دراسات سياسية

اسرائيل في أدبيات المفكر الروسي ألكسندر دوغين

إعداد: أ. د. وليد عبد الحي.[*]
(خاص بمركز الزيتونة).

مقدمة:

ما إن تفكك الاتحاد السوفييتي في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، حتى بدأت رحلة فكرية بين القادة والمفكرين الروس لتحديد هوية الدولة الجديدة، ويبدو أن الفوضى والتراجع الاقتصادي وفقدان المكانة الدولية أسهم في تحفيز النخبة الروسية لتحديد المعالم المركزية للهوية من ناحية، والاستراتيجية الروسية من ناحية ثانية، وهو ما تبلور بشكل واضح مع تولي الرئيس فلاديمير بوتين Vladimir Putin السلطة سنة 2000، وبدأ يطرح افكاره تباعاً حول “تَشكُّكه في المنظور الليبرالي بنسخته الغربية، وتأكيده على منظومة القيم الروسية، واحترام مكانة الكنيسة الأرثوذكسية، والدعوة إلى قيم العائلة، وأخيراً رفض الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي”.[1]

ويرى الدارسون للسياسات الروسية منذ سنة 2000 أن التوجهات السابقة هي صدى لتوجهات أبرز المنظرين السياسيين في روسيا وهو ألكسندر دوغين Aleksandr Dugin، بل يجمع المحللون السياسيون بغض النظر عن اتجاهاتهم السياسية على “تأثير” أفكار دوغين على النخبة السياسية الحاكمة في روسيا، لكن الخلاف بينهم يتمحور حول “وزن” هذا التأثير، والذي يراه البعض كبيراً إلى حدّ اعتبار دوغين بأنه “عقل بوتين السياسي”،[2] بينما يرى آخرون تأثيره دون هذا الوصف مع الإقرار بالتأثير.[3]

ونظراً لغزارة وتنوع إنتاج دوغين الفكري، فإننا سنركز مناقشتنا على موقفه من الاستراتيجية الروسية تجاه الشرق الأوسط بشكل عام، وتجاه الموقف من “إسرائيل” بشكل خاص، لكن ذلك أمر صعب دون تحديد الإطار النظري لرؤية دوغين للعلاقات الدولية المعاصرة، والتي يمكن فهم موقفه من الشرق الأوسط و”إسرائيل” من خلالها بشكل أكثر وضوحاً.

ثمة قدر من الإجماع بين الباحثين في الفكر السياسي الروسي المعاصر على أن ألكسندر دوغين هو أحد أبرز من يمثل هذا الفكر، ويصنفه الباحثون على أنه تعبير عن النسخة الروسية لتوجهات اليمين الأوروبي المتطرف.

ونعتقد أن جوهر تنظيره السياسي الأكثر أهمية في الأدبيات الروسية السياسية المعاصرة يتجلى في دراستين هما “أسس الجغرافيا السياسية: مستقبل روسيا الجيو سياسي The Foundations of Geopolitics: Russia’s Geopolitical Future”، ودراسته الثانية “النظرية السياسية الرابعة The Fourth Political Theory”.

وسنحاول أن نتوقف مع الأفكار المركزية في هاتين الدراستين خصوصاً من الجوانب ذات الصلة بموضوعنا، على الرغم من الإقرار بأن دوغين له عدد كبير من الدراسات، وتنقل بين عدد من الحركات السياسية ذات التوجهات المختلفة، إلى جانب أنه عمل في هيئات رسمية وأكاديمية عديدة، وهو ما ترتب عليه “التباس” بين الباحثين في تحديد توجهاته في بعض الجوانب.

يبدو دوغين في نظريته الجيوسياسية أقرب إلى صموئيل هنتينغتون S.Huntington في صدام الحضارات منه إلى فرانسيس فوكاياما F.Fukuyama في “نهاية التاريخ”، فهو يقسم العالم إلى أربع مناطق متنافسة هي: الأمريكية، والأفروأوروبية، والباسيفيكية الآسيوية، والمنطقة الأوراسية (وهي الكتلة التي يوليها دوغين عنايته الفكرية الأكبر). كما أن دوغين يعيد الجدال المعروف حول نظريات الصراع بين القوى البرية لماكيندر Mackinder، والقوى البحرية لماهان Mahan)، واستناداً لتقسيمه هذا يرى أن الصراع سيدور بين هذه المناطق، لذا فإنه يقترح لروسيا ما يلي:[5]

1. التحالف مع ألمانيا التي تمثل قلب القارة الأوروبية، وقد بنى دوغين شبكة علاقات مع اليمين الأوروبي لتدعيم هذا التوجه على الرغم من بعض التباينات في النظرة العامة لكل منهما.

2. التحالف مع اليابان.

3. منح إيران مكانة خاصة في العالم الإسلامي (على حساب تركيا)، انطلاقاً من موقفها الرافض للعولمة الأمريكية، وهو يرى أن هذا التحالف الذي تبنيه روسيا لنفسها هدفه مقاومة القوى البحرية.

4. يدمج دوغين الأراضي السوفييتية السابقة مع الكتلة الأوراسية إلى جانب دمج أوروبا الشرقية ومنشوريا والقطاع الأرثوذكسي في البلقان امتداداً إلى شواطئ المحيط الهندي.

5. تبدو نظرته للشيعة في الكتلة الإسلامية أكثر إيجابية من نظرته للسنية خصوصاً في طبعتها الوهابية.

أما نظريته السياسية العامة، النظرية الرابعة،[6] والتي تستهدف تقويض أسس نظرية العولمة بمضمونها الليبرالي الديموقراطي، فهو يرى أن لا وجود لقيم عالمية، بل قيم ثقافية لكل قومية، وكل محاولة لتحدي القيم القومية في أي مجتمع تتم مواجهتها بقوة في كل مجتمعات العالم. فوفقاً لدوغين عرف العالم ثلاث نظريات سياسية في مرحلة الحداثة هي: الليبرالية الديموقراطية، والماركسية، والفاشية، وهو يقترح نظرية جديدة توظف بعض معطيات هذه النظريات، فكما أن لكل نظرية من النظريات الثلاثة وحدة تحليل مركزية، فإن وحدة التحليل المركزية لنظريته الرابعة ليس الفرد (كما في الليبرالية)، وليس الطبقة (كما في الماركسية)، ولا الأمة (كما في الفاشية)، بل في ما يسميه دوغين الأبدية (أو الوجودDasein )، والتي تتم من خلال صياغة نظرية تقوم على فلسفة متعالية تؤمن بعالم متعدد وأخلاقي، عالم يعترف بالشعوب الأخرى وبحريتها بعيداً عن قيم المركزية الغربية المفروضة، وتحترم هذه الفلسفة التقاليد والعائلة والأديان.

وتمر هذه النظرية عبر ثلاث مراحل:

• المرحلة الأولى أو المرحلة الفردية: هي الإسهام في تطوير التقاليد.

• المرحلة الثانية: هي إعادة التأكيد على تفوق قوانين الكنيسة، أو على سبيل المثال الشرائع الدينية.

• المرحلة الثالثة أو المرحلة الاجتماعية: هي المساعدة في استعادة وإحياء تقاليد التسلسل الهرمي لبنية مجتمعات القرون الوسطى.

ومع ذلك، فإن دوغين ليس مجرد “منشئ” لأيديولوجيا بسيطة محايدة، بل هو يسعى إلى “إضفاء الطابع الروسي” على المذاهب التي تلهمه، وتكييفها مع ما يسميه المفاهيم التقليدية للعالم الروسي، والتي ترتكز بشكل أساسي على النزعة القومية والمعتقد الأرثوذكسي، ومناهضة الحداثة ورفض القيم الأمريكية.

ويبدو موقفه العدائي للمنظور الليبرالي الغربي من المفهوم الذي أطلق عليه اسم “النوماخيا Nomachia” أو حرب العقول، والذي يعني رفضه لنظرة التسلسل الحضاري (حضارة أعلى، وحضارة أدنى)، فالحكم على الحضارات والثقافات هي مهمة أصحاب هذه الثقافات وليست مهمة من هو خارجها، وهذا التعدد الحضاري والثقافي يتسق في رأيه مع دعوته إلى التعددية القطبية في النظام الدولي، فالتعددية الثقافية والقومية تبرر التعددية القطبية.[7]

وفي إطار نظرته للنظام الدولي المعاصر يرى “أن روسيا تعيد تأكيد نفسها ليس على أنها القطب الثاني في النظام ثنائي القطب الجديد، ولكن كواحد من الأقطاب القليلة في سياق نظام متعدد الأقطاب تقف فيه روسيا (عسكرياً، وعلى مستوى الجغرافيا والموارد الطبيعية) مع الصين (اقتصادياً) كطرفين يشكلا مع الغرب شيئاً يشبه النظام الثلاثي الأقطاب. لكن الهند والعالم الإسلامي وأمريكا اللاتينية وإفريقيا يمكن أن تشكّل يوماً ما أقطاباً أخرى مكتفية ذاتياً. لذا، فإن الجغرافيا السياسية الروسية للدولة العظمى تتطور الآن في سياق جديد للتعددية القطبية. وكالعادة، ما تزال روسيا “القوة البرية” التي تعارض “القوة البحرية”، لكن الصين هي كذلك القوة البرية التي لها الخصم العالمي نفسه تماماً، أي الغرب الليبرالي. ومن هنا يبدو تبرير التعاون العربي الإسلامي مع روسيا والصين لا على أساس أيديولوجي أو منظومة قيمية، ولكن على أساس أن لهم جميعاً العدو نفسه، وهو الغرب الليبرالي.[8] وهو ما يعني أن نقطة التلاقي بين روسيا والصين مع العرب والمسلمين هي العداء الاستراتيجي للمنظور الغربي المعاصر.

ثانياً: موقفه من “إسرائيل”:[9]

سنتناول موقف دوغين من “إسرائيل” من خلال عدد من المحاور:

1. موقفه الفكري من اليهودية والسامية:

من خلال متابعة بروز دوغين وتطوره الفكري في فترة ما بعد الانهيار السوفييتي، لا يبدو موقفه من الدين اليهودي والفكر الصهيوني والسياسة الإسرائيلية مستقراً، ففي بدايات نشاطاته السياسية والفكرية قبيل انهيار الاتحاد السوفييتي، ارتبط بعلاقات مع حركات كانت متهمة من قبل اليهود في الاتحاد السوفييتي بأنها حركات “معادية للسامية”، مثل حركة باميات Pamiat؛ وهي حركة قومية كان أغلب أعضائها من جمعيات المؤرخين، كما ارتبط في فترة قصيرة بصحيفة زافترا Zaftra المتهمة بالتهمة نفسها.[10] لكننا سنرى لاحقاً كيف تقارب مع توجهات اليمين الإسرائيلي في بعض الجوانب.

يستعير دوغين من إياكوف برومبيرغ Iakov Bromberg فكرة التمييز بين اليهودية الأوراسية واليهودية الأطلسية،[11] لكنه يختلف معه في موضوع الاندماج اليهودي في المجتمعات التي يعيشون فيها، فبرومبيرج كان يدعو لإشراك يهود الإمبراطورية الروسية في بناء أوراسيا من ناحية، كما يدعوهم من ناحية ثانية إلى تنمية خصوصياتهم دون محاولة الاندماج مع الروس، واستخف بيهود أوروبا الغربية الذين عدّهم حاملي الحداثة السياسية والاقتصادية عبر الرأسمالية والشيوعية، كما انتقد اندماجهم بشكل مفرط في العالم الروماني الجرماني. بينما دوغين أقام التمييز على أساس التمييز بين نوعين من اليهود: الأول هو اليهود “الطيبون “؛ وهم مواطنو “إسرائيل”، واليهود الذين يختارون مغادرة بلادهم والهجرة لـ”إسرائيل”، مبرراً ذلك بأنه يشير إلى وعيهم بخصوصياتهم اليهودية غير القابلة للاختزال. أما النوع الثاني فهم اليهود “السيئون”؛ وهم أولئك الذين يستمرون في العيش في الشتات ويحاولون أن يتم استيعابهم في الثقافات المحيطة، سواء كان ذلك في العالم الأطلسي أم في ما بعد الاتحاد السوفييتي. وقد كان لهذه التوجهات أثرها الذي انعكس في علاقات دوغين مع حركات يمينية إسرائيلية، فقبل إنشاء الحركة الأوراسية Eurasia سنة 2001، والتي تحولت إلى الحركة الأوراسية الدولية Evraziia سنة 2003، تطورت علاقاته سنة 1998 مع حركتين صهيونيتين هما حركة موآف MAOF Analytical Group التي يقودها اليميني الصهيوني فلاديمير بوخارسكي Vladimir Boukharsky، وحركة بياد إرتزينو Bead Artzeinu بقيادة الحاخام أفرام شموليفتش Avram Shmulevich. ومعلوم أن كلاً من بوخارسكي وشموليفتش هما مهاجران روسيان، كما أن للحركتين ارتباطاً بتكتل الليكود Likud.[12]

لكن دوغين يقف من النظرة الدينية اليهودية لما يرونه “أرض الميعاد” نظرة لا تتسق مع توجهه السابق، ويشير في هذا السياق إلى الماشيح، وهو اللفظ العبري للمسيح اليهودي، وهو القائد المنتظر لليهود والذي سينهي تشتتهم في مختلف بقاع الأرض ويعيدهم لأرض الميعاد طبقاً للرواية الدينية اليهودية. ويرى دوغين أن اليهود قلبوا المعادلة، فهم يعودون لأرض الميعاد قبل ظهور هذا المخلص، وهو أمر مخالف للنص الديني اليهودي الذي يشير إلى أن عودة اليهود تأتي لاحقاً لظهور الماشيح، وعليه يرى دوغين أن على “دولة إسرائيل أن تتوقف عن الوجود إلى حين ظهور الماشيح ليقوم بتنفيذ ذلك الوعد المزعوم، وهذا هو المعنى الأخروي”. ويبدو دوغين مقتنعاً بأنه “عندما تنهار إسرائيل، سيعيش اليهود نفياً آخراً، وسيبحثون عن وطن جديد لأنفسهم، وهذا الأمر، من وجهة نظر اليهود التقليديين، سيفتح المجال أمام انتظار عودة الماشيح، لكن هذا الأمر من وجهة نظر مسيحية مختلف تماماً، فالمسيحيون يعتبرون وعد العهد القديم بظهور مخلص لبني إسرائيل قد تحقق بظهور يسوع الذي صلب ليخلص البشر من آثامهم”.[13] ومن هنا يؤسس دوغين لمقارنته بين اليهودية والمسيحية والتي يصل فيها إلى أن مصطلح التراث المسيحي اليهودي مصطلح غير دقيق لا سيّما من المنظور الأرثوذكسي في جوانبه الميتافيزيقية وفي مفهوم الخلاص، وإن كانت الأرثوذكسية أكثر بعداً عن اليهودية من الكاثوليكية في هذا الجانب.[14]

ويزداد الأمر التباساً في موقف دوغين من اليهودية بشكل عام و”إسرائيل” بشكل خاص، فيبدو معجباً بالتيارات الدينية اليهودية المعادية للحداثة مثل حركة ناطوري كارتا Neturei Karta،[15] كما أنه يرى في دراسته ثورة المحافظين Conservative Revolution سنة 1994، والقائمة على الإحياء القومي والتراث التقليدي، أن “إسرائيل” قد حققت نوعاً من التقليدية التي يدعو لها دوغين، فالدولة الوحيدة التي نجحت جزئياً في تطبيق جوانب معينة من الثورة المحافظة هي “دولة إسرائيل”.[16]

2. موقفه من السياسات الفعلية لـ”إسرائيل”:

في حوار متلفز، قدَّم دوغين رؤيته للبنية السياسية لـ”إسرائيل” خصوصاً الصورة العامة لها في الذهن الغربي، ومحاولتها تعزيز هذه الصورة وتكريس فكرة أنها ضمن المعسكر الديموقراطي العالمي، لكن دوغين يحاول تفكيك هذه الصورة على النحو التالي:[17]

أ. من الملاحظ ان اليهود خارج “إسرائيل” يؤيدون أغلب حركات حقوق الإنسان في العالم، ولكن هذا التأييد يتوارى عندما يتعلق الأمر بـ”إسرائيل”، فنجد أنفسنا أمام “يهودي مختلف”، فهذا اليهودي يمارس انتهاكاً لحقوق الإنسان الفلسطيني، بل ويقتل مناصري حقوق الإنسان الغربيين والأجانب الذين يأتون على سفن لتقديم المساعدات الإنسانية للفلسطينيين، بل ويحتجز السفن التي جلبوا فيها المساعدات، مثل سفينة مرمرة سنة 2010، وقد أدى ذلك إلى تحول تدريجي في توجهات حركات حقوق الإنسان في العالم التي بدأت تميل لنقد السياسات الإسرائيلية في هذا المجال.

ب. يدعو دوغين إلى “عدم النظر لإسرائيل كدولة ديموقراطية غربية”، وإلى التنبه إلى أن “إسرائيل” تستغل هذه الصورة، وهو ينطلق في ذلك من تصوره لـ”عدم وجود نموذج ديموقراطي ينطبق على كل الدول”، ويدعم رؤيته هذه بحجتين هما:

• أن هناك تنازعاً بين الديموقراطية والسيادة التي تتمثل في جوهرها في المصلحة القومية، فكل دول العالم دون استثناء تعيد تفسير وتكييف الديموقراطية طبقاً لمصالحها، وعليه فإن “إسرائيل” لا ترى في الديموقراطية إلا ما يحقق لها مصالحها، شأنها في ذلك شأن بقية دول العالم.

• إن التنوع الإثني والقومي في المجتمع الإنساني يجعل من مفهوم الديموقراطية أمراً ملتبساً، فكل ثقافة لها منظومتها القيمية المختلفة عن غيرها، وعليه فإن محاولة تعميم النموذج الغربي للديموقراطية عبر آليات العولمة واعتبار “إسرائيل” جزءاً من هذا النموذج، هو نوع من التزييف، فكل تحدّ للقيم المحلية تتم مواجهته بالقوة من قبل الدول القومية، و”إسرائيل” ذات الجيش القوي والمسلحة نووياً ترى الديموقراطية بهذه الكيفية.[18]

وليدلل دوغين على رؤيته هذه يعطي مثالاً عن العلاقات بين أمريكا و”إسرائيل” وتركيا، فهم يتقاربون أحياناً ويتضاربون أحياناً أخرى، ومنطلق هذا التقارب والتضارب ليس النهج الديموقراطي بل المصالح القومية لكل منهم، وهو يرى أن على روسيا أن تستغل تضارب المصالح هذا لكي تحقق مصالحها مع العرب و”إسرائيل” وتركيا…إلخ.

3. موقفه من سياسات ترامب تجاه “إسرائيل”:

يعتقد دوغين أن دونالد ترامب Donald Trump “مجرد أداة للقدر” ستسرِّع في انهيار “دولة إسرائيل”، وبالتالي فسح المجال لظهور الماشيح ليحقق وعده، لكنه من ناحية أخرى ينظر لترامب باعتبار ما يقوم به ليس إلا عملاً “سياسياً واقعياً وعلمانياً بالكامل”، وهو يبحث عن حلفاء بين الحركات اليمينية المحافظة، ولا يلتفت إلى الدِّين الذي ينتمون إليه، وراهن على بعض السياسيين وعلى وجه الخصوص بنيامين نتنياهو Benjamin Netanyahu. وفي الوقت نفسه، فإن ترامب غير مبالٍ تماماً بالقضايا الأخروية، وليس لها أي معنى بالنسبة له. إنه يدعم السياسيين ببساطة على أساس الضرورة السياسية. ويعطي مثالاً على مواقف ترامب في آذار/ مارس 2019 عندما وقَّع على “الاعتراف بحق إسرائيل في هضبة الجولان السورية التي تحتلها هذه الدولة هي خطوة سياسية بحتة”، لكنها تنطوي على “خطورة” تتمثل من وجهة نظر دوغين في تقريب موعد انهيار “إسرائيل”، ويبني ذلك على تصور يتمثل في أن الدعم الأمريكي لـ”إسرائيل” يزيد الأخيرة تهوراً، وكلما تصرفت “إسرائيل” بشكل أكثر عدوانية وتهوراً، زاد العداء تجاهها ليس فقط من قبل السكان العرب، ولكن أيضاً من الدول الأخرى”.[19]

4. تصوره للاستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط:

يربط دوغين بين الشرق الأوسط وبين الأوراسية الجديدة Neo-Eurasianism، والتي تمثل مشروعه الاستراتيجي من خلال عدد من المحاور على النحو التالي:[20]

أ. اعتبار منطقة القفقاس من أهم النقاط التي تسعى الولايات المتحدة للارتكاز فيها للجم روسيا، وتعد هذه المنطقة من ناحية ثانية ذات أهمية كبيرة لنجاح مشروع الشرق الأوسط الكبير، ومن هنا تصبح مقاومة روسيا للشرق الأوسط الكبير ضرورة لضمان أمن القفقاس التي تعد ركيزة مهمة في المشروع الأوراسي.

ب. إن الإسلام السني خصوصاً في صبغته الوهابية هو أداة “أطلسية”، وهو منتشر في مناطق من أوراسيا، بينما يقف الإسلام الشيعي موقف عداء من الولايات المتحدة، ولما كانت إيران هي نقطة الثقل في هذا الاتجاه الإسلامي، فمن الضروري التحالف الروسي الإيراني.

ج. إن تبني روسيا للثورة المحافظة، وإحياء تقاليد المجتمعات هو رافد مساند لمواجهة مجتمعات الشرق الأوسط لثقافة الأمركة والعولمة.

د. إن العصر الحالي سيشهد صعود الإمبراطورية الروسية في الشرق الأوسط وزوال الهيمنة الأمريكية. ولتحقيق ذلك، يعتقد دوغين أنه يجب على روسيا العمل على استرضاء تركيا وإيران، وتعزيز العلاقات الاستراتيجية معهم كشركاء وليس كخصوم.

الخلاصة:

تتمثل رؤية دوغين في الموضوع الفلسطيني – الإسرائيلي بشكل خاص والشرق أوسطي بشكل عام في الآتي:

1. التناقضات في البنية الإسرائيلية من زاويتين؛ الأولى دينية تتمثل في أن التراث الديني اليهودي مبني على ظهور “الماشيح” لياخذ اليهود لأرض الميعاد لكنهم عادوا قبل ظهوره، وهو ما يعني إما التشكيك في الرواية الدينية اليهودية أو أن اليهود سيعودون للشتات إلى أن يظهر الماشيح الموعود. أما التناقض الثاني فهو أن اليهود يساندون حقوق الإنسان في كل دولة يتواجدون فيها، لأنهم أقلية هناك، لكنهم يمارسون أعلى درجات تجاوز حقوق الإنسان ضدّ الفلسطينيين في فلسطين، وهو ما بدأ ينعكس سلباً على مصداقية الدعاية اليهودية في العالم.

2. تركيزه على مركزية العودة للتقاليد والدِّين والعائلة قرَّبه من اليمين اليهودي، لكن مناهضته للسياسة الأمريكية ومنظورها الليبرالي الديموقراطي، والعمل على عولمته جعله في موقف معاكس.

3. مركزية إيران في مشروعه الاستراتيجي من ناحية، واعتقاده بأن النسخة الوهابية من الإسلام السياسي هي ذراع أطلسي.

التوصية:

أرى أن على حركات المقاومة توسيع الحوار والنقاش مع هذا المفكر من خلال دعوته للمؤتمرات ووسائل الإعلام المهمة، فقد يكون جسراً لمزيد من التواصل مع دوائر صنع القرار الروسي.

الهوامش
[*] خبير في الدراسات المستقبلية والاستشرافية، أستاذ في قسم العلوم السياسية في جامعة اليرموك في الأردن سابقاً، حاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وهو عضو سابق في مجلس أمناء جامعة الزيتونة في الأردن، وجامعة إربد الأهلية، والمركز الوطني لحقوق الإنسان وديوان المظالم، والمجلس الأعلى للإعلام. ألَّف 37 كتاباً، يتركز معظمها في الدراسات المستقبلية من الناحيتين النظرية والتطبيقية، ونُشر له نحو 120 بحثاً في المجلات العلمية المُحكّمة.
[1] Douglas E.Schoen and Evan Roth Smith, Putin’s Master Plan: To Destroy Europe, Divide NATO, and Restore Russian Power and Global Influence (New York: Encounter Books, 2016), pp. vi and 27.
[2] Anton Barbashin and Hannah Thoburn, “Putin’s Brain: Alexander Dugin and the Philosophy Behind Putin’s Invasion of Crimea,” Foreign Affairs magazine, 31/3/2014; and Foreign Affairs identifies Dugin as “Putin’s brain”, site of Traditionalist, 2/4/2014, https://traditionalistblog.blogspot.com/2014/04/foreign-affairs-identifies-dugin-as.html
[3] هناك جدول واسع حول مكانة دوغين في صنع السياسة الروسية، وهو ما يتضح في المراجع المتخصصة في السياسة الروسية. انظر تحديداً حول مكانة دوغين في:
Marlene Laruelle, Russian Nationalism (Routledge, 2019), Chapter 5; and Andreas Umland, Who is Alexander Dugin?, site of openDemocracy, 26/9/2008, https://www.opendemocracy.net/en/who-is-alexander-dugin
[4] Marlene Laruelle, Aleksandr Dugin: A Russian Version of the European Radical Right?, Occasional Paper no. 294 (Washington: Woodrow Wilson International Center for Scholars, 2006), pp. 2–12; Michael Millerman, “Dasein and the Fourth Political Theory: Towards an Adequate Critique of Alexander Dugin’s Political Theory,” site of Geopolitica.ru, 4/9/2019, https://www.geopolitica.ru/en/article/dasein-and-fourth-political-theory-towards-adequate-critique-alexander-dugins-political; Christopher Willard, Past and Future Possibilities: A Review of The Fourth Political Theory by Aleksandr Dugin, site of Christopher Willard, 26/11/2019, https://christopherwillardauthor.medium.com/past-and-future-possibilities-a-review-of-the-fourth-political-theory-by-aleksandr-dugin-9b615e8348f5; Andreas Umland, Who is Alexander Dugin?, openDemocracy, 26/9/2008; and Sean Jobst, Duginist publication calls Russians and Jews “chosen peoples”, site of Sean Jobst, 1/11/2017, https://sjobst.blogspot.com/2017/11/duginist-publication-calls-russians-and.html
[5] انظر تفاصيل علاقاته مع اليمين الأوروبي في:
Marlene Laruelle (editor), Eurasianism and the European Far Right: Reshaping the Europe–Russia Relationship (London: Lexington Books, 2015), pp. 35-55, and 79-97.
[6] Alexander Dugin, The Fourth Political Theory, translated by Mark Sleboda and Michael Millerman (Arktos Medis, 2012), passim.
[7] زينب الصفّار، النوماخيا.. مشروع المُفكّر الروسي ألكسندر دوغين، موقع الميادين، 5/11/2019، انظر: https://www.almayadeen.net
[8] دوغين عبر الميادين نت: روسيا تعود إلى الشرق الأوسط لصالح نظام متعدد الأقطاب، الميادين، 22/7/2021.
[9] Marlene Laruelle, Aleksandr Dugin: A Russian Version of the European Radical Right?, Occasional Paper no. 294, p. 17; and Sean Jobst, Duginist publication calls Russians and Jews “chosen peoples”, site of Sean Jobst, 1/11/2017.
[10] Lev Gorodetsky, Russian fascists form new movement, site of Jewish Telegraphic Agency, 29/4/2001, https://www.jta.org/2001/04/29/lifestyle/russian-fascists-form-new-movement
[11] Robert S. Wistrich (editor), Anti-Judiasm, Antisematism. and delegitimizing Israel (University of Nebraska Press, 2016), p. 232.
[12] Marlene Laruelle, Aleksandr Dugin: A Russian Version of the European Radical Right?, Occasional Paper no. 294, p. 18.
[13] Natalia Makeeva, Dugin: Israel Brings Armageddon Closer – Trump’s Declaration on Golan Heights Bodes Dangerously, translated by Joaquin Flores, Geopolitica.ru, 28/3/2019, https://www.geopolitica.ru/en/article/dugin-israel-brings-armageddon-closer-trumps-declaration-golan-heights-bodes-dangerously
[14] Marlene Laruelle, Aleksandr Dugin: A Russian Version of the European Radical Right?, Occasional Paper no. 294, pp. 18–19.
[15] ألكسندر دوغين.. هكذا رد مستشار بوتين على مقال الواشنطن بوست، موقع الجزيرة.نت، 2/5/2019، انظر: https://www.aljazeera.net
[16] Marlene Laruelle, Aleksandr Dugin: A Russian Version of the European Radical Right?, Occasional Paper no. 294, p. 17.
[17] انظر نص أقوال دوغين في الفيديو المسجل باللغة الروسية ومترجم للغة الانجليزية على موقع يوتيوب:
Aleksandr Dugin – On Israel, site of YouTube, 15/2/2013, https://www.youtube.com/watch?v=3NX_UHKvUEY
[18] Alexander Reid Ross, Opinion: How Trump’s Foreign Policy Is Making Russian Fascism Great Again, Haaterz newspaper, 13/6/2018, https://www.haaretz.com/us-news/.premium-how-trump-s-foreign-policy-is-making-russian-fascism-great-again-1.6167199
[19] Natalia Makeeva, Dugin: Israel Brings Armageddon Closer – Trump’s Declaration on Golan Heights Bodes Dangerously, translated by Joaquin Flores, Geopolitica.ru, 28/3/2019.
[20] Marlene Laruelle, “Alexandre Dugin: A “Eurasianist” View on Chechnya and the North Caucasus,” North Caucasus Weekly, site of Jamestown Foundation, 1/1/1970, https://jamestown.org/program/alexandre-dugin-a-eurasianist-view-on-chechnya-and-the-north-caucasus-2; Morteza Alavian and Leyla Hasannia Rami, “Iran’s Position in Russian Foreign Policy by Emphasizing Neo-Eurasianism,” Journal of Central Eurasia Studies, vol. 12, no. 2, Fall 2019-Winter 2020, pp. 419–431; and Ahmed Al-Burai, Russia must choose either Syrian regime or partnership with Turkey, site of Daily Sabah, 21/2/2020, https://www.dailysabah.com/op-ed/2020/02/21/russia-must-choose-either-syrian-regime-or-partnership-with-turkey

للاطلاع على الورقة العلمية بصيغة بي دي أف، اضغط على الرابط التالي:
للاطلاع على الورقة العلمية بصيغة بي دي أف، اضغط على الرابط التالي:
>> ورقة علمية: ”إسرائيل“ في أدبيات المفكر الروسي ألكسندر دوغين … أ. د. وليد عبد الحي  (16 صفحة، 2.2 MB)

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى