دراسات سوسيولوجية

الأقليّات الدينيّة بين الفكر الديني والوضعي

بقلم: حيدر حب الله

الأقليّات بمثابة تحدّيات للسلام العالمي والمحلّي
تعتبر مسألة الأقليّات الدينيّة ـ ومعها الأقليّات العرقيّة والقوميّة واللغويّة و.. ـ من القضايا البارزة لحقوق الإنسان في العصر الحديث، والسبب في ذلك يرجع لتاريخ طويل من التنكيل بالأقليّات وسلبها الكثير من حقوقها، بل من أبسط حقوقها في العيش، وقد أدّى هذا الظلم المتوارث على الأقليّات في مختلف البلدان والجغرافيات إلى حركة حقوقيّة عالميّة، انبثقت من التفكير الإنساني، بهدف حماية هذه الأقليّات ومنحها الطمأنينة في الوجود والكيان.

لقد انتبه الإنسان بعد زمن طويل إلى أنّ ثنائية الأقليّة والأكثريّة هي في حدّ ذاتها من الثنائيّات التي تستدعي وقوع الحيف والظلم؛ لأنّ عنصر فائض القوّة الكامن في الأكثريّة يطغى بها نحو العدوان على الآخرين من موقع الضعف الكامن فيهم، بل إنّ بعض الأكثريّات كانت تنطلق في قمع الأقليّات من قناعات بالتفوّق العرقي أو الديني أو بأنّ الآخر يمثل شرّاً مطلقاً.
إنّ الثنائية هذه فرضت نهجاً من المواجهة بين الأقليّات والأكثريّة، وظلّ منطق المواجهة والتوجّس قائماً من الأقليّات في المجتمعات التي تحكمها الأكثريّة، لكنّ العصر الحديث بدأ يدعو لمنطق المعاملة، أي للانتقال من فقه المواجهة إلى فقه المعاملة.

لكنّ الأكثريّة لم تنطلق دوماً من منطق العدوان في التعامل مع الأقليّات، بل كثيراً ما كان السبب شعوراً بالخوف من تلك الأقليّة المنتمية الى أكثريّةٍ ما في مكانٍ آخر، بل كثيراً ما هدّدت الأقليّاتُ الدولةَ المركزيّة عبر التفكير بالانفصال بما يوجب تفتّت الدولة وانهيار المجتمع الكبير، وبهذه الطريقة ونظراً لهيمنة التفكير الأيديولوجي والديني، بات الإحساس بأنّ الأقليّة هي خنجرٌ في الخاصرة الرخوة لمجتمع الأكثريّة.. بات هذا الإحساس أكثر وضوحاً، ومن ثمّ فرض ذلك سعياً من الأكثريّة لحماية نفسها من الأقليّات عبر وقف تمدّدها تارةً أو الاهتمام الأمني بوجودها أخرى وعبر وقف تأثيرها على هوية الأكثريّة من جهة ثالثة، وبهذا ظهر منطق الأمن الاجتماعي والثقافي والديني؛ لأنّ الأكثرية فهمت الأقليّات على أنها تهديدٌ لهذه الأشكال الأمنيّة الثلاثة، وصارت القصّة أكثر تعقيداً.

بل أكثر من ذلك، كان وجود الأقليّات في بعض البلدان سبباً في فتح بلدان أخرى ـ تمثل هذه الأقليات أكثريّةً فيها ـ حرباً بهدف حماية هذه الأقلّيات أو ضمّها إلى مجتمعها الأم، وعلى هذا الأساس كانت إحدى المبرّرات المعلنة للحرب العالمية الثانية، وهي محاولة الألمان الدفاع عن حقوق الأقليات الألمانية وضمّها للوطن الأمّ، والتي باتت قاطنة في سائر البلدان الأوروبيّة خاصّة بعد الحرب العالمية الأولى، فقد خسرت ألمانيا حوالي عُشر أراضيها، وحوالي عُشر سكّانها، وتلاشت فكرة الوحدة بين ألمانيا والنمسا، والتي ـ أي النمسا ـ تضمّ أكبر تواجد ألماني خارج ألمانيا، وصار حوالي مليوني ألماني ضمن حدود بولندا، وحوالي أربعة ملايين ضمن حدود تشيكوسلوفاكيا، ولهذا بدأت الحرب فعليّاً بهجوم الألمان على بولندا بهدف ضمّ الأقليّات الألمانية للدولة الكبيرة، وبحجّة أنّ بولندا هي التي بدأت الحرب.

ومن هذا النوع شعار (معاداة الساميّة) الذي يستخدم اليوم لتصفية حسابات مع دول وتيارات ومنظمات شعبيّة، ومع أفراد أيضاً، فيتحوّل الدفاع عن هذه الأقليّة الساميّة إلى حرب لمهاجمة الآخرين، وإن كان شعار معاداة السامية مرفوض مبدئياً؛ لأنّ معاداة الأعراق والقوميات أمر مرفوض.
وبهذا تحوّلت الأقليّات إلى قضية بالغة الخطورة الأمنيّة والقلق، وتسبّبت بأزمات في العلاقات بين الدول في العالم، وربما لهذا السبب أطلق بعضهم على القرن العشرين أنّه قرن الأقليّات، بل يتوقّع بعضهم أن يستمرّ هذا الوضع في القرن الحادي والعشرين ليكون قرنَ قيام الأقليّات ونهوضها( )، الأمر الذي يترك تأثيراً كبيراً على السلام العالمي واستقرار الدول والشعوب.
إلا أنّ تحوّل العالم تدريجيّاً نحو الدولة المدنيّة، بعيداً عن الدول الأيديولوجيّة أو الدينيّة أو القوميّة أو العرقيّة، خفّف من مستوى الفوارق بين الأقليّة والأكثريّة؛ لأنّ عنوان الانتماء بات متساوياً بالنسبة للجميع، فالانتماء لهذا الوطن أو ذاك لا فرق فيه بين هذه القوميّة أو تلك، وهذه الديانة أو تلك؛ لأنّ مفهوم الوطن الحديث تحرّر تماماً ـ نظريّاً ـ من هذه المقولات أو بدرجة كبيرة جداً.
مع ذلك، لا يمكن لأيّ مجتمع أن يخلو من ثنائية الأقليّة والأكثريّة، ففي الحياة الديمقراطيّة نفسها تظهر الأقليّات التي تقف في خطّ المعارضة عند فشلها في الانتخابات، ومن ثمّ فهذا نوع آخر من الأقليّات يفرض نفسه على القانون وعلى الحياة العامّة، كما وفي كلّ مجتمع تقاليده وموروثاته وعاداته وقناعاته العامّة الغالبة، وبظهور أيّ فريق وسط دائرة من الحريّات، من المتوقّع مخالفة الأكثريّة له كونه يختلف عنها أو قد يتصادم مع بعض تطلّعاتها، وبهذا لم يتمّ الخلاص من ثنائية الأقليّة والأكثريّة، بل استمرّت بأشكال أخَر، إضافة إلى أشكالها القديمة.

من هنا، حاول الإنسان الحديث التفكير بطريقة أعمق هذه المرّة لمعالجة هذه المشكلة، فارتأى أن يحقّق توازناً بين الأقليّة والأكثرية، فعنصر القوّة الذي تملكه الأكثريّة من خلال غلبتها العددية ونحوها، يمكن أن نجعله موازياً لعنصر قوّةٍ أخرى للأقليّات بمنحها المزيد من الحقوق، وفرض هذه الحقوق على الأغلبيّة قانونيّاً، وبهذا تتحوّل ـ من وجهة نظرهم ـ قضيّة المثلية الجنسيّة إلى مفهوم حقوقي إنساني يتمّ التركيز عليه لأجل الدفاع عن حقوق الأقليّات، ويتمّ تفسير هذا الحماس له في سياقٍ إنساني.
وعلى أيّة حال، فعادةً ما تطالب الأقليّات بثلاثة أمور:
1 ـ حماية الوجود، بمعنى عدم تعرّضها للزوال بالإبادة أو القتل أو التهجير.
2 ـ حماية الهويّة، من خلال حفظ هويّتها الدينية أو العرقيّة أو القوميّة أو الحزبيّة عبر تأمين كلّ المستلزمات التي تجعلها تبقى بما هي هويّة دينيّة أو قوميّة أو.. ومن ثم فالأجيال اللاحقة يمكنها الالتحاق بهذه الهويّة القائمة غير المندثرة ولا المنقرضة.
3 ـ حماية المساواة، بمعنى عدم التمييز بين الأقليّة والأكثريّة في الحقوق والوظائف والمناصب والسلطات والحرّيات والقوانين والواجبات، فليس هناك قوانين لصالح الأكثريّة تُحرم منها الأقليّات وبالعكس، إلا ضمن توافق ترضى به الأقليّة نفسها. وبهذا تظهر أشكال حماية المشاركة، أعني مشاركة الأقليّات في الحياة الاجتماعيّة والوظيفيّة والسياسيّة والفكرية والثقافية والعلميّة والاقتصاديّة، وغير ذلك.
هذا كلّه يؤكّد لنا أنّ التعامل مع موضوع الأقليّات ـ خاصّة الدينيّة ـ يشكّل قضية بالغة الأهميّة لاسيما في الدول التي تعيش فيها أقليّات دينيّة متنوّعة، فيما لا تشكّل الأغلبية فيها أغلبيةً مطلقة ساحقة، فإنّ هذا النوع من البلدان من الممكن أن يتعرّض للكثير من المخاطر إذا لم تكن السياسة والرؤية الدينيّة والاستراتيجيّة كفيلة بنزع فتائل التوتر أو القلق.

هذه القضية الشائكة لا تقف متطلّباتها عند حدود النشاط الأمني والسياسي، بل لها علاقة وطيدة بالعلاقات الاجتماعيّة بين الأقوام المختلفة وأبناء الديانات المختلفة في الوطن الواحد، ليكون لدينا ثلاثة أطراف: دولة ـ أكثريّة مجتمعيّة ـ أقليّة.. ويلعب دور الرؤية الدينيّة اللاهوتية والقانونيّة معاً الكثير من التأثير في التنبؤ بمستقبل الأوضاع في البلدان التي تواجه أقليّات متنوّعة، والسياسات الإعلاميّة والتربويّة لها الكثير من التأثير، ففي فضاء عالمنا المعاصر تغدو الأقليّات الدينية المسلمة في الغرب ذي الأكثريّة المسيحيّة والعلمانيّة، خاضعةً للكثير من الضغط الذي يمكن أن تعيشه فيما يسمّى بمناخ (الاسلاموفوبيا). إنّ التعامل مع هذه الأقليّات بطريقة غير صحيحة يمكن أن يزيد الأمور توتراً وانفجاراً، بل قد يهدّد في يومٍ ما استقرار البلدان الغربيّة نفسها.
وهكذا نجد كيف أنّ الرؤية الدينية المسيحيّة عبر التاريخ أرخت بظلالها على العلاقات المسيحيّة مع الأقليّات اليهوديّة في المجتمعات المسيحيّة، ولاقى اليهودُ أشدّ أنواع القمع والتنكيل والإقصاء في أوروبا حتى لم يكن يُسمح لهم بالعيش وسط المدن والقرى، بل لهم مخيماتهم الخاصّة، حتى وصل الأمر إلى ما حلّ باليهود في الحرب العالميّة الثانية، على خلاف المشهد في العالم الإسلامي مع اليهود تاريخيّاً، حيث كان فيه الكثير من التسامح والتعاون.

حقوق الأقليّات في التجربة الوضعيّة
يبدو من قراءة التاريخ أنّ عقدة الأقليّات كانت في الغالب عقدةً دينيّة، ولهذا كان التفكير دائماً في التعامل مع هذه الأقليّات الدينيّة، لكنّ الحرب العالميّة الأولى غيّرت هذا الوضع تماماً، لأنّ مستوى (الخوف من) العنف القومي والعرقي واللغوي وغيره فيها وبعدها كان عالياً وفرض أنواع أكثر إضافيّة من قمع الأقليات والتعامل معها، بحيث شكّل نهضة معاكسة حقوقيّة في هذا الموضوع، بل يمكن أن نشهد مشكلة الأقليّات السود في المجتمعات الغربية منذ تمدّد الاستعمار، وتأثير مزاوجة الداروينيّة الاجتماعية مع النزعات العرقية والقومية المتطرّفة.
إنّ ظهور الدول القوميّة منذ القرن الثامن عشر الميلادي سلّط الضوء أكثر على أنواع جديدة من الأقليّات، غير الأقليات الدينيّة، بحيث بدأ تدريجياً بفرض التفكير في هذا النوع من الأقليّات والتعامل معه، لكنّ تغيّرات العالم مع الحرب العالميّة الأولى جعل القضيّة أكثر سخونة، فانهيار الدول العظمى في تلك الحرب، مثل الامبراطورية العثمانيّة والألمانية وغيرها، أعاد تشكيل دول جديدة في أوروبا، وبهذا تغيّرت الخارطة السكّانيّة تبعاً لتغيّر الدول، وحذراً من حمام الدم توجّه العالم للتفكير في حماية الأقليّات عبر معاهدة فرساي (1919م) في الشمال الفرنسي، والعديد من المعاهدات والاتفاقيّات الأخرى، وبهذا بدأنا نشهد نهضة جديدة في قضيّة حقوق الأقليّات في العالم، إلى أن أدرجت عصبة الأمم قضيّة الأقليّات على جدول أعمالها، الأمر الذي أسّس لمرحلة جديدة في هذا الموضوع.

وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية التي كانت من أسبابها المعلنة حماية الأقليّات الألمانيّة عاد موضوع الأقليّات للتداول بقوّة من جديد، وقد تعزّز هذا الأمر بتفكّك الاستعمار في العالم وظهور دول جديدة كثيرة تحكمها إثنيات وديانات ومذاهب ولغات مختلفة، وبهذا صار الموضوع أكثر جديّةً.
وقد طوت التجربة الإنسانيّة خلال الفترة الفاصلة بين الحرب العالمية الثانية وإلى اليوم، عدّة خطوات مهمّة، أبرزها:
1 ـ في إعلان الأمم المتحدة عام 1945م عقب انتهاء الحرب، لم تتمّ الإشارة الصريحة لقضيّة الأقليّات، بل تمّت الإشارة لاحترام الحريّات وحقوق الإنسان، دون تمييز في الجنس والعرق واللغة والدين، وذلك في البند الثالث من المادة الأولى، والذي نصّ على «تحقيق التعاون الدولي على حلّ المسائل الدوليّة ذات الصبغة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانيّة، وعلى تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريّات الأساسيّة للناس جميعاً، والتشجيع على ذلك إطلاقاً بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين، ولا تفريق بين الرجال والنساء»( )، وكذلك في البند ج من المادة 55، حيث يقول: «أن يشيع في العالم احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين، ولا تفريق بين الرجال والنساء، ومراعاة تلك الحقوق والحريّات فعلاً»( ).
2 ـ تأسيس اللجنة الفرعية لمنع التمييز وحماية الأقليات، وذلك عام 1947م، من قبل الأمم المتحدة.
3 ـ لم يتمّ الحديث صريحاً في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والصادر عام 1948م، عن قضيّة الأقليّات باستثناء ما ورد في المادة الثانية من الحديث عن الحقوق والمساواة، بصرف النظر عن اللغة والدين والعرق والعقائد السياسيّة، ونصّ المادّة هو: «لكلِّ إنسان حقُّ التمتُّع بجميع الحقوق والحرِّيات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أيِّ نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدِّين، أو الرأي سياسيّاً وغير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أيِّ وضع آخر. وفضلاً عن ذلك لا يجوز التمييزُ على أساس الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي للبلد أو الإقليم الذي ينتمي إليه الشخص، سواء أكان مستقلاً أو موضوعاً تحت الوصاية أو غير متمتِّع بالحكم الذاتي أم خاضعاً لأيِّ قيد آخر على سيادته»( ).
4 ـ تصويب القرار رقم 217، بتاريخ 10 ـ 12 ـ 1948م، تحت عنوان مصير الأقليّات، وقد أتى مكمّلاً للإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
5 ـ في عام 1965م، تمّ إلغاء كلّ أشكال التمييز العرقي، وتأسيس هيئة ناظرة في هذا الصدد، وقد صدر القرار رسميّاً عام 1969م.
6 ـ ما يعتبر من الخطوات المهمّة جداً في هذا المجال، وهو التوافق على العهد الدولي الخاصّ بالحقوق المدنية والسياسية عام 1966م، والذي وقّعت عليه أكثر من مائة وسبعين دولة، والذي تحدّث بشكل واضح وصريح عن التمييز وعن حماية الأقليّات، مصرّحاً بالأقليّات الدينية واللغوية والعرقيّة.
7 ـ ما يعتبر تتويجاً لمسيرة طويلة من الدفاع عن الأقليّات في العالم، وهو ما صدر ضمن قرار الجمعيّة العامة للأمم المتحدة، وذلك في 18 ـ 12 ـ 1992م، والذي يعدّ آخر ما توصّل إليه العقل الإنساني الوضعي في مجال أممي للتعامل مع الأقليّات.
ويكفي مطالعة المادّة الأولى من موادّ هذا الإعلان، والتي تنصّ: «على الدول أن تقوم، كلّ في إقليمها، بحماية وجود الأقليّات وهويّتها القومية أو الإثنية، وهويتها الثقافية والدينيّة واللغوية، وبتهيئة الظروف الكفيلة بتعزيز هذه الهويّة».

من فلسفة قضيّة الأقليّات في الفكر الديني
كان ما تقدّم حديثاً عن تجربة الإنسان الوضعي في العصر الحديث، في تعامله مع قضيّة الأقليّات انطلاقاً من التهديد الذي فرضته هذه القضيّة، خاصّةً في أوروبا (الحربين العالميّتين) وأميركا (حقوق السود) وغيرها.
لكنّ الأديان تملك تجربةً طويلة غارقة في القدم مع موضوع من هذا النوع؛ لأنّ العنصر الأكثر تأثيراً في تكوين الهويّة في العصر ما قبل الحديث كان هو الدين، ومن الطبيعي أن تتشكّل هويّة الأقليّات والأكثريّات على أساس الدين ـ إلى جانب غيره ـ بوصفه مؤثراً رئيساً.
إلا أنّ موضوع الأقليّات في التناول الديني يختلف عنه في تناول الإنسان الحديث، فالإنسان الوضعي الحديث ـ لا أقلّ نظريّاً ـ كان يتعامل مع طرف واحد يريد أن يحلّ له قضاياه، وهو الإنسان نفسه، بينما الفكر الديني لا يقرأ الأمور بهذه الطريقة. إنّه يرى أنّ هناك الإنسان وفي الوقت عينه هناك الله سبحانه بما يمثله من حقيقة عليا، تلك الحقيقة التي تجلّت في الأديان والوحي، ومن ثمّ فالدين يراقب قضيّة الله كما يراقب قضيّة الإنسان، ولا يريد أن يُلغي حقّ الإنسان وينحره في سبيل حقّ الله نظراً لما للإنسان في عين الله أيضاً من قيمة وكرامة، في الوقت عينه الذي لا يريد العكس.

وهذا يعني أنّ الفكر الوضعي الحديث ليس عنده وراء الإنسان (بما هو في الدنيا) شيء، فليس وراء عبّادان قرية، بينما الدين يجد أنّ وراء الإنسان حقيقة أعلى، وأنّ الإنسان يحصل على كماله بها، وأنّ خدمة الإنسان في مصيره ونجاته عبرها، بل الأنا الإنسانيّة الحقيقيّة في الدين لا تكون إلا بتلك الحقيقة، وإلا فهي أنا مزيّفة وموهومة، قال سبحانه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ) (البقرة: 8 ـ 12)، وقال تعالى: (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) (المؤمنون: 54 ـ 61)، فهذه النصوص ترشد إلى الأنا الزائفة والوهم الذي يعيشه البشر في تقويمهم لأوضاعهم، فيما يضيّعون الأنا الحقيقيّة التي لا تكون إلا بالله سبحانه.

لهذا يظهر الدين حريصاً على حقيقةٍ خارجَ الإنسان، ومن ثمّ فحماية الأقليّات أو التعامل معها ينبغي ـ في الدين ـ أن لا يكون على حساب سائر عناصر الصورة، وهو ضياع الحقيقة الدينية وتلاشي المناخ الإيماني، ومن هنا اعتبر الدين أنّ الجماعة المؤمنة هي بيئة حاضنة لقيامة الإيمان، وأنّ حماية هذه البيئة الحاضنة هو ضرورة كذلك، لذلك وجدنا حرصاً من الدين على هذه الجماعة وعلى الحقيقة بقدر حرصه على الإنسان.
ووفقاً لذلك يظهر تصنيف الدين للبشر، إلى مؤمنين وغير مؤمنين، وهو تصنيف لم تحتمل العديد من الأديان أن تلغيه؛ لأنّه يمثل جوهر قضيّتها في الحياة، وهذا ما يفسّر لنا أنّ بعض الأديان كالإسلام والمسيحيّة، لا تنظر إطلاقاً للتمييز في اللون والعشيرة والقبيلة والعرق واللغة والقوميّة؛ لأنّ هذه الأمور لا تدخل ضمن أولويّاتها، فإنّ تصنيف البشر يقوم على معيار، وهذه الأمور لا تعبّر في الدين عن معيار، ولو عبّرت بعض الأمور عن معيار مثل الجنس (ذكورة وأنوثة) فلاعتبارات تنظيميّة ـ وأحياناً جوهريّة ـ لا غير.

وبتبع تقسيم البشر إلى مؤمنين وغير مؤمنين، تتأثر الجغرافيا أيضاً في الفكر الديني، وخاصّة الإسلامي، فيظهر ما يسمّى بدار الإسلام ودار الكفر أو دار الحرب.
هذا الفضاء نجد انعكاسه جليّاً في تاريخ المسيحيّة والإسلام معاً، ففي المسيحيّة يمكننا ملاحظة تجربة القدّيس توما الأكويني (1274م) وهو يحدّد الموقف من المخالطة الاجتماعيّة مع الآخر غير المسيحي، إنّه يضع هذه العلاقة في سياق متحرّك في الزمان والمكان والظرف والحال، وتتبع طبيعة النتائج المتوقّعة من ورائها، فإذا كانت النتائج خطرةً على الإيمان المسيحي، كان الموقف سلبيّاً من هذه المخالطة، دون العكس( ). وبهذا يبدو واضحاً أنّ الأكويني يفكّر ذرائعيّاً في موضوع العلاقة مع الكافرين؛ فهو ينظر إلى المآلات التي يمكن أن توصلنا إليها هذه العلاقة، وما إذا كانت سوف تشكّل تهديداً للجماعة المسيحيّة أو لا، أو تهديداً للإيمان المسيحي أو لا.
وعندما ينتقل الأكويني نحو قضيّة السماح بطقوس الآخرين من غير المسيحيّين، نجده يضع قِبْلَتَه في مديات خدمة ذلك للإيمان المسيحي، ففي البداية ينطلق من نوعٍ من المحاكاة بين السياسة الإلهيّة والسياسة البشريّة، حيث يؤسّس أصلاً قانونيّاً يعتبر فيه أنّ السياسة البشريّة عليها أن تقتدي بالسياسة الإلهيّة، وبهذا يطرح الأكويني موقفَه من قضيّة الشرور في العالم، حيث يرى أنّ الله يسمح ببعض الشرور انطلاقاً من أنّ منعها ربما يؤدّي إلى شرور أعظم أو إلى خسارة خيرات أكبر، وهو بهذا يعيد إلى أذهاننا النظريّة التي تستخدم في تفسير الشرور في العالم الجملةَ الآتية: إنّ ترك الخير الكثير من أجل شرٍّ قليل هو شرٌّ كثير.

بناءً على ذلك، يعتبر الأكويني أنّه من الممكن أن نحتمل طقوس الكافرين ـ وهو إلى الآن يلاحظ اليهود بالخصوص ـ لأجل خيرٍ أعظم، وهو إثبات الديانة المسيحيّة؛ لما بين اليهوديّة والمسيحيّة من اتصال تاريخي ولاهوتي عميق، فيقبل بطقوس اليهود، لكنّه يرى أنّ طقوس الوثنيين وأمثالهم لا فائدة منها ولا خير يمكن أن نحصل عليه من ورائها لإثبات حقيّة المسيحيّة مثلاً، لهذا فهو يرفض احتمالها، والقبول بها أمراً واقعاً ما لم يكن في مواجهتها مفسدة عظيمة أو تشكيكاً أو نزاعاً قد يُلحق ضرراً بالمؤمنين( )، وهو بهذا ينطلق في ذهنيّته مرّةً جديدة من قواعد فقه الأولويّات وقوانين تزاحم المصالح والمفاسد، لخدمة الإيمان والمؤمنين، ليدير السياسة الشرعيّة عبر هذا النوع من المعايير والقيم.
وبهذا لو جاز لنا تصنيف الأكويني، لوضعناه ضمن الاتجاه الرافض لطقوس الآخرين تماماً، ما لم تكن للإيمان المسيحي مصلحة، فقبوله بالطقوس اليهوديّة ليس كَرْمَى لعيون اليهود، بل لما في بقاء اليهوديّة من تثبيت لقواعد الإيمان المسيحي، وبهذا تبدو وصوليّة الأكويني جليّةً هنا، بالمعنى غير السلبي للكلمة، بمعنى أنّه يتوسّل بالحريّة الطقوسيّة للآخرين كي ينتفع بها للإيمان، ولهذا وبمجرّد أن لا يرى من ورائها منفعة له يتجه نحو منعها تماماً، كما رأينا موقفه من طقوس الوثنيّين.
هذا في تاريخ المسيحية، أمّا في تاريخ الإسلام، فإذا أردنا الدخول لفضاء الفقه الإسلامي، فنحن نلاحظ عنصرين لعبا دوراً في تقديم قراءة لاهوتيّة للعلاقة مع الأقليّات:
أ ـ عنصر الهويّة الدينيّة، ووفقاً لهذا العنصر تمّ تقسيم المجتمع إلى ثلاث مجموعات، هي: المسلمون، أهل الكتاب، من سواهم.
ب ـ عنصر الحالة الميدانية القائمة بين المسلمين ومن سواهم، وهي تنقسم إلى قسمين: حالة الحرب، وحالة السلم.
وبنظرة كليّة قام الفقه الإسلامي بتقسيم الخارطة الجغرافيّة للعالم إلى ثلاث بقاع:
دار الإسلام، وهي البلدان التي تقطنها غالبيّة مسلمة أو تقع تحت سلطة المسلمين.
دار الحرب، وهي البلدان التي تقطنها غالبيّة غير مسلمة، وهي محاربة للمسلمين.
دار العهد، وهي البلدان التي يقطنها غير المسلمين، بيد أنّ بينهم وبين المسلمين معاهدة وسلام.
وبهذا يتبيّن أنّ الأقليّة المسلمة سوف تكون في دار العهد أو دار الحرب، فيما الأقليّة غير المسلمة سوف تكون في دار الإسلام. وقد استخدم الفقه الإسلامي في حقّ الأقليّات غير المسلمة الموجودة في دار الإسلام سلسلة تعابير من نوع: أهل الذمّة، المستأمنون..
ويشرح بعض الباحثين المعاصرين أنّ الأقليات غير المسلمة في دار الإسلام تعرّضت للدراسة من فئات من الباحثين والدارسين:
1 ـ الفقهاء المسلمون، حيث درسوا الأوضاع القانونية لهذه الأقليّات، وفقاً للشريعة الإسلاميّة.
2 ـ الحقوقيّون المعاصرون، الذي درسوا أوضاع هذه الأقليّات من زوايا حقوقيّة بالمعنى المعاصر للكلمة في فضائها الوضعي.
3 ـ المؤرّخون، وهم الذين درسوا أحوال الأقليّات الدينيّة عبر التاريخ الإسلامي في بلاد المسلمين وطريقة تعامل المسلمين معهم( ).
وبهذا نلاحظ أنّ (الدين + الحالة السياسيّة) يلعبان دوراً في تحديد نوع العلاقة مع الآخر، في الفقه الإسلامي.

كلمة أخيرة
ووفقاً لهذا التصوّر العام يظهر التمايز واضحاً بين الرؤية الوضعيّة والرؤية الدينيّة، والتحدّي الأكبر الذي يواجه الدين اليوم في قضيّة من نوع الأقليّات الدينيّة، هو التصادم الذي سوف يقع بين بارادايم (paradigm) الدين في ثنائية: الله/الإنسان، وبارادايم الفكر الوضعي الحديث في محوريّة الإنسان، وهو ما يفرض في ظلّ خطورة وحساسيّة النتائج التي يمكن التوصّل إليها:
أوّلاً: ضرورةَ البحث المعمّق وتجديد النظر بشكل محايد في الرؤية القانونيّة الدينيّة من موضوع الأقليّات والموضوعات التي تترك أثراً عليه، بعيداً عن الحمولات المسبقة بما فيها الحمولات الآتية من التراث نفسه.
ثانياً: تقديم مقاربة فلسفيّة لتعقيل هذه الرؤية لو كانت النتائج غير متوافقة مع ما توصّل إليه العقل الوضعي، والهدف من التعقيل ليس أنّ الفكرة الدينية غير عقلانيّة، ونريد تعقيلها، بل محاولة تقديمها بطريقة صالحة للتبرير في فضاء الفكر المعاصر، فهذه حاجة زمنيّة اليوم؛ لأنّ التبرير العقلاني هنا ضمن سياقات مختلفة ضروري بالنسبة إلينا في هذه اللحظة الزمنيّة، ولو كان هذا التبرير متضمّناً لعمليّات نقد فلسفي لأصول مدار الفكر الوضعي الحديث.

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى