قضايا فلسفية

قراءة في كتاب من هم العرب:تاريخهم منذ بداية الإنسان حتى البعثة النبوية – وليد عبد الحي

يندرج هذا الكتاب الذي الفه الباحث السعودي حسن بن محمد جابر في إطار دراسات الانثروبولوجيا بفروعها الاربعة:1- الطبيعية (التي تدرس علم العظام(Osteology) وبنية الجسد الانساني(Human Morphology) ومقاييس الجسم الانساني(anthropometry)) 2-الااثنروبولوجيا الاجتماعية او الثقافية( الحياة الثقافية والاجتماعية لمجتمع معين عبر التاريخ بما فيها النظم الاقتصادية والقوانين والسحر والدين) 3-الانثروبولوجيا الحضارية( المساكن والألبسة والفنون وسبل التواصل) 4- الانثروبولوجيا التطبيقية( مشاكل التواصل مع المجتمعات الأخرى والتي هي اقرب للدراسات الاستعمارية).


حاول باحثنا في هذه الدراسة ان يتناول كافة ميادين الدراسات الانثروبولوجية ويطبقها على ” العرب” متكئا أحيانا على النصوص الدينية والأساطير ، وأحيانا على كتب التاريخ ومصادره المختلفة ،وأحيانا على علم الجينات( المورثاتية)، وتركزت الدراسة على عدد من العوامل التي رسم من خلالها رحلة العرب عبر العصور وهي: الهجرات والاختلاط بالشعوب الأخرى، وتأثير المناخ من زلازل وبراكين وجفاف او طوفان او جليد على حركتهم، حركة التجارة بين هذه الشعوب، وأخيرا الحروب بين شعوب المنطقة وما حولها، ليصل إلى استنتاج يرى ان علم الجينات(المورثات) يعززه وهي أن اقتصار مفهوم العرب على سكان الجزيرة وما حولها هو أمر غير دقيق علميا وتاريخيا كما أن النقاء القبلي للقبائل العربية هو أم غير دقيق كذلك بل إن الانساب غير دقيقة(مستثنيا نسب الرسول كما يقول الباحث)(صفحة 180) .

وعند التمعن في مضمون الدراسة ونتائجها يبدو أنها من البداية حائرة بين النظرية الدينية (نظرية الله والخلق) وبين نظرية داروين( التطور عبر التكيف) لا سيما في ألأجزاء الاولى ، فباحثنا يقسم الجنس البشري من السطر الأول(صفحة 7) إلى مرحلتين أوليتين :الانسان العاقل(آدم وزوجته) ، أما قبل ذلك فيقول الباحث ” كان هناك وجودا بشريا في صور مختلفة على مراحل كل منها أكثر تطورا من سابقتها “، ولعلي لا أبالغ إذا قلت ان رأي الباحث هنا هو اقرب “للتلفيق العلمي”، لان القبول بالنظرية الدينية يعني ان الجانب الخاص بالجينات يبدأ من آدم( المخلوق من طين وليس من وجود بشري سابق عليه) بينما القبول بنظرية التطور يعني البحث في جينات ما قبل آدم، وعليه فإن البحث مبني على” التلفيق” فهو يبدا من آدم ويقر في الوقت نفسه بوجود بشري قبله وأن هذا الوجود البشري “تطور” على مراحل كل منها أكثر تطورا من سابقتها. فما هو نوع الوجود البشري “قبل آدم”؟.. لا نجد أي توصيف له نهائيا في هذه الدراسة.


من ناحية أخرى كان البحث انتقائيا(رغم الحشد الكبير لقائمة المراجع)، إذا ان الباحث كان ينتقي رواية تاريخية معينة ويبني عليها دون أي اعتبار للروايات الأخرى وكأنه حكم عليها بعدم الصحة، وهو أمر جعل من علم الانثروبولوجيا والتاريخ علوما منقادة بكل يسر لباحثنا،وهو أمر لا أراه مستساغا، ففي اعتماده على النصوص الدينية كان يُسلم بالرواية القرآنية ويستبعد غيرها من الروايات، لكنها عند الغرق في تفاصيل الحدث المروي(والقران نادرا ما أشار للتفاصيل) يتكئ باحثنا على استنتاجات بناها من النصوص الدينية الأخرى رغم انها قد تروي الحدث بطريقة مغايرة( وتظهر هذه في تناوله لقصص الانبياء أو الملوك).

لا أجد البحث جديدا ولا مفيدا، بل ورغم دعوته للانفتاح على المجتمعات الأخرى(صفحة 187)، فإنه يخلق نزعة ” مركزية عربية” مقابل النزعة المركزية الأوروبية( أنظر الصفحات 5 و6 من الباب الأول لا سيما (من السطر 16)، بل يضع الباحث العرب في إطار يجعل منهم أصل الشعوب قاطبة مستندا لنماذج من دراسات جينية قليلة، وهو أمر يحتاج لحذر في تناوله ، ففي الانثروبولوجيا هناك نظريتان: النظرية الاولى هي التي يطلق عليها النظرية الانتشارية( ان الحضارة الانسانية بدأت في مركز واحد وانتشرت لمناطق أخرى، وهي التي تبناها عالم التشريح اليون سميث وتلميذه وليم بيري وكلاهما يرى ان الحضارة الانسانية بدأت في مصر ثم انتشرت لمناطق أخرى، والنظرية الثانية هي التي وضع اسسها فريتز جراينور ومعه وليم شميدت، وهي ترى ان فكرة المركز الحضاري الواحد اقرب للخيال، وان الحضارة نشأت في مراكز متعددة ثم تلاقحت هذه المراكز فنشأ التنوع الثقافي من الهجين، وباحثنا لم يتنبه لنقد المدرسة الثانية للمدرسة الاولى لذا لم يراع الحذر في سرده للمركزية العربية.


لكن الباحث نجح من زاوية أخرى في رسم صورة عامة عن تفاعلات العرب مع غيرهم وتأثير الحروب والهجرات والتجارة والظروف المناخية والاختلاط بينهم وبين غيرهم،وتتبع بشكل تاريخي مراحل التاريخ العربي حتى البعثة النبوية، جاعلا من العراق والشام والجزيرة ومصر واليمن هي “المنطقة المركزية للعرب وهي بدورها مركز الحضارة الإنسانية .


يقع متن الدراسة في 187 صفحة، توزعت على خمسة عشر بابا ومقدمة، يتركز الاول على فكرة الحضارة المركزية للحضارة الانسانية التي يعتبر أنها في “المنطقة العربية”، في بابها الثاني تسرد الدراسة بداية الوجود البشري من آدم( في الحبشة) وانقسم شعبه في مراحل لاحقة لثلاث شعب في افريقيا وبعدها انتقل بعضهم لآسيا، ثم أوروبا والمتوسط ونحو فلسطين(كل هذا خلال العصر الحجري السفلي)، وفي العصر الحجرى الأعلى تعرف الانسان على البذار والصيد، ليصل لمرحلة النبي نوح ليتابع ما جرى وصولا للانتقال البشري في هذه المرحلة لكندا وأمريكا الشمالية.(الصفحات 9-11)،يتركز الباب الثالث على قصة الطوفان وتوزع من كان مع نوح في آسيا واوروبا(16)، ويتحدث في الباب الرابع عن “الطفرة الوراثية” وانقسام الشعب السامي لثلاث قبائل، ثم يطرح فكرة مخالفة لما هو سائد في أن ” الدين ” من وجهة نظره هو أساس قيام المجتمعات وليس الزراعة معتبرا بناء المعابد نقلة نوعية في الحضارة البشرية(24) مشيرا لاكتشاف زراعة القمح في “أريحا” بفلسطين، اما اللغة فيرى ان الأصل فيها هو اللغة الأفروآسيوية ومنها تشعبت اللغة السامية(وفروعها ومنها العربية ) واللغة النيلية(وتفرع منها الأمازيغية والقبطية..الخ)(ص.25) وهي الفترة التي تداول على قيادتها الآراميون والعموريون مشيرا لدور المناخ في مصير الحضارة الآرامية.

وفي الباب الخامس، يستعرض بداية التطور في مجال المعادن (الحديد مع العموريون) مركزا واستنادا على قصة جلجامش المشهورة لتبيان أثر المناخ (الجفاف) وسلسلة المعارك والهجرات في هذه المرحلة، ثم يواصل الكشف عن دور العموريين في اكتشاف المعادن(وهذه المرة النحاس)، ليتتبع في هذا الفصل دور ما عرف “بذي القرنين” لكنه يعيد له دور نشر التوحيد والغاء العبادات السابقة التي عادت لا سيما الوثنية منها بعد موت ذي القرنين(41). ويواصل في بابه السابع رصد دور العموريين (هذه المرة في مجال زراعة الزيتون وعصره للمرة الاولى في فلسطين)، ويتنقل الكاتب في عرضه للديمقراطية في أثينا ودور قدموس(الذي اطلق اسم أوروبا)، إلى حضارة البدارين في وادي النيل مركزا على دور النبي إدريس(46)، ثم ييتبع الوضع في العراق ومصر مع اهتمام بتشكل اول دولتين مركزيتين في التاريخ(مينا في مصر وسرجون الأكادي في العراق)(52).في الباب الثامن يتناول الصراع بين الدولتين المركزيتين(الفراعنة والأكاديين) نتيجة الهجرات بشكل خاص، لينتقل للتاريخ اليمني نافيا وجود الشخصية المشهورة “قحطان”(57)، ويحاول تتبع علاقات لغات المنطقة ببعضها وكيفية تشكل اللغة العربية “الجنوبية” و ” الشمالية”، ثم ظهور النبي “ابراهيم الآرامي” وصراعه مع قومه والذي دفعه للهجرة لبلاد كنعان.ويحاول ان يرصد في هذا الباب دور عاملين مهمين في مجريات الواقع وهما دخول الحصان المدجن وتأثيرات المناخ لا سيما على طرق التجارة ويربط ذلك بقصة النبي يوسف(62-70).

في الفصل التاسع يتتبع اثر اكتشاف الحديد والهجرات لتحليل العلاقات بين الشعوب الهندو اوروبية والصراع مع بني اسرائيل ودور دولة سبا في اليمن.، في الباب العاشر يتتبع الصراع بين آشور بخاصة فترة سرجون الثاني مع مصر والثورات البابلية ودولة سبأ .ويبحث في فصلة الحادي عشر تراجع ثلاث قوى هي الآشورية والبابلية والمصرية وعلاقات فارس مع اليهود(قورش) ومع المصريين(قمبيز) ثم الصراع على طرق التجارة بين دولة سبا والأنباط، لكنه يولي اهتماما لدور الفنيقيين في التطور العلمي للمنطقة ثم علاقة المنطقة مع الدولة الرومانية.ويولي الباحث اهتماما في الفصل الثاني عشر للنصرانية وتمييزها عن المسيحية وأهمية دور شاؤول(بولس) في ذلك(121-122)، وفي الباب الثالث عشر يتناول الصراع بين الفرس والروم على المنطقة من ناحية وصراعهم مع العرب من ناحية أخرى رغم ان العلاقة العربية الرومية كانت أقل حدة بخاصة قبل تدميرهم لتدمر(134)، ويعطي اهتماما في شرح هذه الفترة لدور امرؤ القيس(النصراني) وصراعه مع الساسان واستنجاده بالروم. في الباب الرابع عشر يشير لتوحد الصين وتفكك الهند مستعرضا بعد ذلك القبائل العربية وأحوالها وصراعاتها وتجارتها ونظمها الاخلاقية حتى الدعوة الاسلامية مستندا في ذلك لتحليل قيمي للمعلقات الشعرية بل ومتهما من أنكر الشعر الجاهلي “بالسذاجة(كأنه يشير لطه حسين)(159-170)،،وفي فصلة الأخيرينفي وجود قومية كردية ومشككا في ان اليمن أصل العرب داعيا لانفتاح عربي ودعم اللغة العربية والبحث التاريخي.


ارى ان الدراسة حائرة بين منظورين (التطوري والديني) كما ان فيها انتقائية في اختيار النظرية الانثروبولوجية في نظرية المركزية الحضارية وفي تفسيرات وقائع كثيرة، كما ان الباحث ورغم اشارته لدور المورثات(الجينات) لدعم الأصل الواحد، فإن ما عرضه غير كاف من ناحية ولماذا اعتبر العرب من ناحية ثانية هم الاصل رغم أن البداية كانت في افريقيا من آدم ذي البشرة شديدة السمرة كما يقول” (صفحة7).


ومن الملفت أن الباحث تجاوز النظرية الوظيفية البنائية في الدراسات الانثروبولوجية ،وتقوم هذه النظرية على دراسة تاريخ ونشأة وعلاقة وانتشار كل عنصر ثقافي في ثقافة معينة على حدة، وكما هي قائمة لحظة الدراسة وليس كما كانت عليه او كيف تغيرت(كما يرى مالينوفسكي).


متابعة هذه الدراسة مرهقة للغاية، بسبب الانتقال من مكان لآخر ومن موضوع لآخر في نفس الفقرة ،كما أن طريقة التوثيق مرهقة للقارئ في تتبع مصادر المعلومات نظرا للكيفية التي اعتمدها(سأعود لها لاحقا).


وفي صفحة 24 يرى الباحث ان الدين مصدر تشكل المجتمعات وليس الزراعة(النظرية السائدة)، ومع أن الباحث لم يحدد لنا تعريفه للدين، فهل طقوس السحر تعد دينا، وهل النظم الاخلاقية تعد دينا؟ وهل الدين هو فقط”الدين السماوي” ام أن الاديان غير السماوية تدخل في التعريف،فهل الكونفوشية دين ام لا؟ فهل الأديان هي التي دفعت الناس للاجتماع بفعل الذهاب للمعبد ام أن الزراعة هي التي “أجبرتهم على التجمع والتزاوج، وكان ارسطو يرى ان “الدافع الطبيعي يقف وراء تشكل المجتمعات”، ويرى انجلز ان ادوات وانماط الانتاج كانت وراء نشوء المجتمع بينما يرى دوركهايم ان “تقسيم العمل” يقف وراء نشوء المجتمعات…وهكذا، بينما الباحث ينتقي نظرية (وله الحق في ذلك ولا ننازعه فيه) ويبني عليها، وهو أمر يستوجب عليه ان يتعمق في تقديمه واستناده لها، بمعنى ان يقدم الدليل على ما فرضياته ،لا أن يضع الفرضية ويبني عليها دون برهنتها أولا.


أرى ان ثمة فجوة بين موضوع الدراسة وبين منهجيتها،وارى ان الباحث تبنى ما توصل له بعض الباحثين في جامعة ليدز البريطانية (اصل البشرية عرب)لكن باحثنا لم يتنبه إلى ان دراسة ليدز أستثنت الأفارقة من استنتاجها إذا أن جماعات منهم كانوا قد هاجروا من القارة الافريقية للجزيرة..بينما الباحث تجاوز هذا الاستثناء انظر الدراسة المنشورة التالية : (وهي لعدد من الباحثين)
Indigenous Arabs are descendants of the earliest split from ancient Eurasian populations
وهي منشورة في مجلة Genome Research-، العدد 26 المجلد 2، الصفحات 151-162.
من جانب آخر لا يدقق باحثنا في بعض ما يسرده ، فمثلا يورد طريقة المقايضة في التجارة الفنيقية بطريقة مسرحية (صفحة 89)، لكن الدراسات الخاصة بنظم المقايضة زمن الفنيقيين لا تذكر ان الذي كان يبتعد عن السلعة هي السفن، بل الذي يبتعد ويقترب هو البائع طبقا لمستوى المقابل المعروض عليه لشراء السلعة ، لذا وصفت تجارتهم بالمقايضة دون كلام…الخ.

وليد عبد الحي

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى