نظرية العلاقات الدولية

ابستمولوجيا العلاقات الدولية – The Epistemology of International Relations

الإنسان ومنذ بدء الخليقة، كان ولا يزال شغوفاً ومحباً لمعرفة كل ما يدور حوله محاولاً تفسيره، بطرق قد تختلف بين الفرد والآخر، فكل ما يراه الإنسان يُعتبر معلومة لديه، وكل جديد يُعتبر مدعاة للتفسير والتفكير،  ولكن هل كل ما يحصل عليه الإنسان من معلومات يُعتبر صحيحاً، أو بمعنى آخر هل كل ما ينتقل للإنسان من خلال ملامسته للواقع بصرياً أو سمعياً أو غيرها، يمكن أن يُعتبر يقيناً؟ وماذا إن كان تفسير الإنسان لذات الشيء يختلف بين شخصٍ وآخر، فأيهما اليقين.

من هنا نشأت ما تسمى ”نظرية المعرفة“ أو ”الابستملوجيا“ التي تُعتبر أحد أهم فروع الفلسفة الذي يُعنى بطبيعة ومنظور العلم، حيث يُعتقد أنَّ أول من صاغ هذا المفهوم هو الفيلسوف الإسكوتلندي  جيمس فريدريك – James Frederick Ferrier على أنها فلسفة العلوم، التي تدرس بشكل نقدي مبادئ كافة أنواع العلوم وفروضها ونتائجها لتحديد أصلها المنطقي وبيان قيمتها.

يدور معظم الجدل والنقاش في هذا الفرع الفلسفي حول تحليل طبيعة المعرفة وارتباطها بمصطلحات مثل الحقيقة، الاعتقاد، والتعليل، كما تدرس الإبستومولوجيا أيضاً وسائل إنتاج المعرفة، وتهتم بالشكوك حول إدعاءات المعرفة المختلفة، بعبارة أخرى تحاول الإبستومولوجيا أن تجيب عن عدة أسئلة مثل ما هي المعرفة وكيف يتم الحصول عليها وما هي الأدوات الواجب استخدامها للوصول إليها.

تنقسم الابستملوجيا إلى ثلاثة فروع هي الوضعية والتفسيرية والواقعية، وكوننا في صدد الحديث عن المعرفة في العلاقات الدولية فسنكتفي بالمدرسة الوضعية التي تقوم عليها عدة نظريات ومدارس سياسية.

ميَّزَ أوغست كونت – Auguste Comte بين ثلاثة مراحل من مراحل التطور البشري في آليات الحصول على المعرفة، وقد أطلق عليها اسم ”قانون الحالات الثلاث“، حيث تمر المعرفة عبر ثلاثة عصور، تتوافق تماماً مع مراحل تاريخية ثلاث، وكذلك ثلاثة أعمار للعقل والتفكير، المرحلة الأولى هي مرحلة ”طفولة الفكر“ (العصر اللاهوتي)، والمرحلة الثانية هي مرحلة ”شباب الفكر“ (العصر الميتافيزيقي)، والمرحلة الثالثة هي مرحلة ”رجولة الفكر“(العصر الوضعي).

  1. مرحلة طفولة الفكر (العصر اللاهوتي): تتميز هذه المرحلة بأنها مرحلة بدائية تتشابه مع بداية تفكير الإنسان في طفولته أو بعبارة أخرى ”بداية المعرفة“ حيث يقوم فيها الإنسان بملاحظة الظواهر المختلفة من حوله ويعزو أسبابها إلى قدرات خارقة، يعتقد أنها وراء هذه الظواهر، وعلى هذا الشكل فإن المعرفة هنا لا تأتي عن طريق البراهين، إنما عن طريق المعتقدات الذاتية والإيمان بالمعجزات، والآلهة المتعددة، والتفكير الخرافي.
  2. مرحلة شباب الفكر (العصر الميتافيزيقي): في هذه المرحلة والتي أطلق عليها كونت ”شباب الفكر“، يبدأ الإنسان بشكل فعلي باللجوء إلى التفكير والتأمل في الظواهر التي تدور من حوله، بشكل يبتعد فيه في آلية التفكير، عن رد هذه الظواهر إلى المعجزات أو المعتقدات الخرافية، التي سادت في المرحلة الأولى، وبدلاً من ذلك يعزو أسباب هذه الظواهر إلى المبادئ الميتافيزيقية التي تجعل من التفكير حبيساً لتصورات فلسفية، فيُرد الواقع إلى مبادئ أولية، كالطبيعة عند سبينوزا – Baruch Spinoza، والإله المهندس عند ديكارت – René Descartes، والمادة عند ديدرو – Denis Diderot.
  3. مرحلة رجولة الفكر (العصر الوضعي): وهي أعلى المراحل، التي أطلق عليها كونت ”مرحلة رجولة الفكر“، حيث يتخلى فيها الإنسان رد الظواهر المحيطة به إلى الآلهة أو القوى الخارقة للطبيعة أو الماورائيات، محاولاً عبر الدراسة والبحث الوصول إلى تفسيرات تمكنه من الحصول على المعرفة باستخدام الملاحظة والتجريب.

إن اللجوء إلى الوقائع والتجربة، واختبار الوقائع، هو ما يسمح بالخروج عن الخطابات التأملية، وهو بالذات المبدأ الأساسي الذي تقوم عليه الفلسفة الوضعية، ففي حين يلجأ الفكر اللاهوتي والميتافيزيقي إلى تصورات أبدية، غير خاضعة للواقع، يلجأ الفكر الوضعي إلى مواجهة الفرضيات مع الواقع، للوصول إلى المعرفة.

ومع تطور التفكير الإنساني بمرور الزمن، وتطور ذهن الإنسان وأدواته، كان السؤال المطروح هو: من أين تأتي المعرفة، وما هي المعرفة، وما الطريق الذي يجب سلوكه للوصول إلى المعرفة؟

وللإجابة عن هذه الأسئلة لا بد  أن نميز بين ثلاث مفاهيم:

  • المفهوم الأول: ”ابستملوجي – Epistemology“: وهو ما يتعلق بنظرية المعرفة والحصول عليها، وهو جزء من الجدل حول فلسفة العلم بشكلٍ عام.
  • المفهوم الثاني: ”ميثديولوجي – Methodology“: وهو الطريق أو المنهجية المتبعة للحصول على المعرفة.
  • المفهوم الثالث: ”انطولوجي – Ontology“: وهو ما يتحدث عن ماهية الأشياء وكينونتها، كما يفترضها الباحث.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، ينظر أصحاب المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية للنظام الدولي ”أنطولوجياً“ على أنه نظام فوضوي تغيب عنه السلطة المركزية، ويعتقدون أنَّه من الممكن ”ابستملوجياً“ دراسته عبر الملاحظة والتجريب، حيث يمكن ”ميثديولوجياً“ استخدام مستويات التحليل لوصول إلى المعرفة.

وعليه فقد لجأت كثير من العلوم والاختصاصات إلى الفلسفة الوضعية في سعيها للوصول إلى المعرفة ومنها العلاقات الدولية.

الوضعية في العلاقات الدولية:

مع ازدهار الدراسات الأمنية في خمسينيات القرن الماضي نتيجةً لظروف الحرب الباردة، فقد سيطرت المدرسة السلوكية على أغلب دراسات العلوم السياسية والعلاقات الدولية، فكانت إسهامات المدرسة الوضعية بارزة بشكلٍ كبير في تلك الدراسات التي انطلقت من افتراضات رئيسية هي: وجود قوانين أو شبه قوانين تحكم الظاهرة السياسية، بحيث يمكن اكتشاف تلك القوانين عن طريق العقل، ويكون السبيل لذلك هو الملاحظة والتجريب، مع التأكيد على إمكانية فصل الذات عن الموضوع، وعليه فإنَّه من الممكن دراسة العلاقات الدولية بنفس الطرائق المستخدمة في دراسة العلوم الطبيعية.

حقيقة الأمر أن هذا الإدعاء في الفلسفة الوضعية سيكون محل جدل ونقاش، يرافق تطور حقل العلاقات الدولية منذ بدايات القرن العشرين، كونه سيأخذ حيزاً هاماً من مراحل الجدل المعرفي في العلاقات الدولية في مسيرتها بغية الوصول إلى “المعرفة”.

الجدل المعرفي في العلاقات الدولية:

في العام 1919 وفي جامعة ويلز في بريطانيا العظمى، أُنشئَ أول مقعد لدراسة العلاقات الدولية كعلم مستقل بحد ذاته، وكغيره من العلوم الأخرى، رافق تطور وتبلور هذا العلم جملة من التساؤلات والاستفسارات العلمية التي كانت بحاجة إلى إجابة، كالسؤال المطروح عن موضوع الدراسة في العلاقات الدولية، أو حدود هذا العلم وطرق الوصول إليه لإنتاج ”المعرفة“ كونها هدف كافة العلوم.

ونظراً لاختلاف آراء الدارسين ومرجعياتهم الفكرية والفلسفية، ونظراً لاختلاف الظروف التاريخية والموضوعية، كان لابد من وجود تباينات واختلافات في كيفية معالجة هذه الأسئلة من قبل المختصين، وعليه فقد شهد حقل العلاقات الدولية أربعة مراحل مختلفة في الجدل المعرفي الذي رافق تطوره.

كان الجدل الأول يدور حول كيفية النظر إلى العلاقات الدولية ومعالجة القضايا المثارة، حيث أفترض الليبراليون ضرورة النظر لما ينبغي أن تكون عليه العلاقات بين الدول، بينما أفترض الواقعيون ضرورة النظر للعلاقات القائمة كما هي على أرض الواقع، بينما تركز الجدل الثاني بين أنصار التيار التقليدي وأنصار التيار العلمي، حيث دعا أصحاب التيار التقليدي إلى دراسة العلاقات الدولية من خلال التاريخ والقانون الدولي والفلسفة السياسية، بينما رأى أنصار التيار العلمي أنه من الممكن دراسة العلاقات الدولية دراسة علمية مبنية على الملاحظة والتجريب، وتركزَّ الجدل الثالث على موضوع دراسة العلاقات الدولية “أي موضوع هذا العلم” وما هي الوحدات الفاعلة في النظام الدولية، وما التأثير الذي تحدثه هذه الوحدات في معالم هذا النظام، ففي حين يرى الواقعيون الجدد أنَّ الدولة هي الفاعل الوحيد في العلاقات الدولية، يرى الليبراليون الجدد أن المنظمات الدولية والشركات متعدد الجنسيات أيضاً تُعتبر فواعل رئيسية في العلاقات الدولية، أما الجدل الرابع والذي يطلق عليه “الجدل الراهن“ فيدور بين التيارات الوضعية، والتيارات ما بعد الوضعية ”النقدية“، حيث يرى أتباع الاتجاهات الوضعية  أنَّ هناك قوانين أو شبه قوانين تحكم الظاهرة في العلاقات الدولية، وأننا نستطيع فصل الذات عن الموضوع، بينما يرفض أتباع الاتجاهات الجديدة هذه الافتراضات مؤكدين صعوبة فصل الذات عن الموضوع.

وعليه نستطيع أن نقول أن العلاقات الدولية وكغيرها من العلوم، حاولت جاهدة منذ بدء ظهورها وإلى يومنا هذا، أن تصل للمعرفة من خلال الدراسات والنقاشات الجدل المعرفي والفكري, حيث حاول أصحاب التيارات المتأثرة بالوضعية، أن يؤكدوا أنَّ العلاقات الدولية كغيرها من العلوم الطبيعية يمكن دراستها عن طريق الملاحظة والتجريب، ورأى البعض الأخر أنَّ السبيل إلى المعرفة في العلاقات الدولية، يكون من خلال الرجوع إلى التاريخ والقانون الدولي والفلسفة، والبعض الآخر حاول أن يجد موقفاً وسطاً بين الموقفين السابقين.

إلا أن الثابت الذي لا جدل فيه هو أن التيارات الوضعية في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، كان لها الدور البارز ومازال، في محاولات قياس الواقع الدولي وتحليله للوصول إلى المعرفة.

المصادر والمراجع:

خالد موسى المصري, مدخل إلى العلاقات الدولية, دار نينوى للدراسات والنشر,سوريا-دمشق.

خالد موسى المصري, الوضعية ونقادها في العلاقات الدولية- دراسة نقدية للنظريات الوضعية, مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية, المجلد30- العدد الأول 2014 .

فيليب كابان و جان فرانسوا دورتيه, علم الاجتماع من النظريات الكبرى إلى الشؤون اليومية, ترجمة إياس حسن, دار الفرقد-دمشق, ط1-2010

نظرية المعرفة, مقال الكتروني, شبكة المرصد, 29 يناير 2017, http://www.ino-iraq.com/?p=296

المصدر: الموسوعة السياسية

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى