دراسات استراتيجيةدراسات افريقيةدراسات عسكرية

افريقيا ما بين العسكرة الأميركية والمديونية الصينية

العميد م. ناجي ملاعب
باحث في مؤسسة الشرق الأدنى والخليج للتحليل العسكري
عضو الهيئة العلمية لمجلة “الدراسات الأمنية”

مقدمة

تُحقق الدول الإفريقية معدلات نمو اقتصادي وسكاني مرتفعة، ما يُنبئ بإمكانية صعودها كقوى اقتصادية عالمية كبرى، الأمر الذي دفع القوى العظمى للتنافس المحموم حول تعزيز وجودها في القارة السمراء من خلال عدة آليات على رأسها الاستثمار في مجالات كالبنية التحتية واستغلال الموارد الطبيعية، وكذلك العمل على تعزيز روابط الصداقة بين الدول الإفريقية المختلفة.

وفي هذا الشأن، نشرت مجلة “المصلحة القومية” مقالة للباحثين “مارك لاجون” و”راشيل سادوف” بعنوان “الولايات المتحدة الأمريكية والانتشار الصيني المكثف في إفريقيا” في مايو/أيار الماضي، وفيها ينطلق الكاتبان من مقولة رئيسية مفادها أن سباق القوى العظمى داخل إفريقيا من خلال زيادة المساعدات الإنمائية أو الاستثمارات والقروض المقدمة للدول الإفريقية، ستكون له انعكاسات ليس على القارة الإفريقية فحسب، بل سيكون له تأثير كبير على المشهد السياسي والاستراتيجي والاقتصادي العالمي، وبالتالي سيتعين على الولايات المتحدة أن تعيد النظر في استراتيجيتها الاستثمارية والاقتصادية، بل وجهودها الدبلوماسية أيضًا في إفريقيا لاحتواء الدور الصيني المتنامي في إفريقيا.

وبالرغم من ضعف النفوذ الأمريكي في المنطقة، اقتصاديًا مقارنة بالصين، وسياسيًا وعسكريًا مقارنة بفرنسا ودول الاتحاد الأوروبي، فإن واشنطن لا تُخفي اهتمامها بتدارك هذا الوضع، فالقارة تضم أكبر تجمع للدول النامية في العالم، ذات الأسواق المتعطشة للاستثمارات، والنمو السكاني الأسرع عالميًا، والثروات الهائلة، والحكومات المفتقرة لأدوات فرض الأمن والاستقرار وتحديث البنى التحتية وتوفير الخدمات الأساسية. ومما يزيد من أهمية القارة في هذه المرحلة، حاجة الصين الملحة لتنويع مصادر واردات الطاقة، وهي التي احتلت عام 2016، صدارة قائمة مستوردي النفط عالميًا، لأول مرة في تاريخها، بعد تخلي الولايات المتحدة عن ذلك الموقع، إضافة إلى حاجة بكين لأسواق جديدة لمنتجاتها، تساهم من خلالها في تنويع شركائها التجاريين

وتُعد الصين النموذج الأبرز للدول التي استطاعت أن تجعل لها موطئ قدم ثابتًا ومتشعبًا في القارة الإفريقية، ولا تستطيع أي قوة عظمى أخرى أن تضاهي الوجود الصيني في إفريقيا حتى الآن. فمنذ عام 2003 تضاعفت الاستثمارات الصينية في إفريقيا ثلاثين مرة أكثر مما كانت عليه قبل ذلك.ولكن، وبالرغم من التسهيلات التي تواكب آلية التمويل “الجذابة” للدول الإفريقية – بحيث أنها لا تتضمن أي رقابة من الجانب الصيني على أوجه صرفها – فما الذي يمنع الدول المقترضة من تبديد هذه الأموال دون إقامة المشروعات، ما سوف يوقعها في فخ تراكم ديونها.

من هذا المنطلق، وبعد أن كانت القارة السمراء مسرحاً لدول الإستعمار الأوروبي – والذي بدأ بالإنحسار لصالح النفوذ الأميركي ما بعد الحرب العالمي الثانية – لابدّ من إعادة رسم خطوط التماس الجديدة، ويُعَدّ القرن الإفريقي، والساحل الإفريقي غرب إفريقيا – ويمكن ترشيح منطقة البحيرات الكبرى كذلك – أرضية خصبة للتغلغل في القارة الإفريقية؛ لما تشهده من توترات ونزاعات محتدمة، وهو الأمر الذي تستثمر فيه الصين بقوة، مع عوائد ضئيلة جدًّا، مقارنة بما تقدّمه القارة من امتيازات متعدّدة للصين.

تبحث هذه الدراسة في معاناة القارة السمراء جرّاء التحول من الإستعمار الأوروبي الى النفوذ الأميركي تحت مسمّى مكافحة الإرهاب، وتنظر في آليات الوجود الصيني وعبئ المديونية التي ترهن سيادات الدول، وتعرّج في مساحة صغيرة على الدور الروسي ومعوقات تقدمه في المنطقة، لتخلص الى التساؤل حول مستقبل القارة ومصلحتها في استبدال النفوذ الأميركي بالهيمنة الصينية.

[epcl_custom_ads id=”1″]

أولاً: آليات الوجود الصيني في القارة الإفريقية

يصنف النظام الدولي الحالي بأنه “نظام متعدّد الأقطاب”، وتتجه الأنظار للبحث عن المنافسين للقوة المهيمنة على النظام الدولي، ويسود إجماع عام على أن الصين وروسيا هما الدولتان اللتان تمتلكان المقوّمات التي تؤهلهما إلى تَبوُّؤ هذه المكانة، لكن أنظار العالم في عصر الهيمنة الأمريكية تنصب على البحث عن منافس للقوة الأمريكية، وثَمّة شبه إجماع على أن الصين هي الدولة المؤهلة لتبوء هذه المكانة.

 فمن الناحية البشرية يبلغ عدد سكان الصين مليارًا وثلاث مئة مليون نسمة، وهذا يوازي أربعة أضعاف عدد سكان الولايات المتحدة الأمريكية؛ لذا تُعرَف الصين باسم القوة الشعبية، ومن الناحية العسكرية يُعَدّ الجيش الصيني من أكبر الجيوش في العالم، إذ يُقدّر عدده بمليونين ونصف المليون جندي، كما أن الصين تتبوَّأ المرتبة الثانية في الإنفاق العسكري بعد الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى أنّ الصين تتمتع بحدود جيوسياسية مهّمة، فهي تجاور شمالاً روسيا وعددًا من جمهوريات الاتحاد السوفييتي سابقًا، إلى جانب جمهورية منغوليا، ومن الغرب تجاور أفغانستان وباكستان، ومن الجنوب تحدها بورما وتايلاند ولاوس، ومن الشرق فهي على تماس مع الكوريّتين الشمالية والجنوبية، وتقابلها من ناحية الشرق اليابان.

ومن الناحية الاقتصادية تبنّت الصين ما يُعرَف بسياسة الباب المفتوح، وهذا يعني تسخير الدبلوماسية الصينية لمصلحة علاقات التعاون الاقتصادي والتجاري الأمني والتقني مع مختلف دول العالم، ولاسيّما إفريقيا .

قال نابليون بونابرت عن العملاق النائم قبل مئة عام: إنّ العالم سيهتز عندما تستيقظ الصين!  فالنظام السياسي الصيني يؤمن أن التكامل في العالم يكون بغزو الصين للسوق العالمية، إذ بحثت العديد من الدول الإفريقية عن النموذج البديل، ووجدت أن النموذج الصيني جذاب وواضح لها؛ لأن إفريقيا والصين مرتبطتان بتاريخ مشترك بينهما؛ لكونهما من ضحايا الإمبريالية والكولونيالية الاستعمارية.

ويرى الخبراء أن للسياسة الصينية في إفريقيا بعدًا مهمًّا يدخل في إطار إستراتيجيتها لإضعاف القوى الغربية، وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، بشكل يخلق وضعًا دوليًّا ملائمًا للمصالح الصينية العالمية، فإستراتيجية الصين في إفريقيا هي لأجل خلق بيئة تعددية، إذ تعتمد بكين على خطاب (جنوب- جنوب)، وهو ما يلقى صدى إيجابيًّا لدى دول القارة الإفريقية، وتؤدّي الصين دور الناطق باسم الدول النامية التي تدعو إلى خلق بيئة دولية تعددية، وإعادة النظر في الاقتصاد الدولي الذي تراه غير عادل، وينهب حقوق الفقراء.

ونشير هنا إلى أن هناك ثلاثة صفوف من المشاركين الفاعلين الصينيين في إفريقيا، وهي: الحكومة المركزية، والحكومة المحلية، والشركات المتعددة الجنسيات الصينية، وهذه الفواعل الثلاث تعدّ بمثابة الانتقال الكبير في الاستثمارات الصينية الإفريقية، وهو ما يُعرَف بالقوة الناعمة الصينية في إفريقيا. والصين تحترم التكامل الإقليمي لدول القارة، فهي تمزج بين الاقتصاد والقوة الناعمة، وتسعى بذلك إلى إيصال رسالة للعالم مفادها أن العلاقات الصينية- الإفريقية عنوانها: الوحدة، والسيادة ومنطق رابح- رابح .

1- الإستثمار في قطاعي النفط والطاقة

إنّ الهدف من النزوح الصيني إلى إفريقيا هو تحقيق غاية واحدة، تتمثّل في الاستحواذ على آبار النفط والغاز واليورانيوم، والذهب، والماس…إلخ، فالصين تحصل على نسبة 9% من نفط إفريقيا جنوب الصحراء بينما يتجه 30% منه إلى أوروبا، ومن هنا تسعى الصين إلى الاستفادة من حصص أعلى وأكثر من نفط إفريقيا .

ومن الوسائل الدبلوماسية الصينية في إفريقيا الدعوة إلى تحسين الأوضاع القائمة في القارة، مثل ما تجلّى تجاه أزمة دارفور، إذ كانت السياسة الخارجية الصينية تدعو إلى مساعدة الحكومة السودانية في معالجة ومواجهة أوضاعها الأمنية الداخلية، وبحسب الصينيين فإن الغرب لا يزال يتعامل مع إفريقيا بوصفها مستعمرة، بينما يقوم اهتمام بكين على أساس التنمية الاقتصادية المتبادلة، وتوسيع حجم الاستثمارات، حيث استطاعت الصين من خلال شركاتها العملاقة الحصول على امتياز التنقيب عن النفط في مساحات واسعة من تشاد، ووقّعت شركات النفط الصينية عقودًا مع الكونغو (برازافيل) لبدء استكشاف النفط البحري وإنتاجه، ولبدء عمليات الاستكشاف النفطي في شمال ناميبيا، حيث تتطلع الشركات الصينية إلى إنشاء مصفاة لتكرير النفط هناك، كما تدعو الصين دومًا إلى التعايش السلمي، والإسراع في تقديم جملة من المساعدات الإنسانية؛ لذا برزت الصين في إفريقيا بنموذجها المتمثل في المساعدات المالية والدبلوماسية غير المشروطة، على أنّها قوّة حضارية تفضّلها الأنظمة الإفريقية بجوهر عدم التدخل في الشؤون الداخلية.

وتسعى الصين إلى اختراق خليج غينيا الذي يمثّل أهم منطقة مستهدفة من طرف الصين، فهو غنيّ بالنفط. كما أنّ الصين استثمرت في عام 2005 في السودان أكثر من نصف صادرات السودان النفطية، وتمكنت مؤسسة النفط الصينية من شراء 40 %من أسهم شركة النيل الأعظم في السودان، التي تنتج 300 ألف برميل يوميًّا، والصين مجبرة على استيراد 60 %من احتياطاتها من خليج غينيا والسودان بحلول عام 2020؛ وذلك بحسب التقديرات الأخيرة، إذ طالما كانت السودان بوابة الصين إلى القارة الإفريقية.

ويقوم أمن الدولة الصيني بتأمين تدفق الطاقة وضمانه، وترى الخبيرة الإفريقية دامبيسا موبو في مقال لها في صحيفة نيويورك تايمز بعنوان: بكين- هيبة إفريقيا أن تهافت الصين على الموارد الطبيعية أفضى إلى نشاط تجاري واستثماري كانت إفريقيا في أشدّ الحاجة إليه، وأوجد لصادرات القارة سوقًا كبيرة، وهو ما عاد عليها بنفع كبير في سعيها لتحقيق نمو اقتصادي سريع .

[epcl_custom_ads id=”1″]

2- تفهم إفريقي للدور الصيني في الإستثمار ودعم التنمية الإقتصادية المتبادلة

من بين الإستراتيجيات الصينية في إفريقيا أنها تحترم سيادة الدول، ولا تقبل التدخلات في الشؤون الداخلية للدول الإفريقية، فهي لا ترغب في إزعاج القادة الأفارقة بطموحاتها في القارة، وفي ذلك يقول سفير سيراليون في الصين: “إن الصينيين يأتون وينجزون العمل المطلوب تمامًا، من دون أن يعقدوا اجتماعات حول تقويم الآثار البيئية، وحقوق الإنسان، والحكم السيِّئ والرشيد. ولا أقول إن هذا الأمر صائب، لكن الاستثمار الصيني ناجح؛ لأن الصينيين لا يضعون معايير صارمة”. وقد أكد هذه الحقيقة الرئيس السنغالي عبد الله واد حينما قال: “إنّ فهم الصين لاحتياجاتنا أفضل من الفهم البطيء، والتغطرس في بعض الأحيان للمستثمرين الأوروبيين، والمنظمات المانحة، والمنظمات غير الحكومية. ليست إفريقيا فقط هي التي يجب أن تتعلم من الصين، بل الغرب أيضًا لهذا عدّ رئيس البنك الإفريقي للتطوير دونالد كابروكا Donald Kaberuka  أن الصين يجب أن تكون النموذج الأول والمرجع الأساسيّ لإلهام الدول الإفريقية في تحقيق تقدمها، وبموجب ذلك انطلقت العلاقات التعاونية الصينية الإفريقية مطلع عام 1990، من خلال توسيع حجم الاستثمارات الاقتصادية الصينية المباشرة، وتقديم المساعدات التقنية، ومع بداية عام 2006م، انعقدت القمة الصينية – الإفريقية في بكين حيث أعلن الوزير الأول الصيني وان جيباو Wen Jiabao  عن التزام الصين وتعهدها بتحقيق الاقتصاد المتبادل مئة مليار دولار سنة 2010م، وأثّرت الصين في إفريقيا سنة 2005م من خلال اعتبار الصين الشريك الاقتصادي الثالث للقارة الإفريقية، إذ بلغ حجم التبادل الصيني الإفريقي سنة 2006 ما يزيد على 55 مليار دولار .

 وتبرز أهمية الدوّر السياسي للصين في إفريقيا من خلال امتلاكها حقّ النقض داخل مجلس الأمن، ومن ثمّ إمكانية تعطيلها صدور أي قرار صادر عن المجلس قد يكون ضارًّا بمصالحها، وعلى رأسها استمرار تدفّق النفط إليها؛ لذا تحرص الصين دومًا على تفعيل منتديات التعاون الصيني الإفريقي .

ومن بين السياسات التعاونية أيضًا للصين، التعاون في المجال الزراعي، حيث ركزت الاتفاقيات على الوعود بإنشاء استثمارات زراعية لتأمين الأمن الغذائي للدول الإفريقية، إلّا أن الوجود الأكثر إضاءة هو استفادة الصين من المحاصيل الإفريقية؛ لسدّ الفجوة الغذائية للقبيلة المليارية، إلى جانب التعاون في المجال السياحي، حيث عملت الصين على تطوير المنشآت السياحية في إفريقيا، وتنظيم الأفواج السياسية للصينيين لزيارة إفريقيا، والتعرف عليها. وقد بلغت حجم التبادلات التجارية الصينية الإفريقية ما يزيد على 170 مليار دولار سنة 2013م، وبلغت واردات الصين منها في الزراعة ما يقارب نسبيًّا 15.1% سنة 2014 . كما بلغت العلاقات الصينية الإفريقية مستوى تاريخيًّا جديدًا، فإفريقيا المليئة بالأمل لأجل التقدّم أصبحت واحدة من مناطق العالم التي تتطلع إلى التقدم، بينما تعد الصين واحدة من أهم الدول المتطورة التي حافظت على تقدّمها من خلال خلق مناطق مصلحة، واحتياجات متبادلة، لذا فلكلتيهما فرص لأجل تطوير التعاون الاقتصادي والتجاري بينهما.

وقد برزت السوق الإفريقية، إذ هناك توافق بين الإنتاج الصيني الاستهلاكي البسيط والقدرة الشرائية المتواضعة للمستهلك الإفريقي، فالإنتاج الصيني يقدر بـ12 %من الإنتاج المصنّع في العالم، وهي اليوم على سبيل المثال المزود الأول لجنوب إفريقيا بالأجهزة الكهرومنزلية. كما أنّ الصين تعتمد على شركاتها الخاصة والعمومية، التي تستثمر بقوة في إفريقيا، وتنجم عن التزاحم على الاستثمار في القارة الإفريقية فرصة لإفريقيا للمفاضلة بين مختلف الشركات.

على الجانب الآخر، تستفيد الصين من الدعاية الإعلامية والدبلوماسية التي تصاحب بدء تنفيذ مشروعات بنية تحتية في إفريقيا، مثل إنشاء الموانئ والقطارات السريعة، لتؤكد أن الهدف الأساسي من هذه المشروعات هو تعظيم استفادة الدول الإفريقية من هذه المشروعات التنموية، وليس بسط نفوذها في القارة الإفريقية.

3- معوقات تطور العلاقات الصينية الإفريقية

  إنّ العلاقات بين الصين ودول شمال إفريقيا قديمة، وقد ازدادت وتقوّت أكثر بعد التوجه نحو نظام متعدد الأقطاب، وانتقال مركز الاقتصاد العالمي من الولايات المتحدة الأمريكية إلى مراكز أخرى منافسة لها، وهذه العلاقات علاقات اقتصادية بالأساس، وهي تقوم على التخصص بين المورّدين للمواد الخام من جانب دول شمال إفريقيا، ومقدّمي السلع المصنعة والخدمات من الجانب الصيني،  كما يجري أيضًا العمل على تطوير الشراكة في المجال العسكري، وكلّ هذا من شأنه أن يخلق فرصًا للتنمية في دول شمال إفريقيا، لكن هذا لا يخلو من محاذير النفوذ الاقتصادي الصيني في دول شمال إفريقيا، كالمبادلات التجارية غير المتكافئة، فالصين تصدّر منتجات متنوعة للمنطقة، بينما تقتصر صادرات دول شمال إفريقيا على المعادن والنفط، ومن ثَمّ عدم إمكانية المنافسة، وتحويل دول شمال إفريقيا إلى مجرد سوق كبير لصرف المنتجات الصينية، وخلق إشكالية القدرة التنافسية للمستثمرين المحليين، ومنه سيطرة الشركات الصينية على المستوى البعيد على الاستثمارات الوطنية لدول شمال إفريقيا.

والمشكلة الأخرى هي توظيف العمالة الصينية من طرف المستثمرين الصينيين لما تتميز به الصين من مهارات السرعة والكفاءة في العمل، وهذا يؤثر في سوق الشغل في الدول المستضيفة، ويسهم في رفع معدلات البطالة، وهو ما يظهر في قطاع الأشغال العمومية، حيث تطرح مسألة الهجرة الصينية إلى دول شمال إفريقيا تحدّيًا كبيرًا أمام الدول المستقبلة، ولاسيّما الجزائر التي يوجد بها أكثر من 20 ألف مهاجر صيني، وهذا يطرح إشكالًا آخر يتعلق بالاندماج بين المهاجرين الصينيين وأهل البلد في ظلّ اختلاف القيم الثقافية بين المجتمعين، إلى جانب أن الحضور الاقتصادي المتزايد للصين في المنطقة قد يؤدي إلى تورطها في القضايا السياسية في القارة الإفريقية، خصوصًا في أوقات الأزمات والاضطرابات والحركات الاحتجاجية التي شهدتها المنطقة منذ عام 2010م، بدءًا بتونس ثم مصر فليبيا.

4-  مبادرة “الحزام والطريق” تنموية أم فخ لتراكم ديون؟

 ساهمت مبادرة “الحزام والطريق” في تعزيز العلاقات الصينية الإفريقية، حيث تحتاج الدول الإفريقية لتمويل وإنشاء مشروعات بنية تحتية، في حين أن بكين تمتلك عدة أذرع وآليات تمويلية، فضلًا عن أن المبادرة تهدف في الأساس إلى ربط أكثر من 70 دولة من خلال إقامة مشروعات بنية تحتية عملاقة.

ويشير الكاتبان مارك لاجون وراشيل سادوف إلى أنه لكي تحصل الدول الإفريقية على قروض حكومية صينية في إطار هذه المبادرة؛ فإنه يتعين عليها التوقيع على عقد مع الحكومة الصينية تتعهد بموجبه الدول الإفريقية بتقديم ضمانات سيادية فيما يتعلق بالأصول الاستراتيجية، مثل (النفط، والأراضي والمرافق التي سيقام عليها المشروع، ومطارات)، بمعنى أنه إذا لم تتمكن الدول الإفريقية من سداد هذه القروض، فيحق لبكين الاستحواذ على هذه الأصول، سواء بامتلاكها أو إدارتها إلى حين أن تقوم الحكومات الإفريقية بالوفاء بالتزاماتها المالية.

ولكنّ الكاتبين – في الوقت ذاته – يؤكدان أن هناك عددًا من الدول الإفريقية التي قد استفادت من المشروعات الممولة من الحكومة الصينية، وأصبح العدد الأكبر يرزح تحت نير الديون المتراكمة. فعلى سبيل المثال، تعادل قيمة الديون الكينية المستحقة للصين حوالي 60% من الناتج المحلي الإجمالي لكينيا، فضلًا عن أنه كان من الممكن أن تسلم الدولة الإفريقية أكبر موانئها لبكين لتسديد هذه الديون. ورغم نفي الرئيس الكيني ما أثير حول استحواذ الصين على الميناء، إلا أنه في أوائل عام 2019 تم تسريب عقد صيني-كيني ينص على أن كينيا ليست لديها حصانة حتى “على أساس السيادة على أصولها الاستراتيجية”.

وفي السياق ذاته، شكلت الاستثمارات الصينية 30% من الدين الخارجي العام لإثيوبيا، و90% من ديونها الثنائية الجديدة منذ عام 2015. كما تواجه جيبوتي، التي تستضيف أول قاعدة عسكرية تنشئها الصين في الخارج، مخاطر عالية من الديون المحتملة نتيجة الانخراط في مشروعات البنية التحتية في إطار مبادرة “الحزام والطريق”.

كما أشار الكاتبان إلى أن القروض الصينية تعد آلية تمويل جذابة للدول الإفريقية، وذلك لأنها لا تتضمن أي رقابة من الجانب الصيني على أوجه صرفها، مما يعني أنه إذا تم تبديد هذه الأموال دون إقامة المشروعات، فستجد الدول الإفريقية نفسها في فخ تراكم ديونها. في حين أن المتابعة الصينية الوحيدة تكون لعمليات سداد هذه القروض بشكل منتظم، وهو ما يتناقض بشكل صارخ مع النماذج التقليدية للمساعدات الإنمائية خاصة القروض، فالولايات المتحدة -على سبيل المثال- تعطي الأولوية للشفافية، وتطلب موافاتها بوثائق تفصيلية للمشروع، وكذلك تقارير للتقييم البيئي والاجتماعي لآثار المشروع، كما تتم مراقبة مشتريات المشروع ومعدلات التنفيذ.

ثانياً: آليات الإستراتيجية الأميركية في افريقيا

كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب عازما على تحقيق وعوده التي تقدم مصلحة أمريكا العليا على ما عداها، وهو ما دفعه إلى تبني سياسة العزلة والتركيز على الداخل. ولكن يظل هاجس الأمن – في الوقت نفسه – محوريًّا وحساسًا وفقًا لمنطق المدرسة الواقعية في السياسة الخارجية. وعليه فإنه لم يتردد في التدخل العسكري في حالة الشعور بالخطر أو التهديد المباشر. ويعني ذلك أن “ترامب” لا يرى إفريقيا سوى أنها ساحة لكسب النفوذ والسيطرة واحتواء النفوذ الصيني والروسي المتصاعد. وانطلاقًا من هذه الرؤية تصبح الأولوية هي مواجهة صراع القوى العظمى وليس الحرب على الإرهاب.

1- الإستراتيجية الأمنية في مكافحة الإرهاب

استنادًا إلى شعار” أمريكا أولًا” ووعود الرئيس “ترامب” المتكررة بوضع حدٍّ لحروب الولايات المتحدة التي لا تنتهي، وافق البنتاجون على خطة لتقليص عدد القوات الأمريكية التي تقوم بمهام مكافحة الإرهاب في إفريقيا بنسبة 25٪ تقريبًا. وطبقًا لبعض الخبراء فإن العدد الإجمالي للقوات الأمريكية المخصصة للقيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا “أفريكوم” سوف ينخفض بنحو 10٪. وإذا كان عددُ القوات المتأثرة غير معروف على وجه الدقة، فإن هناك ما يقرب من 7200 من أفراد وزارة الدفاع المكلفين تابعين للقيادة الإفريقية في الوقت الحالي. ومن الواضح تمامًا أن الاستراتيجية الأمنية لإدارة الرئيس “ترامب” تبتعد تدريجيًّا عن دوامة الحرب العالمية على الإرهاب، كما يظهر في الانسحاب من سوريا، والدخول في عملية تفاوضية مع حركة طالبان الأفغانية، وذلك لصالح التركيز على احتواء النفوذ المتنامي لكلٍّ من الصين وروسيا. ومع ذلك فإن تقليص الوجود العسكري الأمريكي في منطقة الساحل وغرب إفريقيا -تحديدًا- يواجه انتقادات واسعة من جانب الكونجرس وخبراء مكافحة الإرهاب داخل أمريكا وخارجها.

لا أحد يعلم على وجه الدقة ما إذا كانت واشنطن قد بلورت بالفعل استراتيجية جديدة تجاه إفريقيا، أو ما هي تفاصيل حساباتها هناك في ضوء تلك المعطيات، إلّا أن عددًا من التقارير، تم تسريبها مؤخرًا، تلقي الضوء على تحركات غير مسبوقة، وخصوصًا في غربي وشمال غربي القارة، بخلاف تركيز واشنطن السابق على منطقة القرن الإفريقي، حيث توجد قاعدتها العسكرية، الوحيدة المعلنة، في جيبوتي، لقربها من منطقة الشرق الأوسط.

ومن ناحية أخرى فقد كشفت وكالة “سبوتنيك” الروسية عن ضغوط أمريكية تمارس على الجزائر لدفعها التدخل عسكريًا في ليبيا، والتعاون معها في عمل عسكري بالنيجر لمواجهة مجموعات مسلحة، وسط تمنُّع جزائري، لتجنّب الانزلاق في فخ الاستنزاف في حروب خارجية، وهي القوة العسكرية الأهم على مستوى شمال غرب القارة السمراء، والمحطة المهمة لنفوذ الشركات الصينية في المنطقة.

ونهاية سبتمبر/ أيلول 2016، نشرت مجلة “ذي إنترسبت” وثيقة سرية لقيادة القوات الأمريكية في إفريقيا “أفريكوم”، تشير إلى عملها على إنشاء قاعدة للطائرات من دون طيار في النيجر، على أن يشمل نطاق عملها دول المنطقة، وذلك بتكلفة تناهز 100 مليون دولار. ونقلت المجلة في تقريرها عن الخبير الأمريكي في الوجود العسكري لواشنطن بإفريقيا، آدم مور، قوله إن ذلك ليس نشاطًا معزولًا، بل جزء من “توجه نحو تدخل أكبر، ووجود دائم في غرب إفريقيا، بما في ذلك أجزاء من المغرب (العربي) والساحل”، وذلك لتدارك الضعف في النفوذ الأمريكي بالمنطقة مقارنة بالنفوذ الفرنسي، ولاستباق التغلغل الصيني القادم من شرقي القارة.

في إطار نظرة أشمل لاستراتيجية “احتواء الصين” الأمريكية، فإن التوجه نحو تثبيت الأقدام في الغرب الإفريقي قد يُقرأ في سياق سياسات واشنطن الجديدة في الشرق الأوسط، التي بدأها الرئيس السابق، باراك أوباما، وظهرت عمليًا في أزمات ما بعد تفجر “الربيع العربي”. فقد انسحبت “القوة العظمى” من المنطقة عسكريًا، واكتفت بمتابعة مجريات الأحداث، كما استغنت، إلى حد كبير، عن نفط المنطقة، للمرة الأولى منذ عقود، وسط مخاوف من أن تضمن تلك السياسة الجديدة ترك المنطقة ضحية للصراعات لعرقلة استغلال الصين لنفطها وأسواقها ومعابرها البحرية ومواقعها الاستراتيجية، إن لم يكن تأجيج تلك الصراعات.

وفي هذا السياق، فإن وجودًا عسكريًا كبيرًا ودائمًا في الغرب الإفريقي كفيل بتوفير برج مراقبة آمن وقريب من الشرق الأوسط والقرن الإفريقي، ومركزٍ للتدخل السريع في حال تغيرت الحسابات، ونقطة انطلاق لمواجهة التمدد الصيني في القارة، وقاعدة تأسيسية لنفوذ أمريكي حقيقي فيها، يحل محل السطوة الأوروبية.

من جانب آخر، فإن الخطوة الأمريكية “التاريخية”، برفع العقوبات عن السودان، في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، قد تفسَّر جزئيًا في إطار مساعي خلق جدار يحجز النفوذ الصيني في الجنوب الشرقي، وهو الذي أخذ بالتغلغل في مفاصل دول المنطقة بشكل لابد أنه “مقلق” لواشنطن والعواصم الغربية.

وقد ظهرت على السطح مؤخرًا مؤشرات بتجاوز النفوذ الصيني دائرة الاستثمارات والتجارة إلى التأثير المباشر في السياسة الداخلية، وذلك بعد تأكيد عدة تقارير صحفية، من بينها ما نشرته “الغارديان” البريطانية، منتصف نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بوجود تدخل صيني في إزاحة رئيس زيمبابوي السابق، روبرت موغابي، عن كرسي الحكم، الذي تشبث به لعقود.

وأوضحت التقارير أن قائد جيش زيمبابوي، كونستانتينو تشيونغا، الذي قاد الانقلاب “الخاطف” على موغابي، كان في زيارة لبكين، قبيل الانقلاب، حيث تلقى ضوءًا أخضر للقيام بتلك الخطوة، الأمر الذي وصفته الصحيفة البريطانية بالسابقة في تاريخ النفوذ الصيني حول العالم، وما خفي لدى أجهزة الاستخبارات الغربية، وخصوصًا الأمريكية، هو بالتأكيد أعظم.

2- سلبيات إدارة “ترامب” للملف الإفريقي

لم تحقق مبادرة الرئيس “ترامب” (إفريقيا تزدهر)، التي تهدف إلى توفير 60 مليار دولار لتشجيع الاستثمار الخاص، نجاحًا كبيرًا وملموسًا بعد، وربما تكون ردًّا على المبادرة الصينية التي خصصت نفس المبلغ لإفريقيا. وعليه فإن الشكوى الأمريكية المستمرة من الصين تزعج الحكومات الإفريقية التي ترى أن إدارة “ترامب” تبدو غير راغبة أو غير قادرة على تقديم بدائل قابلة للتطبيق.

يرى الكاتبان الأميركيانمارك لاجون وراشيل سادوف أن الصين من خلال تمويلاتها واستثماراتها استطاعت أن تملأ بنجاح الفراغ الناجم عن فك الارتباط الدبلوماسي بين الولايات المتحدة والدول الإفريقية. فوفقًا لـ”روبن بريجيتي”، سفير الولايات المتحدة السابق لدى الاتحاد الإفريقي، فإن هناك شعورًا عامًّا بين النخب السياسية الإفريقية بأن علاقات الولايات المتحدة غير الوطيدة معها يعني أن واشنطن باتت تهتم بعلاقتها مع دول ومؤسسات أخرى خاصة الصين والاتحاد الأوروبي، على حساب علاقتها بالدول الإفريقية.

ويؤكد الكاتبان أن ادارة الرئيس ترامب قد عززت التباعد الأمريكي-الإفريقي، فقد أعلنت عن خطة “ازدهار إفريقيا” التي تتضمن أهدافًا مثل تعزيز الطبقة الوسطى في إفريقيا، وتضمنت بشكل علني بأنه تم تصميمها لخدمة مصالح الشعب الأمريكي في المقام الأول. كما تصدّر الرئيس “ترامب” عناوين الصحف الدولية في أوائل عام 2018 لإشارته مرارًا وتكرارًا إلى الدول الإفريقية باسم “الدول القذرة”. كما أن “ترامب” ترك الزيارات الرسمية للقارة الإفريقية لتتولاها زوجته وابنته، ولم يعمل على توطيد العلاقات السياسية مع الدول الإفريقية.

كما أن الدول الإفريقية قد تأثرت بشكل كبير بالحرب التجارية بين بكين وواشنطن، حيث أدان رؤساء غانا ونيجيريا وجنوب إفريقيا والرأس الأخضر تأثير التعريفات الجديدة التي تفرضها الولايات المتحدة على الاقتصادات الإفريقية. وذلك نتيجة ازدياد الترابط التجاري بين دول جنوب الصحراء والصين، فقد ازدادت صادرات بكين لدول جنوب الصحراء بنسبة 233% خلال الفترة من 2006 إلى 2016، في حين أنه خلال الفترة ذاتها ازدادت صادرات الولايات المتحدة لدول جنوب الصحراء بنسبة 7% فقط. حيث صرح مسؤولو بنك التنمية الإفريقي بأن الناتج المحلي الإجمالي لبلدان جنوب الصحراء يمكن أن ينخفض بنسبة 2,5% بحلول عام 2021 بسب الحرب التجارية، مما عزز المشاعر المناهضة للولايات المتحدة في إفريقيا.

4- الدبلوماسية الصحية آلية واعدة لتعزيز النفوذ الأميركي

 ينظر موقع “المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة” في تقريره الى “أن إنشاء مؤسسة (DFC) ليس كافيًا لاستعادة الدور الأمريكي في القارة الإفريقية، وأنه يتعين على واشنطن العمل على تعزيز آليتين، الآلية الأولى هي ما يسمى بالدبلوماسية الصحية، بمعنى أن يتم استثمار مزيد من الأموال في مجال تحسين الصحة العامة في الدول الإفريقية، مما يجعل واشنطن تعزز من نفوذها وتواجدها في إفريقيا بدون الصدام مع بكين، وفي الوقت ذاته سيعمل ذلك على التأكيد على دعم واشنطن لصعود إفريقيا. كما أن ذلك سيعمل على ترميم الصورة الدولية للولايات المتحدة، وتقليل مشاعر مناهضة لها، ناهيك عن استفادة الدول الإفريقية من خلال مكافحة بعض الأمراض كالإيدز والملاريا، وبالتالي تحسن صحة مواطنيها، وزيادة قدرتهم على العمل بشكل أفضل، مما سينعكس إيجابيًّا على مستويات التنمية في إفريقيا، وبالتالي تقليل إمكانية حدوث انهيار للدول الهشة، ومن ثمّ الحفاظ على الاستقرار السياسي في إفريقيا.

ويوضح التقرير أن اثنتين من أكثر الشراكات الصحية انتشارًا ونجاحًا في الولايات المتحدة والعالم هما خطة الرئيس الطارئة للإغاثة من الإيدز (PEPFAR)، والصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا. كما أصدر البيت الأبيض في مايو 2019، أول “استراتيجية للأمن الصحي العالمي”، والتي تؤكد على التزام الولايات المتحدة بمكافحة الأمراض المعدية.

أما الآلية الثانية فهي زيادة حجم المساعدات الإنمائية المقدّمة لإفريقيا، لأنه من الطبيعي أن تقديم المساعدات سيضمن توطيد علاقات التحالف والصداقة بين الولايات المتحدة والدول الإفريقية، ويجب أيضًا التركيز على زيادة المساعدات في مجال الصحة، والذي سيميز برامج مساعدات الولايات المتحدة عن غيرها من الدول المانحة خاصة الصين، كما تشير الدراسات إلى أن المستفيدين الأفارقة من برامج الصحة العالمية الأمريكية يطورون رؤية وصورة إيجابية للغاية للولايات المتحدة.

وتشير الإحصائيات إلى أن كل دولار يتم استثماره في الوقاية والعلاج يعمل على تحقيق 19 دولارًا في صورة مكاسب وعوائد اقتصادية، وأن أكثر من 60% من هذه العوائد في السنوات الأربع المقبلة ستكون في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. 

وختامًا، أكد الكاتبان أنه يتعين على الولايات المتحدة إعادة النظر بشكل جدي وجذري في استراتيجيتها تجاه القارة الإفريقية، والمفتاح الرئيسي لذلك هو التوسع في التمويل الأمريكي في مجال الصحة العامة ومكافحة الأمراض في إفريقيا، مما سيحافظ على خصوصية وتميز المساعدات الأمريكية لإفريقيا عن نظريتها الصينية، فضلًا عن تسهيل دخول الولايات المتحدة في شراكات وتحالفات اقتصادية وعسكرية مع الدول الإفريقية لترميم صورتها في إفريقيا ومجابهة النفوذ الصيني المتنامي في القارة.

ثالثاً: أوجه التنافس الأميركي الصيني والدور الروسي

1- المصالح الأمريكية في ضوء تنامي الوجود العسكري الصيني

نظرًا لقرب القارة الإفريقية من كل من أوروبا والشرق الأوسط، فإن الصين تسعى لتعزيز تواجدها العسكري في إفريقيا، وهو ما قد يؤثر على العلاقات التجارية الأمريكية وجهود مكافحة الإرهاب. وتكمن أكبر التهديدات الملموسة للمصالح الأمريكية على الصعيد العسكري في جيبوتي، وهي بلد صغير في القرن الإفريقي يدين للصين بنسبة 50% من دينه العام.

ورغم صغر حجم جيبوتي إلا أنها ذات أهمية كبيرة في العمليات العسكرية والاستخبارية الأمريكية، فجيبوتي تستضيف معسكر ليمونير الذي يعد أكبر قاعدة عسكرية دائمة للولايات المتحدة في إفريقيا، ومع إنشاء الصين قاعدة عسكرية في جيبوتي عام 2017، فإنها أصبحت على بعد ستة أميال فقط من معسكر ليمونير، بل ويرى بعض المحللين أن إنشاء بكين للقاعدة العسكرية في جيبوتي يُعزى إلى رغبتها في مراقبة القوات الأمريكية.

كما يتوجه المقال بالنقد الشديد للمسؤولين الأمريكيين في جيبوتي، نتيجة عدم علمهم برغبة الصين في إنشاء هذه القاعدة وقيامها باستئجار الأرض من جيبوتي وموافقة الأخيرة على هذا الأمر، وأن عدم توافر هذه المعلومات لدى واشنطن أعاق قدرتها على التدخل لمنع إنشاء هذه القاعدة. وذلك عكس ما حدث في السابق عندما علمت الولايات المتحدة بنية روسيا في إنشاء قاعدة عسكرية في جيبوتي، واحتجت بشدة على ذلك لدى المسؤولين في جيبوتي، وبالفعل لم يتم إنشاء القاعدة العسكرية الروسية.

 ويرى الكاتبان الأميركيان مارك لاجون وراشيل سادوف أن الصين قد ضغطت اقتصاديًّا على جيبوتي لكي تمنعها من عدم إخطار الولايات المتحدة بنيتها إنشاء قاعدة عسكرية، إلا أن هذه القاعدة ليست الخطر الوحيد الذي تمثله الصين على تواجد الولايات المتحدة في جيبوتي، فهناك مصدر قلق رئيسي آخر للجيش الأمريكي يتمثل في النفوذ الصيني على “محطة حاويات دوراليه” في جيبوتي، والتي تعتبر “نقطة الوصول الأساسية للقواعد الأمريكية والفرنسية والإيطالية واليابانية” هناك، حيث أثير أنه عندما لم يتمكن الرئيس الجيبوتي “إسماعيل عمر جيله” من سداد قروض صينية في إطار مبادرة “الحزام والطريق”، قام في عام 2017 بنقل ملكية “محطة حاويات دوراليه” إلى الصين بشكل غير قانوني كنوع من التعويض الجزئي لعدم سداد القروض الصينية، وهذا ما سيمكّن بكين من تعزيز وتوسيع قاعدتها الجديدة بسهولة أكبر، مما سيعني تأثيرها على دخول السفن المملوكة للولايات المتحدة أو حلفائها.[i]

2- القروض الصينية وازدياد العنف

لا يستبعد الخبراء فكرة وجود ارتباط بين تمويلات الصين في إفريقيا في إطار مبادرة “الحزام والطريق” وبين ارتفاع معدل العنف المدعوم من الدولة في إفريقيا، حيث يشير تقرير صدر في عام 2015 عن جامعة ساسكس أن “العنف السياسي من قبل الدولة يزداد مع تلقي المساعدات الصينية، وذلك مقارنة بتدفقات المساعدات الممولة من الولايات المتحدة”. 

ويؤكد موقع “المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة” أن الصراعات في البلدان الإفريقية قد تؤدي إلى تصاعد في الإرهاب على المستوى الدولي، حيث بدأت العديد من الجماعات الإرهابية التي تتخذ من إفريقيا مقرًّا لها في التعاون مع نظيرتها الدولية مثل تنظيمي “داعش” و”القاعدة”، وقد ارتبط بعضها بالفعل بـ137 هجومًا إرهابيًّا في بوركينافاسو وحدها في عام 2018. وهو معدل أكبر من العمليات الإرهابية التي حدثت في بوركينافاسو خلال الفترة من 2009 و2015. 

وفي هذا الإطار، أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” في كانون الأول/ ديسمبر 2018 أن “مواجهة التهديد من الإرهاب الإسلامي الراديكالي والصراعات العنيفة” ستكون واحدة من أهم أولويات إدارته في تعزيز علاقاتها مع إفريقيا، وهو ما يمثل اعترافًا أمريكيًّا صريحًا بأن تزايد العنف في القارة يمثل تهديدًا ملحًّا للأمن القومي الأمريكي والعالمي.

3- أين روسيا من التنافس بين الجبارين

يُعَدّ التنافس الروسي الصيني على القارة الإفريقية تنافسًا اقتصاديًّا بخلفية سياسية، ويظهر هذا من خلال رغبة الروس والصينيين بجعل القارة الإفريقية خط الدفاع الأول عن حدودهما الجيوستراتيجية، باعتبار أن القارة الإفريقية تتوسط العالمين القديم والجديد، فمع بداية الألفية الجديدة تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية من الوصول إلى حدود الدولتين: روسيا والصين، عبر أفغانستان، وأوكرانيا، وجورجيا، وهو الخطر الذي استشعره الروس [ii].

ويمكن وضع سيناريوهينِ لمستقبل الوجود الروسي في إفريقيا: أولهما سيناريو التعاون والمصالح، حيث ستصبح إفريقيا مجالًا جديدًا لزيادة التعاون الروسي– الإفريقي في شتى المجالات، وتطور العلاقات بين روسيا ومعظم دول القارة؛ لأن هدف روسيا هو المصالح الاقتصادية والعسكرية. وربما ستتجه روسيا إلى زيادة المساعدات والمعونات العسكرية لبعض الدول الإفريقية، وسيزداد الاهتمام بالشؤون السياسية للدول الإفريقية، وربما ستقوم روسيا أيضًا ببناء قاعدة جديدة لها على غرار قاعدة الأفريكوم الأمريكية، والقاعدة البحرية الروسية في طرطوس على البحر المتوسط، ويذهب السيناريو الثاني إلى إمكانية اعتماد روسيا على سياسة التنافس وتبادل المصالح، خصوصًا مع زيادة القوى الدولية والإقليمية في القارة، وهي حاليًّا الصين والولايات المتحدة الأمريكية، لذلك من الممكن أن تصبح القارة الإفريقية مجالًا للتنافس بين هذه الدول، وربما مجالًا للصراع، كما كان في السابق بين بريطانيا وأمريكا وفرنسا، وهو السيناريو الأكثر واقعية وأقرب احتمالًا للحدوث، فيما يطرح سيناريو المخاطر حضورًا قويًّا في السنوات الأخيرة لروسيا في بعض القضايا الدولية في ظلّ التعددية القطبية، واتضح هذا الدوّر من خلال الوجود الروسي في إفريقيا، لذلك هناك حاجة مُلحّة لدى القادة الروس للعودة من جديد إلى إفريقيا؛ لاستعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي من جديد .[iii]

ولكن،هناك عدد من المشكلات والعقبات التي تعيق إقامة العلاقات بين روسيا والدول الأفريقية، ومنها :

1 عدم وجود الإستقرار السياسي والعسكري في معظم الدول الأفريقية، حيث لا تملك روسيا خططاً لمساعدة هذه الدول في تحقيق الإستقرار السياسي والتكامل، فروسيا تولي إهتمام فقط بالتعاون الإقتصادي والعلاقات الإقتصادية الفعالة.

2 الأولوية بالنسبة للدولة الروسية هي إعادة بناء الدولة وإستعادة المجد السوفيتي من جديد والإهتمام بالمشكلات الداخلية، وتحسين العلاقات مع دول الجوار، لذلك تبقي مشاركة روسيا في الشؤؤن السياسية الأفريقية ضعيفة جداً، مقارنة بالدور الأمريكي أو الفرنسي لهذه الدول .

3 غياب الإستراتيجية الروسية تجاه أفريقيا عامل كبير سيؤثر علي التواجد الروسي في افريقيا.

4 الإختلاف في التنمية الإجتماعية والإقتصادية والسياسي في أفريقيا ربما يسبب عدم توازن للسياسة التي تتبعها روسيا مع هذه الدول.

5 إختلاف الثقافة بين الأفارقة ورجال الأعمال الروس يسبب مشكلات كبيرة جداً.

6 قلة وسائل الإعلام الروسية التي تم إرسالها لأفريقيا وأيضاً قلة المنظمات غير الحكومية الروسية داخل القارة.

7 الوجود الكبير للقوى الكبرى في أفريقيا، وعلي رأسها الولايات المتحدة الأميركية والصين وغيرهما، لذلك غيرت روسيا سياستها من المواجهة إلى المنافسة وتبادل المصالح [iv].

     خاتمة

في ظل الحرب الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة، وانشغال كل منهما بالآخر، وعدم الاكتراث بالدول النامية الإفريقية، فإن هذه فرصة مواتية لتحقيق مزيد من التعاون والاعتماد الإفريقي المتبادل. هذا لا يعني أن الطريق معبَّد للتعاون؛ فمازالت الحكومات الإفريقية تهتم بالسلع الصينية الرخيصة التي توفِّر نوعًا من الدعم والاستقرار الاقتصادي الهشّ. أضف إلى ذلك، فإن فتح الحدود وإسقاط الحواجز بين البلدان الإفريقية، سيؤدي إلى انتقال سهل للأيدي العاملة، مما سيخلق منافسة شرسة بين الأيدي العاملة المحلية والوافدة مما سيخلق مشاكل متعلقة بالبطالة وتوفير الوظائف [v]

ليس لدى القارة الإفريقية رفاهية الانحياز أو الحياد بين طرفي النزاع الاقتصادي؛ إذ إنه نتيجة اعتمادها في السنوات الأخيرة على الصين تنمويًّا واقتصاديًّا قد ضَيَّق من قدرتها الاقتصادية على المناورة بين الدول الكبرى، وأوقعها في ديون سيادية لم تكن أبداً بديلاً للإستعمار الأوروبي أو الهيمنة الأميركية.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى