إيران والربيع العربي: اعتبارات متداخلة واستحقاقات مؤجلة

محمد عباس ناجي

تراقب إيران بدقة وحذر التداعيات المحتملة التي يمكن أن تنتجها الثورات والاحتجاجات التي تجتاح العديد من الدول العربية في الوقت الحالي علي مصالحها وطموحاتها في الإقليم. وفي الواقع فإنه رغم أن إيران كانت من أوائل القوي الإقليمية التي رحبت بما يمكن تسميته “الموجات الأولي” لهذه الثورات، فإن هذا الموقف تغير تدريجيا عندما امتدت إلي حلفاءها في الإقليم، للدرجة التي لا يمكن الحديث معها عن موقف إيراني واحد بل مواقف متعددة ومتناقضة في بعض الأحيان.

فقد اعتبرت إيران أن التداعيات الأولية لهذه التطورات الإقليمية تصب في مصلحتها علي أساس أنها تقدم مؤشرا علي فشل الجهود الأمريكية، التي تلقي دعما من بعض القوي الإقليمية، لكبح طموحاتها النووية والإقليمية، خصوصا أن النظامين التونسي والمصري اللذين سقطا بفعل هذه الموجات الثورية كانا من أهم حلفاء واشنطن في الإقليم. ومن هنا لم تكتف إيران بمباركة الثورتين التونسية والمصرية حيث اعتبرتهما “بوادر يقظة إسلامية في العالم مستوحاة من الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979″، علي حد قول المرشد الأعلي للجمهورية الإسلامية علي خامنئي في خطبة الجمعة يوم 4 فبراير 2011، بل إنها سعت إلي استثمار تزامن نجاح الثورة المصرية في الإطاحة بنظام الرئيس السابق حسني مبارك مع حلول الذكري الثانية والثلاثين لنجاح الثورة الإسلامية في 11 فبراير 2011، للدلالة علي قوة تأثير الثورة الإيرانية في محيطها الإقليمي. 

فضلا عن ذلك، رأت إيران أن هذه التطورات الإقليمية وضعت خصومها الإقليميين أمام “بدائل ضيقة” علي غرار إسرائيل التي فقدت أحد أهم حلفائها الإقليميين وهو نظام الرئيس المصري السابق حسني مبارك الذي اعتبرته “كنزا استراتيجيا” بسبب حرصه علي التوافق مع سياساتها لاسيما إزاء التعامل مع القضية الفلسطينية وخصوصا ما يتعلق بحصار قطاع غزة، وهو ما يمكن، في رؤية إيران، أن يكسبها مساحات إقليمية جديدة علي حساب خصومها، وبالتالي تقليص قدرتهم علي السعي من أجل تقليص قدرتها علي أن تصبح رقما مهما في معظم الملفات الإقليمية إن لم يكن مجملها. 

كما تمثلت إحدي انعكاسات الموجات الثورية التي تجتاح العديد من الدول العربية في ارتفاع أسعار النفط بشكل ملحوظ بعد أن امتدت إلي دول نفطية مثل ليبيا، التي توقف إنتاجها النفطي البالغ 1.6 مليون برميل يوميا، وبعد أن ظهرت توقعات باحتمال امتدادها إلي دول نفطية أخري في المنطقة. وقد أدي توقف النفط الليبي، الذي لم يعد حتي الآن إلي مستوياته الطبيعية، إلي تجاوز أسعار النفط حاجز المائة دولار للبرميل. وبالطبع فإن ذلك يصب في صالح الدول النفطية مثل إيران التي تعتمد علي عوائد تصدير النفط كمصدر أساسي في دخلها القومي.

البحرين.. فرصة للضغط علي مجلس التعاون

زد علي ذلك، أنه عندما وصلت موجة الاحتجاجات إلي البحرين تصورت إيران أنه بتدخلها يمكن أن تمتلك ورقة إقليمية قوية تستطيع التلويح بها أمام قوي إقليمية رافضة لطموحاتها النووية والإقليمية وعلي رأسها السعودية. كما أن نشوب خلاف بين الأخيرة والولايات المتحدة الأمريكية حول أزمة البحرين تحديدا بسبب الانتقادات التي وجهتها الإدارة الأمريكية للسياسة التي انتهجتها الرياض في التعامل معها، دفعها إلي عدم مسايرة الجهود الأمريكية في بعض الملفات الإقليمية الأخري وعلي رأسها الملف السوري، الذي أصبحت قطر هي عنوانه الرئيسي بالتعاون مع كل من تركيا وفرنسا.

إذ بدا أن ثمة حرصا من جانب السعودية علي عدم الدخول علي خط الأزمة السورية وقيادة الضغوط الدولية والإقليمية علي نظام الرئيس السوري بشار الأسد من أجل التنحي، واقتصر تدخلها علي الموقف البارز الذي اتخذه العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز في كلمته التي وجهها إلي “الشعب السوري” في 7 أغسطس 2011 وطالب فيها بوقف أعمال العنف والقمع التي تشهدها البلاد، معلنا استدعاء السفير السعودي من دمشق للتشاور.

هذا الموقف السعودي من أزمة سوريا يعود إلي اعتبارين: أولهما، الموقف الإيجابي الذي اتخذته سوريا تجاه التدخل الخليجي في الأزمة البحرينية حيث اعتبرت إرسال قوات “درع الجزيرة” إلي البحرين “خطوة شرعية”، رغم الموقف الرافض الذي تبنته حليفتها الرئيسية إيران تجاه الأزمة والذي أدي إلي توتير العلاقات مع دول المجلس. وثانيهما، رغبتها في عدم تصدر المشهد الإقليمي ريثما تضع الموجات الثورية الحالية أوزارها وتتضح بعدها معالم التوازنات الإقليمية وموقع المملكة منها. 

كما بدا أن ثمة ارتياحا إيرانيا ملحوظا تجاه الصعود الملحوظ لقوي الإسلام السياسي التي كانت الفائز الأكبر في الاستحقاقات الانتخابية التي شهدتها دول الثورات العربية مثل تونس ومصر، حيث وصلت إلي الحكم للمرة الأولي في هاتين الدولتين من خلال حصولها علي الأغلبية في الانتخابات التشريعية التي أجريت فيهما.

وقد دفع ذلك قائد “فيلق القدس” في الحرس الثوري العميد قاسم سليماني إلي القول: “إن الحمية الثورية التي تجتاح مصر وغيرها من البلدان العربية تتمخض عن إيرانات جديدة يجمعها العداء للولايات المتحدة الأمريكية”، وأضاف أن “المنطقة تمخضت اليوم عن عدد من الإيرانات الكبرى الجديدة، فمصر إيران جديدة، سواء أردتم أم لم تريدوا”. وزاد المرشد الأعلي للجمهورية علي خامنئي علي ذلك بقوله في خطبة الجمعة التي ألقاها باللغة العربية في 3 فبراير 2012 بمناسبة حلول الذكري الثالثة والثلاثون للثورة الإيرانية، أن “الثورة الإسلامية التي نجحت في إسقاط أكبر ديكتاتور علماني في إيران قد عمت الدول العربية، وأن انتخابات مصر وتونس وتطلعات الشعوب في البحرين واليمن تدل على أنهم يريدون أن يكونوا مسلمين معاصرين دون إفراط وتفريط”.

ارتباك وتردد

لكن بعد انجلاء التداعيات الأولية للثورات العربية، بدأ الموقف الإيراني يتغير تدريجيا، فتحول الترحيب بالموجات الثورية الأولي إلي ارتباك وتردد خصوصا أنها لم تصل فقط إلي حلفائها في الإقليم وخصوصا سوريا، بل إن أصداءها بدأت تنعكس داخل إيران التي تعاني من أزمة سياسة حادة أثارها الاعتراض علي نتائج الانتخابات الرئاسية التي أجريت في عام 2009 وأسفرت عن فوز الرئيس محمود أحمدي نجاد بفترة رئاسية ثانية.

فعلي الصعيد الداخلي، ساهمت الثورات والاحتجاجات العربية في بلورة تطورين: الأول، تنشيط الدعوات الداخلية لتفعيل مطالب حركة الاعتراض علي نتائج الانتخابات الرئاسية، مستغلة في ذلك التأييد الإيراني للاحتجاجات والثورات العربية التي رفعت تقريبا الشعارات نفسها التي تبنتها الحركة وعلي رأسها تداول السلطة ومحاربة الفساد والرشوة وتفعيل الحريات العامة والقضاء علي الفقر وتقليص معدلات التضخم والبطالة ومواجهة انتشار الجريمة والإرهاب.

لكن النظام الإيراني أدرك خطورة تجديد حركة الاعتراض علي نتائج الانتخابات الرئاسية نشاطها مرة أخري، خصوصا لجهة احتمال استقطابها دعما دوليا وإقليميا، في ظل تطلع الخارج إلى إمكانية حدوث تغيير للنظام من الداخل وبالتالي إعفاءه من الأثمان التي يمكن أن يدفعها في حالة إقدامه على محاولة تغييره بوسائل أخرى. ومن ثم اتجه إلي تبني سياسة متشددة في التعامل مع الدعوات التي أطلقتها الحركة لتجديد التظاهر من جديد، بدءا من استعمال القمع في مواجهة المتظاهرين، مرورا بفرض قيود شديدة علي وسائل الاتصال الحديثة التي مثلت عنوانا رئيسيا في الثورات العربية والأزمة السياسية الإيرانية علي غرار “فيس بوك” و”تويتر”، وانتهاءً بفرض الإقامة الجبرية علي زعيمي الحركة مير حسين موسوي ومهدي كروبي.

وقد نجح النظام الإيراني إلي حد ما في تقليص قوة حركة الاعتراض وإجهاض طموحاتها في استغلال التطورات في الخارج لتصعيد ضغوطها في الداخل، ليس فقط بسبب السياسة القمعية التي انتهجها في التعامل معها، ولكن أيضا بسبب افتقاد هذه التحركات لقوة دفع داخلية لاسيما أنها بدت “انتهازية”، إذ أن أجندتها قومية بامتياز بدليل الانتقادات العديدة التي وجهتها إلي النظام الإيراني بسبب دعمه لبعض التنظيمات الخارجية مثل “حزب الله” اللبناني وحركة “حماس” الفلسطينية، فضلا عن رفعها شعار “لا غزة ولا لبنان.. روحي فداء إيران” خلال التظاهرات التي نظمتها في إيران والمدن الرئيسية الأخري في خضم الأزمة السياسية التي واجهتها إيران خلال عام 2009. أي أنها كانت تحاول استغلال التطورات في الخارج لفرض أجندتها في الداخل وهو ما لم تنجح فيه.

والثاني، أنها أنضجت معالم استقطاب سياسي جديد بدأت تتشكل ملامحه داخل مراكز صنع القرار في إيران، وبالتحديد بين الفريق الذي يقوده المرشد الأعلي للجمهورية علي خامنئي ورجال الدين، والتيار الذي يتزعمه الرئيس أحمدي نجاد والذي بات يوصف في إيران بـ”تيار الانحراف”. هذا الاستقطاب تأسس علي عاملين: أولهما، تطلع الرئيس أحمدي نجاد والتيار الذي يقوده لتفعيل صلاحيات رئيس الجمهورية، باعتباره ممثل السلطة التنفيذية في النظام السياسي، وبدا ذلك جليا في محاولات الرئيس الاستفراد بإدارة شئون الدولة والإطاحة بحلفاء منافسيه من داخل السلطة حتي لو كانوا من المقربين من المرشد علي خامنئي مثل وزير الاستخبارات حيدر مصلحي الذي دارت حوله معركة حامية بين الرئيس والمرشد في أبريل 2011، بسبب قيام الأخير بإلغاء القرار الذي اتخذه الأول بإقالة الوزير، وهو ما دفع الرئيس إلي الاعتكاف في منزله عشرة أيام اضطر بعدها إلي العودة لمزاولة مهام منصبه بعد إدراكه أن معركته مع المرشد خاسرة بكل المقاييس بسبب ميل توازن القوي داخل النظام لصالح المرشد الأعلي للجمهورية.

وثانيهما، تبني هذا التيار توجهات ليبرالية وقومية تخصم من أدوار وصلاحيات مؤسسة المرشد ورجال الدين بصفة عامة، حيث يطرح تفسيرا “فارسيا” ضيقا للإسلام وينادي بالانفتاح علي الغرب وعلي رأسه الولايات المتحدة الأمريكية ويدعو إلي عدم الاعتماد كلية علي التحالف مع النظام السوري، مشيرا إلي أن سقوط الأخير لا يمثل ضربة قاضية بالنسبة لإيران التي يمكنها أن تتعاطي مع هذه التطورات بشكل يحفظ مصالحها أولا ويدرأ عنها المخاطر ثانيا، لاسيما أن التحالف مع هذا النظام لم يكن تحالفا استراتيجيا بالمعني الشامل للكلمة، أي أنه كان “تحالفا مفتوحا” لم يلزم طرفيه بسقوف استراتيجية محددة، وهو ما يبدو جليا في مؤشرات عديدة كان آخرها، وربما أهمها، تأييد سوريا لموقف دول مجلس التعاون الخليجي في التعامل مع الأزمة البحرينية لاسيما إرسال قوات “درع الجزيرة” إلي البحرين، رغم أن هذه الخطوات الخليجية صعدت من حدة التوتر والاحتقان في العلاقات بين إيران ودول المجلس.

هنا تكتسب ارتدادات الثورات والاحتجاجات العربية علي الداخل الإيراني وجاهتها وزخمها لاسيما أنها ألقت مزيدا من الأضواء علي مساعي السلطة الوضعية الدنيوية التي يمثلها رئيس الجمهورية والتي تضفي جانبا مؤسسيا عصريا علي النظام السياسي الإيراني لانتزاع صلاحياتها واستقلال إرادتها عن السلطة الدينية ممثلة في مؤسسة المرشد التي تكرس طابعا ثيوقراطيا له. 

ورغم أن هذه السلطة الدنيوية تضفي، للمفارقة، جانبا روحيا علي مساعيها لامتلاك صلاحياتها التنفيذية، وهو ما ينعكس في التصريحات المتكررة للرئيس أحمدي نجاد بأن المهمة الرئيسية لحكومته هي تمهيد العودة لـ”الإمام المهدي” بل وتجاوزه ذلك بادعائه أن تلك “العودة باتت قريبة”، فإنه يبدو علي الأرجح اتجاها براجماتيا تنزع عنه رداءه الديني حقيقة أن هذا التيار يحاول من خلال ذلك إضافة محور جديد للصراع مع المرشد وفريقه، لاسيما أن هذا الطرح معناه انتفاء الحاجة لوجود المرشد الذي يمثل “همزة الوصل” بين الإمام وجمهور الشيعة، وهو تحرك واجهه المرشد بالتلميح إلي إمكانية الانتقال إلي العمل بالنظام البرلماني، أي إلغاء منصب رئيس الجمهورية في المستقبل. 

أزمات في الإقليم

أما علي المستوي الإقليمي، فإن ثمة تداعيات عديدة بدأت تفرضها الموجات الثورية في الدول العربية علي موقع إيران ومصالحها في الإقليم أهمها بالطبع وصولها إلي حلفاءها في الإقليم وعلي رأسهم نظام الرئيس السوري بشار الأسد. فقد رفع الدعم الإيراني الملحوظ للنظام السوري الغطاء عن الإطار الذي حاولت إيران منذ البداية إسقاطه علي مواقفها تجاه الثورات العربية وهو “نصرة المستضعفين” و”محاربة الاستكبار”، والذي بدا جليا في تعاملها مع الثورات والاحتجاجات في كل من تونس ومصر والبحرين واليمن، وأوضح بكل جلاء أن إيران تنتهج سياسة نفعية تسعي إلي حماية مصالحها الاستراتيجية في الإقليم ولا تلتزم في هذا السياق بالسقوف الأيدلوجية التي تفرضها الثورة الإسلامية.

وربما يمكن القول إن معظم السيناريوهات التي يمكن أن تنتهي إليها الأزمة في سوريا، إن لم يكن مجملها، لا تبدو مريحة لإيران. ففضلا عن التداعيات السلبية العديدة التي يمكن أن ينتجها سقوط النظام السوري علي مصالح إيران وعلاقاتها مع حلفاءها في لبنان وفلسطين، خصوصا أن هذا النظام يمثل “جسر التواصل” الرئيسي بين الطرفين، فإن بقاء النظام لا يضمن بالضرورة هذه المصالح أيضا لأسباب متعددة أهمها أن هذا السيناريو مرتبط بتنحي الرئيس السوري بشار الأسد، وهو المطلب الذي بات العنوان الرئيسي للتعاطي الدولي مع الأزمة، وهو ما بدا جليا في الدعم الملحوظ من جانب المجتمع الدولي للمبادرة التي طرحتها الجامعة العربية والتي تقوم علي إجراء حوار بين المعارضة والنظام لتشكيل حكومة وحدة وطنية تشرف على إجراء انتخابات وتسليم الرئيس بشار الأسد صلاحياته إلى نائبه.

وبالطبع فإن ذلك لا يصب في مصلحة إيران، لأن تنحي الرئيس وإجراء حوار مع المعارضة معناه تقليص حضور إيران في سوريا، سواء لجهة خسارتها حليفا مهما في النظام السوري بحجم الرئيس بشار الأسد، أو لجهة صعوبة الإبقاء علي هذا النفوذ بعد إجراء الحوار مع قوي المعارضة وتشكيل حكومة وحدة وطنية، خصوصا في ظل التوتر والاحتقان الذي يسم علاقاتها مع هذه القوي. فضلا عن أن إجراء انتخابات حرة بعد ذلك، ووفقا للمبادرة، ربما يكون كفيلا بانهيار النظام بأكمله وهو احتمال لم تستطع إيران حتي الآن التوصل إلي بدائل وخيارات متعددة للتعامل معه. 

وإلي جانب ذلك، فقد بدا واضحا التغير الملحوظ في مواقف الحلفاء الآخرين في الإقليم علي ضوء المفاعيل السياسية للثورات العربية وبالتحديد الأزمة التي يواجهها النظام السوري. ففضلا عن حالة الارتباك والتردد التي تبدو جلية في مواقف “حزب الله” انتظارا لما ستؤول إليه الأوضاع في سوريا تحديدا، فإن الرسائل المتعددة التي وجهتها حركة “حماس” لا تبدو مريحة لإيران، سواء لجهة تلميحات خالد مشعل رئيس المكتب السياسي للحركة عزوفه عن الترشح لانتخابات المكتب لفترة جديدة وهو الذي يعرف بـ”مهندس العلاقات المتميزة بين إيران وحماس”، أو لجهة المرونة الملحوظة التي أبدتها الحركة إزاء الوساطة المصرية في صفقة “تبادل الأسري” مع إسرائيل التي قضت بمبادلة الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط بـ1027 أسيرا فلسطينيا وعربيا لدي إسرائيل، وفي المصالحة مع حركة “فتح” التي توجت بتوقيع اتفاق “إعلان الدوحة” في 6 فبراير 2012، والذي قضي بتشكيل حكومة توافق وطني من التكنوقراط يقودها الرئيس محمود عباس (أبو مازن) تعمل على إعادة إعمار غزة وتنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية في القطاع والضفة الغربية وإعادة تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني، أو لجهة فتح قنوات تواصل جديدة مع قوي عديدة في الإقليم مثل قطر وتركيا اللتين تنتهجان سياسات لا تتوافق مع مصالح إيران خصوصا إزاء الأزمة في سوريا.

وفضلا عن أن موقف إيران من الأزمة البحرينية أنتج موقفا خليجيا ضدها، ربما للمرة الأولي منذ تأسيس مجلس التعاون الخليجي عام 1981، فإن جهود إيران لتطوير العلاقات مع مصر، علي أساس أن ذلك ربما يمثل تعويضا عن خسائرها المحتملة علي ضوء المفاعيل السياسية للثورات العربية خصوصا في ظل المكانة الإقليمية التي تحظي بها الأخيرة، ما زالت تواجه أجواءً غامضة ولا يمكن التكهن بما يمكن أن تؤول إليه في المستقبل لاسيما في ظل تفضيل القاهرة إرجاء اتخاذ موقف واضح إزاء العلاقات مع إيران إلي حين انتخاب رئيس جديد للجمهورية.

كما أن وصول قوي الإسلام السياسي إلي الحكم في العديد من الدول التي شهدت ثورات علي أنظمتها السياسية لا يضيف كثيرا إلي رصيد إيران الإقليمي، حيث أنه لا يوجد مؤشر علي وجود علاقات قوية تربط بين إيران وهذه القوي، بما يعني أن طموحها في تأسيس تحالفات مع الأخيرة ربما لا يعد مهمة سهلة. وقد كانت هذه القوي في بداية الثورات حريصة علي إعطاء انطباع للداخل والخارج بأنها بعيدة عن الأجندة الإيرانية، مثلما حدث عندما صرح المرشد الأعلي للجمهورية الإسلامية علي خامنئي بأن “الثورات العربية تستلهم روح ونموذج الثورة الإسلامية في إيران وبالتالي فهي استمرار لها” وذلك في خطبة الجمعة التي ألقاها في 4 فبراير 2011، حيث قالت حركة “الإخوان المسلمين” المصرية أن “الثورة المصرية ثورة شعبية مصرية خالصة ولا يستطيع أحد أن ينسب الفضل لنفسه في القيام بها”.

كذلك، فإن الانطباع الإيراني الأولي الذي اعتمد علي إمكانية تحقيق أكبر قدر من التقدم في برنامجها النووي في ظل الانشغال الغربي بما يحدث في الدول العربية، لا يتسامح مع المعطيات الموجودة علي الأرض. فقد بدا واضحا أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تريد الانسحاب من العراق دون أن تمتلك أوراق ضغط في مواجهة إيران التي تعد نفسها لتكون “الفائز الأكبر” من ذلك الانسحاب، ومن ثم كان استثمارها للتوتر في العلاقات بين إيران ودول الجوار وعلي رأسها السعودية علي خلفية الاتهام الأمريكي لإيران بمحاولة اغتيال السفير السعودي لدي واشنطن عادل الجبير، والذي دفع الرياض إلي رعاية مشروع قرار في مجلس الأمن لإدانة محاولات اغتيال الدبلوماسيين، فضلا عن استمرار الخلاف حول أزمة الاحتجاجات البحرينية، إلي جانب التقرير الصادر عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية في نوفمبر 2011 والذي أشار إلي وجود جانب عسكري في برنامجها النووي، من أجل فرض مزيد من العزلة والعقوبات الدولية عليها.

لكن التطور الأهم في هذا السياق هو نجاح الجهود الأمريكية نسبيا في رفع مستوي هذه العقوبات إلي المجال النفطي والمالي، حيث توصل الاتحاد الأوروبي إلي اتفاق مبدئي لفرض حظر نفطي علي إيران بدءا من يوليو 2012، كما بدأت بعض الدول، مثل بريطانيا وكندا، في فرض حظر علي التعاملات مع البنك المركزي الإيراني.

واشنطن لم تكتف بذلك، بل سعت لدي المستوردين الرئيسيين للنفط الإيراني، لاسيما الصين واليابان، لإقناعهم بالمشاركة في الجهود الدولية لفرض عزلة دولية محكمة علي إيران، أو علي الأقل تقليل استيرادهم للنفط الإيراني والبحث عن خيارات نفطية أخري خصوصا لدي دول مجلس التعاون الخليجي.

إيران بدت مدركة إلي أن جهود واشنطن لفرض مزيد من العقوبات عليها ليس هدفه البرنامج النووي فقط، بل وربما يكون ذلك هو الأهم، إجبارها علي الجلوس إلي طاولة المفاوضات الثنائية لمساعدتها علي تأمين وجودها في العراق وأفغانستان، والذين باتا هدفين مؤثرين في الصراع بين الطرفين، خصوصا لجهة اقتناع واشنطن بأن طهران قادرة علي إرباك حساباتها وخلط أوراقها في كابول وبغداد.

ومن هنا لم يقتصر رد إيران علي تهديد الغرب بأن منعها من تصدير نفطها إلي الخارج يعني توقف الآخرين عن تصدير نفطهم أيضا من خلال إغلاق مضيق هرمز الذي يعبر منه 40% من النفط العالمي يوميا، بل سعت إلي توسيع هامش المناورة المتاح أمامها بالتلويح بإمكانية تحريك ملفات أخري في وجه واشنطن في الوقت الذي ما زالت فيه تلملم أوراقها وسياساتها المرتبكة بعد انسحابها من العراق دون انتزاع تعهدات من الحكومة العراقية بمنح حصانة لجنودها أو مستشاريها في العراق، وبعد سقوط بعض أهم حلفاءها الإقليميين بفعل موجات التحول الديمقراطي التي تجتاح العديد من الدول العربية في الوقت الحالي.

وفي هذا الإطار يمكن تفسير تصريح قائد “فيلق القدس” في الحرس الثوري العميد قاسم سليماني خلال ندوة “الشباب والصحوة الإسلامية” التي نظمت بإيران في 18 يناير 2012، والذي قال فيه أن “إيران حاضرة في الجنوب اللبناني والعراق”، وأن “هذين البلدين يخضعان بشكل أو آخر لإرادة طهران وأفكارها”، مشيرا إلي أن “الجمهورية الإسلامية الإيرانية بإمكانها تنظيم أي حركة تؤدي إلى تشكيل حكومات إسلامية هناك بغية مكافحة الاستكبار”.

سليماني لم يكتف بذلك بل ألمح إلي إمكانية تحريك الموقف في الأردن إذا تطلب الأمر ذلك، حيث أشار إلي أن “الجمهورية الإسلامية الإيرانية بإمكانها التحكم في هذه الثورات لتوجهها نحو العدو، وأن هذه الإمكانية متوافرة في الأردن”.

تصريحات سليماني وغيره من المسئولين الإيرانيين التي أثارت ردود فعل متباينة في العراق ولبنان تشير إلي أن طهران تلوح بأوراقها من أجل التفاوض، لكنها لن تتفاوض علي ملفات فردية بل ملفات جماعية، أي أن إيران تريد استغلال نقاط قوتها في الملفات الإقليمية المختلفة لمساومة الغرب حول ملفها النووي الذي تواجه فيه صعوبات متعددة سواء لجهة المشكلات التكنولوجية التي أنتجها انتشار فيروس “ستوكسنت” الذي دمر أكثر من ألف جهاز طرد مركزي، أو بسبب سلسلة الاغتيالات المتتالية التي طالت أربعة من علمائها النوويين خلال عامين آخرهم الدكتور مصطفي أحمد روشن الذي كان يعمل نائبا للمدير التجاري في منشأة “ناتانز” في 11 يناير 2012، أو لجهة العقوبات الدولية المفروضة عليها التي ربما تنتج تأثيرات مهمة علي الداخل في حالة وصولها إلي مستوي فرض حظر علي صادراتها النفطية وتعاملاتها المالية.

اعتبارات متداخلة واستحقاقات مؤجلة كلها في انتظار ما ستؤول إليه توازنات القوي في منطقة الشرق الأوسط بعد انتهاء الثورات والاحتجاجات التي تجتاح العديد من الدول العربية في الوقت الحالي.

 

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button