*مصطفى قطبي
يشكل الإعلام حجر الزاوية في الاستراتيجية الصهيونية منذ قيام الحركة الصهيونية على يد الصحفي اليهودي ”تيودور هرتزل” الذي استطاع عقد المؤتمر الصهيوني الأول في 1897 في مدينة بال بسويسرا حيث جاء في البند الثالث من مقرراته ”ضرورة العمل على نشر الروح والوعي بين يهود العالم وتعزيزهما لديهم من أجل دفعهم للهجرة إلى فلسطين”.
فالصهيونية أدركت منذ ما قبل تشكلها كحركة سياسية، أهمية الإعلام في إنجاح مشروعها، فقد خاطب الحاخام راستورون مستمعيه المجتمعين من أجل التهيئة لعقد المؤتمر الصهيوني الأول قائلا: ”إذا كان المال هو القوة التي نستطيع من خلالها السيطرة على العالم، فإن الإعلام لا يقل عنه قوة”. المؤتمر الصهيوني العام الأول، الذي انعقد في بازل، ينص في واحد من قراراته على أهمية السيطرة على وسائل الإعلام. منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، والحركة الصهيونية تحاول السيطرة دوماً على مفاصل الإعلام الرئيسية في العالم.
لقد نجحت الاستراتيجية الإعلامية الصهيونية وللأسف، عبر وسائلها الإعلامية العربية المأجورة في خلق الشحن النفسي وحتى المذهبي والطائفي وهو العامل المؤثر والأهم، ولعل كل متتبع عربي شاهد مدى الفرح الصهيوني بما يحدث الآن بالوطن العربي في زمن ”الحريق العربي”. فقد جاءته الفرصة التي كان يحلم بها من قبل. جاءته من داخل الوطن العربي لنشر الفوضى وهو ما كان يعمل على محوره بدأب صامت لفتح طريق (شرق أوسطي جديد) يخدم مصلحة الكيان الصهيوني.
تعتمد الاستراتيجية الإعلامية الصهيونية مبدأ التضليل بصفة عامة، يتم هذا من خلال الاختصار والاختزال والإبهام والغموض، وتوظيف جملة من الأدوات، بحيث يمكنها إصدار عدة أصوات مختلفة، فهناك صوت يساري معتدل، وآخر يميني متطرف، وثالث صوت وسط يقف بين الاثنين زاعماً الاعتدال، ثم يسمح لكل الأصوات بأن تظهر فيما يشبه الجوقة على أن يصل لكل متلق الصوت الذي يميل إليه. يقول ”مناحيم بيغن” رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق في أحد مؤلفاته: ”علينا أن نعمل، ولنعمل بسرعة فائقة قبل أن يستفيق العرب من سباتهم، فيطلعوا على وسائلنا الإعلامية الدعائية، فإذا استفاقوا ووقعت بأيديهم تلك الوسائل وعرفوا دعامتها وأسسها فعندئذ لن تفيدنا مساعدات أمريكا”.
لابد أن نعترف أنّ الاستراتيجية الإعلامية السياسية الصهيونية الحالية هي جزء لا يمكن فصله عن التاريخ اليهودي الصهيوني القديم والحديث، كما أنها من أسس بناء المشروع القومي الصهيوني العالمي القائم على بناء وتأسيس إسرائيل الكبرى أو إسرائيل التاريخية، الذي يتم توجيهه وإدارته من الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى وجه التحديد من قبل اللوبي الصهيوني الذي استطاع أن يسيطر على العديد من المراكز الحساسة في تلك الإمبراطورية، بل أن ينشأ فيها المركز الرئيسي للاستراتيجية الإعلامية السياسية الصهيونية في العالم، وذلك من خلال ذلك الكم الهائل من الصحف والدوريات والقنوات الإعلامية الفضائية ومراكز البحث والدعاية وغيرها الكثير من وسائل الإعلام الحديثة.
وفي حقيقة الأمر ليست الاستراتيجية الإعلامية السياسية الصهيونية، بما تحتويه في مضمونها من خداع وأكاذيب وتشويه لمعنى ومضمون حقيقة الإعلام، ليست نتاج الوجود الصهيوني الإسرائيلي الحالي في عالمنا العربي، أو نتاج الصراع العربي الإسرائيلي على وجه التحديد، وإنما هو نتاج وامتداد تاريخي لأيديولوجيا بشرية غريزية مبنية على الكراهية والحقد والكذب وفن الخداع على الآخرين منذ الأزل، وقد ورد في كثير من الكتب التاريخية السماوية اليهودية كإصحاح أشعيا وعاموس وأرميا وغيرها من الكتب والأصاحيح اليهودية ما يدل على هذه الحقيقة التي طالما تنصل منها اليهود الصهاينة. فهذا أرميا يتحدث عن غضب الله ورفضه جيلا بكامله من اليهود لأن الحق قد باد وتمزق بسببهم فيقول: (فتكلمهم بكل هذه الكلمات ولا يسمعون لك، وتدعوهم ولا يجيبونك، فتقول لهم هذه الأمة التي لم تسمع لصوت الرب ولم تقبل تأديباً، باد الحق وقطع عن أفواههم، جزي شعرك واطرحيه وارفعي على الهضاب مرثاة، لأن الرب قد رفض ورذل جيل رجزه) (أرميا 7: 28 ـ 29).
لقد أبرز الإعلام الصهيوني كل أسلحته في العديد من الوقائع التي أدت إلى هزيمة العرب عام 1948والغزو الإسرائيلي لسيناء عام 1956 وعدوان عام 1967 واستخدمت حرباً نفسية متكاملة، من خلال إثارة الفوضى والشائعات والرعب، وقد اعتمدت المنظمات الصهيونية العالمية بكل نفوذها، للضغط بكل ثقلها على الرأي العام الغربي، زارعة في وعيه صورة مضللة مستغلة السياسات الغربية لتقديم روايتها التي تزيف التاريخ ووقائع الحاضر… ومن الوسائل التي استخدمتها الصهيونية لتكريس روايتها كالمناورة والمراوغة، والابتزاز والتهديد، وتشويه صورة الخصم والتكرار. وثمة مغالطات تحاول الاستراتيجية الإعلامية الصهيونية تسويقها كحقائق، أو على الأقل كأمر واقع مثل:
ـ تؤكد الاستراتيجية الإعلامية الصهيونية، أن الجماعات اليهودية هي في واقع الأمر أمة يهودية واحدة لابد من جمع شمل أعضائها لتأسيس دولة يهودية في فلسطين، مع التزام الصمت الكامل حيال العرب لتغييبهم أو محاولة تشويه صورتهم إن كان ثمة ضرورة لذكرهم.
ـ من الموضوعات الأساسية التي تطرحها الدعاية الصهيونية قضية البقاء، فالكيان الصهيوني لا يقدم كمعتد يحتل أراضي الآخرين، وإنما كمن يحاول الحفاظ على البقاء والأمن فحسب.
ـ تركز الاستراتيجية الإعلامية الصهيونية على حقوق مدّعاة للمستوطنين الصهاينة، مع الإغفال المتعمد لحقوق السكان العرب أصحاب الأرض الأصليين.
ـ تغيب الاستراتيجية الإعلامية الصهيونية الازدواجية التي تطبعها، فهي تقدم المستوطن كمهدد في بقائه من قبل العرب، ولكنه في الوقت ذاته قوي للغاية إلى درجة أنه قادر على سحق أعدائه وضربهم في عقر دارهم.
ـ تؤكد الاستراتيجية الإعلامية الصهيونية على أن إسرائيل واحة للديمقراطية الغربية في وسط عالم عربي متخلف، ولا شك أن أحداث السنوات الأخيرة التي تتم تحت عنوان ”الربيع العربي”، قد قدمت ورقة مهمة للدعاية الصهيونية في الترويج لصورة ”العربي والمسلم” الشرير.
ـ تركز الاستراتيجية الإعلامية الصهيونية على قضية ما يتعرض له اليهود من عداء وكراهية، لا مبرر لهما، وعلى الإبادة النازية لليهود، وهي تهدف من هذا إلى ابتزاز العالم الغربي وتبرير عملية اقتلاع الفلسطينيين من بلادهم.
ـ توجهت الاستراتيجية الإعلامية الصهيونية إلى الجماعات اليهودية، مبينة لها أن وجودها في عالم الأغيار يهددها ويهدد هويتها بالخطر داعية إلى خروج اليهود من الجيتو والهجرة إلى ”إسرائيل”.
ـ تعتمد الاستراتيجية الإعلامية الصهيونية على شبكة إعلامية وثقافية واسعة تمتد على مساحة العالم الغربي، مستغلة صورة مسبقة للعرب زرعها الاستشراق، يعاد إنتاجها بين حين وآخر، لغايات استعمارية بحتة، كما حدث في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي، إذ عمد المحافظون الجدد واليمين المتطرف الحاكم في الولايات المتحدة إلى شيطنة العروبة والإسلام تمهيداً لغزو العراق، وما تلاها من أحداث لا نزال نعاني آثارها السلبية.
وحقيقة الأمر، إنّ الإعلام الصهيوني كان وما زال يتخذ من تلقين الذهن اليهودي بعقدتي الخوف من العرب وادعاء التفوق التكنولوجي والقيمي عليهم وسيلة لتحقيق أهدافه من أجل تنمية الشعور بالحقد والكراهية ضد كل ما هو عربي. ولا شك بأن الأساليب الإعلامية المختلفة التي ينتهجها الإعلام الصهيوني هي دليل واضح على أن الحركة الصهيونية هي من الحركات القليلة في هذا العالم التي أحسنت استخدام سلاح الإعلام، وسخرته لكي يصبح أداة قوية ومؤثرة في أيديها. والأساليب المستعملة في الإعلام الصهيوني كثيرة ومتشعبة ومتداخلة مع بعضها البعض، ولكن جميعها تفي بالغرض المطلوب سواء كان على صعيد الابتزاز أو الاستعطاف، أو أسلوب المناورة. ويرجع نجاح الاستراتيجية الإعلامية الصهيونية إلى عدة عناصر:
ـ تعدد المنظمات الدعائية وتنوعها وضخامة عددها واعتمادها التخطيط العلمي.
ـ تقوم الدعاية الصهيونية بتوظيف أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب، فهم يشكلون جزءاً عضوياً داخل الجسد الغربي على رغم استقلاله النسبي. ومن ثم تبدو الدعاية الصهيونية كما لو أنها ليست وجهة نظر دولة أجنبية وإنما تعبير عن مصالح أقلية قومية.
ـ غياب الدعاية العربية وفجاجتها في كثير من الأحيان.
ولكن السبب الحقيقي والأول لنجاح هذه الاستراتيجية، هو أن ”إسرائيل” كيان وظيفي أسسه التشكيل الحضاري والإمبريالي الغربي ليقوم على خدمته، ولذا فهي تحظى بكثير من التعاطف، لأن بقاءها كقاعدة للاستعمار الغربي جزء من الاستراتيجية العسكرية والسياسية والحضارية للعالم الغربي.
من هنا نجد أن عملية الدمج الكلي للإعلام بالسياسة الخارجية والعسكرية للكيان الصهيوني في ظل الدعم الغربي إعلامياً وسياسياً ومادياً وعسكرياً تحاول أن تبث في نفوس العرب اليأس والإحباط للتخلي عن المقاومة التي هي الطريق الوحيد لاستعادة الحقوق المغتصبة وهذا ما قاله رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق ”إسحاق رابين”: ”إن السياسة الإعلامية والدبلوماسية الإسرائيلية يجب أن تنطلق من أن ”إسرائيل” قد أصبحت حقيقة ثابتة في المنطقة العربية وأن مهمتها تتجسد في مواجهة العرب بتلك الحقيقة على الصعيد العالمي، وتوضيح مقدار عجز العرب في تغيير هذه الحقيقة المؤكدة التي يجب أن يقروا بها ويتصرفوا على ضوئها”.
ويتسم الإعلام الصهيوني بسمتين أساسيتين:
الأولى أنه دعاية منظمة ومخططة ذات أهداف استراتيجية واضحة، فهي تسبق الأحداث وتواكبها ولا تأتي في أعقابها. والثانية: أنه دعاية تركز على تكرار مجموعة من القضايا والدعاوى الباطلة التي يتم الالحاح عليها لترسيخها في الأذهان وتثبيتها في ذاكرة الإنسان حتى تصبح وكأنها حقائق يجب التسليم بها.
وفي هذا الإطار نجد أن الاستراتيجية الإعلامية الصهيونية، تركز على استخدام مصطلح ”النزاع العربي الصهيوني” بدلاً من مصطلح ”القضية الفلسطينية” لإيهام العالم أن ثمة طرفين متنازعين هما العرب والصهاينة لكل منهما حق في فلسطين وأن نزاعهما يدور حول هذا الحق كما يصر الإعلام الصهيوني على استخدام مقولة ”أرض إسرائيل” بدلاً من إسم فلسطين ليوحي للعالم أن فلسطين ليست أرضاً فلسطينية بل هي أرض إسرائيلية وأنها ملك لليهود وليس للفلسطينيين حق فيها.
من جهة أخرى يستخدم الإعلام الصهيوني منذ أواخر القرن التاسع عشر مصطلح ”الشرق الأوسط” بدلاً من عبارة الوطن العربي التي تؤكد عروبة هذه الأرض من المحيط إلى الخليج وما ”إسرائيل” إلا جسم غريب عن الوطن العربي. كما لم ينس العالم ما روجته الدعاية الصهيونية لمقولة: إن العرب يريدون إلقاء اليهود في البحر وكان ذلك تمهيداً للعدوان الصهيوني على العرب في 5 حزيران 1967 ولكسب عطف الرأي العام العالمي وتأييده.
وهكذا يقوم الإعلام الصهيوني بتلبيس الحق بالباطل وتصوير الضحية جلاداً والقتيل قاتلاً لتضليل الرأي العام وقلب الحقائق وطمسها وفي هذا الإطار يصور هذا الإعلام ”إسرائيل” قانون ”جيسو” الفرنسي الصادر عام 1990 والذي يسمح بمقاضاة المتهمين بمعاداة اليهود أو ما يعرف باسم معاداة السامية في خنق حرية الرأي لكل من يتجرأ على انتقاد السلوك الإسرائيلي، فقد مثل أمام القضاء الفرنسي عدد من المفكرين والكتاب والأدباء العرب والغربيين بتهمة التحريض على معاداة اليهود ومنهم الصحفي ”إبراهيم نافع” والمفكر الفرنسي ”روجيه غارودي” وغيرهما.
يقول الباحث الفرنسي ”دونيس سيفير” في كتابه الحرب الإعلامية الإسرائيلية الجديدة في الحرب، ”يجب أن يكون ثمة إعلام كامل يؤدي ذات الدور الذي تؤديه البندقية والطائرة النفاثة والقنابل التي تسقط آلياً على الضحايا، لأن الحرب سوف تكون مخططاً مدروساً يجب التحكم من خلاله والذي يرتبط فيما بعد بالعامل النفسي للصهاينة ومن ثم المجتمع الدولي الذي لا يجب أن يرى الحرب كما هي حقيقة بل كما يبثها له الإعلام الصهيوني فقط أي حرباً ”نظيفة” لا يموت فيها سوى الإرهابيين”.
ويوضح ”سيفير” الدور الخبيث لهذا الإعلام وكيف أنه يعتمد على مبدأ أكذب حتى يصدقوك والذي بكل أسف ـ كما يقول الكاتب ـ انحازت إليه دوائر إعلامية غربية كثيرة صدقت الخبث الصهيوني القائل إنه يدافع عن نفسه من الإرهاب والذي أيدته في حربه هذه كل الوسائل الإعلامية وغير الإعلامية الأميركية التي بدورها تخوض نفس اللعبة القذرة في كل من العراق وأفغانستان وأصبح الإعلام الجديد يدافع عن المجرمين على حساب الضحايا متناسياً أن صورة الضحايا أخطر وأكبر.
أما البروفسور الأميركي ”هودين” فيقول في كتابه ”سياسة التحكم”: أن التحكم بعقول الناس هو خداعهم بشكل منظم جيداً” ويقول: ”كلما زاد اطلاع الناس، كلما صعب التحكم في وعيهم، لذلك يبثون ما هو بديل للأخبار الفعلية كالأخبار الناقصة غير الموثقة والمحرفة عبر مثلاً شهود العيان والمراسلين الخاصين، والمدونين وغيرهم، وبقدر غياب الحقيقة يمكن التحايل على الوعي. ويلجؤون إلى الغش ـ وفبركة الوثائق لتصبح مزورة ويتم استخدام المونتاج في الصورة يدخل عليها عنصر التزوير، وكذلك التركيز على أحداث هامشية مثيرة لتحويل الاهتمام عما هو رئيسي في الحدث، وأحياناً يتم افتعال أحداث ليست ذات قيمة وتصويرها وكأنها فائقة الأهمية”.
فالإعلام الصهيوني يحوّل الضحية إلى جلاد والعكس صحيح، وثمة أسلوب خطير وهو تضخيم الحدث والأرقام أكثر بكثير مما هو واقع، المهم البحث عن صياغة للخبر ليصبح جذاباً ومثيراً، ولو كان ملفقاً حتى يتفق مع واضعي السياسة الإعلامية مسبقاً. يقول أحد المفكرين:” في مجال الظواهر الاجتماعية والأحداث الكبرى، لا يوجد مثال أكثر انتشاراً وأكثر نفاقاً من أبراز بعض جوانب الواقع وإخفاء الجوانب الأخرى، هذا لعب في الأمثلة من الضروري ليس انتقاء بعض الحقائق بل جميع جوانب الظاهرة وربطها مع بعضها البعض، ودون ذلك سيظهر حتماً الشك في المصداقية، والانتقاء المتعمد لبعض الجوانب هدفه تشويه الحقيقة”.
والعائد للتاريخ يستطيع أن يلمس أن الإعلام العربي لم يكلف نفسه عناء التصدي للدعاية الصهيونية في الغرب في الوقت الذي استطاع فيه الإعلام الغربي إقناع الرأي العام هناك بأن ما يفعله العرب أمر فيه تعصب وعنف وعدوانية، و فوق هذا مناهض للسامية… وللأسف المأسوف عليه، فالإعلام العربي في عموميته يخاطب المستويات المحلية بطابع كلاسيكي في غالبيته، لا يواكب التطورات في مختلف المجالات… يقدمها بسطحية وبمحاذير تقليدية، محاولا تقديم الحدث بالطريقة التي تريدها الحكومات، في زمن أصبح فيه كل شيء مكشوفا، فالشمس لا تغطى بغربال. الإعلام العربي تابع بالطبع لسياسات حكوماته. الحصيلة، انفضاض المشاهد العربي عن متابعة إعلام دولته والدول الأخرى الشبيهة، والانشداد لمعرفة ما يدور في بلدانه من خلال القنوات الأجنبية الناطقة بالعربية… وهذا للأسف الكبير والفعلي والمزعج، يتم يومياً.
ومن باب تأكيد المؤكد، فإننا أمام قضية لا يمكن أن ندير رؤوسنا عنها، وهي أنّ الإعلام الغربي التي تتحكم في مفاصله الصهيونية، حقيقة مؤلمة في حياتنا السياسية والثقافية ولن تنفع محاولات التقليل من شأنه وقدرته على الإساءة إلينا… إنه قوة هائلة، عريقة في النشوء، مذهلة في التطور كاسحة في التأثير تغطي القارات الخمس بلا منازع لتزرع في أذهان الشعوب ما تشاء في الصور، وتدفع بهم إلى ما تشاء من المواقف، لا تبالي في ما تتناوله من أحداث العالم بالعرض والتحليل إلا ما تراه خطأ أم صواباً معبراً عن قناعاتها.
إذاً ما العمل كي يواجه العرب الإعلام الغربي الموجه من قبل الصهيونية، مواجهة عقلانية تمنح دفوعهم مصداقية القبول بعيداً عن انفعالات الكبرياء؟!
أعتقد أن سبيلنا إلى ذلك أمران: تحصين الجبهة الداخلية من خلال استكمال النقص والإصلاح والحوار المتواصل الهادئ مع الإعلام الغربي على اختلاف مشاربه. وقد رأينا كيف تعمد الدول الكبرى إلى الاستعانة بالإعلام وهي تعد لعمل سياسي ضخم من أجل تهيئة الرأي العام الداخلي والخارجي لقبول ذلك العمل وتأييده كما حصل في أفغانستان والعراق…، ولن يفيدنا في شيء أن ندفع بالقول إنها حملات مغرضة بل علينا أن نرصد باهتمام مواقف وسائل الإعلام ونفتح معها حواراً صبوراً طويل النفس، هادئاً، نبدأه، بالخصوم قبل الأصدقاء ونتيح لها مداخل الاطلاع على ما تريد حتى لا يدفع بها انغلاقنا على النفس لتصورات واهمة واجتهادات خاطئة أو شائعات يروج لها المرجفون.
إن التحديات التي تواجهها المجتمعات العربية اليوم، تستدعي تفعيل دور الإعلام العربي لينهض بدوره التثقيفي المطلوب، وإن كان هذا الإعلام يمر بمخاض عسير نتيجة ارتباط بعض وسائله في فلك المؤامرة ضد الشعوب العربية التي تقف بوجه المشروع الصهيوني في المنطقة العربية. وبكل الأحوال هنالك جملة عناصر لرسم استراتيجية إعلامية عربية تتمثل في رسم خرائط معرفية للاتجاهات الإيديولوجية في الوطن العربي، ولعل أهمية هذه الخرائط أن تقضي على التعميمات الجارفة عن العرب والمسلمين التي تصوغها الدوائر الغربية السياسية والثقافية والإعلامية.
باحث وكاتب صحافي من المغرب.