حرب استنزاف بحسابات اقليمية في درنة الليبية

مقدمـــــــــة

تشهد المحاور المحيطة بمدينة درنة، شرق ليبيا، اشتباكات ضارية، منذ أسابيع، بين الكتائب التابعة لعملية “الكرامة” التي يقودها خليفة حفتر من جهة، ومقاتلين من أهالي المدينة الذين انضووا تحت “قوة حماية درنة” من جهة ثانية. ورغم تواتر الاشتباكات والغارات الجوية على المدينة ومحيطها منذ انطلاق عملية “الكرامة”، وخاصة منذ سنة 2015، إلا أن المواجهات الحالية تعد الأعنف، خاصة بعد الإعلان، رسميا، على أن الهدف منها السيطرة على المدينة والقضاء على ثوارها، كما حدث، من قبل، في مدينة بنغازي.

درنة: خصوصية الجغرافيا والتاريخ

تقع مدينة درنة على الساحل المتوسطي بالمنطقة الشرقية من ليبيا، وتحدها المرتفعات من الشرق والغرب والجنوب، ضمن سلاسل الجبل الأخضر. تعرف المدينة بطبيعتها الخلابة التي تغلب عليها الخضرة، وبوفرة مياهها وينابيعها وشلالاتها. وتطلق عليها نعوت عدة، بينها، “الزاهرة” لكثرة أزهارها ورياحينها، و”مدينة الصحابة”، حيث تؤوي مقبرتها العشرات من جثامين صحابة الرسول (ص) الذين دفنوا فيها زمن الفتح الإسلامي لشمال افريقيا. يبلغ عدد سكان مدينة درنة، بحسب تقديرات 2011، ما يزيد قليلا عن ثمانين ألف نسمة، ويتنسبون إلى قبائل عدة، بينها الشّواعر والعبيدات والمسامير والعوامي والسعيطات ووِرفلّة، وغيرها، غير أن مدينة درنة تظل مدينة غير قبلية التركيبة، عموما، حيث استقر بها قادمون من كافة أنحاء ليبيا، منذ الستينات، وخاصة من تاجوراء ومختلف نواحي العاصمة طرابلس، واندمجوا في نسيجها الاجتماعي. ومثّل التنوع الاجتماعي الذي وسم مدينة درنة بيئة خصبة للإبداع، حيث تعرف المدينة بالعدد الكبير من مثقفيها وشعرائها وفنانيها، كما مثّل هذا التنوع إطارا لإفراز حراك سياسي معارض ولإنتاج نخبة سياسية سجلت حضورها في مختلف محطات الصدام مع نظام القذافي، منذ السبعينات، ودفعت مقابل ذلك أعدادا كبيرة من القتلى والمساجين والمهجرين. ومنذ سنة 1996 تحولت الجبال المحيطة بالمدينة إلى حاضنة لتمرد مسلح خاض معارك كر وفر مع قوات القذافي، وتواصل، بوتيرة متقطعة، إلى حين اندلاع ثورة 17 فبراير 2011. وتعد مدينة درنة من المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام منذ الأيام الأولى من الثورة.

من طرد “داعش” إلى حصار “الكرامة”

ظلت مدينة درنة، منذ خروجها عن سلطة النظام في ثورة 17 فبراير، تحت إدارة الثوار والمجلس المحلي، إلى حين تمكن تنظيم الدولة “داعش” من السيطرة على بعض المواقع فيها، سنة 2014، حيث شن حملة تصفيات وإعدامات طالت قيادات عسكرية بارزة من الثوار وأئمة مساجد وشخصيات سياسية وثقافية. وفي الأثناء تأسس “مجلس شورى مجاهدي درنة وضواحيها”، وضم في صفوفه عناصر مدربة من ثوار المدينة، ودخل في مواجهات مع تنظيم الدولة، استمرت عدة أشهر وأسفرت عن طرد التنظيم، بعد مقتل عدد كبير من منتسبيه وقيادييه من الليبيين والأجانب. ومثّل طرد التنظيم من درنة أول هزائمه الميدانية منذ ظهوره في سوريا والعراق وتمدده إلى بلدان أخرى. ومباشرة بعد طرد تنظيم “داعش” تحركت الكتائب التابعة لعملية “الكرامة”، تحت مسمى “غرفة عمليات عمر المختار”، معلنة انطلاق عمليات عسكرية ضد المدينة بهدف “تحريرها من قبضة الإرهابيين”، في إشارة إلى “مجلس شورى مجاهدي درنة وضواحيها”، الذي تتهمه بالولاء لتنظيم القاعدة. ومنذ ذلك الوقت تتالت الغارات الجوية على مواقع بالمدينة وأطرافها وخاصة محوري الظهر الحمر والفتائح، وتصاعدت العمليات، منذ سنة، بفرض حصار خانق على مداخل المدينة، ومنع دخول المواد التموينية والأدوية وغاز الطهو والوقود إليها، ما تسبب في توقف أغلب المراكز الطبية وفي غلق الكثير من المحلات التجارية والمخابز. ومنذ مدة، أعلن المتحدث الرسمي باسم عملية “الكرامة” أحمد المسماري انطلاق عملية عسكرية للسيطرة على مدينة درنة وطرد مقاتلي “مجلس شورى مجاهدي درنة وضواحيها”، وبثت وسائل الإعلام التابعة لخليفة حفتر لقطات تظهر أرتالا من الآليات العسكرية المتوجهة إلى المدينة.

وتشهد المحاور المحيطة بالمدينة، حاليا، وخاصة بالناحيتين الجنوبية والشرقية، مواجهات ضارية وعمليات كر وفر بين قوات “الكرامة” و”قوة حماية درنة” التي انضوى تحتها مقاتلو المدينة بعد حلّ “مجلس شورى مجاهدي درنة وضواحيها”، ما أدى إلى سقوط عشرات القتلى وأضعافهم من الجرحى من الجانبين. وفي الآن نفسه، تواصل الطائرات المسيرة، التي كشفت مصادر إعلامية متواترة أنها طائرات إماراتية من طراز Predator MQ.9 Reaper تنطلق من قواعد الأبرق والخروبة والخادم، شن غارات متواصلة على مواقع بالمدينة.

معركة برهانات إقليمية

تعد مدينة درنة المدينة الوحيدة، في المنطقة الشرقية من ليبيا، الخارجة عن طوع قائد عملية “الكرامة” خليفة حفتر، بعد سيطرته على مدينة بنغازي إثر ما يزيد على الثلاث سنوات من الصراع الدامي الذي خلف أضرارا بالغة في البنية التحتية وشروخا اجتماعية غائرة وأعدادا كبيرة من القتلى والمبتورين والمهجرين[1]. ورغم الحصار والقصف الجوي المتواصل منذ ثلاث سنوات، ورغم لجوء حفتر، في أكثر من مناسبة، إلى الضغوط القبلية لإحداث اختراق اجتماعي وتسليم المدينة، إلا أن كل المحاولات باءت بالفشل، حتى الآن. وبالتوازي مع المساعي العسكرية والقبلية التي يقودها الصف الساند لعملية “الكرامة”، خرج الداعمون الإقليميون لحفتر، وخاصة مصر والإمارات، من الدعم الخفي إلى التدخل العلني لإلحاق مدينة درنة بالسياق السياسي والعسكري السائد شرق ليبيا، والذي يتنزل بدوره في سياق إقليمي أكبر للتعاطي مع تداعيات الثورات العربية وتحويل وجهتها نحو التشظي والفوضى وإعادة إنتاج منظومات الاستبداد.

ففي شهر شباط/فبراير 2015 شن الطيران الحربي المصري سلسة من الغارات الجوية على مواقع في مدينة درنة، مخلفا قتلى وجرحى. وأعلن الجيش المصري، حينها، أن غاراته استهدفت مواقع لمن وصفهم بـ”الإرهابيين”، غير أن الصور التي بثت إثر القصف أظهرت أضرارا بعدد من المنازل وضحايا من الأطفال. أما أعنف الغارات الجوية المصرية على درنة فقد نفذت في شهر أيار/مايو 2017 على مواقع في الجبيلة والفتائح والظهر الحمر ووسط المدينة، وأوقعت أكثر من ثلاثين قتيلا وأضعافهم من الجرحى. وبرر الجيش المصري العملية بسيطرة “مجلس شورى مجاهدي درنة” على المدينة وتوفيره حاضنة لمنفذي هجوم المنيا. وقوبلت العملية، حينها، بإدانات من المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني الذي يرأسه فايز السراج ومن بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، بعد ظهور صور دامية لضحايا القصف، والذين تبين أن أغلبهم من النساء والأطفال الذين باغتهم القصف العنيف أثناء وجودهم في حفل زفاف، غير أن البيانات الصادرة عن المجلس الرئاسي والبعثة الأممية اكتفت بالإدانة ولم تشر إلى الفاعل.

وعلى غرار ما فعلت مصر التي تقع مدينة درنة على الطريق الرابط بين حدودها ومدينة بنغازي، انتقلت الإمارات من طور الدعم اللوجستي والسياسي والإعلامي لعملية “الكرامة” وقائدها خليفة حفتر إلى طور التدخل العسكري المباشر من خلال تمركز قواتها الجوية في قواعد الخادم والأبرق وبنينا والخروبة واتخاذها منطلقا لشن الغارات بالطائرات المسيرة على مدينة درنة، وإعادة استنساخ تدخلها في معارك بنغازي التي شهدت هي الأخرى حضورا كثيفا لطائراتها المسيرة، والتي كان لها الدور الحاسم في معارك قنفودة والصابري وسوق الحوت، بعد عجز قوات “الكرامة” عن حسم المعركة التي امتدت على ثلاث سنوات. ورغم الصمت الإماراتي الرسمي بشأن مشاركة طيرانها في معركة درنة، وقبلها في معركة بنغازي، إلا أن وسائل إعلام مختلفة؛ أمريكية وفرنسية وإيطالية وعربية، بثت أشرطة فيديو وصورا بالأقمار الصناعية، تظهر الدور الذي تلعبه الطائرات الإماراتية المسيرة في عمليات الرصد والقصف.

جبهة ملتهبة وصمت سياسي

رغم مرور أكثر من ثلاث سنوات على حصار مدينة درنة، ورغم مرور ما يقارب الأسبوعين على انطلاق العمليات العسكرية الجارية، حاليا، لاقتحام المدينة، إلا أن ردود الأفعال الصادرة عن مختلف الفاعلين في المشهد الليبي تبدو في حدودها الدنيا. فقد اكتفى رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، المعترف به دوليا، فايز السراج بـ”متابعة ما يتوارد من أنباء عن العمليات العسكرية والقصف الجوي الذي يستهدف مدينة درنة بقلق شديد”[2]، دون تسمية أي من الأطراف المشاركة في القتال. ورغم خروج عضو المجلس الرئاسي محمد العماري زايد عن موقف رئيسه وتنديده بما يجري في درنة، فإن موقفه يظل شخصيا ولا يمثل المجلس الذي فككته الخلافات وصار السراج عنوانه الوحيد. أما بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، التي يرأسها اللبناني غسان سلامة، فقد اكتفت بتدوينة مقتضبة، على صفحتيها الرسميتين بشبكتي فيسبوك وتويتر، ذكّرت فيها “جميع أطراف النزاع المسلح في درنة بضرورة احترام القانون الإنساني الدولي واتخاذ جميع الاحتياطات اللازمة لضمان حماية المدنيين والمنشآت المدنية”[3].

وفي أثناء ذلك، تشهد العمليات العسكرية التي تشنها “غرفة عمليات عمر المختار” التابعة لعملية “الكرامة” تعثرا واضحا، حيث لم تحرز مكاسب ميدانية تذكر، بعد ما يقارب الأسبوعين من انطلاقها. ورغم التقدم النسبي الذي أحرزته، في الأيام الأولى، في المحورين؛ الجنوبي والشرقي، إلا أنها اضطرت للتراجع بعد هجمات منسقة شنها مقاتلو “قوة حماية درنة” وتمكنوا خلالها من قتل عدد من منتسبي “الكرامة” وغنم آليات عسكرية قاموا باستعراضها وسط المدينة. وتذكّر التعبئة الإعلامية التي تؤمنها عدد من القنوات الساندة لعملية “الكرامة” ببدايات حرب بنغازي سنة 2014، حيث ساد، حينها، خطاب يبشر بحسم سريع وبأقل التكاليف، غير أن مجريات الحرب، فيما بعد، أثبتت أن ذاك الخطاب لم يستند إلى معطيات ميدانية. ويخشى عديد المتابعين من أن تكون معركة درنة الحالية استنساخا لما جرى في بنغازي، بما يعنيه ذلك من ثمن إنساني ومادي واجتماعي باهظ، من شأنه إحداث مزيد من الشروخ في المنطقة الشرقية، خصوصا، وفي ليبيا، عموما. وتؤشر المعطيات الاجتماعية والميدانية في مدينة درنة، حتى الآن، إلى أن المعركة الحالية لن تكون، في كل الأحوال، معركة خاطفة. فالجبهة الاجتماعية الدرناوية تبدو أكثر تماسكا من جبهة بنغازي، ولم تفلح عملية “الكرامة” في تجنيد أبناء المدينة ضمن مشروعها أو تأليبهم على المقاتلين كما فعلت مع “الصحوات القبلية” في بنغازي. وتزداد صعوبة تحقيق اختراق لتفكيك الصفّ الداخلي في المدينة بعد استجابة “مجلس شورى مجاهدي درنة وضواحيها” لدعوات شخصيات اجتماعية وقبلية حلّ نفسه وانخراط مقاتليه في “قوة حماية درنة” التي تتولى، حاليا، قتال قوات “الكرامة”، في محاولة للنأي بنفسه عن أي ارتباط مفترض بتنظيم القاعدة والجماعات المصنّفة على لوائح الإرهاب، إضافة إلى التفويض الذي منح للوجهاء والشخصيات الاجتماعية للقيام بما تراه من الوساطات والمصالحات.

خاتمـــــــــــــة

يدخل الصراع الذي تشهده مدينة درنة بين قوات “الكرامة” من جهة ومقاتلين من المدينة من جهة ثانية، منذ سنوات، مرحلة جديدة أشد وطأة ودموية، بهدف إلحاق المدينة بالسياق العسكري والسياسي السائد شرق ليبيا برعاية الداعمين الإقليميين، وعلى رأسهم مصر والإمارات، غير أن حالة الحشد السياسي والعسكري والإعلامي الضخمة التي جهزت للمعركة تصطدم، حتى الآن، بمقاومة عسكرية وجبهة اجتماعية متماسكة، وهو ما ينبئ بأن أمد الحرب قد يطول أكثر مما يتوقع المتفائلون، مع ما يعنيه ذلك من ارتفاع الكلفة البشرية والاجتماعية والمادية.

خليفة علي الحداد

مركز الدراسات الإستراتيجية والديبلوماسية


[1]  راجع تقريرا بعنوان “عملية الكرامة في ليبيا، بين تصدع الصف وتعقد الحسابات”، مركز الدراسات الإستراتيجية والدبلوماسية، 9/11/2017.

[2]  بيان صادر عن رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني فايز السراج حول تطورات الأوضاع في درنة، بتاريخ 16/05/2018.

[3] الصفحة الرسمية لبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، بتاريخ 17/05/2018 https://www.facebook.com/UNSMIL

 

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button