روسيا من القوّة الخشنة الى السّلطة الناعمة

تظهر القوة الروسيّة على السّطح الدولي مثيرة للجدل في عهد الرئيس بوتين . وبين من يعتبر انها قوة حقيقية قد تقلب الاوضاع على الارض، وبين من يرى انها تقف عند تغيير اتجاه الاحداث فقط  ولا تستطيع حسم الامور وتغيير الدفة تماما، تتشكّل اليوم جغرافيا سياسية في منطقة الشرق الملتهب  بالمسالة السورية التي يتخمّر الجرح منها ولكنه يعرّي مطامع الجميع ويكشف تناقضات الغرب التي استغلتها روسيا بذكاء. بين مسيرة القوة الناعمة والخشنة لبوتين، يزداد الاعجاب بالرجل من قبل قيادات يمينية متطرفة في الغرب بل ومن الرئيس “دونالد ترامب” نفسه.  و تظل جدلية المركز والاطراف الكلاسيكية  حاضرة بقوة اتضح من خلالها ان تراجع المركز الامريكي حرّك الاطراف وتجلّت روسيا الطرف الاكبر في مفاوضات الاستانة 23-24 جانفي الماضي التي كانت نتيجة انتصار النظام السوري بالدّعم العسكري الجوي  الروسي .  

مقدّمة
يكمن تعقيد المسالة السورية في تراكم أبعادها، فالى جانب البعد المحلي الذي تشكله أطراف النزاع على الارض، نجد المستوى الدولي الذي تلعب فيه القوة الكبرى ،وخاصة الولايات المتحدة ،دورا محوريا. وبين هذا وذاك، نجد القوى الاقليمية التي تسعى لاستغلال المسالة السورية للحفاظ على التوازنات الجيوسياسيّة في الشرق الاوسط او لاعادة صياغتها ، وفقا لحساباتها ومصالحها. وتكمن اهمية روسيا في كونها متواجدة بشكل مباشر اوغير مباشر في مختلف هذه المستويات. فهي في الوقت نفسه قوة عالمية منافسة للولايات المتحدة والغرب ،خاصة في ظل امتلاكها لحق الفيتو في مجلس الامن. كما أن حضورها العسكري المباشر وتحالفها الاستراتيجي مع نظام بشار الاسد يجعلها ذات فعالية اقليمية ومحلية لا يستهان بها. ورغم ذلك فان انتصاراتها الديبلوماسية والعسكرية لم تؤدّ الى فرض سلم روسية في سوريا. وهو ما يطرح تساؤلات جوهرية عن طبيعة التأثير السّوري وحدوده .
1-  جدلية  المركز والاطراف
لقد جاءت مسيرة “استانا” التفاوضية التي انطلقت يومي 23 و24 جانفي كنتيجة مباشرة لمعركة حلب  وللانتصار العسكري الكبير الذي حققته فيها قوات النظام السوري المدعومة ايرانيا على الار ض ، والمحمية سوريا في الجو وفي مجلس الامن. اذ يعرف العقل الاستراتيجي الروسي حدود النص العسكري ان لم يقع  استثماره سياسيا. ومن ثمة شعور موسكو بضرورة الانتقال من موقف الدفاع العسكري و الديبلوماسي على نظام بشار الاسد الى دور اكثر فعالية من اجل اعادة رسم الخريطة الجيوسياسية في الشرق الاوسط.
وتعتبر تشكيلة الثلاثي الراعي لمباحثات آستانة ،والمتكونة من روسيا وايران وتركيا ،في ظل غياب شبه كلي للولايات المتحدة والاتحاد الاوربي ، عن تغيير عميق في توازن القوى الفاعلة في الشرق الاوسط. ويعتبر هذا التحول في حد ذاته نصرا كبيرا لبوتين الذي يستغل حالة الارتباك والتذبذب في السياسات الخارجية للديمقراطيات الغربية كي يصنع من الضعف قوة. ولتقييم الرهانات موضوعيا ،ينبغي الانطلاق من الضّعف البنيوي الذي تعاني منه موسكو. فكثرة الحديث الصحفي عما يسمّى بانتفاضة” الدبّ الروسي” وعن عودة الحرب الباردة عادة ما يوهم  بظهور عملاق جديد على الساحة الدولية، ولكنه عملاق ساقه من طين. فعلى سبيل المثال ، يعاني الاقتصاد الروسي من هشاشة تحد جوهريا من وزن موسكو الاستراتيجي. فبالإضافة الى تبعيته لقطاع المحروقات ، لا يمثّل ناتجها الداخلي الخام اكثر من 2%  من الاقتصاد العالمي. اي ان مساهمة الاقتصاد الروسي عالميا لا تتجاوز مساهمة بلد اوربي كايطاليا. ومن ثمة أهمية التساؤل عن سر النجاحات الاستراتيجية التي حققتها موسكو خلال الخمس سنوات الاخيرة.  يجب التفكير ابتداء بجدلية كلاسيكية في تحليل العلاقات الدولية الا وهي جدلية المركز والاطراف. فمنذ ظهور كتاب “ادوارد غِيبْن “في القرن الثامن عشر حول تاريخ تراجع و انهيار الامبراطورية الرومانية صارت تبعات التضارب بين مسؤوليات المركز وطموح الاطراف واضحة للعيان في تحديد التوازنات الدولية. فالمؤرّخ البريطاني ، الذي نشر كتابه  ايام حرب الاستقلال الامريكية ، يفسر انهيار الامبراطورية الرومانية  بالتكلّس الذي اصاب المركز في روما  فاضعف هيكليا ارادة الامبراطورية ودعم سببيا طموح الأطراف للانعتاق ورغبتها في التمرّد.
ويبدو ان العالم يعيش اليوم وضعا مشابها . فالغرب ، وخاصة مركزه في واشنطن ، يعيش حالة من الانكفاء على الذات ،تجلّت اولا في نزوع إدارة اوباما  الى السلبية في التعاطي مع القضايا الاستراتيجية ، لكي تتاكد بعد ذلك من خلال عودة التيار الانعزالي الى الواجهة مع نجاح “دونالد ترامب” انتخابيا .فقد ادى الفشل الامبراطوري لواشنطن ،خاصة في أفغانستان والعراق الى احتقان لدى الراي العام الامريكي خصوصا والغربي عموما. وقد برز هذا الاحتقان  مثلا من خلال مساءلة الاحادية الغربية والمطالبة بتعددية قطبية. اي ان الغرب قد اصبح  في مفارقة عجيبة  يطالب بظهور منافسين له. فاستجاب له بوتين حين أتيحت له اول فرصة في اوكرانيا ، ثم في سوريا  من اجل إعادة بناء ما يسميه مجال التاثير الروسي. وفي هذا السياق يتنزل اختيار “آستانا” في كازخستان لاحتضان جولات مفاوضات التي اراد لها بوتين ان تكون تتويجا لمسار بدا منذ بضعة سنوات. وكان المركز الامبراطوري العالمي في واشنطن هو من أتاح هذه الفرصة. اذ ان اوباما كان قد اعتبر ان الولايات المتحدة لا تتحمل مستنقعا سوريا ينضاف الى المستنقع العراقي. وعليه فقد اقرّت ادارته ضمنيا بان سوريا تقع خارج مجاله الجيوسياسي. واثبت  ذلك بعد ان اظهر اوباما هامشية المسالة السورية لديه حين لم يحرك ساكنا بعد ان تجاوز النظام السوري ماسماه   هو نفسه    الشرط الاحمر المتمثل في استخدام النظام للاسلحة الكيمياوية ضد شعبه. ومنذ تلك اللحظة ،ايقن بوتين ان يده مطلوقة في سوريا. فاقترض من الغرب حجّة الحرب على الارهاب ، واقترض من الشرق حلم عودة توازن الحرب الباردة ، فانطلق في سعيه لاعادة تشكيل مجال التاثير الروسي في الشرق الاوسط. فقد كان التدخل العسكري في سبتمبر 2015 تتويجا لمسيرة ديبلوماسية مرت بطهران والقاهرة ندليلا واضحا على حيوية الاطراف في مقابل ركود المركز. اي ان المغامرة الروسية في سوريا لم تعتمد القوّة الذاتية بقدر ما قامت على التناقضات الغربية في التعاطي مع التحديات التي فرضته ثنائية الثورات العربية والظاهرة الارهابية.
2- بوتين ورهان بناء القوّة الناعمة
لقد اثبت التدخل الروسي عمليا ضعف موسكو التي لم تحقق بعد سنة ونصف من تدخلها الا انتصارات جزئية ، غيرت بالتاكيد اتجاه الاحداث على الارض لصالح نظام الاسد ،دون ان تؤدي الى حسم المعركة وفرض الاستقرار. والمفارقة ان هذا الضعف قد قوبل غربيا بانتشار الاعجاب ببوتين ،خاصة لدى زعمماء اليمين واليمين المتطرف. ومن ابرزهم “دونالد ترامب” المنتشي بفوزه بانتخابات نوفمبر في الولايات المتحدة و”فرانسوا فيون” و”مارين لوبان” ابرز مرشحي الانتخابات الرئاسية الفرنسية. وهو اعجاب يعبر اساسا عن امتعاض من الذات وما اصابها من وهن. فحزم بوتين قد صار مرآة يرى على صفحتها جزء من الراي العام الغربي حنينه الى عنفوان يتحمل هو جزءا من مسؤولية ضياعه  في حين تتحمل النخبة الكلاسيكية المسؤولية الاكبر من خلال تذبذبها بين بطولات في اعطاء دروس في الديمقراطية تقف عند الكلام، وعجز سياسي عن دعم الديمقراطية يصل حد الخيانة. فاصبح الغرب مسؤولا اخلاقيا عن انهيار الانظمة التي كانت تفرض الاستقرار كنظام القذافي ، ومن قبله نظام صدام حسين. وهي مسؤولية  يتذوّتها الوعي الغربي تدريجيا منذ 2003، وتكاد اليوم تتحول لديه الى عقدة ذنب تمنعه من ان يقف اي موقف ايجابي. فحتى من ليس معجبا ببوتين ك”تيرازا مايْ” رئيسة الحكومة البريطانية ، و”فرانسوا هولاند” الرئيس المتخلي بفرنسا و”انجيلا ميركل” رئيسة الحكومة الاالمانية ،قد اصابهم داء الانكفاء. فهم يؤكدون على ضرورة التركيز على الاولويات الداخلية والمحلية ،كتحدي الهجرة ، ولذلك على حساب الرؤى الاستراتيجية . اي انهم يريدون مواجهة الاعراض دون السعي الى استصال الداء، وهو ما يحرم  الغرب من حلفائه الطبيعيين الذين   يجدون في موسكو قبلة يولّون  اليها وجوههم.
وفي المقابل ، أمسى بوتين يدعي تزعم العالم في الدفاع عن المبادئ التي تقوم عليه الشرعية الدولية. ،كسلامة الدول ووحدتها الترابية. وقد هيكل الخطاب الديبلوماسي الروسي حول محور بسيط قد يبدو للمختصين تبسيطيا، ولكنه يظهر للرأي العام واقعيا بحكم انسجامه مع تطور الاحداث على المدى القصير. تقول موسكو : ان الغرب يتحمل مسؤولية انتشار الارهاب. فتدخله في الشؤون الداخلية للبلدان لم يؤد الى انشاء الديمقراطية بقدر ما أدّى الى زعزعة الاستقرار. وبالتالي يكون الغرب قد أهدى بوتين رمزية وقوة ناعمة استغلها من اجل التعويض عن ضعفه الذاتي. ومن علامات ذلك المفارقات التي يعيشها العالم العربي اليوم، والمتمثلة في اقتران مناهضة التدخل الغربي في العالم العربي لدى البعض  مع استبشار ومساندة غير مشروطة للتدخل الروسي.  وكان التدخل الخارجي لدى هؤلاء أصناف ،منها المرفوض ومنها المرغوب .وقد استفاد بوتين من تناقضات الغرب لاستدراج تركيا ، أحد اعضاء الحلف الاطلسي ،الى المحور الذي تشكل مفاوضات “آستانة” محطة في سبيل بنائه. فقد ادرك اردوغان عبثية التعويل على قوته الذاتية التي ظهرت حدودها بعد التهاب الشرق الاوسط من حوله. اي ان حلم العثمانية الجديدة التي نظّر لها “احمد داوود أغلو” لم يكن ناجعا الا في اطار استقرار  المحيط  القريب لتركيا، وفي سياق سياسة انعدام المشاكل مع الجوار القريب. اما وقد فرضت هذه المشاكل على انقرة ، فقد تجلي هشاشة الوزن الاستراتيجي التركي في الخارج.  النظام السياسي ثم تسرّبت هذه الهشاشة بعد ذلك الى الداخل من خلال انفجار المسالة الكردية وتواتر العمليات الارهابية . وقد اصابت اخيرا لبّ النظام السياسي لا سيما  في صائفة 2016 مع  محاولة الانقلاب وما عقبها من تحديات. وقد اهدى الغرب فرصة اخرى لبوتين من خلال تاخره في التنديد بمحاولة الانقلاب ،ثم بعد ذلك من خلال امعانه في اعطاء دروس الديمقراطية  للنظام التركي. وقد وصل هذا الامعان درجة الإهانة حين منعت المانيا وهولندا وزراء تركيا ومسؤوليها من تنظيم مسيرات مع جاليتها التركية في اطار حملة الاستفتاء على الدستور المقرر في 16 افريل القادم 2017. وبالتي ادرك اردوغان ان لا امل في التعويل على الحلفاء الغربيين التقليديين  في لحظة يحتاج فيها اكثر من اي وقت مضى للدعم الخارجي. فهو متوجس من سعي الغرب الجاد الى انشاء كيان كردي على حدوده . وهو خط احمر بالنسبة لانقرة منذ انشاء الدولة التركية. اي ان اردوغان ليس في هذا السياق سوى وريث مصطفى  اتارتورك أب القومية التركية ، ولكن السياق غير السياق . فلئن اختار المؤسس التحالف مع الغرب ن فان وريثه يجد نفسه مدفوعا شيئا فشيئا الى ان يوليى وجهه شطر الشرق حيث يجد موسكو. ومن ثمّة ضرورة القبول بمنطق بوتين  الذي اصبح في نظر اردوغان الرجل الاقوى في منطقة جواره التي كان من المفتر ض ان تشكل مجال ممارسة العثمانية الجديدة.  وقد انعكس ذلك مباشرة على موقفه من المسالة السورية من خلال تخليه التدريجي عن المعارضة في حلب واعترافه الضمني بأولوية التأثير الروسي في المنطقة. اي انّ اردوغان ، باعادة ترتيب اولوياته في مجال جواره ، وبانكفائه عمليا على مجاله التركي ،قد زاد في فسح المجال امام امتداد التأثير الروسي ،خاصة في أشكاله الديبلوماسية غير الخشنة التي تعبر “آستانة” تجليها البارز حتى الان.  وتكمن المشكلة الاساسية، سوريّا، في ان هذا التاثير الذي اكتسبه بوتين لا يمكن باي حال من الاحوال ان يجيب عن الاسئلة الاساسية التي تطرحها الازمة. ونتائج “آستانة” ،بعد شهرين كاملين من اطلاق مسارها اكبر دليل على ذلك. اذ انها لم تحقق اي تقدم يذكر نحو تحديد مستقبل نظام الاسد وماهية التوازنات السياسية التي يراد انشاؤها بعد ان تضع الحرب اوزراها ، وكيفية التعاطي مع انتشار التشدد الديني والانقسام الطائفي. ذلك ان فرض الاجابات التي تدور بخلد بوتين يحتاج الى قوة فعلية لا يملكها. وهو ما يعني عمليا ان تدخل موسكو لن يكون في نتائجه افضل بكثير من التردد الغربي . فهو يزيد في تعميق الاحتقان على الأرض دون ان يوفّر قوة قادرة على كبح جماحه.
خاتمة 
لا شك ان “آستانة” لا تحلّ الازمة السورية. ولكنها تشكل لحظة رمزية في سياق اعادة توزيع الادوار في الشرق الاوسط . ومن المتوقع ان تتواصل الديناميكية الروسية الايجابية ،خاصة مع تاكيد الرئيس الامريكي الجديد على اولوية المسائل الاقتصادية على المسائل  الاستراتيجية، ومع قناعته بان التحدي الاكبر قادم من بيكين لا من موسكو مما يعني انه قد يتنازل ،طواعية هذه المرة ،عن مزيد من مجالات التاثير التي يطمح لها “صديقه بوتين” ،  وذلك ربما في مقابل دعم هذا الاخير لواشنطن في ضغطها على الصّين. وتكمن المشكلة الاكبر في ان التوازنات الجديدة لا توفر اطارا جديا لاعادة فرض الاستقرار في المنطقة العربية. فالمحور المتكون من موسكو وطهران وانقرة ملغوم بتناقضات لا تنبئ بالنجاعة المطلوبة. اما الوضع الخاص الذي بات يحظي به بوتين في المنطقة ، عسكريا من خلال حضوره المباشر  ورمزيا بفضل الحظوة التي صار يتمتع بها لدى جزء من النخب العربية الحالمة بعودة توازنات الحرب الباردة ،فانه لا يمكنه من فرض حلوله على الارض وهو ما يعيد الازمة السورية الى بعدها المحلي الذي تحكمه  العداوة السوداء بين مختلف أطرافه.وهي أطراف قد تتأثر بالضغوط الخارجية التي تفرضها حسابات حلفائها، ولكنها تظل تتمتع بهامش من حرية الفعل ينبئ باستمرا الازمة.
الدكتور ايمن البوغانمي
عن مركز الدراسات الاستراتيجية والديبلوماسيّة.

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button