الأسباب الاقتصادية العميقة للحرب التجارية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين

يعتبر الميزان التجاري جزء لا يتجزأ من الاقتصاد الكلي وميزان المدفوعات الأمريكية، و مع احتدام الصراع الحالي في المبادلات التجارية للسلع بين الصين و الولايات المتحدة الأمريكية تتضح ملامح تلك الاختلالات علي الموازنة المالية العامة الأمريكية التي أضحت تعاني مؤخرا من عجز متراكم علي مستوي الميزان التجاري. لتحديد طبيعة الاقتصاد الأمريكي الذي يعتمد في أسسه علي الرأسمالية و حرية الحركة التجارية و سوق رؤوس الأموال العالمية بحيث يكون القطاع الخاص هو المهيمن علي جميع المرافق الحيوية للاقتصاد الوطني و الذي يقوم بشكل مباشر في تغطية عجز القطاع العام. فمما لا شك فيه تعد تلك المنظومة التحريرية في المبادلات التجارية هي المسبب الرئيسي لتلك الفقاعة من الإضطرابات خاصة منها تأثيراتها السلبية نظرا لتواصل العجز في الميزان التجاري الأمريكي. إذ في هذا السياق لا يمكن للقاصر و الداني إستنكار ما يحدث داخل دواليب وزارة الخزانة العامة الأمريكية التي تشكو بدورها من تفاقم المديونية الداخلية و تخبطها في مصاريف إضافية للنفقات العامة علي الرغم من إعتمادها دولار قوي في الأسواق بمساهمة الضغوطات العسكرية و علي البترو – دولار و بيع الأسلحة لدول الخليج و إبتزازهم بتعلة حمايتهم من البعبع الإيراني المصطنع و كل ذلك لتغطية العجز المتراكم علي مستوي الميزان التجاري و المالي. فذالك القطب الإقتصادي العالمي الأول أصبح اليوم مهددا في مكانته نظرا لتصاعد مكانة العملاق التجاري العالمي الصين الشعبية بمنتجاتها الإستهلاكية ذات القيمة المضافة المنخفضة التكلفة. إذ لتحديد الأسباب الإقتصادية لتلك الحرب التجارية المتصاعدة يجب وضع الأسس الرئيسية لطبيعة التجارة الأمريكية التي تعتمد في مجملها علي تصدير المواد الأولية كالصلب و الفولاذ و الألومنيوم و بعض المواد الإستهلاكية منخفضة الأسعار.

أما الجزء الكبير يتركز بالأساس علي تصدير الصناعات الثقيلة كالأسلحة الحربية و السفن و الطائرات و غيرها من قطاع الغيار في مجال الإلكترونيات التي يتم تصنيعها في منطقة السليكون فالي بحيث تعجز بعض الدول الأخري عن صناعتها نظرا لإفتقارها تلك التكنولوجيات فائقة الدقة. أيضا تتمثل صادرات الولايات المتحدة الأمريكية في بعض الأدوية و المنتجات الصحية من أجهزة و غيرها خاصة لبعض الدول التي تربطها معها إتفاقيات تجارية دولية. بالنتيجة تعد مجمل تلك السلع محدودة في المبادلات التجارية العالمية, أما البقية من المنتجات الإستهلاكية فهي تعتبر بدورها باهضة التكلفة إنتاجا و مرتفعة الأسعار بيعا. فهنا يكمن مربط الفرس بحيث كانت لمنتجات الصين الشعبية الرخيصة جدا مكانة لتكون البديل لتلك المنتجات الأمريكية الباهضة جدا. فلتحديد طبيعة المنتجات الصينية يمكن و ضع معايير لقياس جودتها و أسعارها بحيث تتضح لنا الفكرة كاملة عن نمط تلك التجارة التي تجاوزت الحدود رغم فرض سياسات حمائية تجارية مع وضع العديد من القيود كالضرائب و الرسوم الجمركية لتقليص ذلك النفوذ التجاري الرهيب و الغريب. لكن في المقابل فشلت كل تلك السياسات التجارية و الإتفاقيات الدولية لتقليص رواج منتجات الصين الشعبية في مختلف أسواق الدول العالمية. فمن المعروف عن تلك الصناعات التي تعتمد علي أساليب النسخ و اللصق و شراء الماركات العالمية و هي عبارة عن منتجات موجهة لطبقات إجتماعية معينة نظرا لإنخفاض أسعارها مقابل المنتجات المحلية لتلك الدول.

فتلك السياسة التي تعتبر غير شرعية و لكنها لا يمكن أن تردع لأنها ذات طابع قانوني نظرا لشراء تلك الماركات و لا دليل يذكر في مجال سرقة الملكية الفكرية لبعض المنتجات التي يتم نسخها مع إدخال بعض التعديلات الطفيفة في محتواها.

فكل تلك العوامل ساهمت في خلق ذلك العملاق التجاري الصيني الذي إستغل جميع الإمكانيات المادينة و صخر جميع الطقات البشرية من يد عاملة و إطارات علمية عالية الجودة و منخفضة التكلفة ليخلق منتجات شعبية تصدر لأغلب سكان العالم و التي في مجملها فقيرة. و لعل من أبرز الضحايا في تلك المبادلات التجارية الحرة كانت تلك البلدان الرأسمالية و خاصة منها المتضرر الأكبر في هذا المضمار الولايات المتحدة الأمريكية نظرا لإنخفاض تكلفة إنتاج تلك المنتجات الصناعية مقارنة مع إنتاجها محليا أو إنخفاض أسعارها المهولة و التي تعجز الشركات الخاصة في مجابهة القدرة التنافسية لها بالأسواق المحلية نظرا لتدهور المقدرة الشرائية لأغلب الطبقات الإجتماعية الأمريكية. فكانت لتلك الأسباب الأثر المدمر علي الإقتصاد الوطني الأمريكي مما ساهم في تأثر الإنتاج المحلي الإجمالي سلبا نظرا لتفاقم العجز في الميزان التجاري و بالنتيجة في تفاقم العجز المالي في الحساب الجاري و في ميزان المدفوعات. عموما كان لجانب العجز في الميزان التجاري بين الصادرات و الواردات للسلع مع الصين السبب الرئيسي في تصاعد تلك الحرب نظرا لإنعكاساتها السلبية علي الإقتصاد الكلي برمته و علي الميزانية الأمريكية. كل تلك الأضرار ساهمت في تعميق الجرح المالي خاصة بعد فرض رسوم جمركية إضافية علي واردات السلع من الصين مع إنخفاض صادرات الولايات المتحدة إلي الصين مما تسببت في عجز حاد في الميزان التجاري خلال الثلاثي الأول من سنة 2019 بقيمة 79.979.5 – مليون دولار بحيث كان الإختلال واضح بين الواردات التي بلغت إجمالا خلال تلك الفترة ب 105.973.9 مليون دولار مقابل صادرات الولايات المتحدة نحو الصين بقيمة 25.994.4 مليون دولار. إذ لم يقتصر ذلك العجز فقط علي سنة 2019 بل كان متراكم علي مدي طيلة السنوات الفارطة مما سبب مصدر إزعاج حقيقي لدي الخبراء الإقتصاديين الأمريكيين و المسؤولين بوزارة الخزانة العامة الأمريكية خاصة و أن ذلك العجز في الميزان التجاري بلغ سنة 2018 قيمة 419.162.0- مليون دولار بين ورادات من الصين بلغت 539.503.4 مليون دولار مقابل 120.341.4 مليون دولار للصادرات من السلع نحو الصين. فكان لتراكم ذلك العجز في المتواصل و المستمر السبب الهام في فرض رسوم جمركية إضافية. لكن عبء كل تلك الضرائب و الرسوم الجديد سيتحملها المستوردين و الشركات الأمريكية الخاصة بحيث سترفع في المقابل الصين من أسعار تلك المنتجات و بالتالي العودة إلي النقطة صفر لأن القطاع الخاص الأمريكي سيرهق بأعباء جبائية إضافية.

فالولايات المتحدة الأمريكية أصبحت تعاني من عديد الأزمات الداخلية نظرا لفقدانها التحكم في مبادلاتها التجارية خاصة بعد إيقاف تزويد الأسواق المحلية الصينية بقطاع غيار الإلكترونيات نتيجة للأزمة الحالية بينها و بين شركة هواوي الصينية بتهمة التجسس و القرصنة للمعطيات الشخصية و أيضا لفقدانها لأكثر من 40% من مبادلاتها التجارية مع الصين و غياب كلي لشركاتها في معرض بيجين 2019 لتكنولوجيات المعلومات و الإتصال مما سيزيد بالنتيجة من تضرر ميزانها التجاري خلال الأشهر القادمة. أما في المقابل ففقدان الصين لصفقات بقيمة 144 مليون دولار لن يثنيها من عزمها لمزيد تعزيز قدراتها التنافسية لمنتجاتها خاصة منها زيادة صادراتها من الهواتف الجوالة و أجهزة الحاسوب المحمول و غيرها من الإلكترونيات. بالتالي ستتواصل تلك الحرب التجارية و ستتصاعد حدتها في الأيام القادمة رغم فرض الولايات المتحدة الأمريكية لكل تلك القيود الإضافية لدخول منتجات الصين إلي أراضيها عبر فرض تلك الرسوم الجمركية الجديدة المجحفة.

 تجارة الولايات المتحدة الأمريكية في البضائع مع الصين 2018-2019

الميزان التجاري واردات صادرات شهر
-34،469.5 41،603.8 7،134.3 يناير 2019
-24،760.8 33،194.4 8،433.6 فبراير 2019
-20،749.1 31،175.7 10،426.5 مارس 2019
-79،979.5 105،973.9 25،994.4 المجموع 2019
الميزان التجاري واردات صادرات شهر
-35،952.8 45،788.0 9،835.3 يناير 2018
-29،261.5 39،067.6 9،806.1 فبراير 2018
-25،874.6 38،256.7 12،382.1 مارس 2018
-27،962.0 38،230.0 10،268.0 أبريل 2018
-33،186.6 43،797.4 10،610.8 مايو 2018
-33،483.8 44،599.5 11،115.6 يونيو 2018
-36،834.3 47،096.0 10،261.7 يوليو 2018
-38،569.6 47،863.9 9،294.3 أغسطس 2018
-40،243.0 50،032.1 9،789.1 سبتمبر 2018
-43،102.5 52،233.0 9،130.5 أكتوبر 2018
-37،860.8 46،525.7 8،664.9 نوفمبر 2018
-36،830.5 46،013.5 9،183.0 ديسمبر 2018
-419،162.0 539،503.4 120،341.4 المجموع 2018

United States – Census Bureau, US millions Dollars المصدر:

فؤاد الصباغ – كاتب تونسي و باحث اقتصادي

 

 

SAKHRI Mohamed
SAKHRI Mohamed

أحمل شهادة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، بالإضافة إلى شهادة الماستر في دراسات الأمنية الدولية من جامعة الجزائر و خلال دراستي، اكتسبت فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الرئيسية، ونظريات العلاقات الدولية، ودراسات الأمن والاستراتيجية، بالإضافة إلى الأدوات وأساليب البحث المستخدمة في هذا التخصص.

المقالات: 14889

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *