دراسات استراتيجيةدراسات اقتصاديةدراسات جيوسياسية

أوروبا وأمن الطاقة.. ما بين المصدر الروسي والعقوبات الأميركية

العميد م. ناجي ملاعب*

صنف التقرير الصادر عن “المركز الأوروبي للطاقة والتحليل الجيوسياسي”  القارة الأوروبية بأنها “دائمًا متعطشة للطاقة وقليلة الطاقة. وقد أثرت هذه العلامة المميزة للاتحاد الأوروبي على العلاقات الخارجية للكتلة، وكذلك على التشنجات الداخلية (داخل الدول الأعضاء)، وتشكيل مجموعة تصويت المجلس وروابط الولاءات غير الشفافة، المباشرة والضمنية، مع شركات الطاقة”.

تتوقع وكالة الطاقة الدولية أن يستورد الاتحاد الأوروبي حوالي 70 مليار متر مكعب من الغاز بحلول عام 2020. ولا يعوِّل التقرير على وعود الإستفادة سريعأ من اكتشافات غاز شرق المتوسط ليخلص أن “الحقائق تدل على أنه بعد مرور ست سنوات على الاكتشاف الكبير الرائد، ما زال العالم ينتظر أول متر مكعب من الغاز من حوض شرق المتوسط”.

المصادر الروسية للطاقة

تتسم العلاقات الروسية الأوروبية بالتعقيد وعدم الشفافية، حيث أن الطرفين بعيدان تماماً عن علاقات الودّ والصداقة، ولكن ما يمكن أن نفهمه أنها علاقة مصالح بالأساس، وتلك المصالح تتمحور في أنابيب الطاقة وأمن إمداداتها وإستمراريتها بالنسبة لأوروبا، وأمن الصادرات وضمان نسبة التصدير بالنسبة لروسيا.

من هنا ترتبط روسيا بالدول الأوروبية بعلاقات طاقوية فقط، أو بمعنى أدق علاقات تحت مظلة أنابيب وأمن الطاقة الروسية بإتجاه أوروبا، ويسودها جو من الريبة من الطموحات الروسية التوسعية نحو أوروبا الشرقية، وتطلعاتها لعالم متعدد الأقطاب تتقاسم فيه السيطرة على العالم مع الولايات المتحدة الأميركية.

تعتبر شركة غازبروم، وهي المملوكة من الحكومة الروسية ثاني أكبر شركة في مجال الطاقة في العالم بعد شركة اكسون موبيل الامريكية، وتحتكر روسيا من خلالها شبكات أنابيب الغاز المتجهة إلى أوروبا. وتصدر موسكو الغاز للسوق الاوروبية من خلال أربع أنظمة خطوط أنابيب رئيسية:

– الخط الاول يمر عبر أوكرانيا إلى دول الاتحاد، وكان يعتبر خط إمداد رئيسي، وتوقف العمل به بعد الازمة بين موسكو وكييف .

– الخط الثاني يمتد من روسيا عبر بيلاروسيا وبولندا إلى دول الاتحاد.

– الخط الثالث نورث ستريم 1 (الخط الشمالي)، يمتد من روسيا عبر بحر البلطيق إلى ألمانيا مباشرة، وهذا الخط مهم إستراتيجيا لروسيا، بسبب قدرته على نقل لديه القدرة على نقل 55  مليار متر مكعب سنوياً أي 37 بالمائة من صادرات موسكو إلى دول الاتحاد. والهدف من هذا المشروع تجاوز دول العبور ولاسيما دول أوروبا الشرقية، وبذلك ستخسر بعض الدول رسوم عبور الأنابيب السنوية، وستصل صادرات الغاز مباشرة إلى الدول الغربية.

– المشروع الرابع السيل التركي، سابقاً عملت موسكو على تنفيذ مشروع السيل الجنوبي عبر البحر الأسود وبلغاريا إلى دول الاتحاد الأوروبي، لكن في عام 2014 رفضت المفوضية الاوروبية المشروع وهددت باتخاذ إجراءات قانونية ضد بلغاريا إذا وافقت على المشروع. مما دفع موسكو للاتفاق مع أنقرة لمد خط السيل التركي من اراضيها عبر البحر الاسود مروراً بتركيا ومن ثم إلى دول الاتحاد . و”السيل التركي”، مشروع لمد أنبوبين بسعة 15.75 مليار متر مكعب من الغاز سنويا لكل منهما، من روسيا إلى تركيا مرورا بالبحر الأسود، بحيث يغذي الأنبوب الأول تركيا، والثاني دول شرقي وجنوبي أوروبا.

وصادقت شركة غازبروم على خطة تطوير مدتها 10 سنوات تتضمن بناء موصل جديد للغاز الصربي المجري بسعة 6 مليار متر مكعب سنويًا. وإضافة إلى السيل التركي، يربط خط أنابيب “التيار الأزرق” بين موسكو وأنقرة بقدرة سنوية تقدر بـ ١٦ مليار متر مكعب.

وقد وضعت روسيا خطيْ أنابيب للغاز الطبيعي الممتدين من أراضيها من أقصى شمال نصف الكرة الأرضية، “نورد ستريم2″، أو “السيل الشمالي 2″ و”ترك ستريم” الذي يمر عبر تركيا. ويبدو أن الطموحات الروسية جدية للغاية، ذلك أن الاستثمار في كلا الخطين كان مكلفا للغاية، لكن الدولة الغنية بالنفط قد نجحت في جذب الأنظار إليها.

جغرافيا تقع أوكرانيا بين خطي الأنابيب في الشمال والجنوب، لكن تم تجاهلها برغبة روسية، وفضلا عن ذلك تعكس حجم الخيارات المتاحة في يد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.  لقد كلف سوء التقدير أوروبا مرة أخرى، بينما تقدمت روسيا خطوة. إنها مجرد بداية لسياسة روسية كبرى باتجاه العمق الأوروبي.

ويبقى على الإتحاد الأوروبي أن يتحسب لمستقبل العملاق الصيني وحاجته للغاز الروسي. ويقدر الخبراء القتصاديون أنه بحلول عام 2030، من المحتمل أن تتضاعف احتياجات الصين من الطاقة مقارنة بالوقت الحالي، في حين لا ترغب أوروبا في جعل الصين تطالب بسحب الاحتياطات الروسية إلى الشرق.

واذا كانت أوروبا ترحب بمصدر جديد لإمدادات الطاقة باسم المنافسة المربحة، لكن ذلك لا يغيّر من أساس المخاطر الجيوسياسية العميقة”. فقد  اعتمدت الدول الأوروبية في السنوات الأخيرة بشكل كبير على إمدادات الغاز الطبيعي الأميركي ومجموعة جديدة من مصادر الطاقة المتجددة.

البدائل الأميركية للغاز الروسي

تتدخل الولايات المتحدة في سياسات القارة الأوروبية الخاصة بالغاز الطبيعي، لذلك فقد قام الأوروبيون والأميركيون بوضع الخطط الاستراتيجية لتمديد أنابيب الغاز كخيار استراتيجي للحد من هيمنة روسيا على سوق الطاقة الأوروبي والعالمي، لاعتبار الطاقة من نفط وغاز العصب والمحرك الاقتصادي لأوروبا ونهضتها الاقتصادية.

ووضعت واشنطن بالتعاون مع شركائها في حلف الناتو استراتيجية جيوسياسية لإستيعاب جمهوريات الإتحاد السوفيتي السابق الآسيوية في الفلك الغربي، وشراء الغاز منها واستجراره عبر خط “نابوكو” العابر للقارات لنقل الغاز من أواسط آسيا إلى أوروبا يتفادى المرور في روسيا، الأمر الذي سيقلص اعتماد الاتحاد الأوروبي على إمدادات الغاز الروسية.

يمتد هذا الخط عبر حوض قزوين ليحمل غاز تركمانستان إلى أذربيجان ومنها إلى أرضروم في تركيا ثم سيمر ثلثا خط الأنابيب عبر أراضي تركيا ومن ثم يعبر بلغاريا ورومانيا ثم المجر إلى منتهاه في محطة تجميع ضخمة في مدينة Baumgarten an der March، في النمسا، وطول الأنبوب 2050 ميلا أو 3300 كيلو متر.

كما تسعى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتوسيع شبكة الأنابيب تلك لتتمكن أيضاً من نقل النفط والغاز من ميناء أكتاو في كازاخستان، من خلال خط يمر تحت بحر قزوين؛ الأمر الذي يستلزم قانونياً موافقة روسيا وإيران على المشروع.

وتخطط واشنطن للإستفادة من تمرير الغاز المصري، كذلك، ليصب في خط نابوكو، بالإضافة الى الغاز القطري الذي رفضت الحكومة السورية عام 2009 مروره في اراضيها بالمفاضلة مع “الخط الإسلامي” المنوي عبوره بالغاز الإيراني الى العراق متجهاً الى مصبه في حمص، ومنها الى أوروبا عبر قبرص.

واستفادت الولايات المتحدة أيضاً من الخلاف بين إيران وأذربيجان بسبب دعم طهران لجمهورية أرمينيا في نزاعها مع أذربيجان حول إقليم “ناغورني كاراباخ”، فدفعت باستثمارات هائلة تعدت العشرين مليار دولار في قطاع النفط لأذربيجان في بحر قزوين.

وإدراكاً منها للمشاكل التجارية المتمثلة في زيادة حصة الغاز الطبيعي المُسال في السوق الأوروبية، ستواصل الولايات المتحدة دعم قطر للتأثير على الإمدادات الروسية من الغاز للسوق الأوروبية.

وفي المقابل، لا يمكن للغاز الطبيعي المُسال الأمريكي أن يكون جذاباً تجارياً للمشترين الأوروبيين إلا إذا تم تسعير الإغراق، الذي طبق بشكل خاص على بولندا. ومع ذلك، يبدو الإغراق في السوق الأوروبية بأكملها غير عملي من الناحية الاقتصادية، خاصه وأن موردي الغاز الطبيعي المُسال الأمريكي هم شركات خاصة، وليسوا دائماً على استعداد للمشاركة في اللعبة الجيوسياسية ويفضلون بيع منتجاتهم بالسوق المحلية بشكل حيوي.

عقوبات واشنطن تناقض القانون الدولي

أوردت وكالة الطاقة الدولية لعام 2013، جداول بالدول العشر المنتجة للغاز. وحلت الولايات المتحدة في المرتبة الأولى (689 مليار متر مكعب) تليها وروسيا (671 مليار متر مكعب) وإيران (255 مليار متر مكعب) وقطر (161 مليار متر مكعب)، ثم تأتي كندا والصين والنرويج وهولندا والسعودية والجزائر.

لذلك تسعى واشنطن الى سياسة فرض العقوبات على توريد الغاز الروسي الى أوروبا لتحقيق هدفيها: الأول هو عدم ارتهان القارة العجوز للطاقة الروسية وما يتبع ذلك من هيمنة سياسية، وثانيها بيع المنتج الأميركي من الغاز المسال، ولو بفارق ملفت للأسعار.

وتخوض الدبلوماسية الأميركية بشكل علني سياسة التهديد بفرض العقوبات على استجرار الطاقة من روسيا. فقد أعلن وزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو، في عدة مناسبات وكان آخرها في مؤتمر ميونيخ للأمن أن الولايات المتحدة تعتزم فرض عقوبات إضافية على المشروعين الروسيين لأنابيب الغاز، “السيل الشمالي- 2” والفرع الثاني من “السيل التركي”.

وفي الوقت نفسه، وجه بومبيو، عمليا، إنذارا نهائيا للشركات المشاركة في تنفيذهما، وقال: “توقفوا عن العمل فورا، وإلا فإنكم تخاطرون بعواقب غير سارة”. ولا يعتد الخبراء الروس بهذا التهديد ويؤكدون على أنه لا جديد في الإجراءات الأمريكية، فالقانون معتمد منذ عدة سنوات، وبومبيو ذكّر فقط بإمكانية تطبيقه.

ويعارض الاتحاد الأوروبي مبدأ فرض الولايات المتحدة عقوبات أحادية ضد مشروعي “السيل الشمالي-2” و”السيل التركي”، باعتبارها مخالفة للقوانين الدولية. إنما السؤال الآن عما إذا كانت أوروبا سوف تنحني أم تقاوم. إذا انحنت، فسوف تُظهر أن الأمريكيين يتخذون قرارات بدلا عنها، ويقررون مع من يمكنها التجارة ومع من لا يمكنها ذلك.

في مجال حيوي يشكل عصب الصناعة الأوروبية، ومهما كانت البدائل من الطاقة النظيفة، فقدر أوروبا أن لا تنصاع تماما للعقوبات، فروسيا ليست إيران، حيث يمكن حظر التجارة معها. ولا يتعلق الأمر فقط بـ”السيل الشمالي-2″، إنما باستقلالية أوروبا في العلاقات الدولية”.

في الخلاصة

إن المعضلة الأوروبية لم تنته بعد، لأن روسيا لعبت الأوراق على كلا الجانبين، وإنه سيكون على أوروبا صياغة نهج من شأنه حفظ ماء الوجه مع تركيا، وذلك بالنظر إلى الطريقة التي تعاملت بها مع أنقرة بشأن القضايا المتعلقة بعضوية الاتحاد الأوروبي. وعلى خلفية الخروج الناجح لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فإن تركيا ستضغط من جديد على أوروبا، التي طالما ذكّرت تركيا بأنها غير مناسبة. وعلى عكس ما لا ترغب به أوروبا، فإن الاحتياطات الروسية تتدفق الآن عبر الأراضي التركية، والتي قد تتمكن من تدمير المنافسين الجدد في سوق الطاقة.

وهنا يتركز الإهتمام الأميركي حول تسريع الإستثمار في المكتشفات الهيدروكربونية شرق البحر المتوسط، ومنها قبول لعب دور الوسيط في ترسيم الحدود البحرية ما بين لبنان والكيان الصهيوني، وما سبقه من انشاء منتدى غاز المتوسط ومركزه القاهرة. وقد يكون ما جرى في أذربيجان من معارك وأحداث مؤخراً في الصراع على الغاز وطرق الإمداد.

كل ذلك لن يعطي نتائج قريبة. ويبدو أن الصراع سيتركز مستقبلاً على بحر قزوين والبحر الأسود، أي على منابع الغاز وطرق إمداداته، وفقاً لما تدفع نحوه الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها الأوروبيين، للحد من السيطرة الروسية على أنابيب الطاقة نحو أوروبا. إذ تكشف آليات الصراع الدولي الحالي أن النظام العالمي الجديد يتشكل وفق صيرورة تقوم على منظومات القوة الاقتصادية والهيمنة العسكرية التي ترتكز على حجر أساس هو الطاقة بشكل عام وعلى الغاز الطبيعي بشكل خاص، ومن هنا يمكن فهم آليات التنافس والصراع بين المحورين الروسي والأميركي. فهل ستكون نتيجة هذا الصراع العودة إلى عالم متعدد الأقطاب يؤمن التوازن على الساحة الدولية أم ستستطيع الولايات المتحدة الأميركية من خلال تأثيرها على حلفائها الأوروبيين المحافظة على أحادية القطب؟ الجواب مرهون بما سوف تعتمده الإدارة الأميركية الجديدة.

*عضو الهيئة العلمية لمجلة “الدراسات الأمنية”.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى