اقتراب التبعية في دراسة النظم السياسية المقارنة


اعداد. طه محمد
نشأ اقتراب التبعية نتيجة لحالة عدم الرضا عن المنظور التنموي في الستينات من القرن العشرين وتجاهله للمتغيرات الدولية في تفسير تخلف العالم الثالث وتحديد طرق تطويره, فقد درست التنمية في اطار مفاهيم معينة مثل الديمقراطية السياسية والقومية والتحديث والتنمية السياسية, وكانت فكرة دراسة التنمية مرتبطة بإمكانية تنمية الدول الاقل نموا على اساس افتراض ان انتشار راس المال والتقنية سيحل مشاكل الفقر والجوع في كل مكان, وقد ساد هذا المنظور بمداخله المختلفة في حقل السياسة المقارنة خلال الخمسينات والستينات من القرن العشرين.
– الاطر الفكرية للاقتراب:
تعود اصول هذا المنهج الى الماركسية, ولكن هنا لا بد من التفرقة بين استخدام المنهج من منظور ماركسي لينيني كسلاح أيديولوجي يريدون استخدامه ضد الولايات المتحدة والنظام الرأسمالي العالمي, وبين كونه اقتراب يسلط الضوء على دور العامل الدولي في تحديد الحركة السياسية والاقتصادية والاجتماعية داخل دول الجنوب وتأثيره في تشكيل توجهات وانماط تطورها وبنيتها وثقافتها.
لكن بالرغم من جذور الاقتراب الماركسية الا انه ظهر مفكرين غير ماركسيين, كان من ابرزهم عالم الاجتماع “اندريه جندر فرانك”, الذى اكد على ان الاحتكار التجاري وليس الاقطاع هو الذى يفسر قيادة المراكز القومية والاقليمية المهيمنة باستغلال الاطراف او الهوامش, ويفترض التقسيم الثنائي للمراكز والاطراف ان الرأسمالية على المستوى العالمي هي المسؤولة عن تخلف دول الهامش والاطراف.
في حين يرى عالم الاجتماع البرازيلى “كاردوسو” ان فكرة التنمية التابعة اصبحت تمثل شكلا جديدا من التوسع الاحتكاري في العالم الثالث, حيث ان التنمية في اوضاع التبعية الرسمالية يمكن ان تفيد الطبقات المرتبطة برأس المال العالمي مثل البرجوازية الزراعية والتجارية والمالية والصناعية المحلية.
بينما ميز عالم الاجتماع البرازيلي “سانتوس” بين عدة انواع من التبعية:-
1- التبعية الاستعمارية والمستندة على احتكار التجارة من قبل الدول الاوربية على مستعمراتها.
2- التبعية المالية والصناعية والتي تدعمت في نهاية القرن التاسع عشر تحت سيطرت راس المال في المراكز المهيمنة.
3- التبعية الجديدة والمتمثلة في استثمارات الشركات المتعددة الجنسية بعد الحرب العالمية الثانية.
وقد حاول “سانتوس” ان يبرز ان علاقة البلدان التابعة بالبلدان المسيطرة لا يمكن تبديلها الا بتغيير البنية الداخلية والعلاقات الخارجية, كما ان هذه التبعية تميل الى التعمق والتجذر وينتج عنها تخلف البلدان التابعة, وان (الخاصية غير المتساوية والمندمجة للتنمية الرأسمالية على المستوى الدولي يتم إعادة إنتاجها محليا… البنية الصناعية والتقنية تستجيب لمصالح الشركات المتعددة الجنسيات اكثر من استجابتها للاحتياجات المحلية).
– الفرضية:
بناء على ما سبق يرى الاقتراب ان دول العالم الثالث لا تستطيع ان تشكل مؤسساتها ونظمها بمعزل عن المتغيرات الدولية ذات الجذور التاريخية, فدور الغرب الرأسمالي في تقسيم العمل الدولي أسهم في تشكيل تاريخ الجنوب, واستطاع خلق نظام اقتصادي غزل من خلاله العالم في نسيج واحد. ومن ثم فان مشاكل العالم الثالث هي نتيجة طبيعية لتنمية العالم الاول, فالفقر والتضخم وتدهور النمو هي امتداد لإمبريالية الرأسمالية, وهنا تلتقي نظرية التبعية مع اقتراب النظام.
– نموذج الاقتصاد الثنائي كتطبيق لاقتراب التبعية:
يعتبر مفهوم الاقتصاد الثنائي المفهوم المحوري في اقتراب التبعية, حيث يرى المفهوم ان تأثير العامل الخارجي تاريخيا في مجتمعات الجنوب اوجد ثنائية اقتصادية, فإلى جانب الاقتصاد التقليدي نشأ اقتصاد حديث يتجه للخارج ويعمل على استنزاف موارد المجتمع وطاقاته ويدفع لعدم تكامله ومن ثم امتدت الثنائية الى باقي الابعاد المجتمعية الاخرى من ثقافة واجتماع وسياسة, ليصبح هناك في كل هذه المجالات قطاع تقليدي واخر حديث يجهض كل منها فعالية الاخر.
وتطور اقتراب التبعية في اقترابه من تحليل النظم السياسة في دول الجنوب من حيث الابعاد التالية:-
1- ان مفهوم الاقتصاد الثنائي قد تم تجاوزه في كثير من الدول, بعد ان التصنيع في العديد من دول الجنوب واستطاعت تحقيق طفرات تكنولوجية كبيرة, ومن ثم سادها اقتصاد حديث بصورة شبه كاملة.
2- ان مفهوم الدولة كوحدة اساسية في التحليل لم يعد هو المفهوم الاساس او الوحدة الوحيدة وانما تمت اضافة وحدات اخرى اليه, كذلك لم تعد الدولة في طبيعتها على نفس الصورة التي قدمتها بها نظرية التبعية في مرحلة سابقة, وقد اتاحا هذان البعدان الفرصة لظهور البعد الثالث.
3- ادراك التنوع داخل العالم الثالث وبروز التقدير والاحترام للعناصر المحلية وتأثيرها في عملية التنمية, حيث لم تعد كل الدول في الهامش منقسمة الى ثنائية اقتصادية, انما هناك تعدد وتنوع في الموارد الطبيعية والاقتصادية وهناك العديد من المحددات والخطوط الفاصلة في المجتمع بين الجماعات العرقية والطبقية, كما ان طبيعة العلاقة بينها تختلف من سياق لآخر من صراع الى تعاون.
وفى الختام: يبقى لاقتراب التبعية قدرة خاصة على تحليل نظم الجنوب, خصوصا في ظل كونه مثل النقد للنظريات السلوكية, التي تجاهلت الأبعاد التاريخية والدولية عند تعاملها مع هذه الدول واعتبرت ان ازمة التخلف حالة طبيعية اصيلة في الدول الصيقة بتكوين شعوبها وثقافاتها وعقائدها وليس للخارج فيها دور, كما ان التطورات على المستوى الدولي خصوصا زيادة تدخل المؤسسات المالية الدولية في شؤون دول العالم الثالث فيما عرف بسياسات الاصلاح الهيكلي والتي تم ربطها بالتحول الديمقراطي في صورة فرضية لم تثبت صحتها بعد, ما جعل من اقتراب التبعية ذات جدارة تحليلية.

SAKHRI Mohamed
SAKHRI Mohamed

أحمل شهادة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، بالإضافة إلى شهادة الماستر في دراسات الأمنية الدولية من جامعة الجزائر و خلال دراستي، اكتسبت فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الرئيسية، ونظريات العلاقات الدولية، ودراسات الأمن والاستراتيجية، بالإضافة إلى الأدوات وأساليب البحث المستخدمة في هذا التخصص.

المقالات: 14911

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *