات المتحدة إستراتيجيتها بالتركيز على مواجهة التوسع الروسي، أفقيا وعموديا.

‏ولذلك، قد تصح آراء المحللين الاستراتيجيين التي ترى أن الإستراتيجية الأمريكية القومية تمر في أزمة، إذ لا تملك الولايات المتحدة قوة لمواجهة تهديدين، وعليها أن تختار واحدا منهما. والاستمرار في الإستراتيجية الحالية يعني اختيار التعامل مع “التهديد الإسلامي”، وليسر التهديد الروسي. وهو أمر يمكن أن يعقل في حالة واحدة، وهي أن يمثل تهديد بعض الجماعات الإسلامية خطرا على المصالح الأمريكية أكبر مما يمثله التهديد الروسي. ولكن، وحسب رأي المحلل الاستراتيجي جورج فريدمان: “إنه لمن الصعب رؤية كيف ستتماسك فوضى العالم الإسلامي لتشكل تهديدا عالميا. لكن ليس من الصعب تخيل روسيا، موجهة بمبدأ ميدفيديف، تتحول بسرعة إلى تهديد عالمي وخطر مباشر على المصالح الأمريكية”[36].
‏عموما، فإننا نضع صورة مستقبل العلاقات الروسية – الأمريكية أمام المشاهد الآتية:

1 ‏- المشهد الأول: خيار التعاون المشترك
‏تؤدي إليه العوامل الآتية:
‏أ – تراجع القوة الأمريكية.
‏ب – السياسات الجديدة لإدارة أوباما القائمة على التهدئة والتعاون.
ج – القضايا العالمية التي تحتاج إلى تعاون مشترك.
‏د – الرغبة الروسية بالتوصل إلى تفاهمات مشتركة وحل المسائل العالقة.
هـ – الإيمان من قبل الطرفين بأن ما يجب أن يحكم العلاقات البيئية هو توازن المصالح بدل توان ن القوى.2 ‏- المشهد الثاني: خيار التنافس/ الصراع
تؤدي إليه العوامل الآتية:
‏أ – تصاعد القوة الروسية.
‏ب – نوعية القيادة في روسيا التي تنظر إلى دور روسيا من منظور الدور القيصري أو السوفيتي، وليس من منظور الشريك التابع للغرب.
‏ج – استمرارية الحديث عن توسيع حلف الناتو.
‏د – استمرارية القول باستكمال مشروع الدرع الصاروخية الأمريكي المهدد للأمن الروسي.
‏- – الدعم الروسي لبرنامج إيران النووي، ورفض كافة المطالب بإنهاء الدعم الروسي لإيران.3- المشهد الثالث: عدم الاصطدام المشفوع بتعاون مهلهل
‏هو مزيج من المشهدين السابقين، إلا أنه لا ينحدر بالعلاقة إلى درجة الصراع الشديد، ولا يرتقي بها إلى درجة التعاون البناء، إذ ستستمر وفقا لهذا المشهد علامات التخوف المتبادل من الطرفين إلى الآخر، والريبة من السياسات التي من الممكن أن يتبعها كل طرف تجاه الآخر بهدف الحصول على مكاسب وفق نظرية اللعبة الصفرية.
‏تشير التوقعات الروسية إلى اختلاف في وجهات النظر، فوزير الخارجية الروسي الأسبق يفغيني بريماكوف لا يرى ثمة فرق بين الإدارتين الأمريكيتين في طبيعة التوجه نحو روسيا، وهو يقول في هذا الصدد: “من يعتقد أن الأمور في ظل أوباما ستكون أسهل، فهو مخطئ، إذ إن التعامل مع أوباما لن يكون سهلا، لأنه سيحاول اتخاذ موقف متشدد من تصريحات الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف بشأن نشر صواريخ سكاندر، كرد على الدرع الصاروخية الأمريكية، كي لا يظهر بأنه يفرط بالمصالح القومية الأمريكية”. هنا ربط وزير الخارجية الموقف بموضوع الدرع الصاروخية، لكن إذا ما توقفت هذه الدرع، ألا يعني ذلك أن العلاقات ستتغير نحو الأحسن؟ ‏بينما ينحو مدير الاستخبارات الروسية الخارجية ميخائيل فرادكوف منحى مختلفا، حين يرى “أن روسيا مستعدة للتعامل مع أوباما، بحيث إن هناك إمكانية كبيرة لإعادة الدفء إلى العلاقات الروسية – الأمريكية”.
‏أيضا، على صعيد الخبراء الأمريكيين، تختلف التقديرات لما يجب أن تكون عليه السياسة الأمريكية القادمة تجاه روسيا، ففي حين دعا وزيرا الخارجية السابقان هنري كيسنجر وجورج شولتز إلى البدء بسياسات جديدة تضع “حدا للانحراف نحو المواجهة”، ‏وقالا في مقال نشرته أيضا واشنطن بوست: “إن عزل روسيا ليس سياسة يمكن اعتمادها على المدى الطويل”، واقترحا خصوصا تأجيل توسيع حلف الأطلسي ليشمل جورجيا وأوكرانيا، معتبرين أن لدى روسيا دواعي لتشعر بأنها تحظى بالاحترام الكافي لدى الغرب، فقد رأى ستيفن بيفر، من مؤسسة بروكينغز، أنه يتوجب معاقبة روسيا على تصرفها في جورجيا، لكنه عقاب مرتبط بفكرة العصا والجزرة، إذ يقول أيضا: “لكن من جهة أخرى ينبغي مواصلة التعاون حول أمور مثل مراقبة المواد النووية”. كما يرى “أن على الرئيس المقبل أن يعيد إطلاق المفاوضات مع موسكو حول الحد من الأسلحة الإستراتيجية كبادرة حس نية، (على اعتبار) أن الروس يحبذون ذلك، على الأقل لأنه بمثابة اعتراف بأنهم قوة نووية عظمى على قدم المساواة مع الولايات المتحدة”.‏عموما، فإننا نرجح أن مرحلة جديدة ستبرز على صعيد العلاقات الروسية – الأمريكية، إذ إن الطرفين سيتجهان إلى التعاون بحكم حاجتهما إلى علاقات مستقرة. ويبدو أن موافقة روسيا على مرور إمدادات حلف الناتو عبر أراضيها إلى أفغانستان تتأتى ضمن هذا الاتجاه، فضلا على ما صدر من تصريحات أمريكية بخصوص الدرع الصاروخية طمأنت روسيا إلى أن مرحلة العداء التي سبغت مرحلة بوش الابن ستتحول عبر الحوار إلى مرحلة تعاون بناء.
‏يبقى من الأهمية الإجابة عن تساؤلين: هل أن هذا التحول يخدم القضايا العربية؟ ‏وأيضا، أليس مهما للعرب أن يستغلوا هذا التحول لخدمة قضاياهم؟‏في الواقع، لا بث من أن يخدم هذا التحول بشكل أو بآخر القضايا العربية، فوجود قوتين عظميين أفضل قطعا من أن تعربد الولايات المتحدة وحدها في العالم، وتسير قضاياه بما يخدم مصالحها. ولنتذكر أن العربدة الأمريكية ضد العراق، منذ عام 1991 وحتى ما بعد احتلاله عام 2003، استفحلت بعد أن لاحت بوادر التفكك السوفيتي والانهيار في ما بعد. ولكن، هل صناع القرار العرب يمتلكون القدرة والرغبة في الاستفادة من هذا التحول؟ ‏هنا يكمن عمق الموضوع، فدون الرغبة والقدرة سيكون الكلام خاليا مجردا، إذ لن تترك الولايات المتحدة صناع القرار العرب، إذا ما قرروا الاستفادة من التحول، يعملون بحرية، ولذلك هنا تتأتى أهمية أن يكون صانع القرار العربي راغبا وقادرا على أداء دور يخدم مصالح الأمة العربية.

المراجع
[1]ديمتري ترينين، “روسيا تتخلى عن الغرب” ترجمة عبد القادر عثمان، الثقافة العالمية (الكويت)، السنة 26، العدد 148 (أيار/ مايو- حزيران/ يونيو 2008)، ص22.
[2]LaRouche, Jr., «And Now, a Year Later,» LaRouche in 2004: Special Report(February 2002), pp. 1-3.
[3]فريد حاتم الشحف، العلاقات الروسية الإيرانية وأثرها على الخريطة الجيوسياسية في منطقة الخليج العربي ومنطقة آسيا الوسطى والقفقاس (دمشق: دار الطليعة الجديدة، 2005)، ص115- 116.
[4]W. Phillips Shively, Power and Choice: An Introduction to Political Science,10thed (Boston, MA: McGraw-Hill Higher Education, 2007), pp. 224-225.
[5]أي سرعة التحول نحو الاقتصاد الليبرالي، دون المرور بالخطوات التي ترافق كل مرحلة تحول كبيرة تمهد للتحولات القادمة.
[6]وليم نصار، “روسيا كقوة كبرى،” المجلة العربية للعلوم السياسية العدد 20 ‏(خريف 2008)، ص 22.
[7]المصدر نفسه، ص 28 ‏- 29 ‏، نقلا عن: نورهان الشيخ، “دور النخبة الحاكمة في إعادة هيكلة السياسة الخارجية: دراسة لحالتي الاتحاد السوفيتي 1985- 1991، والجمهورية الروسية 1991- 1996،” (أطروحة دكتوراه، جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2000)، ص 186.
[8]يبدو أن الكتلة الشرقية أخذت تشكل عبئا على الاتحاد السوفيتي قبل انهياره، ولذلك لم تتدخل القوات السوفيتية، ولا جهاز الكي. جي. بي. الذي كان يعمل آنذاك في مختلف دول أوروبا الشرقية لوقف التدهور الذي حصل قبيل انفصال هذه الدول عن المنظومة السوفيتية، وإنما على العكس سهل أمور التحول دون تدخل. وبالمناسبة، كان الرئيس الروسي السابق بوتين يحتل منصبا رفيعا في جهاز المخابرات الروسي العامل في ألمانيا الشرقية، عندما حصلت حوادث الشغب وتهديم جدار برلين، والظاهر أنه لم يصدر أوامره بالمنع.
[9]المصدر نفسه، ص205.
[10]الشحف، العلاقات الروسية الإيرانية وأثرها على الخريطة الجيوسياسية في منطقة الخليج العربي ومنطقة آسيا الوسطى والقفقاس، ص 116.
[11]تبدلت تسمية المجموعة إلى “الدول الصناعية الثماني”، وأخذ يطلق عليها G8‏ منذ انضمام روسيا إليها عام 2002، وحضور اجتماعاتها بشكل مستمر، وقد ترأست روسيا القمة عام 2006.
[12]بالتفصيل حول تلك السياسات في قلب أوراسيا، انظر: عامر هاشم، “التنافس الدولي على منطقة قلب أوراسيا ومستقبل التوازن الدولي،” (رسالة ماجستير، جامعة النهرين، 2000)، الفصل الثالث تحديدا.
[13]محمد سعيد أبو عامود، “تحولات السياسة الأمريكية تجاه إيران وتركيا وروسيا،” السياسة الدولية، السنة 38, العدد 147 ‏(كانون الثاني/ يناير 2002)، ص 75.
[14]وهم: (1) يلتسن وإدارته. (2) وزارة الخارجية. (3) مؤسسات النفط العملاقة، مثل لوك أويل، وغاز بروم، وتراتسنفنت التي لها ارتباطات وثيقة مع رجال الأعمال والمؤسسات المالية الروسية. (4) وزارة الدفاع. (5) وزارة الطاقة الذرية. (6) شركة رسفوروجينيه الحكومية المسؤولة عن تصدير السلاح. (7) كبار المسؤولين الذين لهم علاقات وثيقة بمجلس الدوما.
[15]أيمن طلال يوسف، “روسيا البوتينية بين الأوتوقراطية الداخلية والأولويات الجيوبوليتيكية الخارجية، 2000 ‏- 2008،” المستقبل العربي، السنة 31، العدد 358 ‏(كانون الأول/ديسمبر 2008)، ص 80 ‏- 82.
[16]جيفري مانكوف، “روسيا والغرب: نظرة أبعد مدى،” ترجمة جمال صالح خضر أبو ناصر؛ مراجعة محمد مجد الدين باكير، الثقافة العالمية (الكويت)، السنة 26، العدد 148 (أيار/ مايو- حزيران/ يونيو 2008)، ص 67 ‏- 68.
[17]نورهان الشيخ، “روسيا والاتحاد الأوروبي: صراع الطاقة والمكانة،” السياسة الدولية، السنة 42، العدد 164 (نيسان/ أبريل 2006)، ص 64 ‏- 65.
[18]ولذلك اختارت مجلة التايم الأمريكية الرئيس بوتين بصفته أبرز شخصية عالمية للعام 2007. انظر: البي. بي. سي. على شبكة الإنترنت، 22 ‏كانون الأول/ ديسمبر 2007، نقلا عن:http://www.makany.com/go2news.php?url=941158.
[19]رغم أن الاقتصاد الروسي حاليا يمر بأسوأ أزمة اقتصادية منذ العام 1998 بسبب الأزمة المالية العالمية وانخفاض أسعار النفط، إلا أن الرئيس الروسي الحالي ميدفيديف يستبعد أن يؤثر ذلك كثيرا في الانطلاقة الروسية. انظر: “Medvedev Sees No “Dramatic” Change In Russia from Crisis,” Moscow-AFP, 1March 2009..
[20]الشيخ، “روسيا والاتحاد الأوروبي: صراع الطاقة والمكانة،” ص 65.
[21]الرئيس ميدفيديف من مواليد العام 1966، وهو أحد أقرب مساعدي الرئيس السابق بوتين. فقد عمل معه في مجلس مدينة سانت بطرسبورغ (لينينغراد سابقا) التي ينتمي إليها الرجلان. كما تولى ميدفيديف إدارة الحملة الانتخابية لبوتين، وتولى رئاسة فريق العاملين معه في الكرملين. ولا ينتمي ميدفيديف إلى المؤسسة العسكرية أو جهاز المخابرات الروسي الذي عمل فيه بوتين فترة طويلة.
[22]طه عبد الواحد، “العلاقات الأمريكية – الروسية في خطابات بوتين،” <جريدة النور – الرئيسية index.php?option=com_content&task=view&id=4574&Itemid=27>.
[23]كوثر الربيعي، “موقع روسيا من الإستراتيجية الأمريكية بين الاحتواء والهيمنة ومستقبل العلاقة،” ورقة قدمت إلى: ندوة “العلاقات الأمريكية الروسية والبحث عن توازن جديد”، الجامعة المستنصرية، مركز المستنصرية للدراسات العربية والدولية، نيسان/ أبريل 2009.
[24]أحمد عبد الحليم، “الإستراتيجية العالمية للولايات المتحدة،” السياسة الدولية، السنة 38، العدد 147 (كانون الثاني/ يناير 2002)، ص 198- 199.
[25]لمى مضر الإمارة، “العلاقات الأمريكية – الروسية: وآفاق المستقبل،” ورقة قدمت إلى: ندوة “العلاقات الأمريكية الروسية والبحث عن توازن جديد”.
[26]عيسى العبادي، “الإستراتيجية الروسية تجاه الولايات المتحدة،” نشرة أوراق دولية (مركز الدراسات الدولية، جامعة بغداد)، العدد 169 (أيلول/ سبتمبر 2008)، ص 24.
[27]سمير الظاهر، “أبعاد نشر الدرع الصاروخي الأمريكي في أوروبا… الأسباب والنتائج،” (بحث غير منشور، مركز الدراسات الدولية، جامعة بغداد، 2008)، ص 5.
[28]بال دوناي وزدزسلو لاتشوفسكي، “الأمن والمؤسسات الأورو- أطلسية،” في: التسلح ونزع السلاح والأمن الدولي: الكتاب السنوي 2007، فريق الترجمة عمر الأيوبي، حسن حسن وأمين الأيوبي: إشراف وتحرير مركز دراسات الوحدة العربية (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2007)، ص 114.
[29]تعد مشكلة انفصال إقليم أبخازيا عن جورجيا من أساسيات الصراع الروسي- الجورجي، إذ أيدت روسيا انفصال الإقليم، وبعد الحرب اعترفت به بوصفه إقليما منفصلا، كما عقدت معه اتفاقية دفاعية لحماية حدوده. حول جذور الأزمة الأبخازية، انظر: محمد رفعت الإمام، “جورجيا والأزمة الأبخازية،” السياسة الدولية، السنة 38، العدد 147 (كانون الثاني/ يناير 2002)، ص 141- 145.
[30]تعد مطالب بعض الأقاليم بالانفصال عن روسيا من أبرز أوراق اللعبة التي ضغطت بها الولايات المتحدة على روسيا، ولنتذكر مثلا القضية الشيشانية. انظر: كيفين اوفلين وآنا نيمتسوفا، “حرب منتشرة،” نيوزويك (العربية)، العدد 25 ‏(تشرين الأول/ أكتوبر 2005)، ص 38 ‏- 39.
[31]منير شفيق، “الحرب الروسية – الجورجية: مقدمات وأبعاد،” الجزيرة.نت، 17/8/2008.
[32]حول تضارب المعلومات بشأن سلمية البرنامج النووي الإيراني من عسكريته، انظر: عماد فوزي الشعيبي، “البرنامج النووي الإيراني بين الحقائق والتضخيم،” آراء حول الخليج (مركز الخليج للأبحاث)، العدد 48 ‏(أيلول/ سبتمبر 2008)، ص 28 ‏- 31.
[33]يلاحظ أن الصين اضطرت إلى التخلي عن شراكتها النووية مع إيران تلبية للضغوط الأمريكية عليها. حول ذلك انظر: أنوش احتشامي، “البرنامج النووي الإيراني: التحديات والخيارات،” آراء حول الخليج، العدد 48 ‏(أيلول/ سبتمبر 2008)، ص 26.
[34]حول آليات الموقف الروسي من البرنامج، انظر: أحمد عبد الله ناهي، “روسيا والملف النووي الإيراني،” آراء حول الخليج، العدد 48 ‏( أيلول/ سبتمبر 2008)، ص 54 ‏- 55.
[35]جورج فريدمان، “مبدأ ميدفيديف والإستراتيجية الأمريكية،” المستقبل الحربي، السنة 31، العدد 356 ‏(تشرين الأول/ أكتوبر 2008)، ص 123 ‏- 124.
[36]المصدر نفسه، ص 127 ‏- 128.

 

 

 

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button