تحليل السياسة الخارجية

ما الذي تكشف عنه وثيقة السياسة الخارجية الجديدة لموسكو؟

بقلم أسماء الصفتي – إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

بعد انقضاء ستة أشهر على التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، أعلن الرئيس “فلاديمير بوتين”، يوم 5 سبتمبر 2022، عن خطة جديدة للسياسة الخارجية الروسية قائمة على مبدأ سمَّاه “العالم الروسي”. وقد أضفى الرئيس الروسي بهذه الخطوة شرعية على الأيديولوجية الروسية المحافظة والتوسعية، التي تستهدف تبرير السياسات التدخُّلية التي تقودها موسكو ضد الدول التي كانت المنضوية سابقاً تحت عباءة الاتحاد السوفييتي. وتعزز هذه الوثيقة أيضاً حالة التخوف والترقب العالمي والإقليمي بوجه خاص، لخطوات روسيا القادمة، وإمكانية تعرض دول الجوار الروسي لغزو موسع، على غرار العملية العسكرية النشطة حالياً في أوكرانيا.

 أبرز عناصر الوثيقة

على الرغم من تقديم وثيقة السياسة الخارجية الروسية الجديدة، ذات الأفكار العقائدية التي قدمها الرئيس الروسي في نهاية عام 2021، خلال مقاله المثير للجدل الذي أشار فيه إلى أن الشعبين الروسي والأوكراني شعب واحد، يجب أن يعيشوا في كنف ذات الوطن؛ فإنها تسلط الضوء على عدد من العناصر السياسية الخارجية الروسية التصعيدية المرتقبة على النحو التالي:

1– التأصيل لمفهوم الأمة الروسية: في الوثيقة التي أُطلق عليها اسم “السياسة الإنسانية”، المُكوَّنة من 31 صفحة، تدَّعي روسيا أن عليها حماية وتعزيز تقاليد هوية العالم الروسي، وتعزيز العلاقات مع الدول بما في ذلك الدول السلافية؛ وذلك من خلال دعم الروس في الخارج، بأي وسيلة ممكنة، وهو الأمر الذي اعتبره المحللون والمتخصصون بالشأن الروسي بمنزلة إعلان حرب مباشر ورسمي على الدول التابعة سابقاً للاتحاد السوفييتي، التي لا تحترم حقوق مواطنيها الروس، وفقاً لادعاء موسكو، كما أنها تؤكد استمرار روسيا في الدعم المادي والمعنوي للأقليات والكيانات الروسية المنشقة المؤيدة لروسيا في هذه الدول، على غرار ما قامت به مع المنشقين في شرق أوكرانيا.

2– الدعم غير المحدود للأقليات الروسية في الخارج: وجاء في الوثيقة أن “الاتحاد الروسي يقدم الدعم لمواطنيه الذين يعيشون في الخارج؛ لضمان حماية مصالحهم والحفاظ على هويتهم الثقافية الروسية”. وقد أشارت الوثيقة إلى أن قيام روسيا بهذا الدور الداعم للأقليات الروسية في الخارج، جعلها دولةً ذات مكانة وأهمية جيوسياسية على الساحة الدولية، كما أثبت أنها دولة عظمى ديمقراطية، تهُبُّ لنجدة شعبها أينما كانوا؛ للتغلُّب على الإمبريالية الغربية، وخلق عالم متعدد الأقطاب.

3– تأكيد الوثيقة على أدوات القوة الناعمة الروسية: ففي تناقض واضح مع الاعتماد الروسي على القوة العسكرية في التعامل مع الملف الأوكراني، جاءت وثيقة السياسة الخارجية الجديدة لتضفي المزيد من الأهمية على أدوات القوة الناعمة لموسكو؛ فوفقاً للوثيقة تتمثل المصالح الوطنية لروسيا في المجال الإنساني في الخارج في “حماية القيم الروحية والأخلاقية الروسية التقليدية، وتعريف المجتمع العالمي بالتراث التاريخي والثقافي لشعب متعدد الجنسيات في روسيا الاتحادية وإنجازاته، والإثراء المتبادل لثقافات شعوب روسيا الاتحادية والدول الأجنبية، بما في ذلك زيادة إمكانية الوصول إلى التراث الثقافي الروسي والعالمي، وتطوير التعاون الإنساني الدولي على أساس عادل ومتبادل ومنفتح وغير تمييزي”.

4– إضفاء الشرعية على أجندة التوسع الروسية الحالية: ظل “بوتين” لسنوات يروِّج لما يرى أنه المصير المأساوي لنحو 25 مليوناً من أصل روسي وجدوا أنفسهم يعيشون خارج روسيا في دول مستقلة حديثاً عندما انهار الاتحاد السوفييتي في عام 1991، واصفاً ذلك بالكارثة الجيوسياسية والإنسانية. وواصلت روسيا استدعاء فكرة مجال نفوذها الشرعي المتمثل في فضاء الاتحاد السوفييتي سابقاً من دول البلطيق إلى آسيا الوسطى، وهي فكرة قاومتها بشدة العديد من تلك الدول، وكذلك القوى الغربية.

فلطالما اعتقدت روسيا أنها تحتفظ بـمجال نفوذ على الدول السلافية التي تتراوح من بولندا وجمهورية التشيك وسلوفاكيا في الغرب وبيلاروسيا وأوكرانيا في الشرق، والبوسنة والهرسك وكرواتيا وصربيا وبلغاريا، وصولاً إلى مقدونيا الشمالية والجبل الأسود وسلوفينيا في الجنوب. وعلى الرغم من ذلك، اعترض قادة هذه الدول على النفوذ الروسي المفترض عليهم. وبحسب ما ورد في الوثيقة فإن موسكو ستعمل على تعميق علاقاتها بالروس الذين يعيشون في الخارج، الذين يقدر عددهم بنحو 25 مليون فرد من أصل روسي. ويرى العديد من الخبراء أنه مع صدور هذه الوثيقة فإن خطة التوسع الروسي الخارجي ستتجاوز العملية العسكرية الروسية الحالية في أوكرانيا، وتوقَّعوا أن تكون المحطة القادمة للرئيس الروسي منطقتي أبخازيا وأوسيتيا في جورجيا. وقد اعتبرت روسيا هاتَيْن المنطقتَيْن دولتَيْن مستقلتَيْن عقب العملية العسكرية المحدودة التي شنتها ضد جورجيا في عام 2008.

5– تسليط الضوء على حلفاء موسكو الجدد: يتمثل الأمر الآخر المثير للاهتمام في وثيقة السياسية الخارجية الروسية الجديدة، في تسمية روسيا الدولَ التي تعتبرها من الشركاء والحلفاء الاستراتيجيين للكرملين. وقد تضمنت الوثيقة ذكراً صريحاً للصين، وهو تأكيد للشراكة والتعاون الواسع القائم حالياً بين الدولتين، الذي يهدف – وفقاً للوثيقة – إلى بناء نظام دولي متعدد الأقطاب، إلا أن الاسم الآخر الأكثر أهميةً تمثَّل في الهند؛ الدولة التي خرجت عن إجماع التحالف الغربي، ورفضت قطع أواصرها مع موسكو، في تأكيد متزايد لتحول نيودلهي من فاعل إقليمي إلى فاعل على المستوى الدولي والعالمي.

تبعات مستقبلية

تنطوي وثيقة السياسة الخارجية الروسية الجديدة على عدد من التبعات المحتملة، ويمكن تناول أهمها فيما يلي:

1– تحقيق حلم “بوتين” باستعادة الإمبراطورية الروسية العظمى: لمَّح “بوتين” خلال اجتماعه الأخير مع أعضاء الحكومة الروسية، الذي خُصِّص لمناقشة التنمية الاجتماعية والاقتصادية على المدى الطويل، إلى أن روسيا لم تَنْسَ الأماكن التي سُفكت فيها الدماء الروسية ولن تنسى؛ وذلك في إشارة إلى الضحايا الروس الذين سقطوا خلال حرب القرم لعام 1854 التي خسرت فيها روسيا أمام تحالف ضمَّ كلاً من الإمبراطورية العثمانية وفرنسا والمملكة المتحدة، كما أشار “بوتين” إلى بطولات الجيش الروسي القيصري وأمجاده، مع تأكيد أن روسيا المعاصرة أمامها واجب مُقدَّس يجب تأديته يتمثَّل في التأكُّد من أن التضحيات التي قدَّمتها الأجيال السابقة لم تذهب هباءً، في إشارةٍ إلى حلم روسيا القيصرية بالتوسُّع وبناء إمبراطورية ضخمة.

تؤكد مثل هذه التصريحات، سعي الرئيس “بوتين” الدؤوب إلى بناء روسيا الإمبراطورية، وتحقيق حلم الأمة الروسية الغائب منذ زمن بعيد، كما أنه يُفكِّر في إرثه السياسي الذي سيتركه، في حالة غيابه عن رأس السلطة السياسية في روسيا.

2– دخول مرحلة جديدة من العلاقات الروسية–السلافية: من الدول التي خصَّتها وثيقة السياسة الخارجية الروسية، الدول السلافية التي تُعرَف في الوقت الحالي بدول البلقان. وعلى الرغم من تمتُّع هذه الدول بعلاقات وروابط اقتصادية وثقافية قوية مع روسيا، فإن بعض هذه الدول ترفض العودة مرةً أخرى تحت سلطة روسيا؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر، شجَّعت دول مثل صربيا والجبل الأسود، باستمرار، المحاولات التجارية الروسية لتوسيع العلاقات الاقتصادية والتجارية الثنائية في المجالات الاستراتيجية، مثل الطاقة والبنوك والعقارات، إلا أن تحويل هذه الشراكة إلى اتحاد فيدرالي مع روسيا، قد يُواجَه بالاعتراض والرفض غير المسبوق في الدول المُقرَّبة من موسكو، ناهيك عن الدول المناوئة بالفعل للكرملين والطموحات التوسعية للرئيس “بوتين”.

وتؤكد جميع هذه المعطيات أن علاقات روسيا بالدول التابعة للاتحاد السوفييتي سابقاً، خاصةً دول البلقان، لن تسير على نمطها السابق، وقد يتخلَّلها كثيرٌ من الشد والجذب، بما ينعكس على الاستقرار العام في المنطقة، كما سيترتب على هذه السياسة الجديدة، تصادم مباشر مع أجندة الاتحاد الأوروبي والناتو التوسعية في هذه المنطقة.

3– استبعاد الاقتراب من نهايةٍ للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا: أكدت الوثيقة في أكثر من موضع العلاقات الوثيقة التي تجمع روسيا بأقلياتها المقيمة في الخارج، وقد خصَّت بالذكر منطقتي دونيتسك ولوجانسك. وهو ما يرسل رسائل مباشرة إلى دول التحالف الغربي، والحكومة الأوكرانية الحالية، مفادها أن الحرب الحالية تمثل نقطة اللا عودة في السياسة الخارجية الروسية. وبالنتيجة، فإن الحرب الحالية بعيدة عن الانتهاء لم تتحقق الأهداف الروسية؛ وذلك على الرغم من قدرة القوات الأوكرانية على إلحاق بعض الخسائر بالقوات الروسية في المعارك القائمة حالياً شرق أوكرانيا وجنوبها.

4– تعزيز اتجاه النظام الدولي نحو التعددية القطبية: أكدت وثيقة السياسة الخارجية الروسية السابقة، كما أشير من قبل، أن موسكو تعمل على تعزيز تعاونها مع الصين والهند، بالإضافة إلى تسليط الضوء على أهمية تقوية علاقتها بدول الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وإفريقيا، وخاصةً الدول التي تبنَّت موقفاً محايداً تجاه الحرب الروسية في أوكرانيا، أو التي اتخذت خطوات إيجابية تجاه الإدارة الروسية الحالية، على غرار الهند؛ فقد ساهمت نيودلهي، بصورة أو بأخرى، في استعادة العملة الروسية “الروبل” جزءاً من قوتها، بعد الضربة القوية التي تلقَّاها على خلفية العملية العسكرية الحالية في أوكرانيا.

ومن ناحية أخرى، أكدت عدد من دول الشرق الأوسط رغبتها في الحفاظ على علاقتها بروسيا، من خلال تجنب الانضمام إلى نظام العقوبات الغربية، ناهيك عن رفض رفع الإنتاج من النفط والغاز الطبيعي لتعويض الغياب الروسي عن أسواق الطاقة العالمية، في حين أن علاقات روسيا والصين لا تخفى على أحد. وقد جاءت الوثيقة لتعطي خريطة طريق روسية بصبغة عالمية، ترفض الانصياع للتراجع تارةً وتتقدَّم تارةً في عملية الخروج من الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي، خاصةً في شقَّيْه الاقتصادي والسياسي.

في النهاية، يمكن القول إن هذه الوثيقة بالرغم من أنها لم تقدم الكثير، فإنها تفتح نافذة على شكل وطبيعة النظام الدولي والعالمي القادم؛ فالصراعات والحروب بالوكالة في مناطق بعيدة عن العمق الاستراتيجي الروسي والأمريكي، ستتحوَّل إلى ساحات واسعة للصراع، وتأتي في مقدمتها أفريقيا، كما أن بعض الدول ستُضطر إلى تغيير سياساتها الخارجية والداخلية بالتبعية، وعلى رأسها ألمانيا التي تشهد تظاهرات واعتراضات مُوسَّعة على سياسات الطاقة الحالية المعادية للطاقة النووية، ناهيك عن اضطرارها إلى إضافة تغييرات جوهرية على مخصصات الميزانية، كالتخلي عن بند التأثير العلمي والثقافي ومنح المِنَح التعليمية للطلاب الدوليين – على غرار منحة DAAD، التي تردَّدت أنباء عن إلغاء جزء كبير من مخصصاتها – لصالح بناء قوة عسكرية ضخمة.


     

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى