دراسات أسيويةدراسات سياسية

أفغانستان بين تفاؤل الإرادة وتشاؤم العقل

وليد عبد الحي
لم تتوقف طاحونة الموت في افغانستان من 1979( الدخول السوفييتي) الى خروجها بشكل تام عام 1989،ثم اندلع الصراع الداخلي بين القوى السياسية، وظهرت خلالها حركة طالبان كقوة صاعدة، لكنها غرقت في حرب أهلية واضطرابات اجتماعية حتى عام 2001 مع بدء الفصل الامريكي من بعد هجمات سيبتمبر من ذلك العام من خلال التدخل الامريكي الواسع حتى 2021، وها هي القوات الامريكية تنسحب لتعود طالبان للسيطرة على البلاد.
المؤشرات نحو المستقبل:
من الضروري إدراك ان بنية حركة طالبان تقوم على اسس لا تؤهلها على المدى البعيد لبناء دولة عصرية واقامة علاقات دولية متوازنة، واهم هذه الاسس:
1- أنها حركة دينية متشددة الى حد بعيد مما يجعل من تفسيراتها الدينية تجاه قيم العدل والحرية والمساواة تفسيرات لا يشاطرها فيها إلا قدر قليل في الداخل وقدر اقل في المجتمع الدولي.
2- أنها حركة ترتكز بشكل كبير على اثنية قبلية(الباشتون) الذي يشكلون حوالي 40-45% من سكان افغانستان ال 40 مليون نسمة، وهو ما يعني ان بقية الاقليات مثل الطاجيك 25%،الهزارة حوالي 10% والاوزبك 9% ناهيك عن 10 ثقافات فرعية صغيرة أخرى مثل التركمان والبلوش…الخ سيشعرون ببعض التوجس من المستقبل ، خاصة أن هذه الأقليات موزعة جغرافيا بشكل يعزز هويتها الاثنية من ناحية ويعزز بالتالي نزعتها الانفصالية، وقد سبق لي في دراسة عن النزعة الانفصالية للاقليات ان توصلت الى أن 78% من وزن متغيرات النزعة الانفصالية تتركز في البعد الجغرافي، وفي افغانستان نجد ان الباشتون (الاقلية الاكبر) يتركزون في الجنوب والشمال الشرقي وبشكل فيه تواصل “جيو_ إثني ” كبير، ويتواجد الطاجيك في اقصى الشمال الشرقي، بينما يتمركز الهزارا( وأغلبهم من الشيعة) في الوسط، اما الأوزبك فيتواجدون في اقصى الشمال على حدود كل من طاجيكستان واوزبكستان.
وما يزيد هذا المشهد تعقيدا أن هذه الأقليات الاثنية الكبرى( تشكل حوالي من 80-85% من اجمالي السكان) هي امتدادات لاثنيات أو ثقافات فرعية سائدة في الدول المجاورة، فالباشتون الذين يشكلون الاغلبية الكبرى لهم امتدادهم الكبير في باكستان، والطاجيك في طاجيكستان والاوزبك في اوزبكستان والهزارا في ايران، وهو ما يزيد المشهد تعقيدا ، لان ذلك يعني ان كل أقلية افغانية لها سند أقليمي مما يخلق حساسية عالية واستغلال متبادل لهذا الوضع.
فإذا ترافق الصراع الاثني مع سوء الاوضاع الاقتصادية ازداد المشهد قتامة، فمعدل دخل الفرد الافغاني(على اساس القوة الشرائية لا الاسمية) هو حوالي 1950 دولار(مما يجعلها في مرتبة متأخرة جدا هي المرتبة 168 من بين 190 دولة )، والقطاع الرئيسي للانتاج هو الزراعة( وخاصة ما يدخل منها في صناعة المخدرات) والتي يعيش عليها حوالي 75% من السكان.
3- النزعة العسكرتارية لحركة طالبان، فهي حركة مسلحة تدعو منذ نشاتها الى اقامة الامارة الاسلامية ،وهي في جوهر مضمونها الفكري ليست بعيدة عن مثيلاتها من الحركات المتطرفة مثل القاعدة وداعش وجبهة النصرة وبوكوحرام والجماعة السلفية..الخ، وهو امر إما سيخلق صراعا داخلها أو موقفا دوليا سيطوقها تدريجيا لتلتزم بالحد الكافي من قواعد النظام الدولي(بغض النظر عن عدالة او عدم عدالة قواعد هذا النظام).
تداعيات انتصار طالبان:
يترتب على فشل الولايات المتحدة في افغانستان:
1- زيادة الصورة الامريكية سوءا واحياء النموذج الفيتنامي، فكما فر “فان ثيو” آخر رئيس لفيتنام الجنوبية بعد أن تخلى الأمريكيون عنه عام 1975 ، فر الرئيس الافغاني ” اشرف غني” من افغانستان عام 2021، بل إن الامريكيين تخلوا بين هاتين الواقعتين عن ” شاه ايران بعد أن رجحت الكفة للثورة الايرانية” الى الحد الذي رفض فيه الأمريكيون استقباله حتى للعلاج، وهو درس سيجعل كل من ينام على وسادة الأمريكيين يعيش كوابيس في اليقظة والمنام.
2- الموقف الاقليمي: اشرت سابقا الى الامتدادات الاثنية الأفغانية للجوار الاقليمي في الدول الست التي تحيط بافغانستان، وتمتد الحدود بين افغانستان وهذه الدول بما مجموعه (5987 كم)، وهو امتداد يصعب ضبطه لبلد يفتقر الى الامكانيات الكافية،
ويبدو أن ثلاث دول اقليمية هي الاكثر اهمية لافغانستان، وهي باكستان التي يمكن اعتبارها الدولة الاكثر علاقات ايجابية مع حركة طالبان التي ولدت اصلا في رحم المعاهد الدينية الباكستانية، وهو امر قد يدفع الهند لبعض التوتر، أما ايران فقد يكون التباين المذهبي مدخلا لتأجيج الخلاف بين طالبان وايران بخاصة مع وجود الهزارا الشيعة والذين يصل عددهم الى 4 ملايين نسمة(رغم انهم على غير تواصل جغرافي مع ايران)، وقد عملت ايران على مد الجسور لعلاقة ايجابية مع طالبان في نوع من الدبلوماسية الاستباقية، اما الصين فان ممر واكان (وهو ممر صغير يفصل بين البلدين) يتصل جغرافيا مع اقليم سينكيانغ الصيني حيث يتواجد المسلمون اليغور الذي لهم مشاكلهم المعروفة مع الحكومة الصينية، وسبق ان قامت طالبان ايام سيطرتها الاولى بتدريب بعض عناصر الياغور في افغانستان واعادتهم للإقليم الصيني للقيام بعمليات اغتيال وتفجير في الصين، لكن الصين سعت في الفترات الاخيرة الى العمل على تعميق علاقاتها مع افغانستان من خلال وضع افغانستان على خريطة مشروعها الاستراتيجي(مبادرة الحزام والطريق) من ناحية ثم المساهمة في استثمارات هامة في بعض القطاعات الانتاجية الافغانية لاسيما قطاع المناجم والتعدين من ناحية اخرى، ولا شك ان الفشل الامريكي سييسر الامرين(المبادرة والاستثمار) على الصين.
من جانب آخر، نعتقد أن ما جرى في افغانستان سيؤثر على المنطقة العربية التي كانت طوابير مجاهديها بقيادة ابن لادن( السعودي) وعزام( الفلسطيني) والظواهري (المصري)..الخ يجاهدون هناك ضد السوفييت تحت رايات طالبان او غيرها، هذه الدول العربية ستجد نفسها امام :
أ‌- استمرار الابتعاد عن ” النموذج الاسلامي السياسي” بل والعمل على تطويقه باستثناء قطر التي ستواصل دبلوماسية النيابة(Proxy Diplomacy) مع طالبان طبقا للشروط الامريكية.
ب‌- قد تجد بعض الدول العربية لا سيما الامارات والسعودية نفسها امام خيارين احلاهما مر،فإما ان تعمل على التقارب مع طالبان بدافع توظيفها لتشديد الطوق على ايران واشغالها في صراعات جديدة، وهو امر لن تثق فيه طالبان بعد السلوك السعودي الاماراتي مع حلفائهما التاريخيين من الاسلاميين ، أو أن تهمل الدول العربية افغانستان وشؤونها بقدر كبير(وليس كليا) وهو ما يفتح الباب لايران في افغانستان بدل من غلقه، لا سيما ان ايران تبدي مرونة عالية في تعاملها مع طالبان وشظايا القاعدة، وكلا الخيارين مر للعرب وخاصة الخليجيين ايضا.
ت‌- اعتقد ان التخلي الأمريكي عن افغانستان في اطار إدارة الظهر الامريكي “تدريجيا ” عن الشرق الاوسط سيفتح المجال لاضطراب خليجي واسع في المدى القريب الى المتوسط ، وهو ما قد يدفع دول الخليج الى خيارين هما الاول: إما تعميق تعاونها مع اسرائيل أكثر مما جرى للحصول على مساندة اسرائيلية عسكرية وتقنية واسياسية واعلامية ، او الخيار الثاني وهو تنمية نزعة المصالحة مع ايران وهو امر ليس سهلا في ظل الشكوك العميقة بين الطرفين والخبرة الهشة في الدبلوماسية الخليجية.
إن الهزيمة الامريكية في افغانستان تتوافق مع الذكرى الأولى لاتفاقات ” ابراهام الخليجية الاسرائيلية”، ولعل شعور الدول العربية بان التخلي الامريكي عن المنطقة بشكل تدريجي كما اشرنا ، والعزوف الامريكي المتزايد عن اللجوء للقوة العسكرية لمواجهة ايران بل والدوران حول العودة للاتفاق النووي معها ، يفسر السلوك العربي للتوجه نحو اسرائيل، لأن هذا افضل – من المنظور الامريكي- من الوصول الى تسوية عربية مع ايران.وهكذا تكون الولايات المتحدة خففت من اعباء مواجهة خصومها في المنطقة ونقلت بندقيتها الى الكتف العربي والاسرائيلي معا، وهو امر نعتقد ان اسرائيل ستعمل بحذق تام للنجاة من براثنه خلافا لخبرة صناع القرار الخليجيين الحاليين.
3- اما روسيا ، فتبدو اكثر اقتناعا بان الانسحاب الامريكي من ” جوارها القريب” وفي قلبه افغانستان هو تطور جيد ويشكل استمرارا لخلخلة التمترس الامريكي في المنطقة كما جرى مع قاعدة مناس بقرغيزيا التي تم اخلاؤها عام 2014.
انه عالم معقد للغاية، والى الحد الذي يشوش فيه العقل على الارادة…ربما.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى