دراسات سياسية

قمة الناتو: تعزيز التعددية القطبية وتراجع الهيمنة الأمريكية

ضغط الرئيس الأمريكي على حلفائه الأوربيين في قمة الناتو المنعقدة في بروكسل يومي 11و12 /07/2018 من أجل رفع مساهمتهم في نفقات الحلف إلى 04 بالمائة، وركز بالذات على ألمانيا كأقوى اقتصاد في أوربا، مدعيا أنها أسيرة لروسيا للحصول على حاجاتها من الطاقة مقابل عشرات المليارات من الدولارات، وتطالب الولايات المتحدة حمايتها من روسيا.

كان الرد الألماني من قبل المستشارة الألمانية ووزير خارجيتها دقيقا ومتزنا ويحمل رؤية إستراتيجية للدور الألماني المستقبلي.
أجابت أنجيلا ميركل الرئيس الأمريكي بأن “ألمانيا تتخذ قراراتها بطريقة مستقلة”، وأجاب وزير خارجيتها بأن “ألمانيا ليست تابعة للولايات المتحدة ولا إلى روسيا”؛ كلاهما لخص السياسة الدفاعية المستقبلية التي تعزز الدور المستقل والمتوازن بين القوة الاقتصادية والعسكرية في شكل مستقل عن القوى التي هزمت ألمانيا في الحرب العالمية الثانية. منذ نهاية الحرب، فرض على ألمانيا خلال فترة التقسيم الإكراهي أو بعد إعادة التوحيد عام 1989 ممارسة الدور الثانوي التابع في الشؤون الإستراتيجية.

بدا الرئيس الأمريكي معتقدا أنه مساوم جيّد، برغماتي عقلاني، ووطني ووفّي للأمة الأمريكية عند مطالبته ألمانيا بزيادة نفقاتها العسكرية؛ لكن دون يحسب أن العواقب الإستراتيجية لمثل المقاربة. صحيح أن رفع نسبة مساهمات باقي الأعضاء إلى 02 بالمائة سوف تستفيد منها الولايات المتحدة في المقام الأول، لأنها سوف توجه إلى تطوير برامج التسلح الجديدة الخاصة بالدرع الصاروخية، الذخائر الذكية، القاصفات الإستراتيجية، الروبوهات القتالية، والأسلحة السبرانية؛ والدولة المتقدمة في تكنولوجيا هذه الأسلحة هي الولايات المتحدة، ومن ورائها ألمانيا، الدولة الأوربية الوحيدة التي لديها إمكانيات اقتصادية وبنية تحتية لتمويل وتطوير برامج التسلح الإستراتيجي الجديدة للناتو.

لكن في نفس الوقت، عملت الضغوط الأمريكية باتجاه دفع ألمانيا نحو زيادة نفوذها العسكري داخل الناتو ومن وراء ذلك عبر العالم، وهذا يعني على المدى المتوسط تعزيز التعددية القطبية في أوربا، والتي سوف تكون على حساب النفوذ الأمريكي؛ على اعتبار أن النفوذ الأمريكي على أوربا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أسس على عاملين أساسيين وهما: الاقتصاد (مشروع مارشال)، والعامل العسكري (الانتشار العسكري الأمريكي). وعندما يقوم الأوربيون بتمويل ميزانية دفاعهم بأنفسهم ويواجهون حربا تجارية من أمريكا، فسوف لا يحتاجون لأمريكا، ويتجهون إلى قوى أخرى مثل الصين، الهند، ومنطقة الأسيان.
من التاريخية، مطالبة ألمانيا بالمساهمة في الشؤون العسكرية ليست مبادرة أمريكية جديدة، وإنما أول من دعا إلى إعادة تسليح ألمانيا هو الرئيس إيزنهاور في بداية خمسينيات القرن العشرين تحت تأثير الحرب الكورية ورغبة الإدارة الأمريكية التركيز على احتواء المد الشيوعي في منطقة أسيا المحيط الهادي، لكن تراجعت عن المبادرة بسبب الموقف الفرنسي المتصلب الرافض لإعادة تسليح ألمانيا.

الآثار الإستراتيجية الأخرى للسياسة الأمريكية نحو ناتو، هي تصعيد المخاوف الأمنية لدى القوى غير الأطلسية، وبالذات روسيا والصين، لأن زيادة النفقات العسكرية لحلف الأطلسي يعني زيادة التدخل العسكري وتنشيط البرامج العسكرية المتقدمة، التي سوف تكون على حساب أمن الصين وروسيا. فقد دفعت قمة الناتو في بروكسل كمية هائلة من الوقود في ماكينة سباق التسلح الإستراتيجي، التي سوف تكون مركزة على القوة الصاروخية، الذخائر الذكية، الروبوهات القتالية، تكنولوجيا الشبح، الأسلحة السبرانية، ويحتمل تمويل برامج الأسلحة الفضائية.

المشكلة الإضافية أن قرارات قمة الناتو اتخذت في سياق انقسام عالمي حول القضايا الدولية المختلفة مثل التجارة، المناخ، النزاعات الأهلية، أزمات الأمن الإنساني، والاتفاق النووي الإيراني؛ ولذلك، سوف تلجأ الأطراف التي لم تستطع اللحاق بسباق التسلح إلى توريط خصومها في حروب لاتماثلية لإنهاكها، خاصة وأن القوى المتنافسة متورطة بطرق متعددة، مباشرة وغير مباشرة في حروب أهلية عبر العالم، التي ليس هناك أفق لإنهائها (سوريا، اليمن، ليبيا، أوكرانيا، أفغانستان).

عامر مصباح
جامعة الجزائر 3

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى