دراسات سياسية

أزمة التزامات مصر من النقد الأجنبي – الأبعاد والمالات

د. أحمد ذكر الله –  المعهد المصري للدراسات

Table of Contents

ملخص تنفيذي

هدف هذه الدراسة هو “تقدير الالتزامات الخارجية الراهنة بالعملة الصعبة على الاقتصاد المصري، والفجوة المترتبة على ذلك بين الإيرادات والالتزامات، ومن ثمّ تقدير امكانية سد هذه الفجوة والوفاء بهذه الالتزامات في المدى المنظور”.

وبصورة مختصرة يمكن إيضاح أهم النقاط التي تطرقت إليها وتوصلت لها الدراسة كما يلي:

  • بلغ العجز بميزان المدفوعات المصري خلال تسعة أشهر منذ يوليو 2021 حتى مارس 2022 حوالي 7.3 مليار دولار تقريبا، وقد تزايد ذلك العجز بشكل حاد خلال الربع الأول من العام الحالي نتيجة لهروب الأموال الساخنة، مما دفع بهذا الرقم لأن يكون أعلى رقم فصلي تاريخي للعجز بميزان المدفوعات المصري.
  • حدث هذا العجز على الرغم من الزيادة القياسية للقروض الخارجية بنحو 12.3 مليار دولار خلال الربع الأول من العام الحالى، وعلى الرغم من السحب من الاحتياطيات النقدية والتي تناقصت بما يزيد عن 12 مليار دولار خلال هذه الفترة، وكذلك بالرغم من استمرار زيادة العجز في صافي الأصول الأجنبية (العُملات) في الجهاز المصرفي المصري، بما قيمته حوالي 19.7 مليار دولار بنهاية مايو الماضي.
  • ارتفع عجز الميزان التجاري غير البترولي بمعدل 22.5% ليبلغ 37.7 مليار دولار، وذلك على الرغم من التحسن النسبي لقيمة متحصلات الصادرات التي سجلت 19.4 مليار دولار، وقد نتج التحسن في أرقام الصادرات المصرية خلال الفترة كنتيجة طبيعية للتضخم العالمي لا سيما في المنتجات كثيفة استخدام الطاقة (الملوثة للبيئة) والتي تعتبر المكون الرئيس للصادرات المصرية.
  • لكن في المقابل جاء ارتفاع المدفوعات عن الواردات لتسجل 57.1 مليار دولار على الرغم من القيود الحكومية المشددة على الحصول على النقد الأجنبي وتغيير قواعد الاعتماد المستندي، وحالة الارتباك الواسعة التي صاحبت هذه القرارات. هذا الارتفاع هو المتسبب الرئيس في العجز الضخم المسجل في الميزان التجاري.
  • تحول الاستثمار بمحفظة الأوراق المالية المصرية خلال فترة الدراسة (يوليو 2021 حتى مارس 2022) إلى صافي تدفق للخارج بحوالي 17.2 مليار دولار، وقد تركز هذا التخارج من السوق المصرية خلال الفترة من يناير إلى مارس حيث سجلت خروجا بقيمة 14.8 مليار دولار (وذلك قبل بداية رفع الاحتياطي الأمريكي لسعر الفائدة والذي بدأه في مارس الماضي، كما أنها خرجت قبل الحرب على أوكرانيا والتي بدأت في أواخر فبراير 2022، أي أن هذين العاملين لم يكونا سبب هذا التخارج الكبير).
  • تآكلت مصادر الاقتراض الخارجي بعد استنفاذ معظم مصادرها، وبلوغ الحدود القصوى الممكنة منها لدي بعض المؤسسات، علاوة على ما تعانيه سوق السندات المصرية من انخفاض حاد في الأسعار، مما يعني أن الاقتراض الخارجي كمصدر رئيس لتغطية فجوة الموارد الدولارية أضحى غير مجدي، سواء على مستوى المصادر أو المبالغ.
  • لا تزال التحويلات من الخارج تشكل أهم رافد لموارد النقد الأجنبي خلال الأعوام الأخيرة حيث تزايدت تحويلات العاملين في الخارج بصورة مستمرة خلال الأعوام الخمسة الماضية، فبينما سجلت 24.7 مليار دولار عام 2017، تزايدت إلى 31.5 مليار دولار بنهاية عام 2021، وفي التسعة أشهر الواردة ببيان البنك المركزي في الفترة التي تغطيها الدراسة سجلت 29.2 مليار دولار.
  • تواصل انخفاض صافي الأصول الدولارية للقطاع المصرفي لتسجل سالب 19.7 مليار دولار هذا العام، الأمر الذي يشير إلى تعاظم الاعتماد الحكومي على تلك الموارد لتغطية فجوة الموارد الأجنبية خلال فترات سابقة.
  • تزايد لجوء البنوك التجارية للاقتراض الخارجي لتغطية فجوة الموارد الدولارية كنتيجة طبيعية لسياسات البنك المركزي في فترة ما بعد التعويم، والتي أجبرت من خلالها تلك البنوك على سداد فواتير الواردات المتفاقمة للمشروعات المسماة بالقومية من مصادرها الداخلية، علاوة على الأوامر التي أجبرتها على دفع مستحقات بائعي الأموال الساخنة، والتي وفرت لهم قواعد البنك المركزي حرية تحويل أموالهم إلى دولار من البنوك المحلية بالسعر الرسمي، ولعل ذلك يبرر تركز معظم تلك القروض ما بين 2019-2021.
  • تباينت تقديرات العديد من المؤسسات الخارجية حول احتياجات مصر من النقد الأجنبي خلال الفترة الحالية لمواجهة التزاماتها المختلفة، وتتكون الفجوة الدولارية لمصر من مجموع عجز حساب المعاملات الجارية مضافا اليه الاحتياجات التمويلية لسداد أقساط وفوائد القروض الخارجية المستحقة السداد. وقد بينت الدراسة أسباب تباين هذه التقديرات.
  • توقع بنك جولدمان ساكس أن تلجأ مصر لاقتراض 15 مليار دولار على مدى السنوات الثلاث المقبلة من صندوق النقد الدولي، لتلبية متطلبات التمويل. كما قدر البنك المدفوعات المطلوبة من مصر إلى صندوق النقد الدولي بحوالي 13 مليار دولار على مدى السنوات الثلاث المقبلة، وتلتزم مصر أيضا طبقا للبنك بدفع مستحقات ديون خارجية بقيمة 33 مليار دولار في عام واحد من آذار/مارس الماضي حتى آذار/ مارس القادم، بحسب تقرير البنك.
  • كشفت إحصائية للبنك الدولي احتياج مصر إلى 31 مليار دولار لسداد جزء من التزامات الديون الخارجية عليها، من فترة يوليو 2022 حتى مارس 2023، غير 16 مليار دولار كانت مستحقة الدفع ما بين إبريل حتى يونيو 2022 (أي بإجمالي 47 مليار دولار خلال عام كامل). وتجدر الإشارة إلى أن هذا المبلغ لا يتضمن بأي حال من الأحوال الاحتياجات التمويلية التقليدية لسداد عجز الميزان الجاري، ولا تحويلات مستثمري أدوات الدين للخارج، ولا حتى مستحقات المستثمرين في الاستثمار المباشر.
  • أشار تقرير بنك HSBC إلى أنه تستحق على مصر التزامات مضمونة من القطاع العام بقيمة 13.5 مليار دولار أمريكي خلال السنة المالية 2022/23، ويشمل هذا الرقم ودائع الحلفاء في الخليج التي من المرجح أن يستمر تمديد آجال استحقاقها كما سبق ذلك عدة مرات. إضافة إلى ذلك، أشار البنك إلى أن الحاجة إلى تمويل الحساب الخارجي قد يبلغ 25 مليار دولار خلال العام المالي الحالي.
  • رجحت هذه الدراسة صحة تقدير البنك الدولي فيما يتعلق بالتزامات مصر لسداد القروض حتى مارس 2023، والذي أوضح أن جملة المستحق سداده على مصر خلال الفترة من بداية إبريل 2022 وحتى نهاية مارس 2023 يبلغ نحو 47 مليار دولار، وأنه بفرض أن مصر سددت ما عليها في الربع الثاني من العام الميلادي الحالي (من بداية إبريل وحتى نهاية يونيو) والبالغ 16 مليار دولار، فإنه يتبقى عليها 12 مليار دولار في الربع الثالث، ثم حوالي ستة مليارات دولار في الربع الرابع، وأخيراً أكثر من 13 مليار دولار في الربع الأول من العام الميلادي القادم.
  • يجب إضافة مقدار عجز حساب المعاملات الجارية (صافي الميزان التجاري مضافا اليه صافي ميزان الخدمات وصافي ميزان دخل الاستثمار وصافي التحويلات، أي جميع المعاملات الجارية عدا القروض الخارجية) إلى الرقم التقديري المرجح للمدفوعات المستحقة على مصر حتى نهاية مارس القادم، حتى تكتمل صورة فجوة الموارد الدولارية في مصر.
  • قدرت الدراسة متوسط العجز ربع السنوي لحساب المعاملات الجارية بما يتراوح بين 4.5 و 5.5 مليار دولار، بإجمالي 18 إلى 22 مليار دولار خلال الأرباع الأربعة التي حاولنا تقدير إجمالي الفجوة الدولارية فيها ( منذ مارس 2022 تاريخ أخر بيان متوفر لميزان المدفوعات حتى مارس 2023).
  • وبناء على ذلك يكون تقديرنا لإجمالي الفجوة التمويلية الدولارية التي تحتاج مصر لتغطيتها خلال تلك الفترة يتراوح بين 65 و 69 مليار دولار (18 إلى 22 مليار دولار عجز المعاملات الجارية للفترة مضافا إليها 47 مليار دولار مستحقات واجب سدادها للخارج طبقا لتقديرات البنك الدولي).
  • طبقا لهذه الأرقام، وبافتراض قيام مصر بسداد ما عليها حتى نهاية الربع الأخير من العام المالي السابق، نحو 16 مليار دولار كما سبق، فإن الفجوة من يونيو 2022 إلى مارس تبلغ 50 إلى 55 مليار دولار. وباستبعاد مستحقات الديون في الأشهر الثلاث الأولى من عام 2023 (13 مليار دولار طبقا لتقديرات البنك الدولي)، والعجز التقديري في حساب المعاملات الجارية لهذه الأشهر، فإن تقديرنا للفجوة الدولارية الواجب تدبيرها بشكل شبه فوري (من أول يوليو حتى أخر ديسمبر 2022) يتراوح بين 32 و 37 مليار دولار.
  • من المرجح استمرار تثبيت البنك المركزي لسعر الفائدة أو زيادته بمعدلات بسيطة للغاية. لكن على المستوى التطبيقي فإنه توجد عدة أسعار للفائدة في مصر، فالسعر الذي ثبته المركزي هو الفائدة على الودائع، أما الفائدة على الاقتراض الحكومي فتحدد بالاتفاق بين البنك المركزي ووزارة المالية من جهة والبنوك التجارية المشترية لأدوات الدين الحكومي من جهة أخرى.
  • شهد شهر إبريل من العام الحالي طفرة غير مسبوقة بإصدار النقد (الطباعة)، بلغت 79.2 مليار جنيه، وهو معدل شهري غير مسبوق تاريخيا تخطى الرقم القياسي السابق والبالغ 34.5 مليار جنيه في شهر مايو 2020، في عنفوان تداعيات أزمة كورونا، ولكن ذلك تزامن مع سحب البنك المركزي 100 مليار جنيه من احتياطي السيولة من البنوك.
  • من الواضح أن البنك المركزي يجد في طبع النقود ملاذا أقل كلفة من التوسع في الاقتراض المحلي من البنوك التجارية، حيث أنه من جانب، يتوسع المركزي في طبع الجنيه، ومن جانب أخر يحافظ على حجم المعروض النقدي من خلال شفط السيولة المتاحة لدى البنوك التجارية عبر آلية سعر فائدة الانتربنك.
  • بدأ الخفض التدريجي لسعر صرف الجنيه المصري مقابل الدولار الأمريكي، والذي أدير من قبل البنك المركزي منذ نهاية عام 2016 وحتى عدة أسابيع ماضية، وعلى الرغم من أن الشائع حاليا أن الانخفاض المتسارع منذ أسابيع لقيمة الجنيه جاء استجابة لطلبات صندوق النقد الدولي كشرط للقرض الجديد، الا أن الحقيقة أن المركزي المصري يفتقر حاليا للمتطلبات التي يمكن أن يدافع بها عن قيمة الجنيه، فالاحتياطي النقدي يتبخر، وضغوط الاحتياجات التمويلية تتزايد بشدة، والبنوك التجارية خلت خزائنها واحتياطاتها من النقد الأجنبي، وظهرت السوق السوداء ومعها الأسعار المتعددة للصرف مرة أخرى، وكل ذلك يعني أن انخفاض الجنيه أمر منطقي في ظل المعطيات الاقتصادية الراهنة، بصرف النظر عن التفاوض مع صندوق النقد من عدمه.
  • في ظل استمرار نفس المعطيات السابقة الإشارة، سيستمر الانخفاض المتدرج لقيمة الجنيه، إلا إذا اشترط الصندوق تعويما كاملا واستجابت الحكومة لذلك تحت الضغط فسيصبح الانخفاض حادا. وبالطبع سيتباطأ هذا الانخفاض مع إيجاد مصادر للنقد الأجنبي مثل قرض الصندوق، أو النجاح بإصدار سندات في السوق الصينية (سندات الباندا التي يجري الحديث عنها منذ سنوات) أو حتى ابرام قروض ثنائية، أو النجاح ببيع أو مبادلة أصول سيادية، أو تجارية بحجوم تؤثر في فجوة موارد النقد الأجنبي الحالية.
  • جزء من النفقات الحكومية يتمثل في استيراد آلات ومعدات وأجهزة وتجهيزات للمشروعات الكبرى، ومن المرجح أن يستمر الإنفاق الحكومي في ضغطه على موارد النقد الأجنبي، وهو الأمر الذي يتعزز في ظل تنفيذ وإدارة الجهات السيادية لتلك المشروعات وهي الجهات التي لن تتقيد بأية قيود على استخدام موارد النقد الأجنبي تفرض من قبل البنك المركزي.
  • ساهم الكثير من المستجدات في تغيير بيئة وواقع الاقتراض من الخارج مقارنة بالأعوام الخمسة الماضية، وهو الأمر الذي تجلى بوضوح في مماطلة صندوق النقد الدولي للحكومة في مطالبتها بالقرض الجديد (المفاوضات بدأت منذ مارس 2022)، إذا فباب الاقتراض الثنائي مغلق من جهته الغربية، أما عن الجهة الشرقية والمتمثلة أساسا في الصين، فربما ستشكل القروض الصينية- وعلى الرغم من كل ما يترتب عليها من تضحيات سيادية مؤلمة – بابا هاما لمساندة الإدارة المصرية في مواجهة أزمة التعثر في السداد. عموما لن يكون مستبعدا أن نرى انتشارا وتوسعا للمصالح الاقتصادية للمحور الصيني الروسي في مصر خلال الفترة المقبلة.
  • الاقتراض الثنائي من الدول العربية ربما أغلق هو الآخر لا سيما بعد الودائع الجديدة من كل من السعودية والإمارات وقطر، مع تأجيل الودائع القديمة لعام واحد من الإمارات والكويت ولخمس سنوات من السعودية، وهو الأمر الذي يشير إلى أن فكرة القروض لم تعد مقبولة وأن الودائع بلغت ذروتها، وأن المساندة من الأشقاء أصبحت مدفوعة الأجر، ليس فقط في صورة فوائد على القروض أو الودائع، بل أصبحت بشكل رئيس في صورة الاستحواذ على أصول سيادية في مقابل الودائع والديون السابقة.
  • يعتبر قرض صندوق النقد الدولي، وبقيمة كبيرة لا تقل عن 15 مليار دولار، أمرا حيويا للغاية للحكومة المصرية لمواجهة الالتزامات الدولارية الضاغطة وبشدة خلال الفترة القصيرة القادمة، على الرغم من الشكوك المحيطة بإمكانية إتمامه حتى الآن بالصورة المقبولة من الجانب المصري. وستبقى الصين ملاذا عالي التكلفة والمخاطر، ولكن لا بد منه، ولاتزال الدول الأوروبية في صراع مع أزماتها.
  • لا يزال خيار بيع الأصول المملوكة للدولة الخيار الأكثر يسرا وسهولة وسرعة، للتخفيف من ضغوط فجوة الدولار، ولكن من المرجح أن تتخطي الخسائر جراء هذا البيع -تحت ضغط الحاجة والرغبة في تزييف حالة الإفلاس الفعلي الواقع حاليا- الجوانب المالية إلى جوانب تتعلق بالأمن القومي، حيث سيتم بيع أصول استراتيجية يعتبر التفريط فيها شديد الخطورة على الأمن القومي.
  • تشير البيانات الرسمية إلى أن 83.3% من الديون المصرية طويلة الأجل، إلا أنه تجدر الإشارة إلى أن مفهوم الدين طويل الأجل طبقا لتعريف البنك المركزي المصري” هو الدين الذي يبلغ زمن استحقاقه أكثر من سنة واحدة”، بينما في واقع الأمر الديون الأجنبية المستحقة للخارج، عدا السندات، من الواجب سدادها في مدى زمني لا يزيد عن الخمس سنوات (إضافة بالطبع لأية مبالغ جديدة سيتم اقتراضها).
  • تلاشت جميع البدائل أمام الحكومة المصرية لسد الفجوة الدولارية الضخمة المطلوبة، بعد تضاؤل القدرة على الاقتراض أو إصدار سندات دولية، واتساع العجز في الميزان التجاري، وانكماش احتياطي العملة الأجنبية، وتحول الأصول الدولارية للبنوك إلى السالب، وبالتالي فإن استمرار تعويم الاقتصاد المصري (مع نقل كل الضغوط الاقتصادية على الشعب) أصبح مرهونا، أولا بإقبال المشتري الخليجي، وربما الصيني، للأصول المصرية ذات الطبيعة الرابحة أو الاستراتيجية، وبالحجم المالي المناسب لمواجهة الالتزامات العاجلة، كما أنه رهينة للاتفاق مع صندوق النقد.
  • مجموع المبالغ المحصلة من بيع الأصول والاقتراض من الصندوق إذا تم بقيمة كبيرة قد يعني تأجيل إعلان الإفلاس، على الرغم من أن إعلان الإفلاس يعد من وجهة نظر الباحث المسار الأقل كلفة على الشعب المصري في هذه الظروف، لا سيما أنه أمر أضحى مرجحا إذا لم يكن العام الحالي فسيكون القادم. أما تأخر أو إلغاء أي من هذه المصادر، أو نسبة كبيرة منها، خاصة قرض الصندوق، فسيعني عجزا عن الوفاء بمتطلبات النقد الأجنبي. ويرى الباحث أن العامل الأكثر تأثيرا هو أنه إذا لم يتم توقيع الاتفاق مع الصندوق خلال شهرين على الأكثر، وبقيمة قرض فوري لا تقل عن 15 مليار دولار، مع جدولة ديون الصندوق القديمة، ستتوقف مصر عن سداد ديونها وتدخل حالة الإفلاس خلال أشهر قليلة.

تمهيد

يعاني الاقتصاد المصري خلال الفترة الراهنة من تداعي العديد من العوامل الداخلية والخارجية التي تضغط بقوة على المؤشرات النقدية الخارجية المصرية، وبصورة حادة، فمن جهة تسارع انخفاض الاحتياطي من النقد الأجنبي، ومن جهة أخرى استمر ولا يزال الانخفاض التدريجي للجنيه المصري والذي يرجح استمراره خلال الفترة القادمة كذلك، كل ذلك علاوة عن الضغوطات المتعاظمة نتيجة نزوح الأموال الساخنة للخارج في أعقاب الرفع المتكرر لمعدلات الفائدة من بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، فضلا عن معدلات التضخم المرتفعة الناتجة عن عوامل محلية ودولية.

يضاف إلى ذلك ضغوطات العجز المزمن في كل من الميزان التجاري والموازنة العامة، والجديد من أقساط وفوائد القروض المتراكمة خلال السنوات الماضية، وكذلك أقساط صفقة الغاز الإسرائيلية والتي تزيد عن ملياري دولار سنويا طبقا للأسعار العالمية الراهنة للغاز، كل ذلك يساهم في توسيع الفجوة بين الالتزامات والمتحصلات من العملة الصعبة يوما بعد يوم.

ولا شك أن مواجهة تلك الضغوطات الحادة تحتاج أولا إلى قراءة متأنية في أهم عناصرها، لاستيضاح، ليس فقط مدى إلحاح الالتزامات المترتبة على تلك العناصر، بل كذلك تقديرات قيمها الحقيقية وإمكانية تطور تلك الالتزامات خلال الفترة القريبة القادمة، وكذلك لاستيضاح مدارات تحرك السلطة المصرية ومدى قدرتها على الوفاء بتلك الالتزامات.

وغني عن الذكر أن الأرقام المصرية الرسمية في هذا الصدد عادة ما تكون شحيحة وغير محدثة بشكل مناسب، بالإضافة إلى غياب أي تقدير رسمي معلن للالتزامات خلال ما تبقى من العام الحالي أو للأعوام الثلاث القادمة، ولذلك سنحاول من خلال هذه الدراسة المزج ما بين المعلن من البنك المركزي المصري وبعض الأرقام المعلنة من المؤسسات والبنوك الدولية الكبرى بغية التوصل إلى تقدير تقريبي لتلك الالتزامات، ومن ثمّ تقدير امكانية الوفاء بها في المدى المنظور.

هدف الدراسة:

يتلخص الهدف الرئيس للدراسة في “تقدير الالتزامات الخارجية الراهنة بالعملة الصعبة على الاقتصاد المصري، والفجوة المترتبة على ذلك بين الإيرادات والالتزامات، ومن ثمّ تقدير امكانية سد هذه الفجوة والوفاء بهذه الالتزامات في المدى المنظور”.

ويمكن العمل على تحقيق هذا الهدف من خلال دراسة المباحث التالية، المبحث الأول: موارد والتزامات مصر الخارجية وفقا لميزان المدفوعات المصري، المبحث الثاني: تقديرات احتياجات مصر من النقد الأجنبي (الفجوة الدولارية)، المبحث الثالث: السياسات المحتملة لمواجهة الفجوة الدولارية في مصر.

المبحث الأول: موارد والتزامات مصر الخارجية وفقا لميزان المدفوعات المصري

يعرف ميزان المدفوعات بأنه سجل لجميع المعاملات النقدية والاقتصادية التي تتم بين بلد ما (الأفراد والشركات والحكومة) وبقية بلدان العالم خلال فترة محددة (سنة غالبا). وتساعد هذه التسجيلات الدولة على مراقبة تدفق الأموال ووضع السياسات التي من شأنها أن تساعد في بناء اعمدة اقتصادية قوية.

وتشير نتائج ميزان المدفوعات للدولة إلى ما إذا كان لدى البلد فائض أو عجز في الأموال السائلة المطلوبة، ويعبر فائض ميزان المدفوعات إلى أن متحصلات الدولة من النقد الأجنبي أكبر من مدفوعاتها، بينما تمثل قيمة العجز الفرق بين مجمل موارد النقد الأجنبي من كافة المصادر من صادرات سلعية وخدمية ومن تحويلات للعمالة ومعونات وقروض واستثمار أجنبي بنوعيه ( المباشر وغير المباشر)، وبين كافة المدفوعات إلى العالم الخارجي كالواردات السلعية والخدمية ومدفوعات فوائد الاستثمارات الأجنبية وسداد فوائد وأقساط الدين الخارجي.

ويتم توزيع حوالي 14 مجموعة من موارد النقد الأجنبي وما يقابلها من مدفوعات على عدد من الموازين الفرعية هي: الميزان التجاري، والميزان الخدمي، وميزان الدخل، وميزان التحويلات، والحساب المالي والرأسمالي، إلى جانب حساب السهو والخطأ لما لا يرد بتلك الموازين الفرعية.

وتشير البيانات الواردة في البيان الصحفي للبنك المركزي المصري، بشأن أداء ميزان المدفوعات خلال فترة تسعة أشهر بين يوليو/مارس من السنة المالية 2021/2022، وطبقا للجدول المنشور في البيان، والوراد أدناه في الجدول رقم 1، إلى ما يلي:

  • بلغ العجز بميزان المدفوعات المصري خلال فترة التسعة أشهر حوالي 7.3 مليار دولار تقريبا في مقابل 1.8 مليار دولار فقط خلال نفس الفترة من العام الماضي، وقد تزايد ذلك العجز بشكل حاد خلال الربع الأول من العام الحالي نتيجة لهروب الأموال الساخنة، وهو دفع بهذا الرقم لأن يكون أعلى رقم فصلي تاريخي للعجز بميزان المدفوعات المصري، والذي فاق قيمة العجز به خلال الربع الأول من عام 2011، إبان ثورة الخامس والعشرين من يناير والبالغ 6.1 مليار دولار حينذاك[1].
  • كما أن عجز هذا الربع يقارب ضعف العجز في الربعين السابقين له مباشرة، والذي بلغ العجز بهما حوالي 3.1، 3.2 مليار دولار على الترتيب، كما أنه العجز الأعلى قيمة من العجز المسجل خلال الربع الثاني من عام 2020، والبالغ 3.5 مليار دولار، والذي تزامن مع ذروة الآثار السلبية لفيروس كورونا وتداعيات الأزمة على الاقتصادين المصري والعالمي.
  • هذا الأمر الذي يشير بوضوح إلى عمق الأزمة التي يمر بها الاقتصاد المصري، لا سيما أن هذا العجز الضخم وغير المسبوق حدث على الرغم من الزيادة القياسية للقروض الخارجية بنحو 12.3 مليار دولار خلال الربع الأول من العام الحالي[2]، كما أنه بدأ في التصاعد الكبير قبل بداية العام الحالي، مما ينفي تسبب اندلاع الحرب على أوكرانيا ورفع الفيدرالي الأمريكي لمعدلات الفائدة في تفاقمه.

ولكي تكون الصورة أكثر اكتمالا، تجدر الإشارة إلى أن العجز المتصاعد في ميزان المدفوعات الكلي حدث أيضا على الرغم من السحب من الاحتياطيات النقدية والتي تناقصت بما يزيد عن 12 مليار دولار خلال العام الحالي من بينها 3.7 مليار دولار خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، وكذلك على الرغم من استمرار زيادة العجز في صافي الأصول الأجنبية (العُملات) في الجهاز المصرفي المصري، الذي يتضمن المصرف المركزي وباقي المصارف التجارية العاملة تحت إشرافه، حتى شهر حزيران/ يونيو الماضي، ليصل هذا العجز إلى 19.7 مليار دولار، منها 8.2 مليار دولار عجزا في المصرف المركزي و11.5 مليار دولار عجزا بباقي المصارف التجارية العاملة بمصر[3]

 هذا العجز في صافي الأصول الأجنبية لدى البنوك يعني من جهة استمرار تصاعد الفجوة الدولارية، ومن جهة أخرى تحميل أعباء نسبة كبيرة من شح الدولار على عاتق البنوك التجارية في محاولة من الإدارة النقدية لتخفيض حدة الأزمة (فضلا عن المزيد من الاستدانة والسحب من الاحتياطي كما سبق ذكره)، ويؤكد ذلك  بوضوح وبساطة عمق الأزمة الراهنة وعدم كفاية الأساليب والأدوات التقليدية لمواجهتها. 

جدول رقم (1): ميزان المدفوعات المصري خلال الفترة يوليو 2021-مارس 2022

أزمة التزامات مصر من النقد الأجنبي – الأبعاد والمالات-2

ويمكن التطرق إلى العوامل التي ساهمت في تفاقم عجز ميزان المدفوعات وكذلك العوامل التي ساندته من خلال التحليل الرقمي التالي، وذلك لمحاولة الاستقراء والترجيح بين تلك العوامل من حيث مدى الاستدامة والتأثير على فجوة الموارد الدولارية في مصر، وذلك كما يلي:

أولا: المعاملات التي أثرت سلبا على تفاقم عجز ميزان المدفوعات:

1- الميزان التجاري غير البترولي

ارتفع عجز الميزان التجاري غير البترولي بمعدل 22.5% ليبلغ 37.7 مليار دولار مقابل 30.7 مليار دولار خلال نفس الفترة من العام الماضي، وذلك على الرغم من التحسن النسبي لقيمة متحصلات الصادرات التي سجلت نحو4.7 مليار دولار لتبلغ 19.4 مليار دولار، في مقابل 14.6 مليار دولار خلال نفس الفترة من العام السابق

وقد نتج التحسن في أرقام الصادرات المصرية خلال الفترة كنتيجة طبيعية للتضخم العالمي لا سيما في المنتجات كثيفة استخدام الطاقة (الملوثة للبيئة) والتي تعتبر المكون الرئيس للصادرات المصرية.

وفي المقابل جاء ارتفاع المدفوعات عن الواردات بنحو 11.7 مليار لتسجل 57.1 مليار دولار ليدعم الاتجاه المتصاعد للعجز في الميزان التجاري وفي ميزان المدفوعات ككل، وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الزيادة الكبيرة في الواردات جاءت رغم القيود الحكومية المشددة على الحصول على النقد الأجنبي وتغيير قواعد الاعتماد المستندي، وحالة الارتباك الواسعة التي صاحبت هذه القرارات، لا سيما عدم قدرة المصانع على استيراد مستلزمات الإنتاج أو حتى قطع الغيار لماكيناتها. وتجدر الإشارة كذلك إلى أن ارتفاع الأسعار على المستوى العالمي لا سيما أسعار السلع الأساسية ربما يعد مكونا لزيادة فاتورة الواردات خلال هذه الفترة.

كما تجدر الإشارة كذلك إلى أن ارتفاع فاتورة الواردات المصرية على هذا النحو كانت سابقة للحرب على أوكرانيا ومن المنطقي أن الربع الأخير لميزان المدفوعات سيظهر المزيد من ارتفاع الفاتورة وبالتالي تزايد العجز في الميزان التجاري والميزان الكلي. وتجدر الإشارة كذلك إلى أن هذا يدلل بوضوح على عشوائية الإدارة الاقتصادية التي لم تستطع تبني أية خطط للإحلال محل الواردات أو لزيادة الصادرات بنسب يعتد بها، ليس فقط لخفض العجز في الميزان الكلي ومكوناته وبالتالي تخفيض الضغط المزمن على الفجوة الدولارية والعملة المحلية، ولكن أيضا عدم تبني خطط واضحة المعالم وبتوقيتات زمنية مستهدفة وملزمة لزيادة الإنتاج الوطني على المستوى القطاعي، وهو المرض العضال الذي يتسبب في الأعراض الاقتصادية على شكل عجوزات هيكلية مزمنة في كافة الموازين المصرية.

2- المعاملات الرأسمالية والمالية:

تراجع صافي التدفق للداخل خلال الفترة من يوليو 2021 الى مارس 2022 بمعدل 36.6%، ليقتصر على 10.8 مليار دولار في مقابل 17.1 مليار دولار خلال نفس الفترة من العام المالي السابق. ويمكن استعراض أهم مسببات ذلك كما يلي:

أ- الأموال الساخنة

تحول الاستثمار بمحفظة الأوراق المالية المصرية إلى صافي تدفق للخارج بحوالي 17.2 مليار دولار في مقابل صافي تدفق إلى الداخل بقيمة 15.98 مليار دولار خلال نفس الفترة من العام السابق، وقد تركز هذا التخارج من السوق المصرية خلال الفترة من يناير – مارس 2022 حيث سجلت خروج بقيمة 14.8 مليار دولار، الامر الذي يعني أن 2.4 مليار دولار فقط خرجت قبل بداية العام الحالي وهو رقم اعتيادي إلى حد كبير.

وتشير الأرقام السابقة إلى دلالة شديدة الأهمية وهي، أن الأموال الساخنة خرج معظمها من مصر قبل بداية رفع الاحتياطي الأمريكي لسعر الفائدة والذي بدأه في مارس الماضي، كما أنها خرجت قبل الحرب على أوكرانيا والتي بدأت في أواخر فبراير، وهو الأمر الذي يفند تماما تبرير البنك المركزي المصري لهذا التخارج بتخوف المستثمرين من حرب عالمية ثالثة، وبانتهاج الفيدرالي الأمريكي لسياسات نقدية متشددة تسببت في نزوح الأموال من الاقتصادات الناشئة.

من المرجح أن تخارج هذه الأموال من مصر جاء جزئيا كنتيجة لرفع المنافسين لمصر على الأموال الساخنة لمعدلات الفائدة، حيث رفعت الأرجنتين[4] على سبيل المثال في منتصف فبراير من العام الحالي معدل سعر الفائدة بمقدار 250 نقطة أساس لتبلغ  إلى 42.5%، وهي نفس السياسة التي انتهجتها جنوب افريقيا حينما رفعت معدل الفائدة في نوفمبر من العام الماضي ثم يناير من العام الجديد[5]، ولم يتجاوب المركزي المصري مع تلك الارتفاعات بالقدر المناسب. الأهم أن تسارع خروج الأموال الساخنة تزامن مع بداية ظهور تقارير من مؤسسات دولية كبري حول اقتراب الأزمة المتوقعة للاقتصاد المصري، وهي المؤسسات التي تقدم النصائح للمستثمرين في الأموال الساخنة حول العالم.

تشير مراجعة أرقام البيان إلى نزوح استثمارات الحافظة للأجانب في مصر (الأموال الساخنة) خلال الشهور التسعة بنحو 17.2 مليار دولار بعد أن تم تسجيل صافي تدفق للداخل قيمته 15.98 مليار دولار بنهاية مارس 2021، أي أن تلك النوعية من الاستثمارات التي تتركز في مشتريات الأجانب لأذون وسندات الخزانة المصرية، بالإضافة إلى تعاملاتهم في البورصة المصرية، قد فقدت 33.2 مليار دولار ما بين آذار/ مارس من العام الماضي والعام الحالي، أي بنسبة 97.5 في المائة من أرصدة تلك الاستثمارات في نهاية أيلول/ سبتمبر 2021، حين بلغت 34.1 مليار دولار.

هذا ما أكدته تصريحات وزير المالية بأن أكثر من 90 في المائة من تلك الاستثمارات قد نزحت. والغريب أن الإدارة الاقتصادية لم تلجأ إلى أي نوع من أنواع القيود على خروج تلك الأموال التي طالما استفادت ليس فقط من سعر الفائدة المرتفع ولكن أيضا من فروق سعر الصرف، خاصة مع الإصرار على تثبيت سعر الصرف في الوقت الذي استمر فيه نزف موارد النقد الأجنبي، واكتفت الإدارة الاقتصادية على الرغم من ذلك بفرض القيود على تعاملات المواطن المحلي المستورد والمصنع، وهي تعرف -أقرت بعد ذلك- أن هذه الأموال لن تعود قريبا وأن الاعتماد عليها كان سياسة خاطئة، كما صرح وزير المالية نفسه، وبالتالي كان من المفترض أن تتوجه القيود نحو خروج تلك الأموال الأمر الذي كان سينظم خروج تلك الأموال وتداعيات ذلك الخروج على العملة المحلية ومجمل الموارد النقدية.

  • عموما الأرقام تشير كذلك إلى استمرار نزوح تلك الأموال بعد الفترة المذكورة، وهو الأمر الذي أكدته التصريحات الرسمية بخروج 20 مليار دولار من الأموال الساخنة خلال الأشهر الماضية (بعد مارس الماضي)، وربما يتجاوز الرقم ذلك حاليا، لا سيما في ظل استمرار الحرب على أوكرانيا، واستمرار تأكيد رفع معدل الفائدة الأمريكية.
  • الأمل الوحيد المتبقي للدول الناشئة ومن بينها مصر سقوط الاقتصاد الأمريكي في دوامة الركود التضخمي، الأمر الذي قد يجبر بنك الاحتياطي الفيدرالي على تخفيف وتيرة السياسات النقدية المتشددة وربما العودة نحو سياسات ميسرة.
  • إلا أنه على الجانب الأخر يجب الإشارة إلى عدة اعتبارات، أولها أن السياسات التيسيرية المقصودة أعلاه لن تكون بأي حال مثل نظيراتها أثناء فترة كورونا، وذلك ببساطة لأن البنوك المركزية حول العالم أيقنت ان تلك السياسات هي التي تسببت في موجة التضخم العام الحالية، وثانيها، أن احتمالية وقوع حالة الكساد لا تزال محل تشكيك من الإدارة الامريكية، وأن الاعتراف بها وبالتالي تطبيق سياسات تيسيرية لمواجهتها قد يحتاج على الأقل من 4-6 أشهر قادمة، وهو المدة التي ستؤدي للمزيد من التضييق الشديد على الموارد الدولارية المصرية.
  • وثالثها أن السياسات التيسيرية إن حدثت فلا يعني ذلك عودة الأموال الساخنة لمصر بنفس السرعة والكمية التي حدثت بعد النزوح بسبب فيروس كورونا، وربما تستلزم بعض الوقت لا سيما أن المركزي المصري لم يرفع سعر الفائدة بمعدلات مناظرة لمنافسيه على الأموال الساخنة حول العالم، وهو الأمر الذي تسبب في موجة النزوح الحادة من مصر مع مطلع فبراير الماضي في ظل عجز استجابة سعر الفائدة في مصر لتلك المتغيرات مع استمرار ارتفاع نسبة التضخم. وهنا تجدر الإشارة إلى أن حديث المسئولين المصريين عن تعلمهم درس التورط في الاعتماد المبالغ فيه على الأموال الساخنة لن يكون بالضرورة إلا كلاما مرسلا، حيث أنه في ضوء الفجوة الدولارية المتنامية قد يضطر المركزي أن يرفع سعر الفائدة لجذب ما أمكن من تلك الأموال.

ب- القروض والتسهيلات الخارجية طويلة ومتوسطة الأجل

حقق صافي استخدام القروض والتسهيلات الخارجية متوسطة وطويلة الأجل  1.3 مليار دولار فقط خلال فترة الدراسة،، وذلك على خلفية ارتفاع المسدد إلى 5 مليار دولار في مقابل 2.4 مليار خلال نفس الفترة من العام الماضي، وتحقيق المستخدم تراجعا ليسجل 6.3  مليار دولار في مقابل 7.4 مليار دولار خلال نفس الفترة المناظرة من العام السابق [6].

من الجدير بالذكر أن صافي الداخل إلى البنك المركزي خلال الفترة بلغ 16.4 مليار دولار، دخل منها 14.1 مليار خلال الفترة يناير/ مارس 2022، تمثل أغلبها في الودائع العربية، والتي يمكن القول بأنها من الصعب أن تأتي بنفس القيمة مجددا، ومن المنطقي اعتبارها ايرادا غير اعتيادي.

تآكل مصادر الاقتراض الخارجي بعد استنفاذ معظم مصادرها، وبلوغ الحدود القصوى الممكنة منها لدى بعض المؤسسات، علاوة على ما تعانيه سوق السندات المصرية من انخفاض حاد في الأسعار وعرض المشترين لها البيع بنصف الثمن، كل ذلك يعني أن الاقتراض الخارجي كمصدر رئيس لتغطية فجوة الموارد الدولارية أضحى متآكلا، سواء على مستوى المصادر أو المبالغ، وربما يفسر ذلك الحرص المصري على الاقتراض الجديد من صندوق النقد، وهو ما قد يفسر أيضا الأقاويل المتزايدة حول تزايد الاعتماد على القروض الصينية والتي من المعروف احتياجها لرهن أصول سيادية (وهو ما تردد بالفعل مؤخرا في وجود مباحثات حول مبادلة ديون صينية بأصول من الموانئ والمطارات بقيمة 8 مليار دولار).

ج- الاستثمار الأجنبي

تصاعد صافي الاستثمار الأجنبي بمعدل 53.5% خلال الفترة، ليبلغ 7.3 مليار دولار، وهو رقم كبير لم تعتده مصر من قبل، وهو الأمر الذي يستوجب القاء المزيد من الضوء على مكونات هذا الاستثمار وذلك كما يلي:

الاستثمارات غير البترولية

ارتفع صافي الاستثمارات غير البترولية بمقدار 3.9 مليار دولار لتسجل تدفق للداخل بمقدار 9 مليار دولار، منها 4.6 مليار دولار خلال الفترة يناير / مارس 2022، مما يعني تزامنها مع تخارج الأموال الساخنة، وقد يشير ذلك ببساطة أنها نتجت عن طلب عاجل وملح من الإدارة المصرية لتعويض مأزقها من نقص العملات الأجنبية.

وتكون مبلغ الاستثمار غير البترولي المتدفق للداخل من 2.6 مليار دولار لتأسيس شركات جديدة أو زيادة رأس المال بزيادة قدرها 1.5 مليار عن العام السابق، منها 208 مليون دولار فقط لتأسيس شركات جديدة، ويرجح أن رقم زيادة رأس المال هو حصة الأرباح غير الموزعة لشركات قائمة تعمل في السوق المصري وانتجت تلك الأموال من داخله، أي أن المال لم يأت من الخارج.

زيادة حصيلة بيع شركات وأصول إنتاجية لغير المقيمين بنحو 2.2 مليار دولار لتسجل 2.3 مليار دولار، وهي زيادة ضخمة وغير مسبوقة. والغريب أنها سبقت إعلان رئيس الوزراء في نهاية مايو الماضي عن خطة بيع بقيمة 40 مليار دولار لتلك الأصول على مدى 4 سنوات، وهو الأمر الذي يؤكد التحرك السريع للحكومة ببيع الأصول فور خروج الأموال الساخنة لمواجهة الموقف دون الإفصاح عن ذلك، وأن الامر كذلك ليس له علاقة بسعر الفائدة الأمريكية أو الحرب في أوكرانيا.

  • مقارنة رقم الزيادة الصافية لقيمة الاستثمار الداخل وهو 3.9 مليار دولار مع بيع 2.2 مليار أصول بالإضافة إلى 1.5 مليار زيادة رأسمال من الداخل للشركات، تعني أنه لم يرد استثمار -غير بترولي – يذكر إلى مصر.
  • كما ارتفعت صافي التحويلات لشراء غير المقيمين لعقارات بحوالي 189.8 مليون دولار لتسجل 643.5 مليون دولار، وهذا رقم إذا ما تم تحويله إلى جنيهات مصرية سيبلغ 10.3 مليار جنيه على أساس سعر صرف 16 جنيه للدولار، والسؤال المهم هنا من هم الأجانب الذين اشتروا عقارات مصرية بهذا المبلغ الكبير مقارنة بحجم السوق العقارية المصرية السنوية، وهل هذه العقارات شقق أم أراضي، وبوضوح ما هي حصة إسرائيل وسيناء في تلك المشتريات؟!

الاستثمارات البترولية:

سجلت الاستثمارات البترولية صافي تدفق للخارج بلغ 1.7 مليار دولار (في مقابل 322.5 مليون دولار فقط في الفترة المناظرة من العام السابق)، وكان ذلك كمحصلة لما يلي:

  • ارتفاع التحويلات إلى الخارج (والتي تمثل استرداد التكاليف التي تحملها الشركاء الأجانب خلال فترات سابقة في أعمال البحث والتنقيب) لتصل إلى نحو 5.4 مليار دولار في مقابل 4.6 مليار في الفترة المناظرة السابقة. وهو الأمر الذي ولا شك زاد من الضغط على مدفوعات النقد الأجنبي. وللأسف لا توجد بيانات منشورة تشير إلي حجم الأموال المفترض خروجها تحت هذا البند خلال ما تبقى من العام الحالي، ولكن من الواضح ان هناك رقما سنويا ينزح للخارج يبلغ في المتوسط 4 مليار دولار، من المنطقي أن تخصم من صادرات الغاز والبترول.
  • تجدر الإشارة هنا إلى أن رقم الصادرات البترولية المصرية يتضمن حصة الشريك الأجنبي، مما يشير إلى أن مبلغ لا يقل عن 50% في المتوسط من تلك القيمة مرشح للنزوح للخارج، فإذا كانت صادرات النفط ( غاز وبترول بلغت 13 مليار دولار خلال 9 شهور) فإن ما يقارب 6 مليار دولار منها في المتوسط يمثل حصة الشريك الأجنبي وسينزح للخارج (إضافة لمقابل تكاليف البحث والتنقيب)، بما يعني أن الإقتصاد المصري في واقع الأمر لا يستفيد شيئا يذكر من ثروات البترول والغاز في البلاد، وهو ما يزيد من قيمة الالتزامات الدولارية على الاقتصاد المصري.
  • انخفاض قيمة استثمارات شركات البترول الأجنبية المتدفق للداخل ليبلغ 3.8 مليار دولار في مقابل نحو 4.3 مليار دولار في الفترة المناظرة في العام السابق، وهو انخفاض بسيط، ربما قد يتم تعويضه من خلال تهافت الشركات على البحث والتنقيب على أثر الأزمة الأوكرانية.
  • وبذلك يستمر صافي تدفقات استثمارات البترول هو الرقم المهم في إجمالي التدفق الاستثماري (وهو الرقم الذي تسترده الشركات الأجنبية بعد ذلك)، وما عداه من استثمارات غير بترولية لا يعدو كونه بيعا للأصول او العقارات، أي أنه بساطة لايمكن التعويل على الاستثمار من أي نوع في سد الفجوة الدولارية إلا ببيع الأصول، وبأبخس الأسعار نظرا لحالة الاضطرار.

3- ارتفاع عجز ميزان دخل الاستثمار

ارتفع عجز ميزان دخل الاستثمار بمعدل 27.2% ليسجل 11.3 مليار دولار، في مقابل 8.9 مليار دولار خلال نفس الفترة من العام السابق، وجاء ذلك كمحصلة لما يلي:

  • سجلت مدفوعات دخل الاستثمار 11.3 مليار دولار، بزيادة 2.7 مليار عن العام السابق، وذلك كنتيجة لزيادة الفوائد المدفوعة لحملة أدوات الدين من غير المقيمين، علاوة على زيادة مدفوعات عوائد الاستثمار الأجنبي المباشر، وكما أشير سابقا، فإن عدم تنظيم خروج تلك الأموال وفقا لقواعد إدارة الأزمات هو أحد مسببات استفحال الأزمة الحالية.

ثانيا: المعاملات التي أثرت إيجابا على عجز ميزان المدفوعات:

توجد بعض المعاملات التي حققت تحسنا ملحوظا ساهم في تحسين عجز المدفوعات، وتتركز هذه المعاملات في الميزانين الخدمي والرأسمالي، ويمكن بيانها كما يلي:

1- الميزان الخدمي:

ارتفع فائض الميزان الخدمي بنحو 4.8 مليار دولار ليسجل نحو 9.7 مليار دولار، في مقابل 3.2 مليار دولار خلال نفس الفترة من العام السابق، ويرجع ذلك تفصيلا إلى:

  • ارتفاع الإيرادات السياحية بنحو 5.1 مليار دولار لتسجل حوالي 8.2 مليار دولار، مقارنة بحوالي 3.1 مليار دولار فقط خلال الفترة المناظرة من العام الماضي، وتجدر الإشارة إلى أن أثر فقدان نسبة من السياح الأوكران والروس الذين يشكلون أكثر من نصف السياحة الوافدة لمصر لم يظهر في فترة البيان، وهو الأمر الذي من المنطقي توقع المزيد من ظهور تناقصه الحقيقي مع استمرار الحرب على أوكرانيا، لا سيما أن هذه الأرقام لم تأخذ في الاعتبار إلا أقل من شهر واحد فقط من الحرب.
  • وتجدر الإشارة كذلك إلى أن تزايد معدلات السياحة العالمية فيما عرف بالسفر الانتقامي خلال أشهر الصيف الحالي، والذي جاء كتعويض لفترة إغلاق كورونا، من المنتظر انكماشها في ظل الضغوط التضخمية الحادة التي أصابت السوق الأوروبية، والتي من المتوقع تفاقمها في ظل أزمة الطاقة المتوقعة بحلول الشتاء القادم، وهو الأمر الذي يعني أن قطاع السياحة المصري سيعاني من انكماش متوقع ليس فقط بسبب تناقص أعداد السياح الروس والأوكران، وانما أيضا بسبب نقص متوقع في أعداد الأوربيين، وانخفاض الدخل السياحي سيفاقم ولا شك الأزمة الحالية لمواد النقد الأجنبي.
  • ارتفاع متحصلات النقل بمعدل 27.8% كنتيجة لتزايد إيرادات النقل لتبلغ 7 مليار دولار في مقابل 5.5 مليار فقط في العام الماضي، وقد ساهم في تلك الزيادة تزايد إيرادات قناة السويس لتسجل نحو 5.1 مليار في مقابل 4.3 مليار خلال نفس الفترة من العام السابق، وعموما من المتوقع استمرار ارتفاع تلك الإيرادات خلال الفترة القادمة كنتيجة طبيعية للتضخم العالمي.

2- تحويلات العاملين في الخارج

  • تزايدت تحويلات العاملين في الخارج بصورة مستمرة خلال الأعوام الخمسة الماضية، فبينما سجلت 24.7 مليار دولار عام 2017، تزايدت إلى 31.5 مليار دولار بنهاية عام 2021، وفي التسعة أشهر الواردة ببيان البنك المركزي سجلت 29.2 مليار دولار في مقابل 23 مليار خلال نفس الفترة من العام السابق.
  • عموما لا تزال التحويلات من الخارج تشكل أهم رافد لموارد النقد الأجنبي خلال الأعوام الأخيرة، وقد حافظت على زخم تزايدها حتى في فترة الانخفاض الشديد لأسعار النفط ومعاناة الموازنات الخليجية، ومن المتوقع استمرار تدفقها ليس فقط بسبب التحسن الكبير الطارئ على فوائض الخزائن الخليجية ولكن أيضا بسبب ارتفاع التضخم في مصر واحتياج عائلات العاملين للمزيد من الأموال، وكذلك بسبب التزايد السنوي الكبير لهجرة الفئات النوعية لهؤلاء العاملين، وعلى سبيل المثال هجرة أعداد متصاعدة من الأطباء، بالإضافة إلى محاولات العمل في الخارج لانسداد وضعف العائد المحلي.

3- عجز صافي أصول الأجنبية في القطاع المصرفي

كان من الممكن للعملات الأجنبية في الجهاز المصرفي (البنك المركزي والبنوك التجارية) أن تقوم بدور مساند وداعم للاقتصاد المصري في الأزمة الحالية، ولكن الإدارة المصرية استنفذت هذا الموارد التي تآكلت حتى أضحت تسجل عجزا بالسالب.

وصافي الأصول الأجنبية معادلة مصرفية يجري خلالها خصم التزامات القطاع المصرفي (بما فيها البنك المركزي المصري) تجاه غير المقيمين من إجمالي الأصول بالعملة الأجنبية، وهو ما يعكس زيادة الالتزامات على البنوك لدرجة يتحوّل معها الصافي إلى سالب.

وقد شهد صافي الأصول الأجنبية لدى الجهاز المصرفي المصري، بما فيه البنك المركزي، تراجعاً بمقدار 370 مليار جنيه (نحو 20 مليار دولار أميركي تقريبا)، في فترة لم تتجاوز الـ 12 شهراً، بعدما هوى الرصيد من 320 مليار جنيه (17 مليار دولار) في فبراير (شباط) 2021 إلى نحو “سالب” 50 مليار جنيه (2.7 مليار دولار) في الشهر ذاته من العام الحالي[7] وذلك للمرة الأولى منذ العام 2017.

وكذلك تواصل التناقص ليسجل سالب 305.1 مليار جنيه في مايو الماضي (نحو سالب 16.1 مليار دولار)، مقابل سالب 239.4 مليار جنيه في إبريل الماضي (نحو سالب 12.7 مليار دولار)[8].

كما تظهر البيانات كذلك استمرار هذا التناقص حيث سجلت صافي الأصول الأجنبية سالب 19.7 مليار دولار أمريكي في نهاية يونيو الماضي، مقارنة بـ 16 مليار دولار أمريكي في نفس الفترة من العام الماضي[9].

هذا الارتفاع الكبير في الضغط على الأصول الأجنبية للبنوك يشير بجلاء إلى تعاظم الاعتماد الحكومي على تلك الموارد لتغطية فجوة الموارد الأجنبية خلال فترات سابقة، والمشكلة في ذلك ليس فقط فقدان موردا كان من الممكن أن يشكل عونا للدولة في مواجهة الازمة الحالية، وانما المشكلة أيضا أن ذلك الاعتماد الحكومي المفرط على تلك الموارد أجبر البنوك التجارية الحكومية الكبرى (الأهلي – مصر – القاهرة) على الاقتراض من الخارج للوفاء باحتياجاتها، ويمكن الإشارة سريعا لبعض تلك القروض، وذلك كما يلي:

  • “الأهلي المصري” ينجح في توفير تمويلات خارجية بمليار دولار[10] في مايو 2021
  • 100 مليون دولار قرض من البنك الأوروبي لإعادة الإعمار للبنك الأهلي المصري [11] في يونيو 2020
  • “البنك الإفريقي” يقرض “الأهلي المصري” 300 مليون دولار [12]
  • البنك الاهلي يصدر سندات دولارية بقيمة 500 مليون دولار [13] عام 2015
  • بنك مصر يوقع اتفاقية قرض بـ 425 مليون يورو مع «الاستثمار الأوروبي» [14].
  • بنك مصر يحصل على تمويل بقيمة 100 مليون دولار من هيئة التعاون الدولي اليابانية [15] في إبريل 2021.
  • ثاني أكبر بنك حكومي في مصر يسعى لاقتراض 550 مليون دولار [16] في 2018.
  • بنك مصر، ثاني أكبر بنك حكومي في البلاد، في 15 مايو2017، يوقع اتفاقاً لاقتراض 500 مليون دولار مع بنك التنمية الصيني، لمدة ثماني سنوات [17].
  • بنك مصر يقترض 100 مليون دولار من مصرف التنمية الصيني [18].
  • بنك القاهرة يقترض 200 مليون دولار من البنك الإفريقي للتصدير في 2021[19].
  • “القاهرة” يقترض 30 مليون دولار من إحدى جهات التمويل العربية [20]

كان ما سبق مجرد أمثلة على لجوء البنوك للاقتراض الخارجي لتغطية فجوة الموارد الدولارية، وذلك كنتيجة طبيعية لسياسات البنك المركزي في فترة ما بعد التعويم والتي أجبر من خلالها تلك البنوك على سداد فواتير الواردات المتفاقمة للمشروعات المسماة بالقومية من مصادره الداخلية، علاوة على الأوامر التي أجبرتهم على دفع مستحقات بائعي الأموال الساخنة، والتي وفرت لهم قواعد البنك المركزي حرية تحويل أموالهم إلى دولار من البنوك المحلية بالسعر الرسمي، ولعل ذلك يبرر تركز معظم تلك القروض ما بين 2019-2021

كما أن البنك المركزي في فترة ما بعد التعويم توقف عن طرح العطاءات الدولارية، الأمر الذي دفع البنوك المصرية لمواصلة الاعتماد جزئيا على الخارج في تدبير العملة الصعبة، وكان ذلك ارهاصا للوضع الحالي للعجز المستمر للأصول الأجنبية. وتجدر الإشارة إلى أن إصدار البنك المركزي قراره بوقف الاعتمادات المستندية بنهاية فبراير الماضي كان اعترافا صريحا بالورطة الكبيرة التي سقطت فيها البنوك التجارية، وفقدانه السيطرة على الموارد الدولارية بعد نزوح الأموال الساخنة.

المبحث الثاني: تقديرات احتياجات مصر من النقد الأجنبي (الفجوة الدولارية)

تباينت تقديرات العديد من المؤسسات الخارجية حول احتياجات مصر من النقد الأجنبي خلال الفترة الحالية لمواجهة التزاماتها المختلفة، ومن الأهمية بمكان استعراض بعضا من هذه التقديرات والأسس التي بنيت عليها، وذلك بغية التوصل لأسباب ذلك التباين، وكذلك في محاولة للتوصل إلى تقدير يقترب من المعقولية، يمكن البناء عليه في محاولة الإجابة عن السؤال الرئيس والمتعلق بقدرة مصر على الوفاء بالتزاماتها خلال الفترة المقبلة.

ويمكن دراسة ذلك من خلال النقاط التالية:

أولاً استعراض بعض التقديرات المؤسسات الدولية:

تعددت تقديرات المؤسسات الدولية للفجوة الدولارية لمصر، والتي تتكون من مجموع عجز الميزان الجاري مضافا اليه الاحتياجات التمويلية لسداد أقساط وفوائد القروض الخارجية المستحقة السداد، ويمكن التطرق لبعض تلك التقديرات وذلك كما يلي:

تقدير بنك جولدمان ساكس [21]

توقع بنك جولدمان ساكس أن تلجأ مصر لاقتراض 15 مليار دولار من صندوق النقد الدولي، وفي تقريره الشهري حول الاقتصاد المصري، قال البنك إن مصر تحتاج إلى تأمين هذا المبلغ لتلبية متطلبات التمويل على مدى السنوات الثلاث المقبلة، كما قدر البنك المدفوعات المطلوبة من مصر إلى صندوق النقد الدولي بحوالي 13 مليار دولار على مدى السنوات الثلاث المقبلة.

كما أشار البنك كذلك إلى أن هذه الاحتياجات التمويلية تأتي في حال التزمت الدول العربية بالتدفقات التي تعهدت بها (السعودية – الإمارات – قطر) لتمويل الاقتصاد المصري بها والمقدرة بحوالي 22 مليار دولار، سواء على شكل ودائع أو استثمارات.

ويشير الشكل رقم (2) إلى الفجوة التمويلية لمصر في الأعوام الخمس القادمة كما يقدرها جولدمان ساكس (وذلك بافتراض الوفاء بالالتزامات الخليجية ب 22 مليار دولار):

شكل رقم (2)

الفجوة التمويلية لمصر في الأعوام الخمس القادمة

وتلتزم مصر طبقا للتقرير بدفع مستحقات ديون خارجية بقيمة 33 مليار دولار في عام واحد من آذار/مارس الماضي حتى آذار/ مارس القادم، بحسب ذات التقرير.

تقدير البنك الدولي [22]

كشفت إحصائية للبنك الدولي احتياج مصر إلى 31 مليار دولار لسداد جزء من التزامات الديون الخارجية عليها، من فترة يوليو 2022 حتى مارس 2023، غير 16 مليار دولار كانت مستحقة الدفع ما بين إبريل حتى يونيو 2022 (أي بإجمالي 47 مليار دولار خلال عام كامل).

ووفقاً لموقع “مدى” فتشير آخر الجداول المتاحة حول التزامات الديون، والتي يعدها البنك الدولي، أن مصر عليها الالتزام بسداد نحو 16 مليار دولار في الربع الثاني من العام الحالي (من بداية إبريل وحتى نهاية يونيو) يتبعها 12 مليار دولار في الربع الثالث، ثم حوالي ستة مليارات دولار في الربع الرابع، وأخيراً أكثر من 13 مليار دولار في الربع الأول من العام القادم.                         

 شكل رقم (3)

 شكل رقم (3)

وتعكس تلك الأرقام حاجة مصر إلى سداد حوالي 18 مليار دولار حتى نهاية العام الميلادي الجاري خلال الفترة من يوليو إلى ديسمبر، بافتراض سداد كامل الالتزامات عليها خلال الربع الثاني، الذي انتهى بالفعل في يونيو الماضي، وذلك في مقابل تقديرات حكومية بحوالي 18 مليار دولار فقط مستحقات عن الدين الخارجي خلال العام الجاري بأكمله، فهل لم تكن الحكومة تعرف التزاماتها أم تعمدت التضليل الرقمي؟

عموما فإنه وفقا لهذا التقدير فإن إجمالي المستحق سداده على مصر خلال الفترة من بداية إبريل 2022 وحتى نهاية مارس 2023 يبلغ 47 مليار دولار، وتجدر الإشارة إلى أن هذا المبلغ لا يتضمن بأي حال من الأحوال الاحتياجات التمويلية التقليدية لسداد عجز الميزان الجاري، ولا تحويلات مستثمري أدوات الدين للخارج، ولا حتى مستحقات المستثمرين في الاستثمار المباشر.

توقعات بنك HSBC

أشار تقرير بنك HSBC إلى أنه وفقا لبيانات البنك المركزي المصري تستحق على مصر التزامات مضمونة من القطاع العام بقيمة 13.5 مليار دولار أمريكي خلال السنة المالية 2022/23، ويشمل هذا الرقم ودائع الحلفاء في الخليج التي من المرجح أن يستمر تمديد آجال استحقاقها كما سبق ذلك عدة مرات.

وأكد التقرير كذلك أن المدفوعات الأخرى المستحقة على مصر ضخمة، وتقدّر بحوالي 9 مليارات دولار أمريكي على مدى الاثني عشر شهرا القادمة، وستظل مرتفعة على مدى السنوات الثلاث التالية بمتوسط يزيد عن 10 مليارات دولار أمريكي [23].

ويشير الشكل (4) إلى أنه من ضمن هذا المبلغ، يوجد 5 مليارات دولار أمريكي مستحقة للوكالات متعددة الأطراف، بقيادة صندوق النقد الدولي، الذي لديه مستحقات بقيمة 2 مليار دولار أمريكي في السنة المالية الحالية و15 مليار دولار أمريكي بحلول نهاية 2025. وهناك أيضاً 2 مليار دولار أمريكي من الديون قصيرة الأجل المستحقة خلال الفترة المتبقية من هذا العام.

كما يشير الشكل رقم (5) إلى تزايد مضطرد لمدفوعات الدين الخارجي المصرية، فبينما يتخطى 6 مليار دولار بقليل خلال العام الحالي، يقفز فوق 21 مليار دولار عام 2024، ويستمر فوق 10 مليار دولار لعامين آخرين، ثم يبدأ في التناقص التدريجي حتى يبلغ 3 مليار دولار فقط بنهاية العقد الحالي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الأرقام مقدرة بدون إضافة مستجدات الديون الجديدة التي أبرمت فعليا أو سيتم إبرامها، أولا لمواجهة الوضع المتأزم خلال ما تبقى من العام الحالي، وثانيا لمواجهة المدفوعات الخارجية التقليدية الناتجة عن العجز المزمن في ميزان الحساب الجاري.

كما أشار البنك في الشكل رقم (6) إلى أن الحاجة إلى تمويل الحساب الخارجي قد تبلغ 25 مليار دولار خلال العام المالي الحالي.

وينهي البنك تقريره بالإشارة إلى التفاؤل بإعادة التوازن المنتظم لمركز الحساب الخارجي لمصر، ولكن هذا التفاؤل يقوم على افتراض أن مزيجاً من هذه الموارد (من دول الخليج الداعمة) إلى جانب التحسن المطرد في الحساب الجاري من شأنه أن يسهل حدوث ذلك، لا سيما في حال حصلت مصر بالفعل على قرض من صندوق النقد الدولي بقيمة 700 بالمائة من حصتها.

ورغم اعتراف البنك بصعوبة عمليّة تحديد الشكل المستقبلي للاتفاق بين مصر والصندوق، ولكنه رجح أن يتم تحديد حد أقصى للتمويل الجديد عند حوالي 4 مليارات دولار أمريكي.

الشكل رقم (4)

الشكل رقم (4)

الشكل رقم (5)

الشكل رقم (5)

الشكل رقم (6)

الشكل رقم (6)

ولكن الإشارة ذات الأهمية الكبرى التي وردت في التقرير هي توقع البنك احتمالية سعي صندوق النقد على الأرجح للتخفيف من عبء التسديدات المستحقة لنفسه، وسيرتبط حجم هذا التخفيف بتلقي الدعم من مكان آخر، ويعني ذلك أن التفاوض مع الصندوق من الممكن أن يأخذ مسارين، أحدهما الاقتراض الجديد وثانيهما تأخير بعض الأقساط والفوائد المستحقة، وربما يضاف إلى ذلك مساعدة الصندوق لمصر على الاقتراض من مكان آخر، ومن هنا تبرز أهمية سعي مصر للاتفاق مع الصندوق لكي يمكن تقليل الفجوة الدولارية بأكبر قدر ممكن.

ثانيا: تقدير الدراسة للفجوة الدولارية على مصر حتى نهاية مارس 2023

تعددت محاولات تقدير قيمة الالتزامات الخارجية على الاقتصاد المصري خلال الفترة القصيرة المقبلة على النحو السابق توضيحه، وعلى الرغم من القصر الشديد للفترة التي لا تتجاوز بضعة أشهر تنتهي بنهاية مارس من العام القادم الا أن هناك تباينا كبيرا بين تلك التقديرات، حتى إن بعضها قدرها بنصف التقدير الذي قدره الآخر تقريبا.

ويمكن ارجاع هذا التباين، إلى اعتبار بعضها لبعض العناصر على أساس كونها من القروض الخارجية الواجبة السداد، وإهمال البعض الآخر لذلك. ولعل الودائع الخليجية هي المثال الأبرز على ذلك، فالبعض يضيفها إلى الالتزامات الخارجية المستحقة السداد على مصر بينما يهملها البعض الآخر لطبيعتها الخاصة، ولتحكم الأهواء السياسية في المطالبة في استردادها وهو الأمر الذي يرجح ضعف احتمالية المطالبة بها.

وكذلك يمكن ارجاع هذا التباين إلى اعتماد بعض التقديرات على بيانات قديمة منشورة للبنك المركزي المصري، وبالتالي فإن تأخر المركزي في تحديث تلك البيانات لاسيما المتعلق منها بالدين العام أو بقيمة نزوح الأموال الساخنة للخارج، أو الاعتماد على نشرات الاكتتاب التي تقدمها وزارة المالية المصرية للبنوك التي تقوم بالوساطة في عملية الاكتتاب، وكلها مصادر تتقادم بياناتها الرقمية بسرعة شديدة، خاصة في ظل النهم المصري في الاقتراض الخارجي من أي مصدر متاح، وبأي مبلغ ممكن، يجعل ليس فقط حصر المستحقات للمصادر المختلفة أمرا صعبا بل ربما أيضا حصر مبالغها أمرا يتطلب التحديث الشهري، وهو الأمر الذي يغيب تماما في الحالة المصرية.

الأمر الثالث الذي يمكن به تفسير هذا التباين في تقدير المستحقات، أنها تحسب خدمه وسداد الاقتراض الدولي سواء من المؤسسات الدولية او من القروض الثنائية والسندات الدولية فقط، ولا تضيف القروض التجارية المباشرة مثل قروض استيراد السلاح التي تكررت وبمبالغ كبيرة جدا في الأعوام الأخيرة وكذلك الالتزامات المترتبة على صفقة استيراد الغاز من إسرائيل أو إنشاء روسيا للمحطة النووية بالضبعة، ولا توضع في مستحقات المدفوعات من القروض.

وانطلاقا من الأسباب السابقة التي جعلت عملية تقدير مستحقات الديون الخارجية أمرا شديد الصعوبة، فإننا نرى أن أدق التقديرات السابق ذكرها كانت تقدير البنك الدولي، والذي أوضح أن جملة المستحق سداده على مصر خلال الفترة من بداية إبريل 2022 وحتى نهاية مارس 2023 يبلغ نحو 47 مليار دولار، وأنه بفرض أن مصر سددت ما عليها في الربع الثاني من العام الميلادي الحالي (من بداية إبريل وحتى نهاية يونيو) والبالغ 16 مليار دولار، فإنه يتبقى عليها  12 مليار دولار في الربع الثالث، ثم حوالي ستة مليارات دولار في الربع الرابع، وأخيراً أكثر من 13 مليار دولار في الربع الأول من العام الميلادي القادم.

كما تجدر الإشارة إلى أن هذا الترجيح بني كذلك على أساس قاعدة بيانات البنك الدولي والتي وعلى الرغم من اعتمادها على البيانات المحلية إلى حد كبير الا أنها وفي الحالة المصرية الشرهة للاقتراض الخارجي ولدور البنك الدولي في تسهيل تلك العمليات عبر منظماته وأذرعه المختلفة، وربما التوسط كذلك لدى الغير، فإنه من المستبعد إهمال الإدارة المصرية في تحديث البيانات التي ستنشر في قاعدة بيانات البنك الدولي.

بالإضافة إلى أن البنك الدولي يكون قاعدة بيانات عن الدول والمؤسسات الدائنة كذلك، فإذا لم تظهر الأرقام الحقيقية من الجانب المصري فإنه من المنطقي أن تظهر في قاعدة بيانات البنك الدولي المبنية على ارقام الطرف الدائن.

ويظهر جليا وضوح الأرقام وتفصيلاتها حول مدفوعات مستحقات المديونية المصرية وبصورة ربع سنوية من خلال تلك الأرقام، بما يعني أنها لم تظهر كبقية التقديرات في صورة رقم إجمالي، أو كمجموع رقمين فقط بني على أساسهما التقدير، وكل النقاط السابقة دفعت الباحث إلى ترجيح تقديرات البنك الدولي.

عموما تجدر الإشارة كذلك إلى أنه يجب إضافة مقدار عجز حساب المعاملات الجارية (صافي الميزان التجاري مضافا اليه صافي ميزان الخدمات وصافي ميزان دخل الاستثمار وصافي التحويلات، أي جميع المعاملات الجارية عدا القروض الخارجية) إلى الرقم التقديري المرجح للمدفوعات المستحقة على مصر حتى نهاية مارس القادم، حتى تكتمل صورة فجوة الموارد الدولارية في مصر.

وفي ظل عدم توافر بيانات منشورة من البنك المركزي حول حساب المعاملات الجارية في مصر بعد مارس 2022، وبعد الفحص المتعمق لبيانات هذا الحساب ومكوناته كما سبق تفصيلا في المبحث الأول، وطبقا لبيانات الجدول رقم (1) والتي أظهرت عجزا في الحسابات الجارية خلال تلك الأشهر التسعة بمقدار 13.6 مليار دولار، وبلوغ عجز ميزان المدفوعات بنهاية الربع الأول من العام الميلادي الحالي (نهاية مارس 2022) ذروة غير مسبوقة بحوالي 7.3 مليار دولار.

وكذلك بعد مراجعة أرقام هذا العجز بصورة ربع سنوية للأعوام الثلاثة السابقة، وأخذا في الاعتبار بعض الانخفاض المتوقع في أسعار السلع الرئيسية التي تستوردها مصر من الخارج، خلال ما تبقى من العام الحالي( انخفضت بالفعل أسعار القمح)، على الرغم من أنه من المتوقع أن تعاود أسعار الغذاء والطاقة العالمية الارتفاع لأسباب مختلفة[24](، بالإضافة إلى اعتبار انضغاط الواردات كنتيجة للإجراءات المتبعة من قبل البنك المركزي، على الرغم من ضعف مرونة الواردات المصرية إلى حد كبير، فإنه وبناء على كل ما سبق فإننا نقدر متوسط العجز ربع السنوي لحساب المعاملات الجارية بما يتراوح بين 4.5 و 5.5 مليار دولار، بإجمالي 18 إلى 22 مليار دولار خلال الأرباع الأربعة التي نحاول تقدير إجمالي الفجوة الدولارية فيها (مارس 2022 تاريخ أخر بيان متوفر لميزان المدفوعات ومارس 2023 القادم).

وبناء على ذلك يكون تقديرنا لإجمالي الفجوة التمويلية الدولارية التي تحتاج مصر لتغطيتها خلال تلك الفترة يتراوح بين 65 و 69 مليار دولار (18 إلى 22 مليار دولار عجز المعاملات الجارية للفترة مضافا إليها 47 مليار دولار مستحقات واجب سدادها للخارج طبقا لتقديرات البنك الدولي). طبقا لهذه الأرقام، وبافتراض قيام مصر بسداد ماعليها حتى نهاية الربع الأخير من العام المالي السابق، نحو 16 مليار دولار كما سبق، فإن الفجوة من يونيو 2022 إلى مارس تقدر ب 50 إلى 55 مليار دولار. وباستبعاد مستحقات الديون في الأشهر الثلاث الأولى من عام 2023 (13 مليار دولار طبقا لتقديرات البنك الدولي)، والعجز التقديري في حساب المعاملات الجارية لهذه الأشهر (متوسط نحو 5.5 مليار دولار كما سبق ذكره)، فإن تقديرنا للفجوة الدولارية الواجب تدبيرها بشكل شبه فوري (من أول يوليو حتى أخر ديسمبر 2022) يتراوح بين 32 و 37 مليار دولار، وهو الرقم الذي يجب البحث في مصادر تمويله فورا من مصادر إضافية، وفي الملاذات التي يمكن أن تأوي إليها الإدارة الاقتصادية لكي توفر هذا الرقم الضخم، وهل هذا قابل بالفعل للتحقق أم لا؟

ومما يدعم هذه التقديرات أن الرقم المتداول حاليا في أوساط الإعلام والخبراء القريبين من الدولة لنفس الفترة هو 30 مليار دولار[25]، وهو ما لا يبتعد كثيرا عما قمنا بتقديره على الأسس المشروحة في الدراسة بالتفصيل.

وتجدر الإشارة أن الدراسة تركز على عجز حساب المعاملات الجارية في هذا التحليل لأنه يعكس مدفوعات ومتحصلات حسابي التجارة والخدمات وصافي الاستثمار والتحويلات، بينما يضيف الرقم الإجمالي لعجز أو فائض ميزان المدفوعات (والذي تم الحديث عنه تفصيليا في بداية الدراسة) متحصلات من القروض وغيرها بما لا يعكس حقيقة الالتزامات على الدولة خلال فترة الدراسة بمعزل عما تحصل عليه من قروض، إلا أنه ومع ذلك، فإن تفصيل بنود ميزان المدفوعات على النحو الذي تم في المبحث الأول من الدراسة مهم للتعرف على كافة عناصر المدفوعات والمتحصلات خلال العام من مصادرها المختلفة، كما انه يوضح كيف مولت الدولة عجز الميزان الجاري.

 كما يلزم التنويه كذلك إلي اعتماد الدراسة على تقدير عجز حساب المعاملات الجارية دون تضمين الأموال الساخنة التي خرجت خلال الفترة الماضية، على أساس أن ما نزح للخارج من هذه الأموال أجبرت البنوك التجارية الحكومية الكبرى على تحمل النسبة الكبرى منه، وهو ما أدى إلى تزايد سلبية احتياطيات النقد الأجنبي لديها كما أشارت الدراسة إلى ذلك تفصيلا في فقرة سابقة (وبالتالي يبقي صافي أصول البنوك من عملات أجنبية بالسالب بنحو 19.7 مليار دولار).

 كما تجدر الإشارة أيضا إلى أن التراجع المتسارع لقيم الاحتياطي النقدي المصري يعتبر دليلا على الاعتماد جزئيا على ذلك الاحتياطي كمصدر لتغطية العجز في الميزان الجاري، وهو المصدر الذي لا يمكن استمرار الاعتماد عليه كثيرا، لأنه سيتبخر بصورة سريعة للغاية، كما أن تآكله المتسارع سيتسبب في المزيد من القلق الاقتصادي لدى المستثمر الخارجي المباشر وغير المباشر، فضلا على أنه سيخفض من القدرة التفاوضية لمصر حول القروض الجديدة وعلى الأخص طرح السندات في الأسواق الدولية.

وتوجد ملاحظة مهمة تدعم بشكل كبير تقدير البنك الدولي بشأن المستحقات الواجب على مصر سدادها حتى مارس من العام 2023، وهي تقديرات بنك ستاندرد آند بورز والتي استعرضها المعهد المصري تفصيلا تحت عنوان “الديون المصرية في تقرير ستاندرد آند بورز: دلالات ومآلات”[26] والتي تقدر أن الحكومة المصرية ستقترض إجمالا 73.4 مليار دولار خلال العام الحالي، لتبلغ القروض السيادية الإجمالية لمصر مع نهاية العام الحالي 391.8 مليار دولار مقارنة مع 348.4 مليار مع نهاية عام 2021، أي أن الديون السيادية سوف ترتفع خلال عام واحد بواقع 43.4 مليار دولار، وهي أرقام تتوافق كثيرا مع التقديرات السابقة للبنك الدولي.

المبحث الثالث: السياسات المحتملة لمواجهة الفجوة الدولارية في مصر

بات من المؤكد تورط الاقتصاد المصري في احتياجات تمويلية غير متوافرة بالنقد الأجنبي تقدر قيمتها حتى منذ مارس 2022 حتى نهاية مارس 2023 بما يقارب حوالي 70 مليار دولار، ربما تقل قليلا إذا سحب جزء من الاحتياطيات النقدية، ولكن السؤال المهم سيدور حول المسارات والإجراءات التي يمكن للإدارة الاقتصادية الاعتماد عليها لتغطية هذه الفجوة الكبيرة.

وبداية يجب التأكيد أن النظام المصري يستبعد تماما سيناريو طلب إعادة جدولة الديون والذي يعني ضمنيا وبوضوح عدم قدرته على السداد، ويؤكد على أخطائه الاقتصادية وغياب الرؤية الرشيدة، وذلك هروبا من التبعات السياسية والاجتماعية التي قد تترتب على هذا الإعلان، وبالتالي فإنه من المرجح أن تستخدم الإدارة الاقتصادية كل ما لديها من سياسات وإجراءات لكي تخرج من المأزق الحالي.

و من المهم أيضا الإشارة إلى أن المأزق الحالي والذي تحاول الدراسة بحث أبعاده خلال نطاق زمني ينتهي بنهاية مارس القادم لا يعني انتهاء المشكلة بعد ذلك بأي حال من الأحوال، فلا تزال الاحتياجات التمويلية للدين الخارجي القائم تزيد عن 25 مليار دولار سنويا لمدة خمس أعوام قادمة (كما سيأتي ذكره لاحقا في الجدول رقم 2 في هذه الدراسة من واقع بيانات البنك المركزي المصري)، وربما تزيد عن ذلك بإضافة القروض الجديدة المزمع عقدها (وعلى الأخص القرض تحت المناقشة مع صندوق النقد الدولي)، بما يعني أنه بافتراض نجاح الإدارة المصرية في العبور من المأزق الحالي فإن ذلك يعني تأجيلاً لإفلاس وشيك.

كما أن عجز ميزان الحساب الجاري مرشح للاستمرار هو الآخر، بل ربما للتزايد، وحتى في ظل التوقع بالتحسن المؤقت في الأسعار العالمية للسلع الاستراتيجية التي تستوردها مصر، فإنه من المرجح استمرار التأثر السلبي على قطاع السياحة جراء غياب نسبة كبيرة من السياح الروس والأوكرانيين جراء الحرب، بالإضافة إلى التوقعات باستمرار موجة التضخم العالية على المستوى العالمي مما يزيد من مدفوعات الواردات المصرية من غير السلع الاستراتيجية، بالإضافة إلى المدفوعات المتوقعة الناتجة عن مشروعات مثل القطار السريع والمحطة النووية واستيراد الأسلحة، وغير ذلك، وكذلك لأسباب التوترات التي يشهدها المسرح الاقتصادي العالمي وفي مقدمته التوترات التجارية المتصاعدة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، وبداية تشكل نظام عالمي جديد.

تفيد الإشارات السريعة السابقة إلى ان تركيز الدراسة على فترة زمنية محدودة يعد نوعا من تقدير الموقف الاقتصادي قصير المدى، للخروج من عنق الزجاجة الحالي إذا أمكن، ولا يعني بحال من الأحوال انتهاء الأزمة أو الخروج نهائيا منها.

ويمكن بحث عناصر السياسات والإجراءات التي يمكن أن تواجه الإدارة المصرية أزمة الفجوة التمويلية بها وذلك كما يلي:

أولا: السياسات النقدية:

يشمل الحديث حول السياسات النقدية كلا من سعر الفائدة، والمعروض النقدي بمفهوميه الضيق والواسع، ويمكن ضم قيمة الجنيه إليها كذلك لخضوع تحديد قيمته لنفس الإدارة (البنك المركزي). ويمكن بيان أهم الاجراءات النقدية المتوقعة وذلك كما يلي:

1- سعر الفائدة:

من الواضح ان هناك اعترافا من الإدارة النقدية بأن استمرار ارتفاع معدلات التضخم المحلية ليس له علاقة بأسعار الفائدة، وأن نسبة لا يستهان بها من أسباب هذا التضخم ترجع في الأساس إلى ارتفاع تكاليف مستلزمات الإنتاج المستوردة والمحلية كنتيجة لارتفاع أسعار البترول ومشتقاته، وكذلك ارتفاع أسعار الأسمدة والمخصبات الزراعية والحبوب التي يتم استيرادها بكميات كبيرة، وفي مقدمتها القمح، وعلى هذا الأساس قام البنك المركزي المصري بتثبيت سعر الفائدة لأكثر من مرة على التوالي (أخرها في أغسطس 2022)، مما يعد إقرارا بضعف قدرة آلية سعر الفائدة في التأثير على معدل التضخم المحلي، بل ربما ان رفع سعر الفائدة سيضر بالنشاطين الاستثماري والاستهلاكي، وبما يفاقم حالة الكساد الذي يعانيه السوق المصري منذ عدة أعوام سابقة، ولذلك ليس من الصعب توقع استمرار تثبيت سعر الفائدة (أو رفعها بشكل بسيط) خلال ما تبقى من العام الحالي.

وعلى الرغم من هذا الإقرار فإن سعر الفائدة الحقيقية السالبة سيتسبب في عدم عودة الأموال الساخنة لمصر حاليا، وهو الأمر الذي أعلنت الحكومة نيتها الاستغناء عنه ببيعها أصولا محلية بقيمة 40 مليار دولار على مدار أربع سنوات، وإذا ما نجحت الحكومة في ذلك فمن المرجح استمرار تثبيت سعر الفائدة أو زيادته بمعدلات بسيطة للغاية.

ورغم أن تثبيت الفائدة والحديث عن الاستغناء عن الأموال الساخنة بعوائد بيع الأصول ظاهريا يبدو صحيحا، لكنه على المستوى التطبيقي فإنه توجد عدة أسعار للفائدة في مصر، فالسعر الذي ثبته المركزي هو الفائدة على الودائع، أما الفائدة على الاقتراض الحكومي فتحدد بالاتفاق بين البنك المركزي ووزارة المالية من جهة والبنوك التجارية المشترية لأدوات الدين الحكومي من جهة أخرى، وقد بلغ فعليا سعر الفائدة في العطاء الأخير ما يزيد عن 16%، وهي الإشارة الواضحة إلى أن البنك المركزي قد يستخدم سعر الفائدة المتعدد لاستعادة  بعض الأموال الساخنة.

2- العرض النقدي بمفهوميه الضيق والواسع:

يبدو التضارب حادا (ظاهريا) في سياسات البنك المركزي المصري فيما يتعلق بالعرض النقدي، فبينما يرجع البنك المركزي مرة أخرى للاعتماد على الطبع المفرط للجنيه، حيث أنه طبقا للنشرة الشهرية للبنك المركزي المصري فقد شهد شهر إبريل من العام الحالي طفرة غير مسبوقة بإصدار النقد، بلغت 79.2 مليار جنيه، وهو معدل شهري غير مسبوق تاريخيا تخطى الرقم القياسي السابق والبالغ 34.5 مليار جنيه في شهر مايو 2020، في عنفوان تداعيات أزمة كورونا.

وتشير البيانات كذلك إلى أن طبع النقود بشكل مفرط أصبح سمة متسارعة شهريا منذ بداية الربع الأول من العام الحالي والذي طبع فيه ما يزيد قليلا عن 19 مليار جنيه، والتي تشير مقارنتها بالأرقام السابقة إلى عمق الأزمة التي يعانيها الاقتصاد المصري والتي اختفت إلى حد كبير خلال السنوات الثلاث الأخيرة في ظل التدفق المفرط للقروض الأجنبية من مصادرها المختلفة.

أما من حيث المعني الواسع لعرض النقود فقد قام البنك المركزي المصري بسحب 100 مليار جنيه من احتياطي السيولة لدى البنوك العاملة في البلاد خلال العطاء الأسبوعي في الأسبوع الثاني من شهر أغسطس، بعائد 11.75 بالمائة، وهو إجراء طبيعي ودوري يهدف إلى ضبط معدل التضخم والحفاظ على معدل الفائدة في حالات التسليف بين البنوك وبعضها أو ما يسمى “الانتربنك”.

هذا الإجراء يتناقض ظاهريا مع الاتجاه المتسارع بطبع النقود خلال الأشهر الماضية، إذا كان الهدف تخفيض المعروض النقدي بمفهومه الواسع، ولكن من الواضح أن البنك المركزي يجد في طبع النقود ملاذا أقل كلفة من التوسع في الاقتراض المحلي من البنوك التجارية، والذي توسعت فيه الحكومة بصورة كبيرة خلال الأشهر القليلة الماضية، حيث تحصلت على ائتمان بقيمة 68.5 مليار جنيه في الشهر الأول من العام، والذي زاد إلى 324 مليار جنيه في آذار/ مارس. كما بلغ 70 مليار جنيه في الشهر الرابع من العام الحالي وهي آخر بيانات متاحة، ورافق ذلك حصول الحكومة على قروض من البنك المركزي بقيمة 126 مليار جنيه خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام الحالي.

إذا فمن جانب المركزي يتوسع في طبع الجنيه، ومن جانب أخر يحافظ على حجم المعروض النقدي من خلال شفط السيولة المتاحة لدي البنوك التجارية عبر آلية سعر فائدة الانتربنك، وهو الأمر الذي سيؤدي استمراره إلى صعوبات متعاظمة للمصارف المحلية، علاوة على انكماش المتاح لإقراض مستثمري القطاع الخاص، بما يعني انكماش اقتصادي مؤكد، ربما يتطور إلى ركود لا سيما في ظل وجود نسبة لا يستهان بها من الانكماش موجودة بالفعل ومنذ سنوات في الاقتصاد المصري. عموما فإن هذه السياسة تعكس وبوضوح ضعف الخيارات المتاحة للإجراءات الممكن التصرف من خلالها فيما يتعلق بالعرض النقدي.

3- سعر صرف الجنيه المصري مقابل الدولار:

بدأ الخفض التدريجي لسعر صرف الجنيه المصري مقابل الدولار الأمريكي، والذي أدير من قبل البنك المركزي منذ نهاية عام 2016 وحتى عدة أسابيع ماضية، وقد نجح المركزي خلال هذه السنوات في توليد حالة من الاستقرار لسعر صرف الجنيه كمحصلة للتدفقات الواردة من استثمارات الأجانب في أدوات الدين المحلية إلى جانب تدفقات القروض الأجنبية علاوة على المصادر التقليدية للنقد الأجنبي لمصر (السياحة – قناة السويس -تحويلات العاملين في الخارج) والتي لم تتغير منذ ما يزيد على النصف قرن.

وعلى الرغم من أن الشائع حاليا أن الانخفاض المتسارع منذ أسابيع لقيمة الجنيه جاء استجابة لطلبات صندوق النقد الدولي كشرط للقرض الجديد، الا أن الحقيقة أن المركزي المصري يفتقر حاليا للمتطلبات التي يمكن أن يدافع بها عن قيمة الجنيه، فالاحتياطي النقدي يتبخر، وضغوط الاحتياجات التمويلية تضغط بشدة، والبنوك التجارية خلت خزائنها واحتياطاتها من النقد الأجنبي، وظهرت السوق السوداء ومعها الأسعار المتعددة مرة أخرى، وكل ذلك يعني أن انخفاض الجنيه أمرا منطقيا في ظل المعطيات الاقتصادية الراهنة، بصرف النظر عن التفاوض مع صندوق النقد من عدمه.

ولكن السؤال الهام يتعلق بمستقبل سعر صرف الجنيه خلال الفترة المقبلة. وربما تبدو الإجابة عليه أكثر وضوحا في ظل استمرار نفس المعطيات الاقتصادية السابق الإشارة إليها، وبوضوح سيستمر الانخفاض المتدرج لقيمة الجنيه (إلا إذا اشترط الصندوق تعويما كاملا واستجابت الحكومة لذلك تحت الضغط فسيصبح الانخفاض حادا)، وربما إذا استمرت المتغيرات الحالية على وضعها أن نشهد سعر صرف يتجاوز 23-25 جنيها للدولار بنهاية مارس القادم.

وبالطبع سيتباطأ هذا الانخفاض مع إيجاد مصادر للنقد الأجنبي مثل قرض الصندوق، أو النجاح بإصدار سندات في السوق الصينية (سندات الباندا التي يجري الحديث عنها منذ سنوات) أو حتى ابرام قروض ثنائية، أو النجاح ببيع أو مبادلة أصول سيادية، أو تجارية بحجوم تؤثر في فجوة موارد النقد الأجنبي الحالية. 

ثانيا: السياسات المالية التقشفية:

ظاهريا عند البحث في مواجهة أزمة الموارد الدولارية تبدو محدودية القدرة على التعامل معها من خلال جانبي الموازنة العامة للدولة (الإيرادات والنفقات)، فجانب الإيرادات ضعيف المرونة للغاية في اقتصاد 55% منه اقتصاد ظل، ونسبة لا يستهان بها من الرسمي منه داخل في صناديق سوداء غير معلنة ولا تضاف للموازنة العامة في مخالفة صريحة لمبدأ وحدة الموازنة والقانون الذي يقرر ذلك، وما تبقى من الاقتصاد الرسمي مأزوم فعليا بشح الدولار وتقييد الواردات من مستلزمات الإنتاج والمنافسة غير العادلة مع النشاط الاقتصادي للجهات السيادية، الامر الذي يعني انعدام القدرة على زيادة الإيرادات أو زيادة الإنتاج والصادرات وتخفيف الضغط عن الميزان التجاري.

وعلى الجانب الآخر فإن النفقات الحكومية معظمها ذات بنود ثابتة لا يمكن تخفيضها علاوة على كونها بالعملة المحلية، كما أن الاقتراب من مخصصات الحماية الاجتماعية في ظل موجة التضخم الحالية والناجمة عن انخفاض قيمة الجنيه يعد انتحارا حقيقيا للنظام في ظل الاضطرابات الحادة التي تشهدها العديد من الدول ذات الظروف المماثلة.

ولكن التدقيق والعمق في تحليل هذا الجانب يشير إلى أن جزءا من النفقات الحكومية والمتمثل في استيراد آلات ومعدات وأجهزة وتجهيزات للمشروعات الكبرى (سواء كان من داخل أو من خارج الموازنة) يضغط بشدة على موارد النقد الأجنبي، وهنا يبرز السؤال هل يمكن للسلطة ان توقف ولو مؤقتا الانفاق على تلك المشروعات؟

من المرجح ألا يحدث ذلك في المدى القريب، ففي خضم الأزمة الحالية أبرمت الحكومة التعاقد الرسمي على القطار الكهربائي السريع وبدأت إجراءات إنشاء المحطة النووية، واستمرت أعمال الإنشاء في العاصمة الإدارية الجديدة والعلمين الجديدة وغيرها، ولازالت على تنفيذها لمخطط الهدم للمباني وتوسعة الطرق، وغيرها الكثير من المشروعات التي لا تضيف شيئا يذكر للطاقة الإنتاجية.

 مما يعني ببساطة ان يستمر الانفاق الحكومي في ضغطه على موارد النقد الأجنبي، وهو الأمر الذي يتعزز في ظل تنفيذ وإدارة الجهات السيادية لتلك المشروعات وهي الجهات التي لن تتقيد بأية قيود على استخدام موارد النقد الأجنبي تفرض من قبل البنك المركزي.

ثالثا: القروض الخارجية

في ظل تآكل نسبة كبيرة من الاحتياطي النقدي خلال أشهر معدودة وفي ظل محدودية أثر ونجاعة السياسات النقدية والمالية في مواجهة ازمة موارد النقد الأجنبي الحالية، تبرز القروض الخارجية كحل سريع وناجز، لا سيما في ظل استسهال السلطة الحالية للاقتراض الخارجي واعتمداها المفرط عليه كأحد أهم مصادر النقد الأجنبي خلال سنوات ما بعد قرض الصندوق في نهاية عام 2016.

ورغم ذلك فإن الكثير من المستجدات قد ساهمت في تغيير بيئة وواقع الاقتراض من الخارج مقارنة بالأعوام الخمسة الماضية، وهو الأمر الذي تجلى بوضوح في مماطلة صندوق النقد الدولي للحكومة في مطالبتها بالقرض الجديد (المفاوضات بدأت منذ مارس 2022)، وهي المماطلة التي تجلت في المطالبة باشتراطات مثل تخفيض كبير أو تعويم لسعر صرف الجنيه، ووقف برامج القروض المدعومة من البنك المركزي، وتسريح ملايين من موظفي الدولة، وتقليص الدعم، وإبعاد الجيش عن الحياة الاقتصادية، وغير ذلك من المطالبات التي لا تزال محل نقاش حتى كتابة هذه السطور، وهو الأمر الذي يعني بوضوح ان أبواب المؤسسات الدولية قد تكون موصده أمام مصر بصورة شبه كلية، اما لاستنفاذ أرصدة مصر الممكنة من الاقتراض منها بالفعل، أو للاشتراطات الصعبة لإبرام قروض جديدة، أو لأسباب سياسية أخرى.

وغني عن الذكر أن صندوق النقد الدولي والمؤسسات الدولية الأخرى هي أذرع الهيمنة الرأسمالية العالمية الممثلة في أمريكا وأوروبا، مما يعني أن أبواب الاقتراض من تلك الكتلة وبمبالغ مؤثرة في حجم فجوة الموارد الدولارية أصبحت من الصعوبة بمكان، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار المأزق الكبير الذي تعانيه اقتصادات تلك الدول التي لم تكد تقترب من التعافي من كورونا حتى عاجلتها الحرب الأوكرانية وأزمة الطاقة والتضخم، ولازالت جميعها تصارع من أجل النجاح في الخروج بأقل الخسائر.

إذا فباب الاقتراض الثنائي مغلق من جهته الغربية، أما عن الجهة الشرقية والمتمثلة أساسا في الصين، فربما ستشكل القروض الصينية- وعلى الرغم من كل ما يترتب عليها من تضحيات سيادية مؤلمة – بابا هاما لمساندة الإدارة المصرية في مواجهة أزمة التعثر في السداد، عموما لن يكون مستبعدا أن نرى انتشارا وتوسعا للمصالح الاقتصادية للمحور الصيني الروسي خلال الفترة المقبلة.

أما الاقتراض الثنائي من الدول العربية فربما أغلق هو الآخر لا سيما بعد الودائع الجديدة من كل من السعودية والإمارات وقطر مع تأجيل الودائع القديمة لعام واحد من الإمارات والكويت ولخمس سنوات من السعودية، وهو الأمر الذي يشير إلى أن فكرة القروض لم تعد مقبولة وأن الودائع بلغت ذروتها، وأن المساندة من الأشقاء أصبحت مدفوعة الأجر، ليست فقط في صورة فوائد على القروض أو الودائع، بل أصبحت في صورة الاستحواذ على أصول سيادية في مقابل الودائع والديون السابقة.

أما الاقتراض عبر السندات الدولية فأصبح مصدرا مشكوكا فيه في الأجل القصير، فمن ناحية هناك ارتفاع أسعار الفائدة في البنوك المركزية الكبرى، ومن ناحية أخرى فقد تأخر قرض الصندوق الذي يعتبر شهادة للدخول لتلك الأسواق، ومن ناحية ثالثة ارتفعت تكلفة التأمين على السندات المصرية بصورة قياسية وسترتفع أكثر خلال الفترة القادمة، ولكن الأكثر خطورة وسيعتبر معوقا يؤجل تفكير الحكومة كثيرا قبل اللجوء لهذا المصدر هو انخفاض قيمة السندات المصرية في الخارج لأكثر من 50% من قيمتها، وهي النسبة المرشحة للتزايد خلال الفترة القادمة، بالإضافة إلى الانخفاض الحاد لقيمة الجنيه المصري في العقود الآجلة.

إذا يشير الاستعراض السابق إلى أن قرض الصندوق، وبمبلغ كبير، هو أمر حيوي للغاية للحكومة المصرية لمواجهة الالتزامات الدولارية الضاغطة وبشدة خلال الفترة القصيرة القادمة، مع الشكوك المحيطة بإمكانية إتمامه حتى الآن بالصورة المقبولة من الجانب المصري، وستبقى الصين ملاذا عالي التكلفة والمخاطر، ولكن لا بد منه، ولاتزال الدول الأوروبية في صراع مع أزماتها، كما انقلبت المساندة العربية إلى مساندة مدفوعة الاجر عبر الاستيلاء على الأصول.

رابعا: بيع أصول الدولة

لم يكن مفاجئا على الإطلاق إعلان رئيس الوزراء في متصف مايو الماضي، إن الدولة تستهدف إتاحة أصول مملوكة الدولة بقيمة 40 مليار دولار للشراكة مع القطاع الخاص المصرى أو الأجنبي لمدة 4 سنوات، حيث رجحت دراسة المعهد المصري للدراسات والمعنونة “الاقتصاد المصري وخطر الإفلاس” حدوث ذلك، وبأبخس الأثمان، معللة ذلك، بأنه لا يلقي أية أعباء على شرائح عريضة من المواطنين، وبأن المشتري سيتمكن بمعاونة القبضة الأمنية رضاء أو جبرا من إسكات المتضررين من العمال [27].

ولعل إعلان السعودية وقطر ومن قبلهما الإمارات عن صناديق استثمارية كبيرة في مصر يشير بوضوح إلى اتفاقيات مبرمة فعليا في هذا الاتجاه، ولكن تجدر الإشارة إلى أن آلية التسعير للأصول المباعة وفق سعرها في البورصة لحظة البيع تخطى حدود البخس في الأسعار إلى حالة بيع يشوبها الكثير من الفساد والتفريط، بالإضافة إلى أن اختيار بيع الشركات عالية الربحية يعكس ورطة الاقتصاد التي جعلت المشتري يختار الشركات التي يريد شراءها، وليس الأصول التي تعرضها الحكومة للبيع ولا تجد من يشتريها، حتى ولو كانت تمس الأمن القومي بصورة مباشرة. وعموما تحتاج متابعة تلك المبيعات لدراسة مفصلة خاصة.

وقد تطور الأمر كذلك إلى مناقشة الحكومة المصرية لدول عربية وأوروبية (فرنسا وألمانيا) ومع الصين، لمبادلة ديونها المستحقة السداد بأصول مصرية، والعجيب أن ميزان المدفوعات المصري المصري يدرج التدفقات المالية هذه على أنها إنجازات في جذب الاستثمارات الأجنبية.

عموما لا يزال خيار بيع الأصول المملوكة للدولة الخيار الأكثر يسرا وسهولة وسرعة للتخفيف من ضغوط فجوة الدولار، ولكنه من المرجح أن تتخطي الخسائر جراء هذا البيع الجوانب المالية إلى جوانب تتعلق بالأمن القومي، فتحت ضغط الحاجة والرغبة في تزييف حالة الإفلاس الفعلي الواقع حاليا ستباع أصول استراتيجية شديدة الخطورة على الأمن القومي، وقد بدأ فعليا على سبيل المثال الحديث عن بيع الموانئ، أو ما أشير إليه من باب التضليل بالإدارة والتشغيل من قبل شركات أجنبية أو خليجية، فقط مقابل حق انتفاع، واقتصار طرح الأسهم على المصريين.

وبناء على كل ما سبق، فإن كل الإجراءات التي يمكن أن تتخذها الدولة لسد الفجوة الدولارية يبدو أنها لن تكفي لذلك، وإنه إن لم يتم الاتفاق مع صندوق النقد الدولي بشكل عاجل على قرض كبير، مع ما في ذلك من أثار اجتماعية شديدة الوطأة على الشعب المصري، فستكون مصر عرضة لخطر التوقف عن سداد ديونها (أي الإفلاس) في مدى زمني لن يتعدى شهورا قليلة.

ورقميا -حتى يمكن تخيل حجم الالتزامات- فإن افتراض بيع أصول بقيمة 10 مليار دولار خلال ما تبقى من العام الحالي طبقا لتصريح رئيس الوزاراء، واقتراض 15 مليار من صندوق النقد الدولي، وجدولة غير معلنة لمستحقاته البالغة 13 مليار دولار، مع اقتراض 5 مليارات أخرى من بنوك شقيقة، وبمجموع 43 مليار دولار، ستكفي فقط تقريبا للفكاك من هوة التزامات الديون حتى نهاية مارس المقبل، بينما تبقى الحاجة لدولارات أخرى لتغطية الواردات الأساسية وباقي عجز حساب المعاملات الجارية.

تشير الفرضية السابقة وبوضوح إلى ان غياب أي رقم ايراد دولاري من أي مصدر- أو نقصه -من تلك المصادر سيعني إعلان التعثر في سداد القروض، وهو الأمر الذي يعكس ليس فقط حجم الأزمة الراهنة ولكنه يشير إلى استدامة الاعتماد على تلك المصادر – وإن اختلفت الأرقام المطلوبة- سيكون النهج الدائم والمعتاد للخمسة أعوام القادمة، وذلك لأن النسبة الكبرى من الديون المصرية تقع في نطاق الديون التي تستحق بحد أقصي خمس سنوات، فيما عدا القروض بسندات بأنواعها المختلفة والتي تمتد آجالها حتى خمسين عاما.

وكما أشرنا من قبل أن الفجوة المطلوب تغطيتها فقط حتى نهاية 2022، وبافتراض أنه تم سداد جميع الالتزامات حتى يونيو 2022، فإن هناك مبالغ عاجلة ينبغي توفيرها ومقدارها يقدر بـ 32 إلى 37 مليار دولار، مما يعني أنه إذا لم يتم توقيع الاتفاق مع الصندوق خلال شهرين على الأكثر، وبقيمة قرض فوري لا يقل عن 15 مليار دولار، مع جدولة ديون الصندوق القديمة، ستتوقف مصر عن سداد ديونها وتدخل حالة الإفلاس.

جدول رقم(2)

النشرة الشهرية رقم 304

المصدر: البنك المركزي المصري: النشرة الشهرية رقم 304، يوليو 2022.

وللتدليل على حجم الأزمة واستمرار أثارها، بالرجوع إلى الجدول رقم 2، ورغم ان بيانات الجدول تشير إلى أن 83.3% من الديون المصرية طويلة الأجل، إلا أنه تجدر الإشارة إلى أن مفهوم الدين طويل الأجل طبقا لتعريف البنك المركزي المصري [28]” هو الدين الذي يبلغ زمن استحقاقه أكثر من سنة واحدة”، بينما يعرف المركزي الدين قصير الأجل بأنه الدين الذي يبلغ زمن استحقاقه أقل من عام”.

وطبقا للجدول كذلك فإن قيمة الديون بالسندات تبلغ نحو 29.4 مليار دولار من إجمالي 157.8 مليار دولار بنهاية مارس2022، بما يعني أن 128 مليار دولار تقريبا تستحق السداد على الأكثر في خلال خمس سنوات، وبما يوازي نحو 25.5 مليار دولار سنويا (بخلاف قسط السندات) وبخلاف القروض التي أضيفت بعد شهر مارس، وبخلاف الودائع العربية، وقروض الشركات الخاصة، وكل ذلك يثبت واقعية تقدير البنك الدولي الذي أخذت به الدراسة.

وتجدر الإشارة إلى الانتقال الحاد- خلال شهرين فقط- للنظام المصري من ترويج لإنجازاته الاقتصادية إلى نفي إمكانية وقوع الإفلاس، وهو الأمر الذي يثبت واقعية الدراسات السابقة التي قدمها المعهد المصري، وما لحقها من تقارير دولية، كما يثبت أن حالة الإفلاس ليست مستبعدة، وأن الاقتصاد –وربما المجتمع– المصري أصبح بأكمله رهينة لقرارات خارجية تتحكم فيه كيفما تشاء.

وبالتالي فإن استمرار تعويم الاقتصاد المصري (مع نقل كل الضغوط الاقتصادية على الشعب) أصبح مرهونا، أولا بإقبال المشتري الخليجي وربما الصيني للأصول المصرية ذات الطبيعة الرابحة أو الاستراتيجية، وبالحجم المالي المناسب لمواجهة الالتزامات العاجلة، كما أنه رهينة للاتفاق مع صندوق النقد، حول المدفوعات واجبة السداد.

مجموع المبالغ المحصلة من بيع الأصول والاقتراض من الصندوق قد يعني تأجيل إعلان الإفلاس، على الرغم من أن إعلان الإفلاس الذي يعد من وجهة نظر الباحث المسار الأقل كلفة على الشعب المصري، لا سيما أنه أمر أضحى مرجحا إذا لم يكن العام الحالي فسيكون القادم. أما تأخر أو إلغاء أي من هذين المصدرين، بيع الأصول وقرض الصندوق، أو نسبة كبيرة منهما، خاصة القرض، فسيعني إعلان عاجل للإفلاس.

الخلاصة:

حاولنا من خلال هذه الدراسة استقراء أوضاع الالتزامات الخارجية المستحقة السداد على الاقتصاد المصري خلال الفترة القصيرة المقبلة، وبعد أن استعرضت الدراسة أحدث البيانات المنشورة حول العجز في مختلف مكونات ميزان المدفوعات المصري، تبين ليس فقط استمرار العجز في تلك الموازين الفرعية، بل كذلك تسجيل عجز ميزان المدفوعات لرقم غير مسبوق في الربع الأول من العام الحالي بحوالي 7.3 مليار دولار.

وفي إطار محاولة الإدارة الاقتصادية مواجهة العجز المتفاقم في ميزان المعاملات الجارية في ظل تأخر قرض صندوق النقد وتآكل مصادر الاقتراض الأخرى وعلى الأخص سوق السندات الدولية الذي اضمحلت إمكانية الاعتماد عليه بعد موجة بيعية للسندات المصرية بنصف قيمتها تقريبا، سحبت الحكومة من احتياطيات النقد الأجنبي حوالي 12 مليار دولار، مما أظهر أن هذه الاحتياطيات مرشحة للتبخر السريع خلال أشهر معدودة إذا لم تنجح الحكومة في معاودة الاقتراض الخارجي.

كما تطرقت الدراسة إلى تنامي الضغط الحكومي على الرصيد الدولاري للبنوك التجارية المصرية لتحمل أعباء خروج الأموال الساخنة ومستحقات المستثمرين الأجانب، خاصة في قطاع الطاقة، من احتياطاتها الدولارية، الأمر الذي دفعها إلى الاقتراض المتسارع من كافة المصادر الخارجية، وأدى كذلك إلى تنامي العجز في الاحتياطيات الدولارية لتلك البنوك والتي بلغت سالب نحو 19.7 مليار دولار تقريبا.

وقد بحثت الدراسة كذلك التقديرات المتعددة لالتزامات مصر الخارجية خلال الفترة القصيرة المقبلة، ورجحت الدراسة تقديرات البنك الدولي لتلك الالتزامات حتى نهاية مارس من العام القادم والمقدرة بحوالي 47 مليار دولار، يضاف إليها نحو 18 إلى 22 مليار دولار عجز مقدر لحساب المعاملات الجارية، وبذلك رجحت الدراسة أن حجم فجوة الاحتياجات التمويلية المطلوبة بين مارس 2022 ومارس 2023 تبلغ في حدها الأدنى 65 مليار دولار.

وباستبعاد مستحقات الديون في الأشهر الثلاث الأولى من عام 2023 (13 مليار دولار طبقا لتقديرات البنك الدولي)، والعجز التقديري في حساب المعاملات الجارية لهذه الأشهر (متوسط نحو 5.5 مليار دولار كما سبق ذكره)، وبافتراض سداد الالتزامات المطلوبة حتى يونيو 2022 (16 مليار دولار)، فإن تقديرنا للفجوة الدولارية الواجب تدبيرها بشكل شبه فوري (من أول يوليو حتى أخر ديسمبر 2022) يتراوح بين 32 و37 مليار دولار.

و بحثت الدراسة المصادر التي يمكن للدولة المصرية اللجوء إليها لكي تتمكن من مواجهة تلك الالتزامات الحالّة، واستنتجت أن قرض صندوق النقد الدولي، وبقيمة لا تقل عن 15 مليار دولار، وإعادة جدولة مستحقاته للعام الحالي، والقبول بشروطه، والاعتماد المفرط على بيع الأصول بأسعار بخسة، كلها مصادر أساسية في عملية المواجهة لسد الفجوة، وأن غياب أي منها يعني إعلان الإفلاس الوشيك، مع التأكيد أن تأخير إعلان التعثر ليس في مصلحة الاقتصاد المصري، كما أن غياب كل أو جزء من المصدرين يعني إعلان الإفلاس، فضلا عن أن تلبية تلك الاحتياجات الحالية لا يعدو كونه تأجيلا للإفلاس حاليا فقط.

ترجيح التعثر المقبل في السداد وإن تأجل قليلا بفعل قرض الصندوق وبيع الأصول، يؤكده أن معظم الديون المصرية تستحق السداد خلال خمسة أعوام على الأكثر، ورغم أن البيان الرسمي يشير إلى أن ما يزيد عن 80% من تلك القروض طويلة الأجل، فقد بينت الدراسة ان طول الأجل يعني في تعريف البنك المركزي المصري كل القروض التي تزيد استحقاقاتها عن عام واحد فقط.

كما خرجت الدراسة بالنتائج التالية من خلال دراسة وبحث مكونات ميزان المدفوعات المصري، والتقديرات المختلفة للالتزامات المستحقة على الاقتصاد المصري خلال الفترة القصيرة المقبلة:

  • استمرار العجز المزمن في ميزان المدفوعات الإجمالي مدفوعا بالعجز الحاد في الميزان التجاري، وعجز ميزان صافي الاستثمار، وعدم قدرة قطاعي الخدمات، خاصة متحصلات قناة السويس وتحويلات العاملين في الخارج، على تغطية ذلك العجز.
  • أظهرت الدراسة أن المشاكل المستمرة والتي أدت إلى تنامي العجز في ميزان المدفوعات بشكل كبير كانت متفاقمة بالفعل قبل رفع الاحتياطي الأمريكي لسعر الفائدة، وقبل اندلاع أزمة أوكرانيا، مما ينفي الإدعاءات بأن هذه العوامل هي سبب الأزمة الاقتصادية الراهنة في مصر.
  • لم تستطع الإدارة الاقتصادية التعامل مع العجز الهيكلي المزمن للموازين المختلفة، ولا تزال موارد النقد الأجنبي لمصر تعتمد بصورة رئيسية على السياحة وتحويلات العاملين في الخارج وايرادات قناة السويس، الهيكل التقليدي للاقتصاد الريعي في مصر، مما يعكس التخلف الإنتاجي على مستوى جميع القطاعات الاقتصادية وهو الأمر الذي يفسر الفشل في تنمية القدرات التصديرية للدولة.
  • استمر الدين الخارجي المصري في التصاعد، مع إصرار حكومي، عليه الكثير من علامات الاستفهام على الانفاق الخدمي مما خلق مشكلة كبري مع حلول آجال الاستحقاق، فلجأت الحكومة إلى الضغط على البنوك التجارية لاستخدام أرصدتها من النقد الأجنبي لسداد مستحقات مستثمري الأموال الساخنة وتلبية احتياجات المستوردين من الدولار، حتى تحولت أصولها النقدية بالدولار إلى قيم سالبة كبيرة، تزامن ذلك مع السحب من احتياطيات النقد الأجنبي الذي تآكل ما يقارب ثلثها في أشهر معدودات.
  • كان الجنيه المصري ضحية السياسات غير الرشيدة، فتثبيته إداريا رغم شح موارد الدولار عقد الأزمة، وأفاد مستثمري الأموال الساخنة الذين خرجوا بأموالهم بسعر صرف منخفض، ومع تعقد الأزمة بدأ الانخفاض التدريجي للجنيه، ولكن التدرج أضحى متسارعا بصورة كبيرة، مما أفقد عملية التدرج فائدتها من حيث تدرج الاثار السلبية لارتفاع معدلات التضخم.
  • كنتيجة لعدم قدرة الموارد الدولارية على تلبية الالتزامات واجبة السداد اعتمدت الدولة منهج إعادة تدوير القروض (اقتراض جديد لسداد القديم)، وبمجرد الانسداد الجزئي لمصادر القروض الجديدة أصبح الاقتراض من صندوق النقد الدولي والقبول بشروطه القاسية أمرا لا مفر منه.
  • نهم الرغبة في الاقتراض، وعدم اليقظة في حساب تقاطع وتلاقي تواريخ الأقساط والفوائد هوي بالدولة في هوة التزامات ساحقة خلال ما يقارب العام، ومع إغلاق أبواب القروض أصبح بيع أصول الدولة الملاذ الأخير للإفلات من إعلان الإفلاس، ورغم ذلك فإذا لم تنجح الدولة في توفير أثمان بيع بقيم معينة، يضاف إليها قيم قرض الصندوق وتأجيل وجدولة بعض مستحقاته، ومجموعهما إذا لم يبلغ حدودا معينة، فستضطر الدولة لإعلان الإفلاس.
  • لا يعني قدرة الدولة على الخروج من مأزق العام الحالي عبر توفير الالتزامات الواجب سدادها انتهاء الأزمة، فالاقتصاد المصري دخل في دائرة مفرغة من الاقتراض والسداد، ومع ارتفاع سعر الفائدة في العالم، وعدم القدرة على الاقتراض بسندات دولية حاليا، فإنه من المرجح بعد نفاذ الأصول –على الأقل الأكثر ربحية منها- وتشدد المؤسسات الدولية في الإقراض، أن يصبح إعلان الإفلاس وشيكا.

الهامش

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى