قراءة في واقع الأمن القومي العربي وصراع القوى الكبرى

 خطة الدراسة

– الاستراتيجيات الكبرى وتطور المنطقة العربية.

– التطور الاستراتيجي وأبعاده في السياسة الأمريكية.

– الخصائص الاستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط.

– الأمن القومي العربي والقوى الدولية.

– تطور السياسة الأمريكية واستراتيجية التعامل مع مفهوم الأمن القومي العربي.

– الاستراتيجية السوفيتية وتطور المنطقة العربية.

– أهمية المنطقة العربية في الاستراتيجيات الكبرى: إمكانية المساومة وحدودها.

– الاستراتيجيات الكبرى وتطور المنطقة العربية:

 إذا طرحنا السؤال التالي أين من هذا الأمن القومي العربي بمبادئه الواضحة والمقننة الاستراتيجيات المختلفة التي تتعامل مع المنطقة العربية؟

الأمن القومي ليس شعورا وإحساسا. إنه موقف وواقع. الأول هو الخيال والمثالية، الثاني هو الممارسة والتعامل. وعلينا أن نفهم منذ البداية أن مفهوم الأمن القومي هو فلسفة للحركة التي تستمد مصادرها من مبدأين الضرورة التي تبيح المحظور، والحيطة التي تفرض الأسوأ. ومن ثم فمن الطبيعي حدوث الصدام بين أي مفهوم للأمن القومي لدولة معينة والأمن القومي لأي دولة أخرى. هذا الصدام كان حتى وقت قريب يدور حول علاقات الجوار، ولكنه اليوم ولأول مرة في تاريخ البشرية وكما سبق أن رأينا أضحى ستارا يغلف حق القوى في اكتساح الضعيف ويحطم كيانه الذاتي.

هذه الحقائق يقف أمامها المنطق العربي في حالة شلل حقيقي. لماذا؟ لأن المنطق العربي منطق ساذج. لقد تعودت السياسة العربية أن تلقي بثقلها في كفة واحدة. التلاعب بفرض عدم الاستسلام المطلق، بل إن الاستسلام يملك استراتيجية. ترى هل نحن أمة السياسة لم نعد نعرف فن السياسة؟ كما ارتمى جمال عبد الناصر في أحضان الاتحاد السوفيتي فقد ارتمى السادات في أحضان الولايات المتحدة. وكلاهما خاطئ. إن الاستسلام يجب أن يكون بحنكة حتى لو قبلنا المبدأ، ومن قبيل المسايرة المنطقية فقط وذلك بمعنى أن الباب يجب أن يظل مفتوحا لإمكانية العودة إلى الوراء أو التهديد بذلك على الأقل. السياسة الدولية لم تعد صنعة الهواة، وعلينا أن نفهم منطق التعامل الداخلي لا يصلح كقاعدة للتلاعب بالقوى الدولية. في تاريخ المنطقة منذ قدر لها أن ترفع رأسها يصعب علينا أن نجد قائدا يفهم حقيقة الإطار الدولي لقد أخطأ محمد علي لأنه وثق في فرنسا وأخفق الخديوي إسماعيل لأنه لم يفهم فن التلاعب بالقوى الاقتصادية، وأخطأ جمال عبد الناصر لأنه لم يزن بمعيار واقعي العداوات التي تحيط بالمنطقة العربية. فهل سوف تظل قياداتنا أسيرة لقوى قادرة على أن تتلاعب بنا وتفرض على المنطقة أسلوب مسرح العرائس؟

في لحظة معينة أضحت المنطقة العربية امتدادا للحرب الباردة بين العملاقين، ولا تزال، حتى أن القوى السياسية في المنطقة لم تعد إلا امتدادا لإرادة من اثنين: موسكو أو واشنطن فهل آن لنا أن نفهم أن منطق التعامل العربي يجب أن يستقل ويتميز؟

الإجابة على هذا السؤال لا يمكن أن تكون كاملة إلا إذا انطلقنا في متابعة تاريخية لحقيقة العلاقات العربية الدولية على الأقل منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر، كذلك فإن دراسة منطق هذا التعامل واستخلاص الدلالة في حاجة إلى إبراز حقيقة التطور العام للاستراتيجيات الكبرى حول المنطقة العربية، وبصفة خاصة منذ الحرب العالمية الثانية. البعد التاريخي من جانب واستقرار الواقع من جانب آخر يمثلان المصدر المباشر لفهم طبيعة التعامل الدولي مع المنطقة العربية. المنطقة العربية مسرح لعديد من السياسات: سياسات القوى الكبرى- سياسات القوى الوسيطة الدولية- سياسات القوى الإقليمية غير العربية. إنها تفاعل من جميع هذه الاتجاهات المتباينة ذات المصالح المختلفة والمتباينة بحيث أن كل ما تخضع له المنطقة ليس إلا تعبيرا عن ذلك التفاعل، ومن الخطأ البين تصور أن المنطقة لا تزال لا إرادة لها في التفاعل الدولي الإقليمي.

هذه الملاحظات تفسر مدى اتساع الموضوع، ومن ثم استحالة تصفيته في بعض التأملات، رغم ذلك فإن تقديم إطار متكامل- ولو في صورة عامة تترك التفاصيل جانبا لحقيقة تطور الاستراتيجيات الكبرى وموضعها من مفهوم الأمن القومي العربي – ضرورة لازمة لنستطيع فهم أهمية تكامل هذا المفهوم كمقدمة لبناء استراتيجية واضحة ومقننة للتعامل مع القوى الدولية. علينا أن نفهم كيف أن الأمن القومي العربي لا يمكن أن يقف في تجانس بأي بعد من أبعاده وبأي مستوى من مستوياته مع أي من الاستراتيجيات الكبرى. هدفنا من هذا التحليل هو فقط إبراز التناقضات الحقيقية بين هذه الاستراتيجيات الكبرى أي استراتيجيات القوتين الأعظم ومفهوم الأمن القومي كما يستطيع أن يسجلها المحلل المحايد من استقراء الأحداث.

على أنه لا يجوز لنا أن نتصور أن هدفنا من طرح هذه التساؤلات هو مجرد فضول علمي، أو تجرد في نطاق التنظير السياسي. إن له أيضا أبعادا عملية تتعلق بالممارسة الدولية من جانب القيادات العربية. ولنحدد ذلك بوضوح ودقة:

(أولا) المعرفة بحقيقة الأهداف التي تسعى إليها الاستراتيجيات الكبرى من التعامل مع المنطقة، ومن ثم يستطيع المخطط العربي أن يلم بالخفايا الحقيقية لتلك القوى بحيث يصير قادرا على التمييز بين ما تعلنه تلك القيادات من جانب ونواياها الخفية من جانب آخر.

(ثانيا) تحديد نقط الخلاف والصدام بين الاستراتيجيات الكبرى بحيث يستطيع المخطط العربي أن يتسلل من خلال تلك النواحي ليضع كل استراتيجية في مواجهة الأخرى، ومن ثم يستغل ذلك الصدام والتعارض لمصلحته. إن الإرادة العربية ضعيفة وغير مؤهلة للتعامل مع القوى الكبرى. إحدى نواحي سد هذا النقص هي التلاعب بالصدامات الحقيقية أو المحتملة بين أهداف الاستراتيجيات الكبرى.

(ثالثا) توظيف الاستراتيجيات الكبرى لمصلحة المنطقة.وهذا يصير أقل الممكن. فإذا كان لا بد لنا من أن نخضع لسيطرة إحدى تلك القوى العملاقة فليس أقل من توظيف مصالح تلك الاستراتيجية لأهدافنا القومية. ألم نقل أن الاستسلام أيضا له استراتيجية؟

قبل أن نجيب على هذه الاستفهامات ونطرح حقيقة التناقضات بين مفهوم الأمن القومي العربي وجميع استراتيجيات القوى الدولية المتعاملة مع المنطقة فإن هناك مجموعة من الحقائق يجب أن نسلم بها كبديهيات ليست في حاجة إلى مناقشة. هذه الحقائق هي وحدها التي تمثل المفتاح الخفي لفهم الأحداث التي تحيط بنا. هناك تطور خفي تعيشه الأسرة الدولية ومن ثم السياسات الكبرى في منطقة الشرق الأوسط. مما لا شك فيه أن الأوضاع الاستراتيجية التي تنبع من الخصائص الإقليمية تظل قائمة، ولكن تطويع لتلك الأوضاع للمتغيرات الجديدة يفرض نوعا من إعادة التطويع لأسلوب التعامل. ما هي الخصائص أو البديهات التي يجب أن نطرحها لندعها عقب ذلك جانبا قبل أن نتطرق إلى صلب الموضوع؟

(أ) أولى هذه الحقائق التي نعيشها هي أن الولايات المتحدة تجد نفسها في الوقت الحاضر ولأول مرة في تاريخها متفوقة تفوقا ساحقا من حيث اتساع النفوذ في منطقة الشرق الأوسط، وذلك رغم أن جميع عناصر الموقف العربي كانت تفرض العكس. أما عن تفوقها فليس في حاجة إلى تفصيل. المظلة الأمريكية ترفرف على المنطقة، واشنطن هي البيت المقدس الذي يحج إليه كل زعيم عربي، قواعدها أو ما يسمى بالتسهيلات منتشرة في كل مكان، كلمتها هي المتحكمة في كل خلاف. المنطق الطبيعي للأشياء كان يفرض عكس ذلك: فهي لا تنتمي إلى المنطقة خلافا للاتحاد السوفيتي، وهي وريثة جميع أعدائنا التقليديين، الاستعمار الغربي الانجلوسكسوني والفرنسي، الشركات المتعددة الجنسية ليست سوى الذراع الطويلة للامبريالية الأمريكية، وهي حليفة أكبر الأخطار التي تهدد المنطقة، الصهيونية العالمية وأداتها المتقدمة الدولة العبرية.

(ب) الحقيقة الثانية أنه رغم التفوق الأمريكي فإن كلا الطرفين يتحرك نحو المنطقة، أي منطقة الشرق الأوسط بصفة خاصة والقارة العربية بصفة عامة. قد تختلف أساليب التحرك ولكن من الواضح أن كلا من موسكو وواشنطن تضع حساباتها. فاحتلال أفغانستان والانقلاب في الحبشة والتحالف مع ليبيا والتسلل إلى وسط أفريقيا ليست إلا أساليب للتحرك السوفيتي تختلف عن أساليب التحرك الأمريكي ولكنها تتفق في الهدف. التحرك السوفيتي الذي يتجه إلى الأطراف بحيث يستطيع الإحاطة بالمنطقة العربية، يختلف عن التحرك الأمريكي الذي يضرب في القلب. ولكن كلا التحركين تعبير عن واقع معين وهو إدخال المنطقة كعنصر من عناصر استراتيجية كلا الطرفين.

(جـ) الحقيقة الثالثة وهي واقع المنطقة، أي منطقة الشرق الأوسط. لقد ظلت مشاكل هذه المنطقة حتى بداية السبعينات مجزأة، كل منها مستقلة عن الأخرى. مشكلة الصراع العربي الإسرائيلي مستقلة عن مشكلة أمن الخليج وكلتاهما تملك استقلالا معينا عن مشكلة البحر الأحمر. وهي جميعها محدودة الصلبة بفاعلية حلف الأطلنطي، اليوم ومنذ حرب الأيام الستة على الأقل أصبحت جميع مشاكل المنطقة الممتدة من البحر المتوسط الشرقي وبصفة خاصة منطقة البلقان وما يحيط بها إلى الشرق الأقصى لمنقطة الشرق الأوسط وما يتبعها، أي شمال ووسط المحيط الهندي تمثل مسرحا واحدا مترابطا، حيث جميع المشاكل مترابطة ومتداخلة. منطقة البلقان هي أضعف أجزاء الحلف الأطلنطي بسبب عدم وجود عمق استراتيجي فضلا عن ضعف القوى المحلية المواجهة للغزو السوفيتي. منطقة شمال شرق المحيط الهندي هي أضعف المواقع السوفيتية من  حيث أهدافها الوظيفية بسبب انعدام الاتصال المباشر بالمحيط الهندي. ما بين هاتين البقعتين يمثل مسراحا واحدا لا تفصل مشاكله.

ومن ثم نصل إلى المحصلة النهائية لهذه المقدمات: هناك لكل من الطرفين العملاقين أهداف في المنطقة، وهي لا بد أن تنبع من استراتيجية كلية وشاملة. علينا أن نحاول تحديد هذه الاستراتيجيات في إطارها العام بحيث نستطيع أن نطرح موضوع تساؤلنا في وضوح ودقة: أين هذه الاستراتيجيات من الأمن القومي العربي؟

بطبيعة الحال فإن المحور الأساسي في هذه الدراسة هو القوتان الأعظم. على أن التعرض للقوى الدولية الأخرى بدوره ضرورة تفرضها الرغبة في الإحاطة الكلية بموضوع بطبيعته لا تزال عناصره غير واضحة وغير مقننة وكما سبق أن رأينا.

– التطور الاستراتيجي وأبعاده في السياسة الأمريكية:

        منذ مجيء  الحزب الجمهوري إلى السلطة انتقلت الولايات المتحدة إلى استراتيجية جديدة سوف تمتد عدة أعوام يقدرها البعض بفترة تتراوح بين خمسة وعشرة أعوام. مدار هذه الاستراتيجية الجديدة أن الولايات المتحدة إذا أرادت أن تحافظ على وضعها الدولي فعليها أن تستغل قدراتها في أن تسرع بخلق حالة حرب شبه حقيقية بحيث تستطيع من جانب أن توقف التطور العسكري الإيجابي السوفيتي، وبأن ترهقه وتقلم أظافره بينما تسرع هي في عملية البناء العسكري المكثف، ومن ثم تعيد التوازن العسكري والاستراتيجي لصالحها.

فلنحدد معنى ذلك:

(أولا) جميع المتغيرات التي تشكل السياسة الأمريكية قومية وإقليمية تقود إلى تشجيع القيادات المسئولة على المغامرة بخلق حالة صدام دولي بغض النظر عن نموذجه وخصائصه، بحيث تسمح للولايات المتحدة من جانب بالنيل من خصمها الأول وهو الاتحاد السوفيتي، وبحيث تتولى من جانب آخر تصدير المشاكل الداخلية في المجتمع الأمريكي إلى خارج ذلك المجتمع الأمريكي.

(ثانيا) على أن هناك مجموعة أخرى من المتغيرات تدفع بالاتحاد السوفيتي للصدام الدولي بدوره. والسبب في ذلك يعود إلى أن الدولة الروسية تجد نفسها وبصفة خاصة قرابة عشرة أعوام وقد أحيطت بحصار حقيقي سوف يزداد دعما مع التطورات القادمة. هذا الحصار الذي يبدأ من طوكيو ويمتد إلى بكين ثم يسير مخترقا وسط آسيا ليلتقي مع حائط الأطلنطي تركيا ومنها يتابع سيره حتى البلطيق لم يكتمل بعد. فهناك الثغرة التي تمتد من الباكستان حتى تركيا. ولو اكتمل هذا الحصار الصحي فإن الاتحاد السوفيتي سوف يجد نفسه في وضع أسوأ من ذلك الوضع الذي عرفه فترة حكم ستالين وقبل الحرب العالمية الثانية.

(ثالثا) الحرب التي سوف نعاصرها خلال الأعوام العشرة القادمة لن تكون حربا مباشرة بين العملاقين، وإنما سوف تأخذ صورة القتالات الجانبية بطريق الوسيط في مناطق متعددة حيث المبادرة سوف تكون أمريكية بحيث تسمح للقيادة الأمريكية بأن توقف أو تعطل التطور العسكري السوفيتي من جانب وأن تعيد بناء تفوقها القتالي أي الأمريكي من جانب آخر. ولا يجوز أن نستهين بدور النزيف والاستنزاف الاقتصادي الذي سوف يتعرض له الاتحاد السوفيتي بذلك الخصوص وبصفة خاصة في إيقاف التطور في أدوات القتال المتقدمة من جانب المعسكر الشيوعي.

وهكذا مجموعة من النتائج لا بد أن تسيطر على تطور الصراع الدولي خلال الأعوام القادمة:

(أ) استعمال القوة العسكرية في العلاقة بين الدولتين الأعظم أمر أضحى، ليس فقط واردا بل هو مؤكد. الولايات المتحدة تشعر أنها في حالة ضعف، ومن ثم فهي تسعى لإيقاف تطور الاتحاد السوفيتي ووضع خطة تسمح لها باستعادة توازنها. الاتحاد السوفيتي لن يترك نفسه ليستيقظ فإذا به محاصر ومكره على أن يدافع عن نفسه من منطلق حدوده وفي داخل أرضه القومية.

(ب) أسلوب القتال سوف يغلب عليه استخدام الوسيط وفي المناطق الساخنة المحيطة بأي من الدولتين الأعظم. هدف الولايات المتحدة هو تقليم أظافر الدب الروسي. بينما سوف يسعى الاتحاد السوفيتي جاهدا ليجعل الولايات المتحدة تنكفئ على ذاتها وتعود إلى إقليمها بمعناه الضيق أي الأمريكتين لتعلق جراحها.

(جـ) مواقع القتال سوف تكون بهذا المعنى، وفي أغلب الأحيان في دول العالم الثالث والمحيطة بالاتحاد السوفيتي من جانب وجنوب البحر الكاريبي من جانب آخر. أهم المناطق الصالحة لذلك: منغوليا الشمالية، الخط الممتد من الباكستان حتى تركيا، وبصفة خاصة منطقة الأكراد ومنطقة أرمينيا، بعض مناطق أوروبا الشرقية، وذلك إلى جانب جميع دول أمريكا الوسطى التي تحيط ببحر الكاريبي دون استثناء المكسيك ذاتها.

وهنا البداية الحقيقية في فهم مدى التعارض أو التناقض بين مفهوم الأمن القومي العربي والاستراتيجيات الكبرى المتعاملة مع المنطقة هو فهم حقيقة الخصائص الاستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط. والواقع أنه يتعين علينا أن نجيب على التساؤل موضع هذه الدراسة أن نتذكر وبصفة عامة دون الدخول في التفاصيل، خصائص المنطقة من حيث موضعها الاستراتيجي وفي إطار التناطح بين القوى الدولية:

(أولا) هذه المنطقة توجد في أسفل الاتحاد السوفيتي، أي في أضعف مواقعه الحدودية، إنها المنطقة الرخوة في الجسد السوفيتي، وهي المنطقة الوحيدة المعدة للقلاقل الإسلامية، وهي الحديثة العهد بالسياسة السوفيتية من جانب آخر. أضف إلى ذلك أن هذه المنطقة تعرف لأول مرة في تاريخ روسيا تجمعا للصناعات المتقدمة فضلا عن الثروات المعدنية والطبيعية التي لم يقدر لها الاستغلال حتى وقت قريب، وقد استطاعت خلال الأعوام الأخيرة أن تخطو خطوات عملاقة سواء من جانب الصناعات الثقيلة أو التصنيع الزراعي بفضل الجاز الطبيعي الرخيص الوارد من إيران، ومن ثم هي موضع قاتل في الوجود السوفيتي. الدولة الروسية لم يقدر لها أن تخضع لغزو ناجح إلا من تلك المنطقة. التطور الحضاري جعل المنطقة تمثل أحد عناصر القوة، بل هي العمود الفقري للدولة السوفيتية. والمنطقة العربية هي الخنجر المصوب إلى تلك المنطقة.

(ثانيا) كذلك فإن هذه المنطقة هي المعبر الذي يربط المحيط الهندي بالبحر المتوسط عبر قناة السويس. وهو أمر يسمح للأسطول السادس بأن ينتقل بسهولة ليصل إلى مواقع الأهمية في المحيط الهندي. وهي في حاجة لبناء أسطولها الثامن الذي سوف يتحمل مسئولية الدفاع عن هذه المنطقة الممتدة من قرن أفريقيا حتى جزر الملايو إلى عدة سنوات قد تصل إلى عشرة أعوام. كذلك هي لا تستطيع الاعتماد على أسطولها في المحيط الهادي بسبب طول المواصلات فضلا عن تعدد مواقع الخطورة في الانتقال من المحيط الهادي إلى المحيط الهندي عبر جزر ومضايق تجعل اصطياد وحداته أمرا سهل التنفيذ. ومن ثم فهي حاليا لا بد أن تعتمد وبصفة أساسية على الأسطول السادس الذي لا يستطيع أن يصل إلى المحيط الهندي بسرعة إلا عبر قناة السويس والبحر الأحمر. أهمية قناة السويس لا تقل خطورة بالنسبة للاتحاد السوفيتي، بل أن فتح قناة السويس عقب حرب أكتوبر بسط بشكل واضح المشكلة البحرية للتغلغل السوفيتي في وسط أفريقيا ولتمكين القوات الروسية من الوصول بدورها إلى المحيط الهندي. بل ويمكن القول أن قناة السويس بهذا المعنى تصير أكثر أهمية بالنسبة للقوات السوفيتية عنها بخصوص البحرية الأمريكية. فمن المعلوم أن الموانئ الروسية في شرق الاتحاد السوفيتي مغلقة قرابة نصف العام، وذلك دون الحديث عن اضطرار تلك القوات إلى أن تقطع المحيط بأجمعه أو أن تدور حول أفريقيا عقب اجتياز البحر المتوسط بأجمعه من أقصى الشرق إلى نهاية شواطئه في غرب البحر المتوسط عند جبل طارق.

(ثالثا) أضف إلى ذلك أن موقع الضعف الحقيقي في حلف الأطلنطي أي في القدرة الدفاعية الأمريكية المستندة إلى التكتل الغربي، هو في المنطقة الجنوبية الشرقية التي تمتد حول اليونان وتركيا. ليس ذلك فقط بسبب عدم استقرار النظم السياسية في تلك المنطقة وعدم قناعة القيادات القومية بمسايرة الإرادة الأمريكية، بل وبصفة أساسية لأن هذه المنطقة لا تمثل أي عمق استراتيجي لقوات حلف الأطلنطي. خلف هذه القوات امتداد رأسي وأفقي لقوات المعسكر الشيوعي. ومن ثم فإن منطقة الشرق الأوسط تصير بمثابة الحائط الذي يحمي حلف الأطلنطي في مواقعه القاتلة. إنه بهذا المعنى يؤدي وظيفة العمق الاستراتيجي ولكن في اتجاه الشمال من حيث علاقته القتالية بكل من اليونان وتركيا. لعل هذا يفسر المحاولات الانقلابية المعروفة للوزير كسينجر في قبرص. وهو أيضا يفسر التطورات الأخيرة في تركيا التي سعت لوضع حد لحالة الفوضى الداخلية من خلا تسليم القيادات العسكرية زمام المسئولية القومية، وبصفة خاصة ضبط الحركات الإسلامية العنيفة العداوة للتحالف الأمريكي. بل ويفسر كذلك وإلى حد معين التواجد الأمريكي الحالي في لبنان.

(رابعا) ثم تأتي شبه جزيرة سيناء لتقدم أهمية استراتيجية أخرى وأشد خطورة للقيادة الأمريكية. إن تحويل سيناء إلى قاعدة عسكرية لصالح الاستراتيجية الأمريكية يجب أن نضعه في الاعتبار. والتخطيط الذي يقف خف اتفاقيات كامب ديفيد وما ارتبط بذلك من ضغط أمريكي على كلتا الإرادتين المصرية والإسرائيلية من جانب، وفرض الانسحاب الإسرائيلي بصفة خاصة من تلك المنطقة من جانب آخر، هو الذي يفسر جميع التطورات التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط منذ منتصف السبعينات. لولا الضغط الأمريكي لما حدث الانسحاب الذي هو تمهيد لإعادة استغلال شبه الجزيرة عسكريا من نفس المنطلق والتصور الاستراتيجي الذي طبقته السياسة البريطانية قبل وخلال الحرب العالمية الثانية. ورغم أننا سوف نعود لتناول هذه الناحية تفصيلا إلا أن علينا أن نتذكر بوضوح حقيقة الأهمية التي تقدمها سيناء للقيادة الأمريكية. فهي من جانب تسمح للقوى الجوية الأمريكية أن تنال الاتحاد السوفيتي في وقت واحد ومن قاعدة واحدة في كل من الجبهة الجنوبية حول بحر قزوين والجبهة الغربية حيث تمتد سهول أوروبا الوسطى والشرقية. على أن الناحية الأخرى التي لا تقل خطورة أنها تمنع الاتحاد السوفيتي من استخدام قناة السويس أو على الأقل تراقبه في ذلك الاستخدام ومن ثم تعيده إلى حالة الضعف الأولى السابقة على فتح القناة.

(خامسا) ثم يأتي الخليج العربي ليمثل العنصر الآخر من عناصر الأهمية، والواقع أن أهمية الخليج ليست فقط استراتيجية بل هي تتعدى البعد المكاني والعسكري. لقد سبق أن رأينا كيف أنها بمثابة خنجر مصوب إلى قلب الاتحاد السوفيتي. كذلك فإن الخليج بحكم طبيعته الجغرافية يصير بمثابة بحيرة واسعة تصلح لإيواء وحماية الأسطول الأمريكي في لحظات الضعف إزاء حملة من جانب الغواصات السوفيتية. إلا أن الخليج يمثل أبعادا أخرى لا تقل أهمية، وهي من ثم في حاجة لمساندتها للوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، من جانب البترول- استمرارية تدفقه- ليس فقط للاقتصاد الأمريكي بل وبصفة خاصة لحلفاء أمريكا في المعسكر الرأسمالي. لقد وصل الأمر بالقيادات الأوروبية أن تجعل من هذا التدفق مع خضوعه للسوق الدولية حيث يتحدد السعر من خلال التقاء العرض والطلب أحد عناصر ما يسمى بالأمن الأوروبي. كذلك فإن المساندة المالية لإمكانية الاستثمار لرؤوس الأموال العربية تمثل هدفا آخر في المخطط الأمريكي. بل أن هذا الهدف يرتفع إلى القمة في هذه اللحظة بسبب ما يعانيه الاقتصاد الأمريكي من انكماش واضطراب كنتيجة لتطورات الأعوام العشرين الماضية وما تحمله ذلك الاقتصاد من أعباء مخيفة آن له أن يدفع ثمنها.

على أننا قبل أن نطرح التساؤل الجوهري الذي تدور حوله جميع هذه التحليلات والمتعلقة بعلاقة هذه الاستراتيجيات بالأمن القومي العربي علينا أن نتذكر واقع الاستراتيجية السوفيتية حول منطقة الشرق الأوسط. فمما لا شك فيه أن الاستراتيجية السوفيتية تعاني نقصها خطيرا في هذا الموقع، وذلك مرده إلى عاملين أساسيين: من جانب انقطاع الصلة المباشرة بين القوى السوفيتية ومنطقة الشرق الأوسط بصفة عام. إنها لا تستطيع أن تصل إليها مباشرة، الأجواء والاتصال الجوي لا يغني عن كل من الاتصال البحري من جانب والبري من جانب آخر. ويكفي أن نتذكر بهذا الخصوص نقل المعدات الثقيلة، ولعل فشل عملية الإنزال الأمريكية في إيران دلالة واضحة بهذا الخصوص. أضف إلى ذلك أن الاتحاد السوفيتي لا يعتمد إلا على الوسيط. في وسط أفريقيا وفي ليبيا يبرز هذا بشكل خاص. قوات كوبية أو ألمانية أو بولندية وكذلك عدد هام من بين المستشارين. وذل باستثناء أفغانستان. والخبرة حتى الآن تثبت أن الوسيط غير مأمون العواقب، قادر على أن ينتقل من معسكر إلى آخر دون مقدمات. أضف إلى ذلك أن الاتحاد السوفيتي لا يملك حتى الآن عميلا بنفس المقدرة ونفس التبعية التي تمثلها إسرائيل. رغم ذلك فإن الاستراتيجية السوفيتية تسجل النجاح تلو النجاح.

(أ) فهي تحيط إيران بكماشة هائل بل ونتيجة للسياسة الأمريكية جعلت إيران تزداد ترابطا من الناحية الاقتصادية مع الكيان الروسي.

(ب) وهي تحاول أن تقوم بوظيفة مماثلة بالنسبة للباكستان.

(جـ) وهي قد استطاعت أن تضع أقدامها في أفغانستان، بل وقد ثبتت أقدامها في تلك المنطقة، والوقت يطور وجودها لمصلحة الاستراتيجية السوفيتية التي لم يعد يفصلها عن المحيط الهندي سوى وثبة عبر منطقة بلوخستان.

(د) وهي لا بد أن تعلب الورقة الإيرانية – وبصفة خاصة عقب نشوب الحرب العراقية- في مصلحتها. لا تدري ما هو مسلكها بذلك الخصوص؟ هل هو تفتيت الكيان الإيراني الأمر الذي سوف يمكنها من تحقيق حلمها القديم وهو الوصول مباشرة إلى المحيط الهندي عن طريق بلوخستان ومن ثم الاستغناء عن قناة السويس؟ أم هو استيعاب إيران بأجمعها في فلك الوجود السوفيتي ومن ثم تصير وقد أضحت الدولة الكبرى المتحكمة ليس فقط في المحيط الهندي بل وكذلك في جميع أجزاء الخليج العربي؟ سؤال سوف تجيب عنه الأيام القادمة. إن هذا لا يعني أن الاتحاد السوفيتي قد كسب معركة في تلك المنطقة ما بين أفغانستان وإيران. ولكن الأمر الذي لا شك فيه أن الولايات المتحدة وإلى فترة طويلة قد خسرت موقعا هاما نم عناصر تحركها الاستراتيجي في المحيط الهندي وحول منطقة الشرق الأوسط.

هذه الأبعاد الأربعة المختلفة تزداد خطورتها عندما نتذكر حقيقة التطورات العنيفة التي تعيشها المنطقة من الناحية العسكرية:

1- فالبحر المتوسط لم يعد مجرد قناة اتصال بين العالم الغربي الأوروبي والعالم الشرقي الآسيوي. التقدم الرهيب في أدوات التدمير مع مقدرتها الفائقة على نيل الأهداف المتحركة أيضا يجعل من البحر المتوسط فخا لاصطياد القوى البحرية. التحكم في مدخلي البحر المتوسط يسمح بتحقيق مثل هذا الهدف. من الناحية السياسية هذا يعني أن إقامة أي قواعد لإطلاق الصواريخ أو ما في حكمها من أي من دول المنطقة بما في ذلك الدول البحرية المطلة على شواطئ المتوسط يفترض القبول من جانب إرادة تلك الدول. وهذا ليست له سوى دلالة واحدة: الإرادة العربية أضحت أحد عناصر التحكم الاستراتيجي في منطقة البحر المتوسط. إن الدول العربية لها أيضا كلمتها في عملية الدفاع عن حوض البحر المتوسط سواء كان ذلك بالنسبة للاتحاد السوفيتي وهو دولة بحر متوسطية، أو بصدد الولايات المتحدة وهي المسئولة عن حلف الأطلنطي.

2- البحر المتوسط من جانب آخر أضحى قلب التعامل العسكري ما بين القوتين الأعظم، وهذا يعكس مخاطر معينة. فإذا كان أحد الأطراف قادرا على التحكم في مداخله فإن الطرف الآخر لن يتركه دون مناوشات. ولذلك فإن القوتين الأعظم لا بد أن تنظر إليه على أنه منطقة معركة محتملة عندئذ لن يصير خط المواصلات الأكثر صلاحية. ولعل هذا يذكرنا ولو نسبيا بما حدث خلال الحرب العالمية الثانية. فهمت ذلك الولايات المتحدة فحاولت أن تسند استراتيجيتها في المنطقة من خلال الباب الخلفي امتدادا من السواحل الغربية للمحيط الهندي حتى المحيط الهادي. وهنا تبرز أهمية سيناء التي تصير قاعدة أمامية للاتصال بين هذه المنطقة أو مراكز الثقل الجنوبي عبر طريق البحر الأحمر. وفهمت ذلك القيادة السوفيتية فبنت خطوط مواصلاتها الجوية عن طريق الساحل الأفريقي: عبر الحبشة للوصول إلى كوبا بحيث تتجنب مخاطر اجتياز البحر المتوسط وبصفة خاصة جزؤه الغربي حيث لا تملك مواقعها الكفيلة بحماية عملية الاتصال.

        3- ثم يعب ذلك متغير ثالث قد يبدو لأول وهلة بعيد الأهمية. ذلك أن هذه المنطقة سواء في طشرها العربي أو الأفريقي تعاني تطورا خطيرا سوف تكون له نتائجه الداخلية، ومن ثم يجب أن يوضع موضع الاعتبار. فهناك حركة تحضير بمعنى تمركز السكان في المدن في جميع الدول العربية المحيطة بالبحر المتوسط. مصر لأول مرة في تاريخها تعيش هذا التطور حتى أن البعض يقدر من يعيش في المدن الكبرى من حيث الواقع أو من حيث الوجود اليومي لممارسة نشاطه المهني يصل إلى قرابة 50% من المجموع الكلي للسكان. في الشطر الأفريقي أي جنوب الصحراء نلاحظ تطورا مماثلا حيث اختفى أو يكاد كل ما له صلبة بحياة المجتمع الرحل أو المتنقل من منطقة لأخرى سعيا وراء الماء. لقد بدأ المجتمع يتجه إلى حياة الاستقرار المكاني سواء كان ذلك زراعيا أو غير زراعي.

والواقع أن جميع هذه المتغيرات تفرض علينا أن نستعيد خصائص هذه المنطقة من الناحية الاستراتيجية. فهى أولا منطقة متجانسة. يخطئ من يتصور أن العنصر العربي يتعارض مع الأجزاء غير العربية باستثناء إسرائيل. متغيرات عديدة تفرض هذا التجانس الذي برز بصورة واضحة عقب ثورة الخميني. سوريا التي تقف إلى جوار إيران في قتالها مع العراق إنما تعكس بطريقة غير مباشرة هذه الحقيقة. ولعل متغير الدين الإسلامي وسيطرته  على المنطقة يفسر أحد عناصر التجانس. وعلى كل فإن المنطقة تمثل ترابطا واستمرارية ليست تاريخية فقط، بل وإقليمية، لم تبرز بتلك الصورة القاطعة في تاريخها الطويل كاليوم. وهي سوف تزداد دعما بفضل المشروع الضخم لطرق المواصلات الذي تتبناه السعودية وتشجع عليه الجزائر. على أن أخطر ما تعكسه المنطقة كمسرح لعمليات قتالية محتملة هو الاتساع العنيف الذي لا يماثله أي موقع آخر على سطح الكرة الأرضية. هذا الاتساع يجعل الخلاف حوله ومحاولة الشد والجذب من جانب كل من موسكو وواشنطن اكثر وضوحا بما يعنيه ذلك من نتيجة أساسية: إن القوتين الأعظم سوف تقتصر في داخل هذه المنطقة على عملية التهديد، ولكن أيا منهما لن تواجه الطرف الآخر مواجهة قتالية إلا في ذلك الوقت الذي يوصف بأنه أسوأ المواقف، أي موقف المعركة الحاسمة عندما تصير مسألة حياة أو موت.

كل هذا يعطي المنطقة قدرة معينة على التلاعب. فهل هي صالحة لذلك؟ ومن ثم من الذي يكون عليه واجب قيادة مثل هذه الاستراتيجية واستغلال الموقف بحنكة وبراعة لمصلحته ومصلحة المنطقة؟

سؤال لم يحن الوقت بعد لمواجهته بصراحة ودقة.

– الأمن القومي العربي والقوى الدولية:

وهكذا نصل إلى جوهر تساؤلاتنا: إلى أي حد هناك صدام أو توافق بين الأمن القومي العربي والاستراتيجيات الكبرى؟ لقد سبق أن رأينا كيف أن محور الأمن القومي العربي هو التماسك والتعاون. فهل هذا لمصلحة الاستراتيجية الأمريكية؟ وهل الاستراتيجية السوفيتية بدورها تتعارض مع مفهوم الأمن القومي العربي؟ سؤال يجب أن نطرحه بوضوح ولعل سبب طرحه أيضا هو التناقض الواضح بخصوص تعامل كلتا الاستراتيجيتين مع المنطقة. وهو ليس قاصرا هذا التناقض على الدبلوماسية الأمريكية بل إنه أكثر مدعاة للتساؤل بصدد التعامل السوفيتي، وبصفة خاصة كيف انتهى النفوذ الروسي بتصفيته من مصر وعقب أن حقق أكبر أهدافه التقليدية وهي الوصول إلى المياه الدافئة.

على أننا قبل أن نتطرق للتفاصيل فإن مجموعة الملاحظات يتعين علينا أن ندفع بها منذ البداية لفهم الإطار العام الفكري الذي ينبع منه هذا التحليل:

(أولا) علينا أن نتذكر أن كلا من الاستراتيجيتين السوفيتية والأمريكية تملك عناصر قوتها. فالأولى بحكم تاريخها الطويل في التعامل مع المنطقة لها تقاليدها الثابتة التي تجعلها لا تنطلق من فراغ. أضف إلى ذلك أن موقع الدولة الروسية من منطقة الشرق الأوسط تضفي عليها وزنا معينا. إن الاتحاد السوفيتي هو في الواقع دولة شرق أوسطية بحكم الجوار، وهو دولة بحر متوسطية بحكم شواطئه على البحر الأسود الذي هو امتداد طبيعي للبحر المتوسط. من جانب آخر فإن الولايات المتحدة تملك متغيرين كل منهما له موضعه في سياساتها. فهي بحكم انتشارها البحري قادرة على أن تتحكم في جميع منافذ الوصول إلى المنطقة العربية ابتداء من المحيط الأطلسي حتى المحيط الهندي. وهي من جانب آخر تملك أداة خطيرة تعمل لصالحها، وقد زرعت في قلب العالم العربي وهو إسرائيل. وإسرائيل في حاجة دائمة إلى الولايات المتحدة بل إن بقاءها متوقف على إرادة واشنطن ومن ثم فإن الالتحام بين السياسة الأمريكية والأداة المحلية عضوي مباشر ودائم.

(ثانيا) كذلك علينا أن نتذكر أن إحدى القوتين الأعظم تستتر خلفها مجموعة أخرى من القوى تسير في فلكها وتعمل لحسابها. ولعل هذا عنصر أساسي يبرز بوضوح الاختلال بين واشنطن من جانب وموسكو من جانب آخر. ونقصد بذلك ما يسمى بالقوى الضاغطة الدولية. علينا أن نكون على وعي بحقيقة علاقة الولايات المتحدة بصفة خاصة بتلك القوى الضاغطة، وعلى وجه التحديد من حيث تأثير وعلاقة هذه القوى الضاغطة بالمصالح الإسرائيلية، وهو أمر لا بد أن يسهم في تشويه حقيقة العلاقة بين الأمن القومي العربي والاستراتيجية الأمريكية. لسنا في حاجة لأن نؤكد كيف أن التناقض بين الأمن القومي العربي والأمن القومي الإسرائيلي هو تناقض مطلق لا يقبل التوفيق بأي معنى من معانيه. وسوف نعود إلى ذلك تفصيلا. ولكن الأمر الذي يجب أن نؤكد عليه من الآن هو أن الصراع بين المفهومين يعني حقيقة واحدة: أحدهما لا بد أن يستوعب الآخر. لسنا في حاجة لأن نذكر بأن القيادة الإسرائيلية، ويتابعها بل ويقدم لها بهذا الخصوص الفقه الصهيوني، توسع في المفهوم بطريق لا تقبله أصول التنظير السياسي لمفهوم الأمن القومي. وقد وصلت ادعاءات تلك القيادة في لحظة معينة إلى القول بأن أي تغيير في الأوضاع السياسية بالمنطقة العربية – بل وليس فقط في الدول المحيطة بحدودها – يتضمن تهديدا مباشرا للأمن الإسرائيلي. ومعنى ذلك أن أي وحدة أو تعاون ولو جزئيا بين بعض الدول العربية يصير مصدرا للتهديد في الأمن القومي الإسرائيلي. أحد مصادر هذا الادعاء هو النجاح الإسرائيلي العسكري والدبلوماسي. ولكن كذلك يجب أن ندخل في الاعتبار أهمية مساندة القوى الضاغطة للسياسة الإسرائيلية بحيث أنها تشكل قنوات اتصال بين الدبلوماسية الصهيونية ومراكز القرار في واشنطن. أهم هذه القوى الضاغطة هو: الشركات الكبرى المتعددة الجنسية التي هي في حقيقتها امتداد للرأسمالية الأمريكية، ثم المنظمات الدولية، غير الحكومية التي ليست سوى تعبير عن سيادة الحضارة الغربية، ثم الفاتيكان الذي يلعب بدوره لعبة غامضة ولكنها تنتهي بأن تصب في قنوات النفوذ الصهيوني.

        (ثالثا) كذلك فنحن نقف طويلا إزاء استراتيجية دول أوروبا الغربية. فهي لا تملك إرادة مستقلة، وهي من ثم تعمل بطريق أو بآخر لحساب الاستراتيجية الأمريكية. وهي بهذا المعنى تصل إلى حد التناقض مع مصالحها الحقيقية. والواقع أن أوروبا الغربية لم يقدر لها في تاريخها الطويل أن تقدم نموذجا واضحا للتذبذب بين الاضطراب والتبعية والتلاعب تارة بسذاجة وتارة بخبث لا يتفق مع مصالحها الحقيقية في الأمد البعيد كما يحدث اليوم. ويجب أن نعترف بأن أحد أهم أسباب هذا التخاذل والاضطراب في سياسة أوروبا الغربية هو الضعف العربي الواضح الذي برز صريحا في أثناء مفاوضات الحوار العربي الأوروبي.

– تطور السياسة الأمريكية واستراتيجية التعامل مع مفهوم الأمن القومي العربي:

السياسة الأمريكية لا تعرف ذلك الذي تريده، إنها سياسة غير واضحة وغير مخططة فشلت في جميع أنحاء المعمورة فشلا ذريعا واضحا. القياصرة الجدد لا يصلحون لقيادة الشعوب، إنها سياسة مراهقة. ورغم ذلك فهي خلال الفترة الأخيرة عقب مجموعة الأخطاء التي ارتكبتها منذ موقفها من جمال عبد الناصر أثناء أزمة تمويل السد العالي انقلبت الآية فإذا بها قد دخلت المنطقة من أوسع أبوابها، بل ويبد أنها مستقرة في المنطقة إلى فترة غير قصيرة. مما لا شك فيه أن ثورة الخوميني قد قلبت جميع الأوضاع، وهزيمة محتملة للعراق سوف تعنى إعادة ترتيب جميع الأوراق في المنطقة، ويكفي أن البقعة الحمراء سوف تمتد من المحيط الهندي إلى البحر الأبيض المتوسط. رغم ذلك فلا تزال إرادة واشنطن هي المسيطرة وتحت مظلتها تستكين جميع قيادات المنطقة. السؤال الذي لا بد أن يطرح نفسه منذ البداية: لماذا، وقد أثبتت السياسة الأمريكية عدم صلاحيتها في جميع أنحاء المعمورة.. لماذا نجاحها الرهيب وساحق في منطقة الشرق الأوسط؟ الجميع يسعى لإرضائها، علماؤنا أضحوا أذنابا يعملون وبلا حياء لأجهزتها، قياداتنا جعلت من واشنطن كعبة جديدة يحج إليها كل زعيم يتلمس نظرة عطف وتأييد، فكيف حدث ذلك؟ هل مرده انتفاع القيادة الأمريكية بالخبرة الأنجلوسكسونية التي أثبتت أنها أكثر القوى المتعاملة مع المنطقة قدرة على فهم العقلية العربية؟ أم لأن القيادة الأمريكية تخضع لتوجيه الأداة الإسرائيلية التي أثبتت قدرة وكفاءة لا موضع للتشكيك في كمالها؟ أم لأن العالم المعاصر لا يعرف قيادة أتفه من نموذج القيادة العربية؟ وقد تكون جميع هذه العناصر متفاعلة هي التي صنعت النجاح الأمريكي الواضح في منطقة الشرق الأوسط.

        فلنتابع هذه النواحي بشيء من التفصيل:

(أ) أولى هذه النواحي: التناقض في السياسة الأمريكية. وهو تناقض متعدد الأبعاد. أول أبعاد هذا التناقض في السياسة الأمريكية هو موقفها من السياسة الأنجلوسكسونية التقليدية. بريطانيا عقب الحرب العالمية الثانية فهمت أن مصالحها تكمن في مساندة الوحدة العربية، فركبت موجة إنشاء جامعة الدول العربية حيث لمست فيها أداة ناجحة لتحقيق هدفين: امتصاص موجة التطور الجماهيري نحو تحقيق وحدة حقيقية، خلق أداة تسمح بحماية الوضع القائم الذي هو في جوهره تكريس للتجزئة. الولايات المتحدة لم تقف في أية لحظة من تلك الجماعة موقف التأييد أو المساندة. كذلك موقف الولايات المتحدة من إسرائيل: فهي تساند الصهيونية بكل قواها ورغم جميع ادعاءاتها بالسعي نحو تحقيق سلام عادل، بل رغم أن مصالحها الحقيقة مع القوى العربية. كذلك فيما يتعلق باستراتيجية التعامل مع المنطقة، فبينما يعنيها أن يظل البترول العربي متدفقا وبصفة خاصة نحو حلفائها في المعسكر الرأسمالي، أوروبا الغربية واليابان، الأمر الذي يفرض عليها السعي نحو تحقيق حالة استقرار دائمة فإنها تعمل على بناء قوات وقواعد لها في المنطقة صالحة لأن تتحول إلى بؤر للصراع، بل إنها سوف تشجع على خلق القلاقل المحلية بقصد الاستدراج السوفيتي وهو ما يتعارض مع مصالحها البترولية. ولعل هذه التناقضات هي التي تفسر قول كيسنجر: إذا كانت القيادات السوفيتية تتصف بالشيخوخة فان القيادات الأمريكية لا تزال تعيش مرحلة المراهقة.

(ب) ولعل هذا لا بد أن يقودنا إلى طرح السؤال: ما الذي تقصده سياسة واشنطن بكلمة السلام الأمريكي؟ ما معنى السلام الأمريكي في إدراك صانعي السياسة في القارة الجديدة وبصفة خاصة منذ بدأ الحديث بثبات عن ذلك المفهوم مع كارتر ثم عقب ذلك مع ريجان؟ يدور هذا السلام في الواقع حول خمسة عناصر أساسية:

(أولا) إعادة مظلة واحدة ترفرف على منطقة الشرق الأوسط.

(ثانيا) عزل مصر عن العالم العربي.

(ثالثا) تصفية منطق التضامن العربي.

(رابعا) منع حالات التوتر أو الاضطراب بأي معنى من معانيه في المنطقة.

(خامسا) وان وجدت فبحيث تتحكم في تطورها واتساعها أو تجميعها فقط الإرادة الأمريكية.

هذه الأهداف جميعها تدور حول تأمين المنطقة وتمكين القيادة الأمريكية من التغلغل الاقتصادي والانتشار العسكري بحيث تصير المنطقة بمثابة رأس حربة متقدمة لمساندة قوتها العسكرية المتركزة في جزيرة دييجو جارسيا. سياسة كلية شاملة، وكيف ن نقطة البداية هي الأهداف القومية العليا، حيث تصير بصددها الكرة الأرضية رقعة شطرنج واحدة متسعة، وبحيث كل إقليم يتم توظيفه لمصلحة تلك الاستراتيجية الكلية الشاملة. وهذا لا بد أن يقود إلى طرح مجموعة من التساؤلات جميعها تكون المقدمات الفكرية لعلاقة الاستراتيجية الأمريكية بمفهوم الأمن القومي العربي.

أول هذه التساؤلات: هل يمكن أن تؤيد الولايات المتحدة الحركة الوحدوية العربية أو تنظر إليها بعين الرضا؟ إن لم يكن اليوم فهل يمكن أن يحدث ذلك في الغد القريب أو البعيد نسبيا؟ لقد ظلت تسيطر على السياسة الأمريكية العداوة القاطعة مع الصين وهي اليوم تتحول لتجعل منها إحدى ركائز السياسة الأمريكية في الربع الأخير من القرن العشرين.

التساؤل الثاني: وما هو موقف الولايات المتحدة من التوسع الإسرائيلي؟ لقد ظلت تدافع عن الوجود الصهيوني في المنطقة على انه التزام أخلاقي حتى عام 1967، ولكنها مذ ذلك التاريخ بدأت تسير في تطور واضح ولكنه غير محدد الأبعاد وهو الدفاع عن إسرائيل لحماية مصالحها في المنطقة. فهل هذا الدفاع سوف يصل إلى حد الدفاع عن السياسة التوسعية الإسرائيلية التي لن تتخلى عن حلمها القديم والثابت بإنشاء إسرائيل الكبرى؟

التساؤل الثالث: وما هي حقيقة نظرتها إلى العلاقات العربية الدولية؟ ألا تزال ترى في المنطقة مجرد مسرح لجمع الغنائم كما كانت نظرة الاستعمار التقليدي، أم أنها تعتبر هذه المنطقة طرفا متعاملا جديرا بأن يكون موضع الاهتمام، ومن ثم الحذر من حيث مصالحه الحقيقية والقدرة على خلق أداة المساندة من داخله ومن خلال استخدام قدراته الكامنة؟

أولى هذه النواحي هي المتعلقة بالتطور الوحدوي في المنطقة. الأهداف التقليدية للسياسة الأمريكية، ومنذ بداية الخمسينات حتى الأمس القريب واضحة ومعروفة. فلنتذكر بإيجاز:

(أولا) المحافظة على استمرار ضخ النفط العربي إلى الولايات المتحدة وحلفائها ومنع سقوطه على الأقل في أيدي خصومها أي الاتحاد السوفيتي.

(ثانيا) المحافظة على أمن إسرائيل وقدرتها على التحكم في المنطقة من خلال تفوقها العسكري.

(ثالثا) محاصرة النفوذ السوفيتي والعمل على تصفيته في جميع أجزاء منطقة الشرق الأوسط.

(رابعا) منع أية خطوة تتجه نحو الوحدة العربية وبصفة خاصة نحو التقوية الذاتية للمجتمع العربي.

وهي لذلك ظلت تمنع رأس المال الأمريكي من الاتجاه للاستثمارات الصنعية الثقيلة في المنطقة. بل وتعاليمها للشركات البترولية من عدم توظيف عوائدها النفطية في تصنيع المنطقة معروفة وليست في حاجة إلى التفصيل. وهي تساند الأقليات وتشجعها على تقوية رابطة الولاء الطائفي مع ما يعنيه ذلك من تدعيم لتحطيم التكامل القومي متخذة من باب الحريات الديمقراطية منطقا جديرا بالاغراء، وهي تشجع القيادات العربية على أن تتجه إلى سياسة المحاور الأمر الذي يضعف من تكتيل القوى الحاكمة حول مبدأ الوحدة الإرادية.

(جـ) والسؤال الذي يجب أن نطرحه ونسعى للإجابة عنه بصراحة ووضوح: هل حصل تطور في السياسة الأمريكية كنتيجة لتطورها العام المتعلق بتصفية سياسة الوفاق والانتقال إلى خطوة متقدمة في الحرب الباردة؟ وهل يمكن أن يحدث مثل ذلك التطور؟

في الأمد القريب ستسير السياسة الأمريكية في خطين متوازيين: التقوية العسكرية المكثفة الذاتية السريعة، من جانب، والعمل على تقليم الأظافر الروسية ولو من خلال الحروب المحلية الجزئية من جانب آخر. منطقة الشرق الأوسط تحمل بذور الصلاحية لهذه الاستراتيجية، ولكن كما سبق أن رأينا فإن المنطقة أيضا مصدر للتبورل، ومن ثم فمن مصلحة الاستراتيجية الأمريكية ألا تدفع إلى عامل الصدامات إلا بحساب. هذا التناقض يفسر كيف أن القيادة الأمريكية لا تزال لم ترسم صورة واضحة لسياستها في المنطقة. رغم ذلك فان رصد الأحداث التي نعيشها يسمح باكتشاف الملامح العامة التي سوف تسيطر على السياسة الأمريكية خلال الأعوام العشرة القادمة:

(أولا) تشجيع الصراعات المحلية التي يمكن ضبطها والتحكم في تطوراتها.

(ثانيا) تشجيع الوحدات الجزئية التي قد تصل إلى حد التعاون في تنظيم المرافق الإقليمية.

(ثالثا) مساندة التوسع الإسرائيلي.

أولها يرتبط بتشجيع التعاون الإقليمي. إن هذا لا يعنى مساندة الحركة الوحدوية ولكن فقط التنسيق في المرافق الأساسية على المستوى الإقليمي. مصر والسودان، منطقة الخليج على سبيل المثال. هذه السياسة يفرضها عاملان أولهما اقتصادي لأن أي توطين لاستثمارات أجنبية في حدود مجتمع يقل عن عشرين مليونا لا موضع له. وثانيهما عسكري لأن التعامل القتالي اليوم – وذلك بسبب اتساع إطار التحرك كنتيجة للتقدم التكنولوجي – لا يستطيع أن يعبر عن قدراته الحقيقة في نطاق وحدات إقليمية ضيقة. ولعل التطور التعامني الذي نشاهده في منطقة الخليج خير تعبير عن هذه السياسة. كذلك لا يخرج عن هذه الدائرة التعاون بين مصر والسودان.

وثاني هذه الملامح يدور حول تشجيع الصراعات المحلية. وهي بهذا المعنى تحقق أهدافا ثلاثة في آن واحد: تأديب من يخرج عن عصا الطاعة من جانب كما حدث مع جمال عبد الناصر في حرب الأيام الستة، شد رجل السياسة السوفيتية وتوريطها هي وأصدقائها في عمليات استنزاف، ولكن دائما مع القدرة على التحكم في تلك الصراعات بحيث لا تتحول إلى مجابهة شاملة. وهذا هو النموذج الصريح لسوريا في لبنان وللصدام المسلح بين العراق وإيران، ثم إن هذه الصراعات المحلية مصدر واسع لعمليات اقتصادية تدور حول بيع السلاح الأمريكي وتحويل العوائد النفطية لتصب في الجسد الاقتصادي الأمريكي، ولنتذكر على سبيل المثال صفقة طائرات الأواكس إلى السعودية. ان العسكرية الأمريكية تعلم أن إحدى مناطق الضعف والتوتر تقع حول منطقة الأكراد، وبصفة عامة في تلك البقعة التي تتقابل فيها حدود ايران والعراق وسوريا وتركيا والنفوذ السوفيتي ما بين بحر قزوين والبحر الأسود.

على أن العنصر الثالث وهو الأكثر خطورة من حيث تعامله مع الأمن القومي العربي يدور حول مساندة التوسع الإسرائيلي. لقد ظلت السياسة الأمريكية تدافع عن إسرائيل في حدودها السابقة على حرب الأيام الستة، وذلك حتى مجيء كارتر إلى السلطة، ومما لا شك فيه أن تلك الحرب ذاتها هي علامة على طريق الترابط العضوي بين الأهداف الإسرائيلية وتلك الأمريكية. فقد أثبتت إسرائيل فاعليتها في تهذيب جميع القيادات العربية لمصلحة واشنطن في حرب يونيه. ولكن التطور البطئ الذي أعقب اتفاقية فك الاشتباك الثانية فتح الطريق واسعا أمام السياسة الإسرائيلية: فهي من جانب قد حولت سياسة الاستيطان من التوسع الأفقي إلى التوسع الرأسي. وهي من جانب ثان قد أطلقت يدها في التعامل مع المشرق العربي عقب أن أمنت خلفيتها بتحييد مصر وقواتها العسكرية، منذ مجيء كارتر لا تجد أي قرار يتخذ ضد إسرائيل في الأمم المتحدة إلا وتقف منه الولايات المتحدة موقف الصمت ان لم يكن الرفض. وتزداد خطورة دلالة هذه السياسة إزاء حوادث عنيفة من الجانب الإسرائيلي كما هو بصدد جنوب لبنان ثم الاعتداء على بغداد، ورغم الادعاءات الأمريكية فان إسرائيل في جميع هذه الحوادث لا يمكن أن تخطو أي خطوة دون التنسيق الكامل مع السياسة الأمريكية، وليس مجرد الموافقة أو عدم الاعتراض. ما هو الموقف الحقيقي للسياسة الأمريكية؟ ما هو الدور الذي تعده الاستراتيجية الأمريكية لإسرائيل في هذا الوضع الجديد؟ أحد المعلقين لو الفرنسيين يعتقد أن الدور الإسرائيلي سوف يكون ضرب الأسطول السوفيتي لو نزل بكثافة معينة في البحر المتوسط وكأداة مساندة ومتقدمة للعسكرية الأمريكية. وهو الثمن الذي سوف تدفعه إسرائيل مقابل التأييد الخفي الصامت من جانب الدبلوماسية الأمريكية للتوسع الصهيوني في منطقة الشرق الأوسط وعملية الاختراق المستمر للجسد العربي.

      – الاستراتيجية السوفيتية وتطور المنطقة العربية:

إذا انتقلنا إلى الاستراتيجية السوفيتية فسوف نصل إلى نفس النتائج ولكن من منطلقات مختلفة:

(أ) والواقع أن جميع المتغيرات كانت تفرض تعاملا مع الاتحاد السوفيتي أساسه التوافق الحركي في النطاق الدولي والإقليمي ان لم يكن التحالف العضوي. فمما لا شك فيه أن القناعة الأيدويولوجية الشيوعية كان لا بد أن تقلق القيادات العربية المحافظة ولكن كان أيضا على عاتق هذه القيادات أن تفهم الحقائق الآتية:

(أولا) إن الاتحاد السوفيتي هو من حيث تكوينه دولة إسلامية. إن الأقليات الإسلامية المنتشرة في أكثر من دويلة واحدة من المقاطعات الجنوبية والممتدة من أقصى الحدود القريبة للصين حتى شمال تركيا بكل ما تحيط ببحر قزوين وأغلب أجزاء البحر الأسود قابلة في يوم من الأيام لأن تصير قوة رافضة لأي سياسة أساسها تأييد الوجود الصهيوني في المنطقة العربية. وهل يستطيع أن ينسى أى مفكر أن كنوز التراث الإسلامي الحقيقية لا تزال ترقد أسيرة في هذه المنطقة؟

(ثانيا) إن الاتحاد السوفيتي دولة شرق أوسطية. بل وكذلك بحر متوسطية. ومن ثم ومهما قيل عن قدرة أمريكية فلا بد أن يكون للاتحاد السوفيتي كلمته في مصير المنطقة، ومن العبث تصور إمكانية طرده نهائيا من مسرح الأحداث.

(ثالثا) إزاء الغزوة الأمريكية للمنطقة فهل من مصلحة الوطن العربي ترك الإرادة الأمريكية تمرح بلا حساب؟ أم أنه لصالحنا ولصالح مستقبل الجانب الأمريكي تقابلها فلسفة دفاعية من الطرف الآخر. مرد ذلك أن أولويات التعامل تختلف في كلا الجانبين: الهدف الأول المباشر للاستراتيجية الأمريكية هو القضاء أو تقليم أظاهر الاتحاد السوفيتي، بينما هذا الأخير يجعل الصين تحتل – على الأقل في الأمد القريب – المرتبة الأولى.

(ب) لنستطيع أن نجيب على السؤال الذي طرحناه في مقدمة هذه الدراسة والذي يدور حول حقيقة العلاقة بين الاستراتيجية السوفيتية ومفهوم الأمن القومي العربي علينا أن نبدأ فنحدد الأهداف التقليدية الثابتة للدولة الروسية، ثم نتابع تطور هذه الأهداف قبل أن نصل إلى جوهر موضوع الدراسة، وهو: إلى أي حد يمكن التوفيق بين السياسة السوفيتية الحالية ومتغيرات الأمن القومي العربي كما حددناها مسبقا.

ولنبدأ لنحدد الأهداف الثابتة للسياسة السوفيتية في المنطقة. نستطيع بإيجاز أن نسوق خمسة عناصر أساسية يتكون من نسيجها التصور العام التقليدي للتعامل الروسي مع منطقة الشرق الأوسط.

(أولا) الوصول إلى البحر المتوسط وتحطيم حصار المضايق.

(ثانيا) تحطيم الحزام الأمريكي الذي أقامه دالاس حول القارة الروسية منذ نهاية فترة الوئام وبداية الحرب الباردة.

(ثالثا) تطويق الخطر الأطلنطي من الجنوب.

(رابعا) خلق مسالك التسلل نحو المحيط الهندي.

(خامسا) منع أي محاولات لإقامة دولة كبرى أو قوية حول حدودها.

ولكن علينا لفهم حقيقة السياسة السوفيتية خلال الأعوام العشرة الأخيرة أن نضيف إلى ذلك ثلاثة أهداف أخرى:

(سادسا) الوصول إلى المحيط الهندي وتثبيت الأقدام في تلك المنطقة.

(سابعا) منع التمركز الأمريكي حول حدودها.

(ثامنا) القيام بعملية إحاطة كاملة لمسرح العمليات الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، وقد اتسعت الرقعة لتشمل جميع أجزاء أفريقيا الشمالية والوسطى.

الاستراتيجية السوفيتية هي حصيلة مجموعة من التقاليد الثابتة، وقد أعيد تطويعها لمواجهة موقف جديد يتميز بخصائص لم تعرفها السياسة الروسية من قبل: طبيعة الصدام من جانب، تطور الأهداف القومية العليا من جانب آخر، ثم اتساع مسرح العمليات من جانب ثالث.

جميع هذه العناصر في حاجة إلى إيضاح وتفصيل.

الهدف الأول من التعامل مع المنطقة وهو الوصول إلى البحر المتوسط وتحطيم حصار المضايق هدف تقليدي مرده طبيعة الأوضاع الجيوبوليتيكية التي تعيها القارة الروسية، فهي في جزء هام من سواحلها يصيبها التجمد خلال قرابة نصف العام وعندئذ لا يكون أمامها سوى الشواطئ الجنوبية في البحر الأسود، والتي بدورها تجد نفسها في حالة اختناق بسبب المضايق. ومن ثم فان السياسة الروسية منذ العصر القيصري سعت دائما لتخرج من ذلك الحصار بأن تضع أقدامها في البحر المتوسط. على أن بريطانيا وقفت لها بالمرصاد هيأ جمال عبد الناصر لروسيا فرصة لم تعرفها في تاريخها الطويل. ويجب أن نعترف بأن القيادة السوفيتية فقدت هذه الفرصة الفريدة بغباء حقيقي. لا يزال الموضوع المتعلق بطرد الخبراء الروس من مصر يحيطه الغموض. ولكن أيا كانت خلفياته فهو تعبير عن فشل دبلوماسي. على أن موسكو تجد في دمشق بديلا له قيمة في هذه الناحية تكمله ليبيا ذات الموقع الاستراتيجي الهام المتحكم في وسط البحر الأبيض المتوسط. يدعم من ذلك الاستراتيجية القتالية السوفيتية التي أساسها عدم الاعتماد على التسهيلات المحلية وجعل أساطيلها تتمركز في عرض البحر وتعتمد على قدراتها الذاتية بحيث لا تكون في حاجة إلى تقديم المساعدة من الموانئ الصديقة.

الهدف الثاني شكلي أكثر منه موضوعي. فالاتفاقات المختلفة التي صاغتها السياسة الأمريكية كانت تفترض أن الحرب القادمة سوف تأخذ صورة الاعتداء المباشر من الأراضي السورية، وهو ما أثبتت الأحداث عدم احتمالات وقوعه. تطويق الخطر الأطلنطي من الجنوب واضح في معناه وفي أهميته، عندما نتذكر أن المخطط الأمريكي العسكر كان يفترض أن محور القتال المحتمل هو وسط أوروبا. هذا التخطيط الذي أساسه ضيق رقعة القتال وتصور الانفصال بين معركة أوروبا والمعارك الأخرى المحيطة بها لم يعد له موضع. فالاستراتيجية الأمريكية تنظر إلى ميدان الصدام المحتمل على أنه يمتد من شمال أوروبا إلى المحيط الهندي مخترقا البحر الأبيض المتوسط بشاطئيه، ومنطقة الشرق الأوسط بما تحتويه من البحر الأحمر والخليج العربي. ولكن وظيفة الاستراتيجية السوفيتية لا تزال قائمة: اختراق المنطقة من الوسط وخلق حزام يمتد عبر ليبيا ليصل إلى قلب أفريقيا جنوبا وهو قادر شمالا على أن يقفز إلى وسط أوروبا.

وهكذا نصل إلى الهدفين الرابع والسادس. والواقع أن كلا منهما يكمل الآخر، وهو يعكس حقيقة التطور الذي أصاب الاستراتيجية السوفيتية. لقد ظلت حتى وقت قريب حذرة غير مغامرة تدور حول استغلال خطاء الاستراتيجية الأمريكية. ولكنها منذ فترة معينة أضحت لا تتردد في أن تأخذ بنفسها المبادرة لتفاجئ خصمها حيث لا يتوقع. لقد ظلت الاستراتيجية الروسية التقليدية أساسها التوسع من منطلق حدودها الإقليمية ورفض الانتشار في أماكن بعيدة عن إقليمها القومي. ولذلك فقد كان هدفها في المحيط الهندي لا يعدو التسلل لتأمين خطوط مواصلاتها عبر منطقة الشرق الأقصى. ولكنها هي ترى أن السياسة الأمريكية أساسها جعل منطقة المحيط الهندي موقعا للتمركز بالنسبة لقواتها البحرية والجوية بحيث تستطيع من قواعدها المنتشرة في تلك المنطقة أن تنال الاتحاد السوفيتي في أجزائه الجنوبية من جانب، وأن تحمى خطوط اتصالاتها مع الصين من جانب آخر، وأن تحمي الكم الديموجرافي الرهيب في جنوب أسيا من أن يسقط في البوتقة الشيوعية من جانب ثالث، وأن تخلق حائطا يسند مصالحها الحيوية والرأسمالية في كل من استراليا وجنوب أفريقيا من جانب رابع، وأخيرا فان الاتحاد السوفيتي لا بد أن يكون رد فعله بحيث يسمح له بتثبيت الأقدام على شواطئ المحيط الهندي: اليمن الجنوبي، الحبشة ثم أفغانستان ليست سوى بعض النماذج بهذا الخصوص وهو ما سوف نراه تفصيلا فيما بعد. بعبارة أخرى فان الهدف التقليدي من خلق مسالك التسلل نحو المحيط الهندي الذي لم يكن يعني سوى إكمال عملية الوصول إلى البحر المتوسط وتحطيم حصار المضايق بخلق القدرة على التعامل البحري المباشر مع المحيط الهندي لأنه طريق الاتحاد السوفيتي إلى باقي أجزاء العالم الشرقي، لم يعد كافيا لتفسير حقيقة الأهداف من التعامل مع المحيط الهندي. ان تمركز الولايات المتحدة يخلق خطرا حقيقيا ومصر تهديد للكيان الروسي. ومن الطبيعي ألا تقف القيادات السوفيتية موقف السلبية. ان الاتحاد السوفيتي في حاجة للوصول إلى تلك المنطقة لا كقناة اتصال ولكن كمحور لنفوذه ولمساندة أصدقائه ولتطويق أعدائه. الهند من جانب والصين من جانب آخر على سبيل المثال. كذلك هو لا بد أن يسعى للوصول إلى المحيط الهندي، بمعني تثبيت أقدامه على شواطئه، وذلك لتطويق ومواجهة القوى الأمريكية المتمركزة في هذه المنطقة.

الهدف الخامس يقود مباشرة إلى الأوضاع العربية. أحد عناصر السياسة الروسية الثابتة من كاترين الثانية هو العمل على مع وجود أي دولة قوية على حدودها. طبق هذا المبدأ بخصوص بولنده، بل وأدى إلى تمزيق إقليم هذا الشعب في أكثر من نموذج واحد. وهو كذلك يفسر سياسة موسكو مع الدولة العثمانية ومع إيران، بل ومع المنطقة العربية. كما أن روسيا هي التي شجعت على بك الكبير على الخروج على الخلافة العثمانية، بل ومحاولة تمزيق الإمبراطورية العثمانية، فهي وقفت ضد محمد على عندما أثبت كفاءة وقدرة على إعادة بناء المجد العثماني. بل ان هذا أيضا إلى جانب الخلافات العقائدية يفسر سياسة الاتحاد السوفيتي في مواجهة القومية العربية وخلافها المعروف مع جمال عبد الناصر الذي ساندته وساعدته بقوة وفاعلية. إنها لا تستطيع أن تنسى ما أحدثته بها الدولة العثمانية من تشققات عندما كانت هذه في أوج قوتها. وهي لذلك تقف أيضا من الصين موقف التربص والاستعداد للحرب المجهضة.

(جـ) علينا لتفهم حقيقة الاستراتيجية السوفيتية أن نتذكر كيف أن الدولة الروسية تجد نفسها اليوم في موقف أسوأ من ذلك الذي عانت منه خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر. فهناك احتمالات الجذب من منطلق مبدأ شد الأطراف على جميع حدودها في الجنوب والجنوب الغربي بصفة خاصة حيث قرابة سبعين مليون تركي مسلم ينتشرون في الولايات الإسلامية الروسية. في الشمال حيث منغوليا الخارجية لا بد أن تحن لتتحد مع منغوليا الداخلية التي هي جزء من القارة الصينية. واحتمالات خلق بؤر للقلاقل ومن ثم للانهاك والاستنزاف حول حدودها عديدة لا تحصى: في البلطيق، في وسط أوروبا ابتداء من بولنده، في البلقان ثم حول المنطقة الكردية، وذلك دون الحديث عن منطقة أرمينيا. منغوليا الشمالية بدورها يجب أن تدخلها السياسة السوفيتية في الحساب. لأول مرة سوف يجد الاتحاد السوفيتي نفسه مهددا بما هو في حكم الغزو من الجنوب الغربي ومن أضعف مواقع قوته وبمساندة دولة عظمى لا تنتمي إلى منطقة الشرق الأوسط، بحيث لا تستطيع القدرات السوفيتية أن تضربها منطلقة من أرضها القومية، وبحيث يتعين عليها أن تثب خارج حدودها وعبر بحار واسعة لتفرض حربا عالمية ثالثة، وهو بدوره أمر لا بد أن تسعى القيادة الروسية لتجنبه. ولعل هذا هو الذي يفسر استراتيجية موسكو في كل من أمريكا الجنوبية ووسط أفريقيا. وهو ما سوق نعود إليه عاجلا.

وهكذا نجد متغيرات جيدة تفرض من تدعيم النظرة السوفيتية في عدم القبول بإقامة دولة عربية كبرى على حدودها الجنوبية. على أن أهم ما يخيفها في الوقت الحاضر هو أن يصير الوجود العسكري المكثف الأمريكي في المحيط الهندي وفي بعض مواقع الشرق الأوسط كإسرائيل ومصر أي في المناطق المحيطة بالحدود الجنوبية مدعاة لمساندة حركات تحرر داخلية وقلاقل حدودية الأمر الذي يعني استنزافا لقوتها العسكرية ولقدراتها الاقتصادية، وهي من ثم تجد نفسها في موضع لن تقبله.

(أولا) هي مضطرة للقتال ابتداء من حدودها القومية أي أنها من حيث الواقع سوف تدخل في حرب دفاعية. وهذا هو نصف الهزيمة.

(ثانيا) وهي سوف تضطر إلى تشتيت قواتها بين بؤر متعددة كل منها تفصلها عن الأخرى آلاف الأميال.

(ثالثا) وهي سوف تجد نفسها مضطرة إلى حرب طويلة الأمد، وهو ما يخالف استراتيجيتها الجديدة والتي تعدها كأساس للتعامل القتالي المقبل والمتوقع.

وهذا يعني في حقيقة الأمر نوعا من التفكك في المعسكر الشيوعي بكل ما ينطوي عليه ذلك من نتائج. فهل في مثل ذلك الاحتمال يمكن أن تقف القيادة السوفيتية صامتة أم أنها لا بد قد أعدت لنفسها استراتيجية للمواجهة؟

رغم أن تفصيل الإجابة على هذا التساؤل ليس هدفنا من هذه الدراسة إلا أن هذه الإجابة تطرح تساؤلا خطيرا عن القدرات العربية للتعامل من منطلق مبدأ الحفاظ على أمنها القومي مع الإرادة السوفيتية. مما لا شك فيه أن السياسة السوفيتية تتبع بهذا الخصوص، أي بصدد شل التغلغل الأمريكي حول حدودها الجنوبية، استراتيجية تنبع من ثلاثة مسالك كل منها يكمل الآخر:

1- فهي تعمل أولا على تفتيت المعسكر الغربي بالعمل الصامت الدائب على تحييد القوى ذات المساندة التقليدية لواشنطن. وهي تسير في هذا الطريق بنجاح حقيقي سواء في عملية الاغراء الاقتصادي نحو دول السوق المشتركة أو في عملية التهديد المقنع نحو اليابان.

        2- كذلك فإن التسلل في دول أمريكا اللاتينية الوسطى والجنوبية ومن خلال الوسيط لا بد أن يفرض على واشنطن نوعا من القلق وتوزيع القوى بحيث أن موسكو قد خلقت في عقر دار الإدارة الأمريكية ولأول مرة بقعا للزيت قابلة للاتساع.

3- على أن أهم ما يعنينا وهو ما يرتبط بالمنطقة العربية، نجد أن الاستراتيجية السوفيتية قد طلقت نهائيا مفاهيمها التقليدية. فهي تنظر إلى المنطقة الممتدة من البحر المتوسط في الشمال حتى دول جنوب أفريقيا في الجنوب، ومن المحيط الهندي في الشرق حتى المحيط الأطلسي في الغرب، على أنها ميدان واحد يتسع ولكنه يملك ترابطا كاملا بين جميع أجزائه.. وهي في تعاملها مع هذه المنطقة تلجأ إلى أسلوبين كل منهما يكمل الآخر. هي تترك القلب جانبا ولو إلى حين وتضرب الأطراف. أفغانستان في أقصى الشرق، المغرب في أقصى الغرب، أنجولا في أقصى الجنوب، ثم تركيا في أقصى الشمال. ثم هي تخلق لنفسها نقط ارتكاز متفرقة، ولكنها قادرة على أن تساند كل منها الأخرى بحيث تحيط منطقة القلب بحصار محكم لا تستطيع القوى الأمريكية أو التابعة لها منه فكاكا. منطقة القلب في هذا المسرح المتسع هي البحر الأحمر. مداخله في الشمال تحيط بها كماشة هائلة تمتد من اللاذقية في سواحل سوريا حتى السواحل الليبية. وفي الجنوب نجد الكماشة قد أقفلت وأحكمت قبضتها ما بين اليمن الجنوبية والحبشة.

        ولعل هذا الإدراك السوفيتي للتعامل مع منطقة الشرق الأوسط لا بد أن يفرض سؤالا آخر: لماذا الفشل في العلاقات العربية الروسية خلال العشرة أعوام الأخيرة التي وصلت في لحظة معينة إلى حد القطيعة، بل وتبادل الاتهامات مع مصر منذ وصول السادات إلى الحكم؟

قبل أن نحاول الإجابة على هذا السؤال فقط وبقصد طرح التساؤل حول حقيقة التعارض والتناقض بين الأمن القومي العربي والاستراتيجية السوفيتية، علينا أن نتذكر حقيقة أساسية يجب أن يضعها نصب عينيه كل من يتناول بالتحليل الصراع حول المنطقة العربية، في هذه المنطقة التي تمتد من الخليج العربي شرقا حتى وسط أفريقيا غربا تدور معركة حاسمة سوف يتوقف عليها مستقبل أوروبا الغربية واليابان أولا والمعسكر الرأسمالي ثانيا ومصير العالم برمته ثالثا. الصدام بين الشرق والغرب، بين الإرادة السوفيتية والدبلوماسية الأمريكية قد بدأ فعلا. وعندما كتب نيكسون في مذكراته أن الحرب العالمية الثالثة تحيط بنا في كل مكان لم يكن مبالغا. فالعالم الأوربي يعيش عالة على الخليج العربي بالنسبة للطاقة وعلى وسط أفريقيا بالنسبة لمعادنه الأساسية دورة لا بد منها لاستمرار بقائه الاقتصادي. أهمية المنطقة العربية بالنسبة للاتحاد السوفيتي هي أنها في الاستراتيجية الروسية بمثابة القلب للمسرح الذي يحتضن أيضا أفريقيا بكل خيراتها.

مما لا شك فيه أنه توجد مجموعة من المتغيرات تخفف من حدة هذا الصراع الخفي. ولكن إلى متى؟

أولا: العنصر القيادي الذي يتولى اتخاذ القرار، وفي كلا الطرفين. الولايات المتحدة أضحت تملك استراتيجية قوية استفزازية عنيفة ولكن من يتخذ القرار في تلك الدولة لا يزال يتصف بالرعونة والمراهقة. وهذا ما يقوله كيسنجر، وقد ذكرناه أكثر من مرة. كذلك فان القيادة السوفيتية تتصف بالشيخوخة. ومن ثم فان هناك هوة حقيقية بين صياغة الاستراتيجية وتنفي تلك الاستراتيجية. ولكن إلى متى؟

ان الحديث عن احتمالات التغيير ووصول جيل جديد أكثر حيوية وأكثر شبابا وأكثر استعدادا للمغامرة وأكثر تفاهما مع القيادات العسكرية في موسكو على قدم وساق.

ثانيا: كذلك علينا أن نتذكر مرة أخرى كيف أن الاستراتيجية السوفيتية لم تعد صالحة لمواجهة هذا الموقف الجديد. لقد تعودت أن تترك الولايات المتحدة تخطئ ثم تستغل الأخطاء الأمريكية بعملية مساومة واسعة النطاق. لقد كان مرد ذلك الحقيقي مجموعة من الحقائق تجعل القيادة السوفيتية على ثقة بأنها لن تؤخذ على غرة، وأنها تستطيع دائما أن تتراجع مستغلة في هذا ما سمى بسياسة الوفاق الدولي. الولايات المتحدة بحكم وضعها الداخلي ونظامها السياسي لا يمكن أن تفاجئ الاتحاد السوفيتي بحرب مجهضة، وهي لذلك لا تملك زمام المبادرة، ولكن في الاستراتيجية الجديدة التي بدأت تتبلور منذ بداية السبعينات والتي أضحت اليوم سافرة صريحة فان واشنطن قد أخذت زمام المبادرة بما هو في حكم الحرب المعلنة ولو من خلال الوسيط. لقد تعلمت من عدوها ومن ثم فقد أضحى على الاتحاد السوفيتي أن ينتقل إلى الهجوم ولا يقتصر على اتخاذ موقف الدفاع. سياسة رد الفعل لا يمكن أن تكون أساسا للسياسة الروسية في الإطار الدولي المعاصر. برز هذا واضحا في أفغانستان فهل سوف يستمر في نفس الاندفاع بصدد إيران وتركيا؟ ثورة الخوميني تحمل من علامات الاستفهام أكثر مما تقدم من إجابات. ورغم الهدوء الظاهر في تركيا فان التقلصات بداخلها أكثر من أن تحمل الولايات المتحدة على الطمأنينة.

ثالثا: في هذا الإطار العام تصير الأهمية التي تختلها المنطقة العربية في المخطط السوفيتي أكثر من حاسمة. وقلب المنطقة العربية هو مصر. وهكذا تصير الإجابة على السؤال الذي طرحناه عن أسباب الأزمة المصرية الروسية أكثر إلحاحا وأكثر خطورة على الأقل بالنسبة للمستقبل.

لماذا؟ وكيف؟ أسئلة يجب أن نطرحها ولو بإيجاز وأن نواجهها ولو بالقدر الذي يسمح بتحديد امكانيات التعاون العربي السوفيتي. هل هناك تناقض جوهري لا يمكن تخطيه بين السياسة الروسية وأهداف الأمن القومي العربي؟ أم أن هناك حدودا معينة تسمح بالتوفيق ولو المؤقت والمساندة ولو المحدودة؟ النتائج التي سوف نصل إليها بصدد العلاقات المصرية السوفيتية تصلح بدورها كأساس للتعامل مع جميع تطبيقات التعامل بين موسكو والعواصم العربية الأخرى وبغض النظر عن خصائص الطبقة الحاكمة في أي من تلك العواصم.

(د) كيف حدثت القطيعة بين القاهرة وموسكو؟ الحقائق لا تزال يغلفها الكثير من الغموض. بل ونجد أنفسنا بهذا الصدد إزاء تصورات ثلاثة كل منها يختلف جذريا عن الآخر. فطبقا للرواية المتداولة، فان الرئيس السادات كان يعاني من توترات عديدة بسبب عدم رغبة الاتحاد السوفيتي في أن يحترم التزاماته، وبصفة خاصة تلك المتعلقة بتوريد السلاح. كذلك فان موسكو لم تكن تريد للقتال بين مصر وإسرائيل أن يهدد سياسة الوفاق بحيث ترسبت القناعة لدى القيادة المصرية في أن السياسة السوفيتية كانت تستخدم مصر كورقة في يدها تسعى من خلالها إلى تحقيق مكتسبات لتوغلها وانتشارها في المنطقة، ولم يكن يعنيها أكثر من ذلك. وزاد من ذلك شعور عام في الرأي العام المصري بأن الوجود السوفيتي هو احتلال جديد، وهو ليس إلا نموذجا أسوأ من الخبرة التي عانت منها القوى المسئولة خلال ثلاثة أرباع القرن مع الوجود البريطاني في وادي النيل. كذلك لا يستطيع أحد أن يفكر أن هزيمة يونية 1967 تركت في النفوس جرحا لم يكن من السهل تخطي نتائجه. وجاءت المجموعة المعروفة والتي كانت تسعى للتخلص من السادات نفسه معتمدة على تأييد موسكو لتكمل هذا الإطار العام من القلق وعدم الارتياح من جانب القيادة المصرية.

على أن كيمش يسعى من خلال مجموعة من الوثائق ليثبت بأن القيادة الروسية نفسها كانت تسعي إلى تلك القطيعة. فالعلاقات المصرية الروسية كلفت موسكو كثيرا، والمسئولون في الإدارة الروسية فقدوا ثقتهم في قدرة القيادة المصرية على أن تحقق شيئا. واحتمالات التورط بنتائجه العديدة تزعج المخطط للسياسة السوفيتية. كذلك فان موسكو قادرة من خلال التغلغل في أفريقيا أن تحقق أهدافها بتكلفة أقل. وهي لا تستطيع أن تلجأ إلى خطوة تفقدها الثقة في سياستها إزاء دول العالم الثالث، ومن ثم فهي تضع السادات في موقف يفرض عليه تلك القطيعة، وهو ما حدث كما أثبت ذلك تطور الأحداث. ويأتي عقب ذلك محلل أمريكي آخر فيحدثنا عن نوع من التواطؤ بين موسكو والقاهرة بقصد تحقيق عملية تغطية واسعة النطاق تسمح بالخديعة الكاملة لإسرائيل وبصفة خاصة أثناء حرب أكتوبر بل وعقب حرب أكتوبر ذاتها المتعلقة بتوريد السلام والتي تؤكد أن تدفق السلام ظل قائما على قدم وساق حتى عام 1976. افتراضات أثبتت الأحداث اللاحقة أنها جميعها صعبة التصديق.

فلنترك جانبا جميع هذه الخلافات التي لا نستطيع أن نقطع بخصوصها بكلمة نهائية. ولكن هناك مجموعة من الحقائق يجب أن نسلم بها:

(الحقيقة الأولى) وهي أن الاتحاد السوفيتي قد تخلى عن مزاياه في مصر وهي مكتسبات عمل جاهدا في سبيل الحصول عليها وتحمل بشأنها عبئا اقتصاديا ضخما، وقد هيأت له هذه المكتسبات لأول مرة في التاريخ أن يحقق حلم القياصرة القديم وهو أن يتوغل في قلب المنطقة العربية. ان فقد هذه المزايا أيا كان تفسيرها يعني فقط أن الاتحاد السوفيتي لم يفهم أهمية موقع مصر، ولم يعرف كيف يحافظ على ذلك الموقع. وهو يذكرنا بنموذج آخر من الفشل عاصره القرن الماضي: فرنسا في مواجهة بريطانيا.

(الحقيقة الثانية) أنه لصالح مصر أيا كانت الممارسات لتصفية الصراع العربي الإسرائيلي من خلال التعامل السلمي أم الصراع العضوي، الحرب الكلية الشاملة أم القتال الجزئي والدوري، أن تظل العلاقات مع الاتحاد السوفيتي علاقات وثيقة. أنها الوسيلة الوحيدة أمام الدبلوماسية المصرية لتحقيق نوع من التوازن في مواجهة النفوذ الأمريكي. لو قدر لحمل أن يوجد مع حيوان كاسر في قفص واحد فانه لصالح الحمل أن يوجد أيضا في نفس القفص أكثر من حيوان متوحش. انه فرصة أخرى للحياة. كذلك سوف نرى أن التعاون الوثيق مع القوة العالمية الثانية هو مبدأ استراتيجي لا يجوز لأي قيادة مصرية واعية أن تتجاهله بأى شكل كان.

(الحقيقة الثالثة) أن بناء جيش قوي معد وصالح ليواجه مستلزمات الوظيفة الإقليمية والقومية لمصر لم يمكن أن يتم دون المساعدة والمساندة السوفيتية. القول بالتنويع هو نوع من الخديعة ان لم يفهم على أنه أداة مكملة. ان الجيش المصري ليواجه الجيش الإسرائيلي بقوة مماثلة أو على الأقل متوازنة ليس أمامه سوى أمرين كلاهما يكمل الآخر، بناء صناعة مصر للسلاح، ثم الاعتماد على التموين السوفيتي على الأقل في نوعية معينة من أدوات القتال. ويكفي أن نتذكر أن القوات العربية المحيطة بإسرائيل كانت تملك في عام 1975 قرابة خمسة آلاف دبابة. وأن ما تستطيع أن تنتجه جميع مصانع السلاح في غرب أوروبا لا يمكن أن يتجاوز في العام ستمائة دبابة. وقد اعترف بذلك الرئيس السادات بقوله في حديث له مع سليم اللوزي: لو أردت أن غير ما لدى مصر من سلاح وعتاد قتالي فإنني في حاجة إلى عشرين عاما على الأقل. بقى افتراض واحد هو الاعتماد على الولايات المتحدة. ولكن مجرد طرح هذا الافتراض، أي الاعتماد على واشنطن فقط لبناء قوة مصرية ضاربة تستطيع أن تقف من إسرائيل موقف المناطحة والتهديد لا يمكن أن يعبر إلا عن السذاجة وقصر النظر.

في ظل هذه الحقائق هناك أخطاء. كيف حدثت ومن هو المسؤل؟ هل الاتحاد السوفيتي مارس سياسة فاضلة؟ هل مصر لم تفهم الأسلوب الأمثل للتعامل؟ هل المسئولية تقع على كلا الجانبين؟ سؤال يجب أن نطرحه ونحاول الإجابة عنه.

طرحنا هذا التساؤل في موضع آخر وعقب متابعة تفصيلية لتاريخ العلاقات السوفيتية المصرية انتهينا إلى هذه النتيجة: كلا الطرفين لم يفهم الآخر فكان الصدام. ثم جاءت شخصية الرئيس السادات وفلسفته في التعامل السياسي فكانت القطيعة. الخلاف بين الطرفين برز واضحا في فترة حكم عبد الناصر، ورغم اقتناع هذا الزعيم بأهمية المساندة السوفيتية.. مع شخصية السادات بحكم تكوينه وفكره وسلوكه ما كان يمكن إلا أن يصير الخلاف صداما وعدم التقارب في وجهات النظر قطيعة حقيقية. زاد من ذلك أن الزعيم المصري الجديد لم يكن بعيد النظر. الجانب السوفيتي تعامل مع الموقف من منطلق أن القائد المصري رجل منطقي يزن الأمور بمنطق القيادة الحكيمة، فكانت المأساة.

منطلقات القيادة المصرية أيضا فترة حكم عبد الناصر كانت تجعل أساس تعاملها مع الاتحاد السوفيتي أربعة مبادئ: منع الاتصال بين روسيا وأي دولة عربية أخرى، عدم تشجيع الوحدة بطريق التدرج، عدم وضع أفضليات للسياسة العربية، ثم أخيرا سياسة الاقتراض بلا حساب. هذه المبادئ الأربعة تكون النسيج الفكري العام للإدراك المصري لسياسته مع الاتحاد السوفيتي. فهو يعتقد أن أي محاولة من جانب موسكو للاتصال بأي عاصمة عربية أخرى إنما يجب أن تتم عبر القاهرة. أليست مصر هي زعيمة العالم العربي؟ وأليس عبد الناصر هو القائد الأعلى؟ ومصر لا ترى في أي حركة وحدوية لا تنبع بدورها من القاهرة السياسة لضرب الزعامة المصرية. الوحدة مع مصر ودون مصر لا موضع لها. جمال عبد الناصر لم يضع لنفسه في سياسته أولويات، ومن ثم كان لا بد أن يحدث التضارب والتناقض، هل هدفه الأساسي هو القضاء على إسرائيل أم تحقيق الوحدة العربية على سبيل المثال؟ لقد كان يسير في سياسة أساسها السعي لتحقيق كل شيء، وكان لا بد أن ينتهي بالفشل في جميع الميادين. برز هذا واضحا في المبدأ الرابع: الاقتناع بأن الاتحاد السوفيتي كدولة كبرى قادرة على الاقراض بلا حساب وعلى تقديم كل شيء، فخزانتها ممتلئة وما تقدمه لمصر ليس الا نقطة في بحر من القدرة والمقدرة.

الجانب السوفيتي كان ينطلق من مبادئ مختلفة تنبع من تصور وإدراك بعيد كل البعد عن الادراك السابق. الدبلوماسية السوفيتية في تعاملها مع مشكلة الشرق الأوسط كانت تؤمن بمبادئ أربعة تمثل الركائز الأساسية في فهمها للتحرك في المنطقة: فهي تؤمن بأن التوصل إلى الحل بالطريق السلمي يجب أن تكون له الأولوية حيث تصير سياسة الوفاق موضع التهديد، وهي تؤمن بأن الحرب أن وجدت يجب أن تكون طويلة الأمد، كذلك فان التجديد في المنطقة يجب أن يكون شعبيا وجماهيريا وداخليا وليس مجرد شعارات. الثورة في القناعة الروسية لا تستورد ولكن يجب أن تنبع من الواقع الاجتماعي. وأخيرا فان استغلال موسكو لبعض ثروات المنطقة ليس إلا أسلوبا من أساليب التعويض عن تلك المساهمة التي تقدمها الدولة السوفيتية بدون حساب.

فالقيادة السروية بوصف كونها تمثل دولة أعظم لا يمكن إلا أن تكون لها استراتيجية كلية وشاملة، وأن هذه الاستراتيجية لا بد أن تستند إلى أولويات وقد رتبت بطريقة تصاعدية. وهي في إدراكها بالمسئولية الكبرى عن مصير المعسكر الشيوعي لا بد أن تجعل لمبدأ الوفاق السيادة المطلقة. ولذلك فهي ترى أن كل ما يهدد ذلك المبدأ يجب أن يأتي في المرتبة الثانية. عندما دفع قادة الكرملين ناصر للاتصال بواشنطن لم يكن ذلك بقصد التخلي عن مساندة مصر في موقفها الدولي ولكن بقصد تخطي أن تصل تلك المساندة إلى حد تهديد سياسة الوفاق. والحرب في نظر القيادة العسكرية الروسية تعني قتالا طويل المدى وليس مجرد معركة خاطفة. وهي قد بنت حساباتها على عنصرين: الأول أن الدولة الإسرائيلية بحكم تكوينها لا تستطيع أن تواجه مثل تلك الحرب. والثاني أن هذا فقط هو الذي يسمح باستغلال الكم العربي في مواجهة الكيف الإسرائيلي. وهذا يعني أمرا أساسيا: تحويل المجتمع المصري إلى أمة محاربة. هذا يفسر المبدأ الثالث حيث الإدراك السوفيتي أن المجتمع العربي بحالته المتفتتة لا يصلح لأي مواجهة حقيقية. الناحية الأخيرة تصير منطقية مع أي دولة تقدم مساعدات اقتصادية وعسكرية بالضخامة التي قدمتها موسكو لمصر.

الخطأ الحقيقي الذي وقعت فيه كل من الدبلوماسية المصرية والقيادة السوفيتية أن كلا الطرفين ل يسير في طريقه دون محاولة فهم الطرف الآخر لم يحدث بينهما حوار حقيقي ومواجهة صريحة للإطار الفكر الذي ينبع منه تصور كل فريق لمقتضيات التعامل في معاملاته الثنائية. عدم قدرة أي من الجانبين على فهم الآخر وتطويع مفاهيم الآخر كان لا بد أن ينتهي بالصدام. الصدام الحقيقي في هذه المفاهيم بدأ في صورة واضحة وخطيرة مع مبادرة روجرز، وبدلا من تطويقه حدث له تعميق وانتهي بالموقف المعروف.

على أن تضخيم الخلاف بين الطرفين ما كان يمكن أن يقود إلى القطيعة التي تعشها مصر في علاقاتها مع الاتحاد السوفيتي لو لم توجد شخصية السادات في القيادة المصرية.

لقد كتب الكثير عن السادات ووصفه البعض بأنه من أعظم رجال الدولة في العالم المعاصر، كما وصل البعض إلى وصفه بأنه خائن وعميل. الواقع أنه أبسط من ذلك. ولو أردنا أن نفهم السادات فليس علينا سوى أن نعود إلى مجموعة الخصائص التي تميز شخصيته. فهو أولا ثعلب سياسي: ماكر، حذر، قادر على أن يكون عنيفا إلى حد الوحشية. ثم هو ثانيا زعيم عاش في ظل القائد الأعظم جمال عبد الناصر. هزيمة ناصر عام 1967 أحالته إلى رجل دولة حقيقي. خلال تلك الفترة التي امتدت حتى موت الرئيس فان السادات كان الزميل القديم الوحيد الذي عاش في أحضان عبد الناصر، وهكذا تعلم شيئا. حكم السادات وحتى نصر أكتوبر لم يكن سوى استمرارية حكم عبد الناصر. السادات طبق مفاهيم هذا الأخير ولكن بأسلوبه. فناصر لم يكن ثعلبا وإنما كان ذئبا. عقب نصف النصر الذي حققه الجيش المصري في حرب أكتوبر بدأ السادات يبتعد عن تعاليم ومفاهيم سلفه. وهكذا حكم على نفسه بالفشل. لقد كان على السادات أن يختفي من الساحة المصرية في نهاية عام 1973.

وهكذا نستطيع أن نحدد خصائص شخصية السادات حول أربعة عناصر أساسية:

أولا: هو مثير للفتن والقلاقل، بل انه بهذا المعني يمثل نضجا معينا. تاريخه الشخصي خير تأكيد لذلك. ولعل هذا يفسر حبه واستعداده للتحدي.

ثانيا: وهو بحكم تكوينه وعقليته بورجوازي بل ينتمي إلى الطبقة المتوسطة الصغيرة حبه للحياة المترفة، غرامه بشاه إيران، أحلامه بالقصور والاستراحات، تعلقه بالملابس الأنيقة، ليست جميعها سوى مظاهر للتعبير عن هذه العقلية. وهو لذلك لا يصلح لقيادة المواقف المصيرية. وهو لذلك أيضا قادر على أن يخفي أفكاره عن أقرب الناس إليه. الخديعة في تكوينه، بل هو سعيد كلما مارس الغدر مع أقرب الناس إليه. ولذلك فطيلة حياته لم يكن له أصدقاء.

ثالثا: وهو شخص معقد، تصرفاته السلوكية التي قد تبدو متناقضة لا تجد لها تفسيرا الا من خلال العودة إلى تلك الجروح العميقة في كبريائه.

رابعا: وهو أخيرا ممثل مسرحي. قادر على أن يتقمص الدور الذي يريده بنجاح يحسده عليه أي ممثل محترف. عقب زيارته للقدس عندما اقترح الحاضرون عليه وعلى مناحيم بيجين جائزة نوبل أجابت جولدا مائير بسخرية واضحة: كلا انهما في حاجة إلى جائزة الأوسكار.

هذه الخصائص هي التي حددت تطور السادات عقب حرب أكتوبر. وهي تطورات لم تفهمها القيادة الروسية بينما فهمها كيسنجر بوضوح، فكان النجاح الأمريكي المنقطع النظير في منطقة الشرق الأوسط.

ولكن هل هذا يعني أن القطيعة بين مصر والاتحاد السوفيتي دائمة؟ وأن النجاح الأمريكي قد استقر نهائيا في قلب العالم العربي؟

الإجابة عن هذا السؤال بدورها تخرج عن نطاق هذه الدراسة ولكن الأمر الذي لا شك فيما أن تحليل خبرة التعامل المصري السوفيتي تفتح أبوابا عديدة للتساؤل. ولعله مما سبق أن ذكرنا نستطيع أن نؤكد حقيقة مطلقة: المسئولية الحقيقية في هذا التطور في العلاقات المصرية السوفيتية تقع على قيادات موسكو وذلك يبدو في بعدين: البعد الأول المرتبط بالتطور (الداخلي) في الواقع المصري. القيادات الروسية أخطأت في حساب أبعاد الانتقال في الاقتصاد المصري من النظام السابق على الثورة إلى النظام الناصري. فمصر تقليديا تعيش على الزراعة والتجارة. النظام الناصري عزل مصر عن العالم الخارجي فأفقدها طبيعتها كمعبر للتعامل الدولي. كذلك فان الانتقال إلى نظام اشتراكي بالمعني السوفيتي لا يمكن أن يتفق مع طبيعة المزاج المصري. وما هو أخطر من ذلك فان موسكو بين التحالف الحركي في النطاق الدولي والتغير الاجتماعي في التعامل الداخلي. البعد الثاني المرتبط بالمساندة السوفيتية للقضية الفلسطينية وللصراع العربي الإسرائيلي. لقد تقدمت تزعم التحالف بلا حدود الأمر الذي خلق في القيادات المصرية القناعة بأن الاتحاد السوفيتي على استعداد لأن يقدم لمصر ما تقدم واشنطن لإسرائيل. وهنا كانت القناعة في لحظة معينة بن الاتحاد السوفيتي ليس جادا في وعوده.

على أن علينا ونحن بصدد تقييم هذه الحقبة من تاريخ المنطقة أن نعترف بما لها وما عليها. فالاتحاد السوفيتي استطاع من هذا المنطلق أن يجد جناحه في أفريقيا. والأمر الذي لا شك فيه أنه لولا نجاحه النسبي في مصر لما كان قد فكر في توسيع آفاقه حتى القسم الجنوبي من أفريقيا. كذلك يجب أن نعترف بأن الوجود والنفوذ السوفيتي هو الذي تحكم في قرارين كلاهما يجب أن ينظر إليه على أنه فشل للسياسة المصرية: الول في عدم المبادرة بالضربة الهجومية في عام 1967. وسوف نرى فيما بعد أن هذا يخالف تقاليدنا في الأمن القومي. الثاني في عدم نقل المعركة بأي معني من المعاني في عام 1973 إلى حدود إسرائيل السابقة على عام 1967. خطأ آخر قد يبدو محدود الأهمية ولكنه شارك بما لا يدع مجالا للمناقشة في ذلك الجو العام الذي هيأ للتقاعس عن تطوير النجاح في معركة أكتوبر مما أدى بدوره إلى الثغرة المعروفة.

        – أهمية المنطقة العربية في الاستراتيجيات الكبرى: امكانية المساومة وحدودها:

العرض السابق يسمح لنا بأن نحدد مجموعة من النتائج:

الأولى: ويصوغها المحلل السوفيتي المشهور بريماكوف ويتابعه في نفس المعني زويله الروسي أيضا بليابيف ويرددها الأمريكي ذو الأصل اليهودي أوري رانان من أن ضخامة الاستثمارات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط وأهمية المصالح المرتبطة بتلك المنطقة مع خطورة البعد الاستراتيجي لها لا بد من أن تلعب دورا حامسا في خلق سياسة متعاطفة مع القضية العربية في الأمد القريب ولو نسبيا. وبصفة خاصة عندما يتدخل في ذلك الوضع السعي نحو منع الاتحاد السوفيتي من أن يضع قدمه مرة أخرى بتوغل حقيقي في المنطقة.

الثانية: وهى أيضا ندين بها لعالم سوفيتي ويعود إلى بداية الستينات وهو المحلل ايفانوف وتتبناها بدورها العالمة الأمريكية دوايشا التي انفردت بدراسة السياسة السوفيتية في مواجهة السادات تحليلا له وزنه العلمي من أن السياسة الخارجية في الدول النامية قابلة لجميع الاحتمالات والتقلبات المستحيل تصورها، ليس هناك شيء مضمون نسبيا. والتطورات الفجائية والانقلابات غير المتوقعة يجب أن ندخلا في الحساب وأن نعد لها بحيث لا نؤخذ بها على غرة.

الثالثة: أن المنطقة العربية وبصفة محددة منطقة الشرق الأوسط في طريقها لأن تصير مسرحا لحركات كر وفر يشترك فيها أصدقاء الطرفين ويفرض عليها من خلالها صراع لا ناقة لها فيه ولا جمل. ولنتذكر أن ما حدث في الحرب العالمية الثانية ما بين مصر وشمال أفريقيا سوف يحدثاليوم ولكن وقد اتسعت الرقعة وقد اتجهت ميادين التعامل لتمتد على وجه الخصوص ما بين مصر والشرق العربي ابتداء من العراق حتى المحيط الهندي، والمنطقة وهي تجتاز اليوم هذه المرحلة انما تذكرنا بنموذج آخر اجتازته أوروبا في بداية الخمسينات على وجه الخصوص عندما كانت القارة العجوز تعد لتصير ميدانا للصدام بين القوتين الأعظم، فتصدى ديجول لذلك التطور بسياسته المعروفة التي أضحت اليوم سياسة ثابتة لدى جميع القيادات الأوروبية. الحديث عن تحييد أوروبا يخلق الرعب في القيادات الأمريكية والدبلوماسية السوفيتية على استعداد لتقبله رغم أنه قد يبدو أنه ليس في صالحها لأنه من حيث الواقع يسمح لها باطلاق اليد في مواجهة الخطر الأصفر.

فهل تستطيع قياداتنا أن تفهم معنى ذلك؟

        والسؤال الذي نطرحه يتكون من شقين:

الأول: كيف نبعد المنطقة عن مخاطر هذه الاستراتيجيات الكبرى. ونحن نعلم مقدما أنها تتعارض وتتناقض كليا مع مفهوم الأمن القومي العربي. لقد أفسد نظامنا الاقتصادي وتطورنا القومي الحروب العربية الإسرائيلية المتكررة.. فهل نريد حروبا أخرى أكثر خطورة وهي جميعها لا صلة لها بأهدافنا القومية؟

الثاني: كيف ننتفع بأهمية المنطقة لكلتا القوتين الأعظم في الحصول على مزايا ومكتسبات؟ ولنتذكر ما يعنيه ابتعادنا عن النفوذ الأمريكي بالنسبة للأمن السوفيتي والنموذج الأوروبي واضح الدلالة. كذلك فلنقف قليلا إزاء ما تعنيه قناة السويس والبحر الأحمر والخليج العربي بالنسبة للاستراتيجية الأمريكية.

بطبيعة الحال نحن في حاجة إلى قيادة محنكة واعية تستند في تخطيطها إلى استراتيجية محددة تم بناؤها استنادا إلى العلم والمعرفة وليس مجرد الادعاء والعشوائية، بحيث تستطيع تلك الاستراتيجية أن تستخدم كلا من هذين المنطلقين كأساس لسياسة مستقلة متميزة عن سياسة كلا العملاقين، ولنتذكر بهذا الخصوص أن الضعف قد يصير قوة والقوة قد تتحول إلى ضعف. كذلك علينا أن نعيد إلى الذهن مدى ما نستطيعه من منطلق مبدأ توزيع الأدوار في تنفيذ السياسة العربية أن وجدت.

ان ضرب إسرائيل لبغداد لا يمكن أن يكون دون علم وتخطيط من القيادة الأمريكية فهل بدأت هذه القيادة في تنفيذ مخططاتها؟ وأين الحرب العراقية الايرانية من هذا المخطط؟ وهل حاولنا نحن من جانبنا أن نبني تصورا لهذه المواجهة؟ أم سوف نظل نسير على سياسة أساسها أن اليقظة لا تأتي الا بعد الحدث للبكاء على ما حدث؟

الدكتور حامد ربيع

أستاذ ورئيس قسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد جامعة القاهرة (سابقا)

رئيس قسم الدراسات السياسية والقومية بمعهد الدراسات العربية ببغداد

أستاذ خارجي بجامعات الخرطوم ودمشق وروما وباريس

 

 

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button