دراسات سياسية

استراتيجية تغلغل الإخوان المسلمين في الغرب: قراءة في وثائق التنظيم الدولي للجماعة

بقلم فيصل عبدالله النقبي

وضعت جماعة الإخوان المسلمين لنفسها منذ تأسيسها عام 1928 هدفاً رئيسًا تمثل في الوصول إلى “أستاذية العالم”، فقد كان حسن البنا مؤسسها مقتنعاً بأن جماعته تتجاوز النطاق المحلي إلى العالمي، وأنها ذات رسالة وطموحات عالمية، ولهذا حرصت على التغلغل في الدول العربية والإسلامية، وعملت على اختراق الجاليات المسلمة في العديد من الدول الغربية اعتمادًا على عدة أدوات جمعت بين العمل الدعوي والخيري والسياسي.

وقد شكل تأسيس تنظيم الدولي للجماعة عام 1982 مرحلة مهمة في مسيرة تغلغل الجماعة خاصة في الولايات المتحدة وأوروبا، ليس لأنه يقوم بدور الذراع الخارجي للجماعة والدفاع عنها وتوضيح وجهة نظرها إزاء عدد من القضايا فقط، وإنما لأنه يعد أحد أهم مصادرها الرئيسية للتمويل. كما أنه يدير شبكاتها للمال والأعمال، ويمتلك العديد من الأذرع الإعلامية في أوروبا التي تسهل له التأثير في الرأي العام الدولي بما يخدم مشروعها السياسي.

لقد كانت جماعة الإخوان المسلمين تنظر إلى التنظيم الدولي باعتباره أداة محورية لتحقيق حلمها التاريخي المتمثل في “أستاذية العالم” من خلال إنشاء دولة عابرة للقارات؛ ولهذا عمل التنظيم على بناء مجتمعات موازية خاصة في الولايات المتحدة والدول الأوروبية، باعتبارها تمهد للقبول بالجماعة وأيديولوجيتها وأهدافها التي تبدو في ظاهرها دعوية وخيرية، ولكنها في الحقيقة ذات أهداف سياسية واضحة.

وتسعى هذه الدراسة، في هذا الإطار، إلى تحليل استراتيجية جماعة الإخوان للتغلغل في المجتمعات الغربية، وأهم الأدوات التي لجأت إليها في بناء مجتمعات موازية في هذه الدول، وذلك من خلال تحليل دور التنظيم الدولي للجماعة باعتباره أحد الفاعلين المؤثرين من غير الدول، ثم قراءة الوثائق الخاصة بالتنظيم الدولي للإخوان التي تستهدف اختراق المجتمعات الغربية، وأسباب تنامي القلق الغربي من أنشطة الجماعة في الآونة الأخيرة.

التنظيم الدولي للإخوان.. لماذا يشكل نموذجاً للفاعلين المؤثرين من غير الدول؟

لا يمكن فهم طبيعة دور التنظيم الدولي لجماعة الإخوان على الصعيد العالمي بمعزل عما يسمى بظاهرة “الفاعلين الجدد من غير الدول”، والذين لديهم القدرة على التأثير في التفاعلات ليس فقط داخل النظام السياسي لدولة ما، بل أيضا في العديد من الدول، بالنظر إلى أنهم يمتلكون القدرة على الحشد وتعبئة الموارد وتوظيفها في الترويج لأفكارهم وتحقيق أهدافهم العامة.

وهناك العديد من التعريفات للفاعلين من غير الدول، فهناك من يصفهم  باعتبارهم أي جماعة أو منظمة تتمتع بالاستقلال وبقدر من الحرية عند السعي إلى تحقيق أهدافها، وتتمتع بالنفوذ والقدرة على إحداث فرق تجاه قضية ما في سياق معين مقارنة بتأثير فاعل آخر في القضية نفسها[1]؛

وهناك من يعرفهم بوصفهم أولئك الذين يتصرفون خارج سيادة الدولة، سواء كانوا منظمات دولية غير حكومية أو شركات متعددة الجنسيات أو جمعيات أهلية أو مؤسسات إعلامية تشترك كلها في كونها تتجاوز الإطار الوطني ما جعل الحدود الجغرافية مخترقة تماماً[2]؛

ويتفق العديد من خبراء العلاقات الدولية في النظر إلى هؤلاء الفاعلين من غير الدول بوصفهم كيانات قد تقوم بوظائف الدولة ومهامها التقليدية نفسها، سواء في السيطرة على الموارد أو في اتخاذ القرارات السياسية التي يتجاوز مردودها حدود الدولة أو يكون لها انعكاسات إقليمية ودولية[3].

ويشترك الفاعلون من غير الدول في العديد من السمات، لعل أبرزها أنهم باتوا أكثر تأثيراً في التفاعلات الإقليمية والدولية، كالتنظيمات السياسية والجماعات المتطرفة والإرهابية التي باتت تقوم ببعض الأدوار التي كانت حكراً على الدول مثل السيطرة على الإقليم الدولة وعلى موارده، والمثال الدال على ذلك نموذج حزب الله اللبناني الذي بات يقوم بدور موازٍ للدولة اللبنانية، كما أنه يمتلك السلاح، وتبنى سياسة خارجية مستقلة عن سياسة الدولة تجاه عدد من القضايا، ويتمتع بشرعية ما في سياساته وسلوكه[4].

كما يتميز الفاعلون من غير الدول بقدر عالٍ من التنظيم، ويلجؤون إلى سياسة فرض الأمر الواقع للسيطرة على الإقليم مثل ميليشيات الحوثي في اليمن، وتقوم بعض الفواعل الأخرى بإنشاء هياكل إدارية بالتوازي مع الدولة[5]، والمثال على ذلك جماعة الإخوان  التي يتسم هيكلها التنظيمي والإداري بتطابقه مع الهيكل التنظيمي للدولة ومؤسساتها المختلفة إذ أن مكتب الإرشاد موازي للسلطة التنفيذية (مجلس الوزراء)، ومجلس الشورى يقوم بمهام البرلمان ويوازي (السلطة التشريعية)، ومكاتب الجماعة الإدارية هي نفسها المحافظات، والمناطق تنطبق حدودها مع الدوائر الإدارية والانتخابية تماماً.

وعلى الرغم من أن الكثير من الفاعلين الجدد في المجتمع الدولي مندرجين تحت مظلة المجتمع الدولي، بمنظماته وقوانينه، فإن العديد منهم يتجاوز حدود الدول في علاقاته، حتى إن هناك من يصف تأثير هذه النوعية من الجماعات بأنها باتت متغيراً حاسماً في تفاعلات المجتمع الدولي[6]، خاصة إذا كانت هذه الجماعات لديها قيادات دينية أو سياسية لديها القدرة على التأثير في الرأي العام الدولي.

ويمكن، في ضوء ما سبق، القول أن التنظيم الدولي للإخوان المسلمين يشكل نموذجاً للفاعلين المؤثرين من غير الدول على الصعيدين الإقليمي والدولي، وذلك بالنظر للاعتبارات التالية:

  1. يرتكز التنظيم الدولي للإخوان المسلمين على أيديولوجية دينية عابرة للحدود، وهي أيديلوجية لا تعترف أصلاً بالدولة الوطنية، ولا بالحدود مع الدول.
  1. يتجاوز تأثير التنظيم الدولي للإخوان المسلمين حدود العديد من دول العالم، بالنظر إلى امتلاكه فروعاً في العديد من دول العالم، ويمارس التنظيم تأثيراً نوعياً في تفاعلات المنطقة وفي مستقبل الدول فيها، لا سيما بعد ما يسمى “أحداث الربيع العربي” التي أتاحت للجماعة الوصول إلى السلطة في مصر (يونيو 2012 إلى يونيو 2013). كما حاول التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، بما يمتلكه من نفوذ وتأثير في العديد من الدول الأوروبية، تقديم الدعم للعديد من التنظيمات الإخوانية في بعض الدول العربية، على أمل تكرار تجربة مصر ثانية بعد “أحداث الربيع العربي”.
  1. يعبر التنظيم الدولي للإخوان المسلمين عن الهدف الجوهري لجماعة الإخوان المسلمين، المتمثل في “أستاذية العالم” التي أسس لها حسن البنّا، حيث عمل على التمدد في الدول العربية والإسلامية، وتبنّى استراتيجية للتغلغل الناعم في المجتمعات الغربية من خلال العديد من الأدوات، الثقافية والإعلامية، وبناء مجتمعات موازية فيها تمهيداً لإحياء “دولة الخلافة الإسلامية”.
  1. يهيمن التنظيم الدولي على مؤسسات فكرية دولية ومنظمات خيرية ووسائل إعلام عديدة في الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية، يوظفها في الترويج للجماعة من ناحية، والتحريض على الأنظمة المعادية له من ناحية ثانية[7].

استراتيجية التنظيم الدولي للإخوان المسلمين للتغلغل في المجتمعات الغربية

ركزت جماعة الإخوان المسلمين في سنوات نشأتها الأولى، وتحديداً في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، على التوسع في ثلاثة بلدان أوروبية رئيسية وهي فرنسا وألمانيا ثم بريطانيا لاعتبارات التاريخ والجغرافيا السياسية، بالنظر إلى أنها تعد أكبر بلدان الاتحاد الأوروبي من حيث المساحة وعدد السكان، فضلاً عن أنها تمثل مركز استقطاب للجاليات الإسلامية القادمة من البلدان العربية والإسلامية التي كانت خاضعة لتأثيرها الثقافي والاستعماري.

وقد وظفت الجماعة وجودها المؤسسي في البلدان الثلاثة في بناء شبكة من التحالفات والاعتماد المتبادل مع الكيانات الممثلة للكتل الإسلامية الرئيسية في العالم من خلال الانفتاح على الإسلام التركي الموجود بكثافة في ألمانيا[8]. وحينما تم تأسيس التنظيم الدولي للإخوان المسلمين عام 1982 واصل مساعيه الرامية إلى تعزيز تغلغله في الولايات المتحدة وأوروبا، ونجح في ترسيخ نفوذه في العديد من الدول الأوروبية، حتى أن نحو 95% من أنشطة التنظيم الدولي وهيكلته، باتت متمركزة في أوروبا وخصوصاً في المربع الكلاسيكي للتحرك الإخواني (بريطانيا – ألمانيا – سويسرا – بلجيكا)، هذا إضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا[9].

هذا وتنطلق استراتيجية التنظيم الدولي للإخوان المسلمين للتغلغل في المجتمعات الغربية من خلال أدوات متنوعة، يمكن توضيحها على النحو التالي:

  1. تأسيس ما يُشبه ” الغيتوهات المغلقة” الخاصة بجماعة الإخوان المسلمين والجاليات المسلمة بوجه عام، حيث يسعى التنظيم الدولي إلى إيجاد مجتمع منعزل خاص بالمسلمين، وفي الوقت ذاته العمل على إنشاء مجتمعات موازية، داخل المجتمعات الغربية، تسهم في تعزيز نفوذ الجماعة داخل الجاليات المسلمة، وتكون قادرة على التواصل مع السلطات الغربية من موقع القوة[10].
  1. السيطرة على العديد من المراكز الثقافية والجمعيات الخيرية في الدول الغربية التي تتبنّى أيديولوجية الجماعة وتعمل على خدمة أهدافها، ومن أبرزها على سبيل المثال: الجمعية الإسلامية لأمريكا الشمالية وهي أكبر منظمة للمسلمين في أمريكا الشمالية، وتُدير معظم المساجد والمراكز الإسلامية[11]. كما استطاع التنظيم الدولي نسج شبكة هائلة من العلاقات داخل العديد من الدول الأوروبية، عن طريق المساجد والمراكز الثقافية والجمعيات “الخيرية” التي تشترك جميعها في كونها عبارة عن واجهات لتنفيذ أهداف المشروع الإخواني في أوروبا، وبالذات عن طريق استخدام الجاليات العربية والإسلامية هناك[12].
  1. توظيف الأذرع الإعلامية المختلفة في رسم صورة مثالية لجماعة الإخوان المسلمين، وتقديمها للمجتمعات الغربية باعتبارها تؤمن بالديموقراطية واحترام حقوق الإنسان، وأنها تشكّل البديل الأمثل للحكم في الدول العربية والإسلامية، وهذا يظهر بوضوح في موقع جماعة الإخوان باللغة الإنجليزية الموجه للغرب، حيث يتحدث عن الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان، ويسوّق للجماعة على أنها متماثلة مع القيم الديموقراطية الغربية، بينما يخاطب موقع الجماعة باللغة العربية الشعوب العربية بلغة مختلفة، بمفردات يطغى عليها التحريض على العنف والثورة ضد الأنظمة الحاكمة.
  1. تعزيز التواصل مع الدول الغربية الفاعلة، وخاصة الولايات المتحدة؛ فكما هو معروف فإن التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين حاول على مدار السنوات الماضية بناء روابط مع مختلف الإدارات الأمريكية، وقد نجح بالفعل مع إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، حينما استغل انفتاحها على ما أسمته “الحركات الإسلامية المعتدلة” بعد أحداث “الربيع العربي” عام 2011.

وقد تحدثت وزيرة الخارجية الأمريكية، آنذاك، هيلاري كلينتون عن الحاجة إلى التعامل مع الحركات الإسلامية، وكشف العديد من كبار الدبلوماسيين ومسؤولي البنتاجون (وزارة الدفاع الأمريكية) أنهم عقدوا محادثات مشجعة مع مجموعة من قادة المعارضة، بمن فيهم جماعة الإخوان، وشهد عام 2012، عقد العديد من الاجتماعات رفيعة المستوى بين قادة الإخوان والمسؤولين الأمريكيين.

واستضاف البيت الأبيض في إبريل 2012 وفداً من ممثلي الإخوان بعد بضعة أشهر فقط من اجتماعات كبار ممثلي الولايات المتحدة (من بينهم وليام بيرنز، المسؤول عن العلاقات مع الإخوان) في القاهرة، لذا قام المسؤولون الأمريكيون بتقديم تقرير إيجابي إلى حكومتهم[13].وقد  أتاح هذا التواصل مع الدول الغربية الفاعلة، لجماعة الإخوان المسلمين هامشاً للحركة داخل هذه الدول، استغلته ليس فقط في تعزيز تغلغلها في المجتمعات الغربية، وإنما أيضاً في الترويج للجماعة، ومهاجمة العديد من أنظمة الحكم العربية، خاصة بعد الثلاثين من يونيو 2013.

وهذا التغلغل الإخواني في المجتمعات الغربية بات يثير قلق واشنطن والعديد من العواصم الأوروبية في السنوات القليلة الماضية، فقد تصاعدت المخاوف من عملية أسلمة أو “أخونة” الولايات المتحدة والدول الأوروبية التي يقوم بتنفيذها التنظيم الدولي للإخوان، بعدما نجح في تشكيل الرأي العام الإسلامي في هذه الدول وجذب الآلاف من الشباب والبالغين، ومحاولة تصوير الجماعة بالوجه المعتدل[14].

وبدا هذا القلق واضحاً في التحذيرات التي أطلقتها العديد من المؤسسات السياسية والأجهزة الاستخباراتية الغربية من محاولات جماعة الإخوان المسلمين التغلغل في المجتمعات الغربية، وفرض ثقافتها عليها؛ فعلى سبيل المثال، قد حذرت أصوات في البرلمان البريطاني عام 2014 من الأنشطة المتشددة للإخوان وتخطيطها لتأسيس قاعدة انطلاق لها في لندن لتنفيذ خططها في دول أخرى، لا سيما بعد لجوء عدد من قادة الجماعة من مصر إلى بريطانيا بعد أحداث 30 يونيو 2013[15].

كما وصف تقرير سويسري داخلي كتابات الإخوان المسلمين على أنها ذات “موقف غير متسامح، بل أعمى تجاه العادات والأفكار الغربية بشكل عام وتمقت – خصوصا – الغرب لأنه أصاب العالم الإسلامي بالنزعة المادية والنسبية، وهناك تحذيرات مستمرة، حول خطورة أفكار الجماعة[16]. وحذر أيضاً تقرير هيئة حماية الدستور الألمانية “الاستخبارات الداخلية” في ولاية بافاريا من التهديد المتزايد لجماعة الإخوان الإرهابية، وتحركاتها المعادية للدستور، ودعمها كيانات موازية لمؤسسات الدولة وبرامجها، ومساعيها لتأسيس نظام حكم شمولي لا يضمن سيادة الشعب أو مبادئ الحرية والمساواة.

ولفت التقرير ذاته الانتباه إلى أن “الجماعة تعمل على أخونة المجتمع الألماني، وتغيير الأنظمة التعليمية وجعلها تتماشى مع أفكارهم”[17].  كما حذر التقرير الصادر عن مجلس الشيوخ في فرنسا شهر يونيو 2020، مما أسماه تنامي “التطرف الإسلامي” في عدد متزايد من المناطق في فرنسا، وأن هناك “نزعة انفصالية” خطيرة تتنامى في بعض المدن الفرنسية بدعم من حركات الإسلام السياسي[18] في إشارة واضحة إلى جماعة الإخوان المسلمين.

التغلغل في المجتمعات الغربية.. قراءة في وثائق التنظيم الدولي للإخوان المسلمين

إن مساعي جماعة الإخوان المسلمين للتغلغل في المجتمعات الغربية ترتكز على رؤى واضحة واستراتيجيات مدروسة تم الإعداد لها بعناية من جانب الجماعة، وهناك العديد من الوثائق التي تؤكد ذلك بوضوح، لعل أبرزها الوثيقة التي تحمل عنوان “مذكرة تفسيرية: الهدف الاستراتيجي العام للجماعة في أمريكا الشمالية”، والتي أعدها القيادي الإخواني محمد أكرم عام 1991.

شكل رقم (1)

مذكرة تفسيرية للهدف الاستراتيجي العام للجماعة في أمريكا الشمالية

2مذكرة تفسيرية للهدف الاستراتيجي العام للجماعة في أمريكا الشمالية

 وتستند هذه المذكرة في جوهرها إلى الهدف الاستراتيجي العام للجماعة في أمريكا، والمعتمد من قبل مجلس الشورى والمؤتمر التنظيمي عام 1987، والقاضي بـ “تمكين الإسلام في أمريكا الشمالية؛ أي إيجاد حركة إسلامية فعالة ومستقرة بقيادة الإخوان المسلمين تتبنى قضايا المسلمين محلياً وعالمياً، وتعمل على توسيع القاعدة الإسلامية الملتزمة، وتهدف إلى توحيد وتوجيه جهود المسلمين، وتطرح الإسلام كبديل حضاري، وتدعم دولة الإسلام العالمية أينما كانت”[19].

وتشير هذه المذكرة بوضوح إلى أن الهدف الأساسي لجماعة الإخوان المسلمين هو تطبيق الشريعة الإسلامية في الولايات المتحدة الأمريكية، تمهيداً لإقامة الخلافة الإسلامية العالمية، وحسب هذه المذكرة، فإن الخطوة الأولى في خطة الجماعة هي العمل على تعزيز نفوذ الجماعة في المجتمع الأمريكي. وتوضح المذكرة أن الهدف الرئيسي للإخوان هو أن يكون الإسلام وحركته جزء من الوطن الذي يحيا فيه، وأنه كي يتم تحقيق “التوطين” للإخوان المسلمين في الولايات المتحدة وأمريكا الشمالية بوجه عام، يجب تقييم المراحل التي مر العمل الإسلامي في أمريكا، وتتمثل هذه المراحل في:

  • مرحلة البحث عن الذات وتحديد الهوية؛
  • ومرحلة البناء الداخلي وإحكام التنظيم؛
  • ومرحلة المساجد والمراكز الإسلامية؛
  • ومرحلة إنشاء المؤسسات الإسلامية؛
  • ومرحلة إنشاء المدارس الإسلامية؛
  • ومرحلة التفكير في الحركة الإسلامية العلنية؛
  • ومرحلة الانفتاح على الحركات الإسلامية الأخرى ومحاولة الوصول إلى التعامل معها؛
  • ومرحلة إحياء إنشاء المؤسسات الإسلامية واستكمالها.

وتتضمن هذه المذكرة قائمة بـ 29 منظمة ومؤسسة صديقة للإخوان المسلمين في أمريكا الشمالية، تحت عنوان “قائمة بمؤسساتنا ومؤسسات أصدقائنا”، أبرزها: الجمعية الإسلامية لأمريكا الشمالية، وهي أكبر منظمة للمسلمين في أمريكا الشمالية؛ وتعمل على تحقيق الوحدة بين المسلمين كلهم فيها، وتسيطر على ما لا يقل عن 80% من المساجد داخل كندا وأمريكا، بعد توغلها في أكثر من منحى من نواحي الحياة للمواطنين الكنديين المسلمين، ليتم تسميتها باسمها الحالي، عام 1980، بالرابطة الإسلامية لأمريكا الشمالية.

شكل رقم (2)

قائمة بالمؤسسات التابعة للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين في أمريكا الشمالية كما وردت في وثائق التنظيم

2قائمة بالمؤسسات التابعة للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين في أمريكا الشمالية كما وردت في وثائق التنظيم

وتتبنّى هذه الجمعية أيديولوجيا جماعة الإخوان المسلمين، وتعتنق أفكار مؤسس الجماعة حسن البنّا[20]. وهناك أيضاً المعهد العالمي للفكر الإسلامي الذي تأسس عام 1981 وسجل في الولايات المتحدة الأمريكية، ومقره العام في (هيرندن) بضواحي العاصمة الأمريكية واشنطن، وله فروع ومكاتب في عدد من العواصم العربية والإسلامية والعالمية، ويشرف على أعماله مجلس أمناء ينتخب من بين أعضائه رئيساً له بصورة دورية[21].

ويعد المعهد العالمي للفكر الإسلامي أحد أدوات التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، قدّم تعزيزات لخطاب الإسلام السياسي، وتبني نظريات وتوجهات تصب في خدمته، ويعد امتداداً لمخاطبة الغرب ومناقشته من منظور جماعة الإخوان المسلمين وحركات الإسلام السياسي بوجه عام، وهو ما بدأه “الإخواني” سعيد رمضان وابنه طارق رمضان[22].

وتكشف هذه المذكرة بوضوح أهداف الجماعة في الولايات المتحدة وطريقة عملها وهيكلها والأدوات التي تستند إليها في اختراق المجتمع الأمريكي، وقد حذرت دراسة أمريكية[23] من خطورة هذه المذكرة، مشيرة إلى أنه في الوقت الذي يُنظر فيه إلى بعض قيادات جماعة الإخوان باعتبارهم قيادات المجتمع الإسلامي في الولايات المتحدة ويتم التعامل معهم باعتبارهم شركاء في مكافحة الإرهاب، فإنهم يخططون لاختراق للحكومة الأمريكية والمجتمع المدني.

الوثيقة الأخرى التي تكشف مخططات جماعة الإخوان للتغلغل في المجتمعات الغربية هي وثيقة سرية عثرت عليها الشرطة السويسرية بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، بعدما نفذت مداهمة ليلية مفاجئة على فيلا فخمة يملكها رجل الأعمال الإخواني “يوسف ندا”، رئيس “بنك التقوى” وأحد كبار أقطاب المال الإخوانيين. والوثيقة كانت ضمن ما صادرته الشرطة من إحدى خزائن الفيلا المصفحة وقد حملت عنوان: “المشروع الكبير”، أي مشروع الإخوان المسلمين للسيطرة على أوروبا والولايات المتحدة والعالم كله.

شكل رقم (3)

وثيقة عن استراتيجية جماعة الإخوان المسلمين التي تم كشفها في بيت يوسف ندا

مؤرخة 1 ديسمبر 1981

2وثيقة عن استراتيجية جماعة الإخوان المسلمين التي تم كشفها في بيت يوسف ندا

وقد بيّنت التحقيقات في ما بعد أن هذا المخطط قد سُلِّم إلى ندا قبل عشرين عاماً على ذلك التاريخ. وتكشف هذه الوثيقة عن استراتيجية الإخوان لاختراق المجتمعات الأوروبية، والعمل على أسلمتها، حيث تشير إلى أن جماعة الإخوان تدرك جيداً أن المسلمين لا يتعرضون إلى الاضطهاد في الديموقراطيات الغربية، إلا أنها تعمل على زرع التشتت داخل المجتمعات الإسلامية في الغرب، عن طريق تأكيد شعور الاضطهاد ما يؤدي بهذه الأقلية إلى التقوقع أو الانفصال عن المجتمع، ما يدفعها إلى التعصب والعمل تدريجياً نحو محاولة أسلمة المجتمع من خلال التبشير بقيم متشددة على حساب قيم التسامح والانفتاح.

وكمثال على استراتيجية “التفكيك” هذه، الخطاب الذي ألقاه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في كولونيا الألمانية في فبراير 2018 أمام مئات المسلمين ذوي الأصول التركية-الألمانية رداً على دعوة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى دمج الأتراك بشكل أكبر في الثقافة الألمانية. إذ قال بالحرف الواحد: “الاندماج أو الاستيعاب جريمة ضد الإنسانية”؛ ويكشف هذا أحد جوانب الاستراتيجية التي يغزو بها التنظيم الدولي تلك المجتمعات، والتي تستند إلى تغذية الفكر المتطرف داخل عقول المسلمين وخلق مظهر خارجي يميزهم عن غيرهم، ثم دفعهم إلى العيش بمعزل عمن يصفونهم بـ”الكافرين”[24].

هاتان الوثيقتان لا يمكن الفصل بينهما فهما يعبران عن أهداف المشروع الإخواني والآليات التي تلجأ إليها الجماعة من خلال التغلغل الناعم في المجتمعات الغربية، ففي البلدان كلها التي ينشط فيها الإخوان يعززون وجودهم من خلال دعم التنظيمات الخيرية والجامعية والرياضية والإعلامية، حيث يبدؤون فور وجودهم في هذه المجتمعات في بناء مدارس ومصحات ونوادٍ رياضية ويقدمون قروضاً مصغرة دون ربا للمسلمين الذين يتبنّون مبادئهم الأيديولوجية، مثلما حددها مؤسس الجماعة حسن البنّا وطورها صهره سعيد رمضان، ولهذا فقد تغلغلوا تدريجياً في غالبية المؤسسات الأكاديمية الغربية، مثل المعهد الإسلامي في لندن الذي يشرف عليه المرحوم كليم صدّيقي المواطن البريطاني من أصول هندية الذي كان يكافح، لكي يتمكن المسلمون في بريطانيا من تطبيق الشريعة الإسلامية[25].

ولا شك في تركيز جماعة الإخوان المسلمين على التغلغل في المجتمعات الغربية لا ينفصل عن الهدف الرئيسي للجماعة، والمتمثل بالأساس في “بناء الدولة الإخوانية” العابرة للقارات، فنشر أيديولوجيا الجماعة في الولايات المتحدة وأوروبا وأسلمتها، يمهدان لإقامة الدولة الإخوانية العابرة للقارات، وهذا الهدف كان في ذهن مصطفى مشهور المرشد الخامس لجماعة الإخوان المسلمين حينما شرع في تأسيس التنظيم الدولي للإخوان المسلمين عام 1982، فقد جعل التنظيم الدولي ترجمة لأفكار مؤسس الجماعة حسن البنّا الخاصة بالدولة الوطنية وأستاذية العالم.

ولذا فإن التنظيم الدولي بعد سعة الانتشار في العديد من دول العالم، جاء تعبيراً عن عالمية الإخوان، ومكّن الجماعة من الانتشار، تنفيذاً لوصية البنّا، وهي أن تستفيد الجماعة مما سمّاه “عصر التكوين”، لتمكين الجماعة من الوجود في الأقطار كافة، ومن ثم إعلان ميلاد الدولة الإخوانية، وهي بمنزلة “دولة خلافة” تجمع التنظيمات القُطْرِية المختلفة[26]. في الوقت ذاته، فإن سعي جماعة الإخوان المسلمين إلى إقامة “دولة إسلامية عالمية” تحت سيطرتها، يعني إسقاط تلك الحكومات الإسلامية غير الخاضعة لحكم “الإخوان” على المدى البعيد[27].

خاتمة

لقد كشفت خبرة السنوات الماضية أن جماعة الإخوان المسلمين تتبنى استراتيجية واضحة ومدروسة للتغلغل في المجتمعات الغربية، ولجأت في ذلك إلى أدوات القوة الناعمة، من أنشطة خيرية ودعوية وإنسانية وثقافية وإعلامية، لإقناع الجاليات الإسلامية بالانضمام إليها وتبني أيديولوجيتها الفكرية والعقائدية. وقد استطاعت الجماعة توظيف مناخ الانفتاح الذي تشهده الولايات المتحدة وأوروبا في بناء منظومة من المراكز الثقافية والدينية والسياسية التي تخدم أهدافها، لكن بدأ القلق يتنامى من الجماعة وأنشطتها في الآونة الأخيرة، حينما انكشفت أهدافها الحقيقية من وراء التغلغل الناعم في هذه المجتمعات وبناء مجتمعات موازية فيها، تمهد لبناء دولتها العابرة للقارات “دولة الخلافة الإسلامية”، فقد أدركت العديد من العواصم الأوروبية أن هذه الجماعة بأيديولوجيتها الفكرية وأنشطتها الغامضة تمثل خطراً كبيراً على أمنها واستقرارها بل ومرتكزات الدولة الوطنية فيها، ولهذا بدأت تتحرك لتحجيم نفوذها والحيلولة دون تهديدها للقيم الأوروبية التي تؤمن بالانفتاح والحوار والتعايش .


قائمة الهوامش

  1. للمزيد من التفاصيل عن مفهوم الفاعلين من غير الدول، يمكن الرجوع إلى: شهر زاد أدمام، الفواعل العنيفة من غير الدول: دراسة في الأطر المفاهيمية والنظرية، دورية “سياسات عربية”، العدد 69، نيسان- أبريل 2014، ص ص 69-82
  2. James N. Rosenau, Turbulence in World Politics: A Theory of Change and Continuity, (Princeton: Princeton University Press, 1990, p 36
  3. للمزيد من التفاصيل عن هذا الاقتراب، يمكن الرجوع إلى:

Luc Sindjoun, “Transformation of International Relations: Between Change and Continuity: An Introduction; International Political Science Review, Vol 22, No 3, July 2001, p 225

  1. إيمان رجب، الهوية المركبة أم المصلحة؟ محددات سلوك الفاعلين العنيفين من غير الدول في الشرق الأوسط، كراسات استراتيجية، العدد (255)، (القاهرة، مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية)، أغسطس 2015، ص ص 6-7.
  2. د مروة كامل البستنجي، دور ثورات الربيع العربي في تعظيم أثر الفاعلين الجديد من غير الدول من وجهة نظر النخبة السياسية الأردنية، (ألمانيا، المركز الديموقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، 2018)، ص ص 62-63.
  3. Paul Reuter, nstitutions internationales, Translated by J.M. Chapman, (London: Allen &​ Unwin, 1958) p17-
  4. مكتب الإرشاد الدولي.. المظلة الكبرى للتنظيمات الإخوانية، سكاي نيوز عربية، 24 يناير 2016، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/2K3oR3x
  5. الجغرافيا السياسية لجماعة الإخوان في أوروبا، مجلة روسيا الآن، 5 سبتمبر2015، من خلال الرابط التالي https://bit.ly/39sgQPG
  6. صلاح الدين حسن، إطاحة “مرسي” تشلّ قدرات التنظيم الدولي للإخوان (4-4)، موقع حفريات، 29 مايو 2015، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/3ksseS7
  7. سامي أبو داود، من بروتوكولات جماعة الإخوان المسلمين في الغرب، موقع حفريات، 1 مارس 2018، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/2X8uinW
  8. للمزيد من التفاصيل عن آليات التنظيم الدولي لاختراق المجتمع الأمريكي، يمكن الرجوع إلى الدراسة التالية:

Cathy Hinners, Muslim Brotherhood: The Threat in Our Backyard, Space Independent Publishing Platform, April 2016.

  1. هاشم صالح، خطة السيطرة على العالم، صحيفة الاتحاد (أبوظبي)، 7 ديسمبر 2017
  2. للمزيد من التفاصيل عن طبيعة الاتصالات بين جماعة الإخوان المسلمين وإدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما يمكن الرجوع إلى:

Mohamed-Ali Adraoui, The Unfinished History Between America and the Muslim Brotherhood, Hudson Institute, July 12, 2019, https://bit.ly/2VLzAGe

  1. atmane tazaghart, Muslim Brotherhood, a European danger, global watch analysis, https://bit.ly/2VNaA1j
  2. إبراهيم غالي، دلالات تحقيق بريطانيا في أنشطة جماعة الإخوان، (أبوظبي، مركز المستقبل للدراسات المتقدمة)، 8 إبريل 2014، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/35fQIY9
  3. Daniel Rickenbacher, The Muslim Brotherhood in Switzerland — The First Decades, European Eye on Radicalization, 6 June 2019, https://bit.ly/2KELQSN
  4. Rami Dabbas, Muslim Brotherhood’s secret plan to undermine Germany exposed, May 18, 2020, https://bit.ly/3cYMPdb
  5. فرنسا: تقرير لمجلس الشيوخ يحذر من “التطرف الإسلامي” المتزايد في البلاد، موقع فرانس 24، 9 يوليو 2020، من خلال الرابط التالي:  https://bit.ly/2J5kibJ
  6. للمزيد من التفاصيل حول هذه المذكرة، أنظر الشكل رقم (1)
  7. The History and Structure of Islamic Organizations in the United States, European Eye on Radicalization, 19 August 2019, https://bit.ly/2Y809qX
  8. للمزيد من التفاصيل عن نشأة المعهد وأهدافه يمكن الرجوع إلى الموقع الرسمي للمعهد على شبكة الإنترنت من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/2yLBoGa
  9. عبدالله بن بجاد العتيبي، “إخوان الخليج” والمعهد العالمي للفكر الإسلامي، صحيفة “الاتحاد” (أبوظبي)، 3 فبراير 2014.
  10. للمزيد من التفاصيل حول هذه الدراسة، يمكن الرجوع إلى:

Frank J. Gaffney, Jr. David Reaboi., An Explanatory Memorandum: From the Archives of the Muslim Brotherhood in America, Center for Security Policy, March 8, 2013,  https://bit.ly/3klCiwa

  1. للمزيد من التفاصيل حول هذه الوثيقة، يمكن الرجوع إلى الشكل رقم (3) .
  2. Zidane Meriboute, International Development Policy, Revue Internationale de politique de développement, 27 August 2014, connection: http://journals.openedition.org/poldev/1833
  3. دعاء إمام، مصطفى مشهور.. صاحب خطة الصدام مع الدولة، موقع المرجع.. دراسات وأبحاث استشرافية حول الإسلام الحركي، 20 يوليو 2018، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/2IksW29
  4. Eric Trager, The Muslim Brotherhood Is the Root of the Qatar Crisis, The Washington Institute for Near East Policy, July 2, 2017, https://bit.ly/2yzNsuk

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى