...
دراسات سياسية

نهاية عصر الأيديولوجيا The End of Ideology Era

إعداد/ أ. د كمال  محمد محمد  الأسطل

يفترض النقاش الدائر حول مفهوم «نهاية الأيديولوجيا» أنه عند مرحلة ما من النمو الصناعي في بلد ما، يسير النظام الاقتصادي – الاجتماعي وفقًا لهذا التطور بمنأى عن أي أيديولوجيات سياسية، ما وقف عليه إدوارد شيلز على أنه «نهاية الأيديولوجيا». وقد دار النقاش حول هذا المفهوم في مناسبتين؛ الأولى عام 1950 حين عُرِض النقاش حول المسألة على أنه أطروحة «نهاية الأيديولوجيا»، والثانية حيث عُرضت أطروحة «نهاية التاريخ» والتي ظهرت للمرة الأولى عام 1989، ولا زالت مثيرة لجدلٍ حادّ.

    لقد كان لبروز حركات ليبرالية جديدة، وحركات محافظة، وحركات فاشية ونازية، واشتراكية السوق، وحركات النسائية والخضر تأكيداً أن الأيديولوجيا لم تمت بعد.

أولاً: اتجاهات نهاية الأيديولوجيا

    هناك اتجاهان أساسيان يهتمان بنهاية الأيديولوجيا:-

◄   الاتجاه الأول

    يطرح القضية من خلال علاقة الأيديولوجية بالحركة السياسية أو من خلال الدور الذي تلعبه الأيديولوجيا في السياسية.. إن تطلع الإنسان للحرية وللحياة الكريمة يرتبط بالأيديولوجية لإلهامه وتحريكه ولكن في الغرب على الأقل وجدت وسائل لإشباع هذه التطلعات للأغلبية العظمى من الجماهير، فآلية السوق الحر والاقتصاد المختلط قللت الفقراء وأعطت الحرية وساعدت على اعطاء فرص للجميع وهناك اجماع بين الاحزاب السياسية على إطار السياسة العامة، ولهذا تقلصت الحاجة للأيديولوجية وبالتالي قلصت السياسة في اتخاذ أفضل الطرق لتنفيذ البرامج السياسية، وبتقلصها تقلصت المشاكل الاجتماعية وبذلك فإن الأيديولوجية التي تحفز الانسان على العمل السياسي وصلت إلى مرحلة تناقض مع متطلبات تنظيم وإدارة المجتمع العقلانية ومع مكوناته من جانب ومع متطلبات العالم والمعرفة من جانب آخر.

◄  الاتجاه الثاني

    يطرح نهاية الأيديولوجية من خلال علاقة الأيديولوجية بالعلم: يرى البعض أنه نتيجة التطور الذي حصل في المجتمعات الغربية أدى تتطور العلم في هذه المجتمعات، بما يقوم عليه من ملاحظة وتجريب والوصول إلى قوانين محددة، وأن العلم يفس كل شيء وأن هذا التطور سوف يؤدي إلى تهميش الأيديولوجيا، وذلك بناءاً  على افتراض فهم ان الأيديولوجيا تتعارض مع الحقيقة العلمية.. فالأيديولوجيا لم تعد تعطي تفسير لمعظم الأحداث التي تجري بالعالم فقد انتهى امكانية التغيير وفقاً لمبادئ أيديولوجية وعلى هذا يقتصر العلم على تقديم التقنيات الأساسية للمعرفة العلمية ووسائل تغيير الواقع في إطار نظام علمي خال من القيم، يبتعد عن التأثيرات الأيديولوجية أو القيم الذاتية للباحث..

ينظر أصحاب نظرية نهاية الأيديولوجيا بفعل ثورة العلم والتكنولوجيا إلى أن زيادة الإنتاج ستؤدي إلى تطور قوى الإنتاج وتغيير العلاقات الإنتاجية وتحقيق مجتمع الوفرة والمساواة، إلا أن هذه النظرية تجاوزت الإنسان لحساب الإنتاج المادي، فهذه النظرية تخلق للتكنولوجيا (قدسية) خاصة ناسية أن العامل الأهم هو الإنسان.

وأوضح فرتيز ستبرنبرج أن الثورة التكنولوجية سوف تؤدى إلى زيادة الإنتاجية وسيختفي الفقر وستهبط البرجوازية إلى مستوى البروليتاريا، بينما سترتفع البروليتاريا إلى مستوى البرجوازية وستتحقق المساواة الاجتماعية ولكن مع بقاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج أى مع بقاء علاقات الإنتاج الرأسمالية.

ثانيًا: الهدف من نهاية الأيديولوجية

    لاشك أن هذه المحاولات هدفها إخفاء الصراع الأيديولوجي القائم على التناقضات الطبقية، حيث أن المفهوم البرجوازي للصراع الأيديولوجي ينطوي على أن هذا الصراع هو نتيجة الأيديولوجية ولا يأخذ الأيديولوجية بوصفها مجرد انعكاس للمواقع الطبقية بينما المفهوم الحقيقي للصراع الأيديولوجي يعتبر هذا الصراع جزءا عضويا من الصراع الطبقي وانعكاس للتناقض بين البروليتاريا والبرجوازية، أي أن الصراع الأيديولوجي في المفهوم البرجوازي مجرد وسيلة للسيطرة وتبرير المواقف الإمبريالية.

ثالثًا: انصار ومؤيدي نهاية الأيديولوجيا

    ظهرت محاولات عديدة تروج لأسطورة نهاية الأيديولوجيا من أجل إخفاء التناقضات داخل النظام الرأسمالي وإغفال الصراع الأيديولوجي ومن أهمها محاولات ريمون آرون وسيمور/ ليبست وجالبراث، دانيال بيل، ياكوب باريون وغيرهم.. فنجد المفكر الفرنسي ريمون أرون يدعو إلى ما يسمي تفتيت الأيديولوجيا ويوضح أن السلام العالمي لا يمكن أن يتحقق إلا في اليوم الذي يكف فيه الساسة عن اعتبار الصراع الأيديولوجي أمراً حتمياً.

كما أوضح سيمور ليبست إلى أن الديموقراطية المستقرة أدت إلى نهاية الأيديولوجيات، حيث حقق العمال المواطنة واختفى الصراع الطبقي وارتفعت معدلات الحراك الاجتماعي، وقد أدت هذه التغييرات إلى اختفاء الصراع الأيديولوجي.

وكذلك أوضح دانيال بيل في كتابه (نهاية الأيديولوجيا) 1960 أن العصر الأيديولوجي قد انتهى وأن الراديكالية السياسية – الاقتصادية قد فقدت معناها، لأن العالم الغربي حقق ما يسمى (مجتمع الوفرة) وتم استيعاب الطبقة العاملة وانتشرت القيم الديموقراطية والتعددية السياسية ولذلك فإن الأيديولوجيا فقدت حيويتها الثقافية والسياسية.

وقد أوضح ياكوب باريون أن مقولة ( نهاية الأيديولوجيا) هي مقولة أيديولوجية، ولا يمكن التحرر من الأيديولوجيا، حيث أن الأيديولوجيا لا تنحصر في الفكر النظري، إذ أنها تقوم بدور حاسم في تقييم طابع الحياة الاجتماعية وتوجيه الفعل الاجتماعي للإنسان… فتتضمن الأيديولوجيا ( نسق متكامل من النظريات والأفكار والأحكام القيمية، تتصف باتساع مداها وشمول محتواها).

وقد قام عالم الاجتماع الراديكالي س. رايت ميلز بتوجيه الاتهام لمناصري القول ( بنهاية الأيديولوجيا) بأنهم ( محافظون صريحون وليبراليون متعبون وراديكاليون ساخطون) وأوضح ميلز أن القول بنهاية الأيديولوجيا يقوم على وهم التحرر من أى التزام حقيقي. وفي هذا الاطار ظهرت دعاوي ( نهاية الأيديولوجيا) حيث أكدت هذه الدعوى أن الأيديولوجيا تتعاظم أكثر من أى وقت مضى، وما قاله بيل كان فجا لأن الأيديولوجيا في تعاظم وحركة الطلاب والملونين تدحض هذه الفكرة.

رابعًا: نقد لمفكري نهاية الأيديولوجيا

نقد عديد من المفكرين مقولة نهاية الأيديولوجيا ومنهم ميشيل نوفاك وستيفين كالمان فقد أوضحا أن حركات التحرر الوطني والحركات النسوية وحركات الطلاب والملونين تؤكد عدم انطفاء الأيديولوجيا بل على العكس فهو موجة متصاعدة من الوهج الأيديولوجي في البلاد الصناعية الغربية.

وقد أوضح كريستوفر لاش أن المجتمع ما بعد الصناعي شهد تفجر صراعات جديدة أدت إلى (انبعاث الأيديولوجيا) وهو ما تجلى في الثورات والإضرابات والتمردات.

ويؤكد بول لوتر 1995 أن نهاية الأيديولوجيا شعوذة حيث أنها تحاول أن تطمس الاختلافات الفكرية والسياسية، يمكن أن نلمح التقارب بين أفكار ( دانيال بيل) (وفوكوياما) وبخاصة فيما يتعلق بانتصار الديمقراطية الغربية وانتصار الرأسمالية الليبرالية وبنهاية الأيديولوجيا ونهاية التاريخ.

    أن اطروحة نهاية الأيديولوجية لا تطرح بأن كل الأيديولوجيات قد انتهت، ولكنها تطرح بدلاً من ذلك ايديولوجيا واحدة صحيحة وحقيقية هي التي كسبت صراع الأفكار وأنها سوف تهيمن على تفكير الانسان المعاصر هذه الصورة الجديدة معروفة باسم (نهاية التاريخ)…

لقد أثبت الواقع عدم واقعية هذه النظرية أو ظرفيتها في أحسن الأحوال. وحتى فوكوياما أحد أبرز مهندسي حركة المحافظين الجدد، قد اعترف بأن إرث السياسة الخارجية لبوش ومؤيديه قد خلق حالة استقطاب أيديولوجية شديدة يصعب معها تحقيق التوازن للولايات المتحدة ومصالحها في السنوات القادمة. ورغم ذلك، مازال لهذه النظرية جمهورها خاصة بين النخب الحاكمة. حيث أن الخطابات التي تُلمِّح إلى أن الأيديولوجيا مرادفة للخداع وعدم الواقعية، تحمل في طياتها إيحاء بأن خيارات النخبة الحاكة متسامية عن السياسة، مع استمرارها في الدفاع عن مصالحها. ولمناقشة جذور هذا المفهوم سنحاول استعراض أهم النظريات التي تناقشه.

والحقيقة أن “نهاية الإيديولوجيا” هو نوع من الإيديولوجيا تسعى لفرض نفسها في الأوساط الفكرية، فهي نظرية منبثقة من نظام فكري يسعى لتأسيس مجتمع وفق رؤاه، لذا أسفرت تلك النظرية عن ولادة فكر إيديولوجي جديد يتناغم مع تغلب الليبرالية والرأسمالية.

قدر الإيديولوجيا أنها ارتبطت بإيديولوجيات قومية في أوروبا الحديثة لحظة صعودها ثم لازمتها لحظة انهيارها في نهاية القرن العشرين، لذا كان مفهوما أن تفتح الليبرالية نافذ فلسفية تسد فراغ انهيار نظام القيم العالمي بالتأسيس لموت الماركسية ومقولات بقاءها الأبدي، فإخفاق الأيديولوجيات القومية والاشتراكية كانت انتصارا للواقعية في الفلسفة، وللفضيلة في ميدان الأخلاق، ولمبدأ الملكية الخاصة في مجال الاقتصاد، وللديمقراطية.

والحقيقة أن اختفاء الإيديولوجيا أو تواريها في مكان أو زمان ما لا يعني موتها، ولكن يعني غياب شرط الحضور الزماني والمكاني وانتفاء الشرط السياسي، فالإيديولوجيا لم تمت لتولد من جديد، ولكنها في احتجاب وظهور دائمين، فهي عند الغالب والمغلوب، وهي واحدة في عالم الأضداد، فالضد ونظيره يلتقيان على المفهوم ويختصمان في استخدامه، فهي تتميز بسيرانها الدائم فلا انتهاء لزمانها، فهي تتاخم كل حدث ذي صلة بالنشاط العام، ومن ثم فعصر “ما بعد الإيديولوجيا” هو بداية لعصر أيديولوجي جديد، لأنها تصور وإرادة، فهي الفكرة وحقل اختبارها في اللحظة عينها، فهي الفكرة والحدث معا، وهي تتميز بالحراك الدائم في دورات نمو  وتحول واختفاء وظهور متعاقبة.

خامسًا: أطروحة نهاية التاريخ

تنسب أطروحة نهاية التاريخ إلى فرنسيس فوكوياما وخصوصاً كتابه المعروف (نهاية التاريخ وخاتم البشر) 1992م، وتتلخص في أن الديمقراطية الليبرالية كنظام للحكم وكايديولوجيا تشكل (نقطة النهاية في التطور الأيديولوجي للإنسانية والصورة النهائية لنظام الحكم البشري، وبالتالي فهي تمثل نهاية التاريخ) وترجع فكرة نهاية التاريخ إلى أصولها إلى هيجل وهو يعتقد أن التاريخ الانساني قد مر عبر سلسلة من المراحل أو الحضارات في كل مرحلة تطورت الصراعات أو التناقضات الداخلية مما أدى إلى تهديمها.. وكان العبور إلى مرحلة أو حضارة جديدة أكثر تقدماً وتطوراً نتيجة لحل هذه الصراعات والتناقضات… وبحلها يكون الانسان اكتشف نوع المجتمع الأكثر ملائمة مع طبيعتها. وذهب هيجل أن التاريخ وصل لذروته التي يكون فيها الشكل العقلاني للمجتمع والدولة وانتصارها..وطبقاً لمنطق الديالكتيك والحتمية التاريخية.. وطبقا لهيجل عندما تتحق الفكرة أو الروح فإن التاريخ  لا ينتهي بل مزيد من الأحداث أما الذي ينتهي هو عملية التطور السياسي والاجتماعي والصرعات بين الأفكار التي تولدت عن عملية التطور.

إلا أن فوكوياما قد جانبه الصواب عندما اعتبر أن هيجل قد اعترف بالديمقراطية اللبرالية كنقطة تؤكد على المجتمع النهائي… إثر الثورة الفرنسية دخلت الديمقراطية اللبرالية في صرعات.. بينما الحرب العالمية الثانية إلة هزيمة الفاشية وبعدها الحرب الباردة هزيمة الشيوعية  كمؤسسات أو نظام للحكم.. وبهذا الانتصار يرى فوكوياما انه يعد يوجد صراعات كبرى.. ولكن يوجد صراعات فاتت وهي الأصولية الدينية والقومية الناهضة.. ويؤكد أنها لا تمثل بدائل.

ويدعي فوكوياما أن الحرية الفردية (في نعيم المستهلك) في المجتمع الرأسمالي لا تقدم اشباعاً روحياً ولا حتى اشباعا مادياً.. وستحل الحسابات الاقتصادية وحل المشكلات التقنية بشكل لا متناه والاهتمامات البيئية والاستجابة لإشباع حاجات المستهلك المعقدة بدلاً من المثالية والشجاعة والخيال.. ويعتقد برغم ذلك أن ديموقراطية السوق الحرة هي النوع من المجتمع الذي يستطيع تزويد الانسانية بالإشباع والعالم بكون قرية واحدة يكون الانتصار حتمياً..

الخلاصة

التاريخ لا ينتهي والأيديولوجيا لا تموت ولا تفنى، وفي النهاية وهي الأصوب، أن الانسان لا يمكن أن يعيش بدون أيديولوجة وبدون عقيدة دينية أو غير دينية حتى لو افترضنا أن نهاية التاريخ طرح نظري وارد تجري محاولة بلوغه باستمرار دون الوصول إليه ابداً.. ذلك أن التاريخ سهي الانسان الدائم للسيطرة على ما يحيط به من بيئة والتاريخ يتحقق بقدر نجاح الانسان في أن يحقق نفسه وكيانه ويحسن ظروف حياته كما وكيفا وذلك بتغيير البيئة المحيطة به، وتطويعها لاحتياجاته المادية والروحية.. فطالما الانسان يسعى بشكل متواصل ومتجدد للسيطرة على الطبيعة التي حوله لتحقيق تطلعاته فإن التاريخ لا ينتهي والايديولوجيا لا تموت ولا تفنى.

وتجدر الإشارة إلى أن الأيديولوجيات ليست صلبة أو ثابتة في بنيتها الفكرية، ويعود ذلك إلى تناقح الأفكار وتداخلها فيما بينها، مما يؤدي إلى تطورها، وإلى ظهور أيديولوجيات جديدة هجينة مثل “الليبرالية المحافظة” أو “النسوية الاشتراكية”. أضف إلى ذلك أنه غالباً ما يحدث التنوع والاختلاف بين معتنقي المذهب السياسي الواحد في تفسير الكثير من المفاهيم للوصول إلى حقيقة الفكر.

وأخيراً، يسعنا القول بأن ادّعاء نهاية الأيديولوجيا هو عمل أيديولوجي بامتياز، يُسهّل على السلطة تمرير أجندتها الخاصة، باعتبارها حقائق مطلقة، ودون أن تكون مضطرة لتبريرها من منطلقات أيديولوجية. من هنا يمكننا القول بأن غياب الأيديولوجيا يتناسب طردياً مع ازدياد ثقة الجماهير بالنخبة الحاكمة، وبناء على ذلك يغيب عنصر هام من عناصر النضال الجماهيري لتحدي النظام وتغيير الوضع القائم. فبدون أيديولوجيا تُحرَم قوى المعارضة من بناء أجندة مشتركة، وبالتالي يصبح عملها عشوائياً وبعيداً عن التنسيق أو الاستمرارية. لهذا السبب فإن الجماهير بحاجة إلى وجود أيديولوجيا ما تمكنها من مواجهة هذا النوع من الممارسات السياسية.

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى