الأوضاع في ليبيا منذ 2016

شهدت سنة 2016 العديد من التطورات الهامة في الأوضاع الأمنية والسياسية في ليبيا، والتي لا تنفصل عن مؤثرات البيئة الدولية والإقليمية المحيطة التي تتمثل في التطورات والمواقف الدولية والإقليمية بصدد الأوضاع السياسية الليبية، ويعرض هذا التقرير لهذه التطورات على الوضع في ليبيا، بداية من تحليل السياق الدولي ثم الإقليمي ثم عرض وتحليل أهم التطورات الميدانية والسياسية الليبية، ثم رؤية للحل واستشراف المستقبل وذلك على خمسة أجزاء رئيسية كالتالي:
أولاً: السياق الدولي:
تشير التطورات الدولية في مواقف الدول الغربية إزاء الأوضاع في ليبيا إلى أن أي حل للأزمة الليبية لا يمكن أن يتحقق بمعزل عن التنسيق مع البلدان العربية والقوى العربية الرئيسية والمعتدلة والتي تساند أي حكومة معتدلة تحقق التوافق الوطني وتجمع شتات القوى السياسية والكتائب العسكرية تحت لواء واحد وعلم ليبي واحد، ويمكن أن نشير إلى بعض المؤشرات التي تؤكد أهمية ومحورية الدور العربي في حل الأزمة الليبية في النقاط التالية:
تفتقد بعض القوى الغربية مصداقية حقيقية للتعاون مع الليبيين في مواجهة داعش والقاعدة وغيرها، حيث تجرى تحقيقات الآن في بريطانيا حول تورط جهاز المخابرات البريطانية (MI66) في تعذيب إسلاميين من ليبيا قبل الثورة، وفي الوقت ذاته تشير الكثير من الوثائق المسربة عن تاريخ سابق من التعاون بين المخابرات البريطانية مع الجماعات الإرهابية في بنغازي وتدريب المسلحين من أجل إسقاط القذافي وذلك من خلال الجماعة الإسلامية المقاتلة (Libyan Islamic Fighting Group (LIFG)) وقائدها أبوعبدالله الصديق وأنس الليبي، مؤسس القاعدة في ليبيا، وكانت هذه الجماعات المتطرفة في بنغازي على علاقة بأسامة بن لادن، فقد تشكلت بعد عودة أعضائها من أفغانستان، وقامت بريطانيا بتمويلها بحوالي 100 ألف دولار لإسقاط القذافي، لكنها فشلت في إسقاطه عام 1995، وقد تكرر نفس السيناريو بالتعاون بين المخابرات البريطانية (MI6) والأميركية (CIA) في عام 2010. لذلك يشكك في علاقة المخابرات البريطانية بالجماعات الإرهابية، والتي بدأت تتشكل قبل الثورة في ليبيا من خلال عزوز (Azzouze) وسامي الساعدي أثناء إقامتهما في لندن في وقت سابق، وفيما بعد عند سفرهما إلى ليبيا بأوامر من بن لادن في عام 2009 لإنشاء معسكرات تدريب للجهاديين. فقد أنشأوا مركز التوحيد في درنة وله علاقات بالإخوان من خلال القيادي فتحي الكاري والمدعوم من بريطانيا والولايات المتحدة، وقد أشارت الكثير من الوثائق المسربة عن المخابرات البريطانية إلى علمها بالمؤامرة على اغتيال القذافي في عام 2010 من خلال جهاديي القاعدة الليبيين.
أما الأميركان فيبدو أنهم لا يولون الملف الليبي أولوية هامة الآن لاتخاذ قرار بشأن التدخل المباشر للقضاء على داعش، خاصة مع قرب انتهاء فترة أوباما الثانية وبدء حملة الانتخابات الأميركية الرئاسية القادمة 2017، لذلك تركز الإدارة الحالية على الاستمرار في إجراءاتها لتمهيد الوضع للإدارة التالية، لذلك أصبح ملف الأزمة الليبية وقوداً في حملة الانتخابات الرئاسية الجارية والمزايدات السياسية من أجل الفوز في الانتخابات، حيث قال ترامب في خطاب خصصه الأربعاء الماضي لمهاجمة منافسته ضمن الصراع المشتعل بينهما: “قرارات هيلاري كلينتون نشرت الموت والدمار والإرهاب في كل مكان طالته يدها.. لقد قدم السفير الأميركي في ليبيا، كريستوفر ستيفنز وطاقم القنصلية في بنغازي مئات المناشدات طالبين المساعدة لكن كلينتون رفضتها جميعاً. وعندما تولت كلينتون وزارة الخارجية عام 2009 كانت ليبيا دولة متعاونة بينما كان العراق يشهد تراجعاً بمعدلات العنف كما كانت سوريا تحت السيطرة وإيران مختنقة بالعقوبات، ومصر يحكمها نظام صديق يحترم معاهدة السلام مع إسرائيل، ولم يكن تنظيم داعش موجوداً، ووجه اتهاماً قوياً لكلينتون وقال: “خربت الشرق الأوسط برمته”، معتبراً أنها فعلت ذلك من خلال “اجتياح ليبيا وتسليم الدولة لداعش، والواضح أن هذه التصريحات جميعها مزايدات تنافسية ولكن المقلق أن تكون كلينتون امتداداً لفكر الإدارة الحالية تجاه ليبيا أما ترامب فهو أكثر عداوة للمسلمين ويستخدم هذه الكلمات لاستقطاب الناخبين الأميركيين ليس أكثر.
لكن ما قد يدفع بعض القوى الأوروبية للتعاون، هو ذلك القلق الأوروبي المتزايد من احتمال حدوث هجمات لداعش ليبيا في أوروبا، وتكتسب تصريحات مدير المخابرات الأميركية في ذلك الصدد أهمية خاصة، فقد حذر مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية جون برينان من أن تنظيم داعش سيواصل محاولاته لتنفيذ هجمات في الغرب، وهو يعمل حالياً لإرسال مزيد من عناصره إلى الدول الغربية، وأن “التنظيم يعمل على التكامل بين مختلف فروعه لتحويلها تدريجياً إلى شبكة مترابطة، واعتبر أن فرع داعش في ليبيا يعد الأكثر تطوراً ويمثل الخطر الأكبر، مضيفاً أن “داعش يعمل على توسيع دائرة نفوذه في أفريقيا، ولكن برينان أكد أن الجهود الدولية أضرت بقدرة داعش على جمع الأموال، بالرغم من أنه مازال يحصل على عشرات ملايين الدولارات شهرياً التي تأتي معظمها من عائداته من الضرائب المفروضة في الأراضي الخاضعة لسيطرته، وأن داعش يمتلك عدداً كافياً من الذئاب المنفردة في الغرب، وأوضح برينان أن التنظيم الإرهابي يدرب مسلحين جدداً ويحاول نشرهم في الغرب كعملاء له لتدبير مزيد من الهجمات، واعتبر أن للتنظيم عدداً كافياً من العناصر والمتعاطفين معه في الغرب وأن “داعش يحاول حالياً إرسال مزيد من الإرهابيين إلى الدول الغربية، مندسين في صفوف اللاجئين، أو مسافرين بالطرق الشرعية، ويحاول بناء منظومة متكاملة لتدبير هجمات جديدة على غرار اعتداءات باريس وبروكسل.
على الرغم من من إقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالإجماع (في 14 يونيو 2016) تفتيش السفن في عرض البحر قبالة سواحل ليبيا للتصدي لعمليات تهريب الأسلحة عبر البحر للجماعات الإرهابية التي تنشط في ليبيا وبينها تنظيم الدولة (داعش)، فلم يتوقف تدفق الأسلحة إلى ليبيا، في ظل تزايد الأسلحة إلى مستويات غير معقولة تقدر بحوالي 20 مليون قطعة سلاح تأتي من خلال شحنات غير قانونية من البحر والبر، ولازالت عملية السيطرة على انتقال الأسلحة معضلة كبيرة، مع إخفاق العملية البحرية صوفيا قبالة السواحل الليبية في تحقيق أهدافها، والتي اتخذت الحكومة الألمانية قراراً بتمديد وتوسيع نطاق مشاركتها بها، وتنتظر موافقة البرلمان الألماني على هذا القرار في جلسته الأخيرة بداية من يوليو. بينما وافقت دول الاتحاد الأوروبي في 22 يونيو 2016 على تمديد مهمة عملية “صوفيا” البحرية عاماً إضافياً، ويرجع سبب فشل العملية صوفيا في تحقيق أهدافها إلى أن سفن الحملة لا تصل إلى رؤوس شبكات التهريب، الذين يقبعون في مكاتب فخمة في مبانٍ برجية على السواحل الليبية، ولا يمكن للاتحاد الأوروبي الوصول إليهم، ما أدى إلى تنامي ظاهرة تهريب الأسلحة عبر البحر، حوالي 10 آلاف عملية تهريب أسبوعيا من وإلى ليبيا.
ثانياً: السياق الإقليمي:
لاتزال بعض القوى الإقليمية تعمل من خلال أجهزة استخباراتية ومن خلف الستار لترتيب الأوضاع الليبية بما يتفق مع مصالحها، وقد كشفت المواجهات العسكرية خلال الأشهر الأخيرة بين القوات الليبية وعناصر تنظيم داعش عن توتر وقلق إقليمي متزايد من هزيمة داعش، فاتجهت بعض القوى الإقليمية إلى التحرك سراً لتقديم الدعم العسكري لداعش ليبيا، في الوقت الذي تعمل فيه بعض القوى العربية على دعم قوات خليفة حفتر والسعي إلى تحقيق توافق وطني، ويمكن أن نعرض أهم المؤشرات على ذلك في النقاط التالية:
الدعم التركي لداعش: تقوم أجهزة الاستخبارات الأوروبية منذ منتصف مايو الماضي بعمليات بحث مكثفة عن ٦ سفن تركية أبحرت في البحر المتوسط من تركيا وعلى متنها أسلحة موجهة لفرع تنظيم الدولة في ليبيا. وتسعى أجهزة الاستخبارات الأوروبية لمنع وتحييد وصول السفن إلى السواحل الليبية. وتجري عملية البحث عن حاملتي حاويات، إحداهما تحمل العلم التركي والثانية الليبيري، و٣ سفن شحن من بنما وبوليفيا وتنزانيا، وسادسة متخصصة في نقل البضائع مسجلة بجزر القمر، وتتبع مسار السفن دول بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليونان. ومن غير المؤكد أن تكون هذه السفن قد سلكت طريق المرور عبر قناة السويس أو جبل طارق لأنها تدرك خطورة ذلك، ولاتزال القوات البحرية الأجنبية عاجزة عن كشف هذه السفن، خاصة أن هذه السفن فصلت نظام الملاحة على الفور لكي لا يتم اكتشافها باستخدام الأقمار الاصطناعية والدوريات، والمتوقع أن تكون هذه السفن قد نجحت بالفعل في الوصول إلى السواحل الليبية، ما يؤكد وجود تواطؤ محتمل من جانب الحكومة التركية أو أجهزة الاستخبارات التركية.
الدعم من الحركات الإرهابية في بلاد المغرب لتنظيم داعش: يتوقع وجود خط إمداد بين الجماعة إلاسلامية المسلحة بالجزائر وجماعات القاعدة المنتشرة في بلاد المغرب العربي مع تنظيم داعش، وخاصة عبر حدود تونس مع ليبيا، حيث تقوم بإمداد التنظيم بالأسلحة والمقاتلين عبر الحدود التونسية وعبر منطقة الساحل الأفريقي، وقد قبضت سلطات الأمن الجزائرية هذا الشهر على 332 عنصراً من شبكات الدعم والتجنيد التابعة لتنظيم داعش الإرهابي، أغلبها بمحافظات تقع قرب المناطق المجاورة لتونس وليبيا وكذلك وسط البلاد، وذكرت تقارير جزائرية محلية أن الإطاحة بعناصر هذه الشبكات عبر 40 عملية أمنية متفرقة تمت عبر 11 ولاية، من أهمها ولايتي الوادي وإليزي بالجنوب الشرقي على الحدود الليبية، وأن معظم الموقوفين تتراوح أعمارهم بين 22 و46 سنة ويستعملون هويات مزورة في تنقلاتهم.
تسعى تونس إلى أن تنأى بنفسها عن تقديم تسهيلات عسكرية لتدخل عسكري مباشر في ليبيا:
في ظل محاولات أميركية لبناء قاعدة عسكرية في تونس، وقد حرص وزير الخارجية التونسي على الإعلان عن رفض تونس لفتح أراضيها وسمائها أمام أي تدخل عسكري محتمل على ليبيا، وأن تونس لن تستعمل عبر أراضيها ولا عبر فضائها السلاح ضد ليبيا، ولن تقوم بتدخلات عسكرية فيها لأنها دولة تؤمن بأن فض النزاعات لا يكون إلا بطريقة سلمية على حد تعبيره، وأن مواجهة هذه المسألة هو شأن ليبي، وأن أمن ليبيا من أمن تونس، التي تعرضت إلى تهديدات إرهابية بسبب الحدود المفتوحة بين البلدين، مشدداً على أن تونس لم تتخل عن ليبيا ولن تتوقف عن دعمها في سبيل الخروج من الأزمة التي تواجهها.
زيارة الفريق أول ركن خليفة حفتر للقاهرة 25/6/2016:
تحمل هذه الزيارة الكثير من الدلالات السياسية الهامة وهي أن حفتر لم يفقد الدعم والمساندة العربية كما تزعم بعض التقارير، وإنما هناك تنسيق سياسي وعسكري بين حفتر وبعض الدول العربية، حيث زار حفتر القاهرة على رأس وفد يضم 9 من كبار المسؤولين بقيادة الجيش لبحث آخر تطورات الأوضاع في ليبيا لبحث دعم علاقات التعاون بين مصر وليبيا خاصة في مجال مواجهة التنظيمات الإرهابية. وتأتي زيارة حفتر للقاهرة بعد أيام من تصريحات وزير الخارجية الأميركي جون كيري، التي كشف خلالها عن لقاء جمعه مع وزير الخارجية الإماراتي سمو الشيخ عبدالله بن زايد للعمل مع المصريين للجمع بين الفريق خليفة حفتر ومجلس النواب، ومحاولة دعم رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق فائز السراج، ويتوافق ذلك مع تصريحات السراج بأن دولاً لم يذكرها تقدم مساعدات محدودة ذات طابع استشاري ولوجيستي إلى قوات حكومته، داعياً المجتمع الدولي إلى تسريع رفع الحظر المفروض على توريد الأسلحة إلى بلاده. حيث توجد غرفة عمليات عسكرية منذ ديسمبر 2015 بقيادة فرنسية بمشاركة إماراتية أردنية ذات تقنية فائقة في بنغازي لدعم خليفة حفتر، وتوجد هذه الغرفة داخل قاعدة “بنينا” الجوية في مدينة بنغازي والتي تعتبر أهم تمركز عسكري للقوات الموالية لحفتر، وهي تعمل منذ الأسبوع الثاني من فبراير 2016 تحت إشراف الفريق الفرنسي.
ثالثاً: التطورات على الصعيد الليبي الداخلي:
شهد السياق السياسي الداخلي العديد من التطورات السياسية الهامة، وقد تأثرت الأوضاع السياسية بالتطورات الميدانية وأثر كل منهما في الآخر، إلى حد أن كل منهما بات مرآة عاكسة للآخر، كما أن هذه التطورات قد تأثرت في مجملها بالسياق الدولي والإقليمي، والذين سبقت الإشارة إليهما، وعلى الرغم من الإنجازات المتواضعة التي تحققت على الصعيد الميداني في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، إلا أن هذه التطورات الميدانية كانت مترافقة مع حدة الانقسام السياسي والمؤسسي بين المجلس الرئاسي وما يضمه من عناصر الإسلاميين ومجلس النواب الليبي وقوات خليفة حفتر، بإلاضافة إلى تعمق الانقسام الداخلي داخل المجلس الرئاسي نفسه من جهة والانقسام السياسي والعسكري في المنطقة الشرقية، ويمكن فيما يلي الإشارة إلى أهم هذه التطورات في عرض التطورات الميدانية والسياسية على النحو التالي:
1- التطورات السياسية:
شهدت ليبيا على مدار الأسابيع الثلاث الماضية العديد من التطورات التي جاءت لتعكس صعوبة تحقيق التوافق الوطني وعجز حكومة الوفاق الوطني للتواصل إلى توافق سياسي مع مجلس النواب الليبي للاعتراف بها، كما أنها عجزت عن إقناع الفريق حفتر للدخول تحت طاعتها وظل الاستقطاب السياسي والصراع السياسي هو سيد المشهد بل يتجه في اتجاه الانقسام بين الشرق والغرب، بين قوى تؤيد حفتر ومجلس النواب وهي في الغالب قوى مدنية، وقوى تدعم المجلس الرئاسي وهي أيضاً قوى في الغالب ذات مرجعية إسلامية، ويحاول كل معسكر الاستقواء بانتماءاته القبلية في مواجهة الأخرى، ويمكن أن نرصد أهم هذه التطورات فيما يلي:
لم تتمكن حكومة التوافق الوطني برئاسة فايز السراج في تحقيق التوافق الوطني وهو أول مهامها، ولم يحسم مجلس النواب في طبرق أمره حيالها، ولا تزال حكومة عبد الله الثني تعمل، كما لا تزال حكومة طرابلس المنبثقة عن المؤتمر الوطني العام قائمة في طرابلس، فباتت البلاد مقسمة بين ثلاث حكومات، واحدة في الشرق واثنتان في الغرب، إحداها وهي حكومة الوفاق التي تعترف بها الأمم المتحدة لا يتعدى نفوذها حتى الآن قاعدة بوستة البحرية شرق العاصمة طرابلس، وقد ظهر هذا التشظي مؤخراً بشكل جلي حين هاجمت قوات أعلنت ولاءها لمفتي الديار الليبية الصادق الغرياني جنوب مدينة أجدابيا، في خطوة كان قد مهد لها الغرياني بإعلان وجوب محاربة حفتر واستعادة بنغازي ومدن الشرق من قبضته. ويقول الغرياني الذي كانت حكومة طبرق قد عزلته في وقت سابق أن تنظيم “داعش” في سرت، وحفتر بمثابة “ثورة مضادة لثورة 17 فبراير، ويضع مفتي ليبيا قوات “حرس المنشآت النفطية” التي يرأسها إبراهيم الجضران في قائمة الأعداء، ويتهمه بأنه يتحكم في “أرزاق الليبيين” في إشارة إلى سيطرة قواته على موانئ تصدير النفط الرئيسة فيما يعرف بالهلال النفطي، وهو أيضاً لا يعترف بحكومة الوفاق الوطني ويعدها حكومة وصايا، لذلك يعتبر الكثير من الليبيين أن عمر المجلس الرئاسي الليبي والحكومة المنبثقة عنه بات أكثر من قصير في ظل عجزه عن السيطرة على البلاد رغم الدعم الدولي والعربي الذي حظي به، وهو ما ينذر ببوادر انهيار للاتفاق السياسي. حيث يعتزم مجلس النواب الليبي تشكيل مجلس رئاسي جديد وفق قاعدة رئيس ونائبين سيتولى نائب رئيس مجلس النواب الحالي امحمد اشعيب رئاسته. والإصرار على عدم منح الثقة لحكومة الوفاق، خاصة بعد تراجع عدد كبير من النواب الذين كانوا يدعمون هذه الحكومة عن موقفهم بعد أن وقف المجلس الرئاسي موقف المتفرج أمام الجرائم التي ترتكبها الميليشيات في العاصمة طرابلس في حق مدنيين.
بدأت الكثير من القوى السياسية إثارة النعرات القبلية لتحظى بدعم قبائلها في مواجهة الأخرى، حيث عقد اجتماع للمجلس الأعلى لقبائل العواقير (يوم الثلاثاء 14 يونيو2016) تحدث فيه ثلاثة أشخاص، هم: فرج أقعيم آمر القوات الخاصة لمكافحة الإرهاب في بنغازي، صلاح بولغيب آمر الاستخبارات العسكرية، المهدي البرغثي وزير الدفاع في حكومة الوفاق، واتهموا اللواء خليفة حفتر بتشكيل خلايا يشرف عليها مساعده عبدالرزاق الناظوري، تتولى تصفية المعارضين باغتيالهم، أضف إلى ذلك التنازع في الغرب بين مصراتة والزنتان، والصراع في الشرق، ويتمثل في الصراع الحاصل الآن بين قبيلة العواقير الكبيرة وبين بعض القبائل البرقاوية والمجموعات المؤيدة للفريق حفتر.
التطورات الميدانية:
شهد النصف الثاني من شهر يونيو 2016 تحركات عسكرية لكتائب الجيش الليبي التي تخضع للفريق حفتر في المنطقة الشرقية لتحرير منطقة بنغازي من الإسلاميين، وبينما كانت تحركات القوات التي تخضع للمجلس الرئاسي وقوات مصراته في المنطقة الغربية وباتجاه تحرير سرت، ويمكن فيما يلي أن نرصد لأهم التطورات الميدانية في المنطقتين الشرقية والغربية.
المنطقة الغربية:
استمرار المواجهات بين قوات عملية البنيان المرصوص وتنظيم الدولة “داعش”، وشهدت بعض الأحياء السكنية بمدينة سرت قصفاً بالمدفعية الثقيلة من قبل قوات البنيان المرصوص في محاولة منها للتقدم بمنطقة الزعفران، بينما استهدف تنظيم الدولة توجيه ضربات لتمركزات البنيان المرصوص في كل من أبوهادي والمنطقة الصناعية والسواوة شرق سرت.
أثبتت المعارك الأخيرة والهزائم المتوالية والسريعة التي تلقاها التنظيم في سرت، خلال عملية البنيان المرصوص العسكرية، أن داعش غير قادر على التوغل جنوباً وسوف تظل سرت معقل التنظيم، حيث الموقع على الساحل وطريق الإمداد بالأسلحة عبر البحر، ما يعني أن التضييق على داعش في سرت لن يدفع بمقاتليه للجنوب الليبي، وهو ما خالف المبالغات التي لاحظناها في التصريحات الأميركية بعدم القدرة على القضاء على داعش، فقد بالغت في تقدير عدد مقاتليه في ليبيا بين 5000 و8000 عنصراً، بينما ترى أجهزة الاستخبارات الفرنسية أن عدد مقاتلي داعش في ليبيا لا يتجاوز 1000 – 1500 عنصراً، ويعود هذا الاختلاف في تقدير قدرات داعش إلى استراتيجية التهويل الأميركية حول قوة الخصم، وإظهار أنه من المستحيل القضاء عليه بدون مساعدة عسكرية من الغرب، وبلاشك أثر هذا التهويل الغربي لقوة داعش على إرباك الجيش الليبي أكثر، وبقيت مسألة حسم المعركة هناك أمراً مستحيلاً في عقول الليبيين إلى أن تقرر خوض المعركة.
قدرات التنظيم في ليبيا هلامية وليست حقيقية كما تروج لذلك بعض الحكومات الغربية، فقد اعتمد التنظيم منذ بداياته على أسلوبه المعهود في سوريا والعراق باستخدام المفخخات والانتحاريين عندما يتم التضييق عليه. والترويع والإرهاب عبر رسم صورة مرعبة عبر وسائل الإعلام عن نفسه من خلال الإصدارات المرئية التي يظهر فيها مقاتليه، وهم يقومون بعمليات إعدام وذبح وحشية، وقد استفاد من حالة الانقسامات السياسية التي تعيشها ليبيا، والفراغ الأمني الذي تعيشه مدينة سرت.
وتقود قوات عملية “البنيان المرصوص” الحرب في سرت ضد “داعش”، ومعظمها من قوات مصراتة، إلا أن اللافت أن مفتي الديار الليبية يأمل في أن تتقدم هذه القوات بعد أن تكمل بسط سيطرتها على سرت إلى الشرق لمقاتلة حفتر، بينما لا يعترف الفريق حفتر بوضعية ميليشيات مصراتة، وقد أشار في مناسبات عدة، إلى اتهام ميليشيات مصراتة بأنها عدو ليبيا الأول، وبأنها مصدر الإرهاب ومموله الرئيسي، كما رفض حفتر استعدادها تماماً للجلوس مع الجماعة الليبية المقاتلة، لأنهم وجماعة القاعدة على حد سواء، وانتقد قوات مصراتة بزج شبابها المدنيين في حرب سرت، لكنه استدرك قائلاً “نتمنى أن يتمكن هؤلاء الشباب من إزاحة الغمة التي جثمت على سكان سرت، وتخليصها من الدواعش، ولاشك أن ضم الأصوات المعتدلة في مصراتة وعزل شبابها وقادة مليشياتها المسلحة عن معسكر المتطرفين وضمهم للجيش، سيساهم في تسريع وتيرة قضاء الجيش على الإرهاب، بل وسيحسم المعركة بأقل الخسائر، وهو كسب أطراف جديدة وضمها تحت جناحها، ويتوافق هذا المنحى مع موقف البرلماني الليبي الذي يصر على عدم توريد السلاح إلى ميليشيات مصراتة تحديداً، على الرغم من محاربتها لداعش في سرت، وهو دليل على دور قيادة الجيش وليست قيادة الميليشيات.
المنطقة الشرقية:
ما تزال القوات الموالية لخليفة حفتر في الشرق الليبي ترفض الانضمام لحكومة الوفاق الوطني المنبثقة عن الحوار السياسي الليبي، وقد أسفرت المواجهات العسكرية مع تنظيم الدولة عن مقتل اثنين في الاشتباكات في محور قاريونس غرب بنغازي، وهما أيوب التونسي – وهو تونسي الجنسية، والنجفي – عراقي الجنسية – من أبرز القيادات في التنظيم والذين كانا يقاتلان ضمن صفوف التنظيم في ليبيا ضد القوات المسلحة والقوات المساندة لها، وقد سبق وأن اعتقلت المدعو “أيوب التونسي” في عام 2012، قبل أن يفرج عنه في ظروف غامضة من قبل رئاسة الأركان التابعة للمؤتمر الوطني المنتهية ولايته.
يستفيد تنظيم “داعش” من استمرار تزايد حدة الانقسامات والصراعات بين قيادات الجيش، حيث شن رئيس جهاز حرس المنشآت النفطية – فرع الوسطىإبراهيم الجضران هجوماً على كل من سرايا الدفاع عن بنغازي التي أعلنت ولاءها للصادق الغرياني وسيطرت على عدة مواقع قرب أجدابيا، وعلى القائد العام للقوات المسلحة خليفة حفتر. وتعهد الجضران بالرد على الغارة التي شنتها طائرة تابعة لـ “عملية الكرامة” على “معسكر الشام” التابع لحرس المنشآت قرب أجدابيا، واصفاً حفتر بـالمهووس بالسلطة، ومؤكداً أنه “لا فرق بينه وبين داعش. بينما أعلنت قوات “جيش الكرامة” في ليبيا، في (19/06/2016)، استعادة السيطرة على منطقة الحي الصناعي في مدينة أجدابيا، بعد اشتباكات عنيفة مع سرايا الدفاع عن بنغازي، وشهدت مدينة أجدابيا، الواقعة في شرق ليبيا مواجهات طاحنة، بعدما شنت قوة مشتركة من (غرفة عمليات أجدابيا وسرايا الدفاع عن بنغازي) هجوماً مباغتاً على المدينة، واشتبكت مع الكتيبة 21- حرس حدود التابعة للجيش الليبي الذي يقوده حفتر، وتمكنت هذه المجموعات من السيطرة على أجزاء من المدينة، بينها القنان ومبنى الأرصاد الجوية ومساحة واسعة من الحي الصناعي الواقع إلى الجنوب، قبل أن تواجه مقاومة من قوات تابعة لـجيش الكرامة، وعلى الرغم من أن هذه القوة المشتركة التي نفذت هجوم أجدابيا ليست تابعة بشكل رسمي لحكومة الوفاق الوطني، فقد اتهم علي القطراني، العضو المقاطع للمجلس الرئاسي، المجلس الرئاسي بمباركة الهجوم على أجدابيا وبأن صمت المجلس الرئاسي على أفعال الصادق الغرياني مفتي ليبيا، الذي دعا قبل أيام قليلة من مدينة طرابلس إلى مهاجمة قوات حفتر، وتحرير مناطق الشرق الليبي منها، وعلى الرغم من مسارعة المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني إلى إدانة الهجوم على أجدابيا، في بيان اعترف فيه بالجيش الذي يقوده الفريق حفتر، لكن هذا البيان لم يعكس عدم الانسجام في مواقف قادة المجلس ولم يتم توقيعه من طرف جميع أعضاء المجلس الرئاسي، بل إن عدداً من أعضائه اعترضوا على صيغة البيان، ورفضوا التوقيع عليه، وهذا ما دفع رئيس مجلس النواب الليبي في طبرق عقيلة صالح إلى الدعوة إلى النفير العام في كامل التراب الليبي لمواجهة القوات المشتركة التي عزمت على مواجهة قوة حفتر في المنطقة الشرقية، ما يشير إلى أن الحراك العسكري الحالي قد يؤدي إلى إعادة تشكيل الخريطة العسكرية في المنطقة الشرقية بين حفتر والمجلس الرئاسي، حيث توجد وحدات أعلنت ولاءها لحكومة الوفاق، وأخرى غاضبة من خليفة حفتر. كما أن مناطق الاشتباكات الحالية لا تبعد كثيراً عن مناطق سيطرة “حرس المنشآت النفطية” التابع لحكومة الوفاق؛ وهو ما قد يحول المنطقة إلى نقطة تماس بين الحكومتين المتنازعتين، ويزيد من حدة الانقسام الحاد بين الشرق والغرب. وعين رئيس مجلس النواب عقيلة صالح النفير العام في البلاد رداً على مهاجمة مدينة أجدابيا، وعيّن اللواء عبد الرزاق الناظوري حاكماً عسكرياً للمنطقة الممتدة من درنة شرقاً إلى بن جواد غرباً. وقام رئيس مجلس النواب بهذه الخطوة بصفته “القائد الأعلى للقوات المسلحة الليبية”، وهي الصفة ذاتها التي يتولاها أيضاً “المجلس الرئاسي” التابع لحكومة الوفاق الوطني. وبهذا الشكل تكون القوات التابعة لمجلس النواب والتي يقودها الفريق أول خليفة حفتر بصفته القائد العام قد باتت تقاتل على جبهتين، الأولى ما تبقى من المسلحين الإسلاميين والمسلحين التابعين لداعش في آخر معاقلهم في حي الصابري ومنطقة الميناء، والثانية الجبهة الجديدة التي فتحتها في أجدابيا القوات التابعة للمفتي الصادق الغرياني والتي يقودها إسلاميون طردوا في وقت سابق من بنغازي. ولا يزال هذا الوضع المنقسم بشكل حاد مرشحاً للمزيد، بخاصة أن العاصمة طرابلس وما حولها تسيطر عليها من الناحية الفعلية ميليشيات من مختلف المشارب.
رابعاً: الحلول:
يتبين من العرض السابق أهمية الدور العربي في حل الأزمة الليبية في ظل اهتمام القوى الدولية بحساباتها الخاصة وتورطها في دعم الجماعات الإرهابية في ليبيا، وكذلك القوى الإقليمية مثل تركيا، لذلك يوصي هذا التقرير بما يلي:
التعاون مع الدول العربية والتأكيد على الدور العربي من خلال جامعة الدول العربية لرعاية مفاوضات سياسية بين الفرقاء في ليبيا. وأن أي حلول دولية أو غربية تظل غير واقعية ما لم تتم في إطار التنسيق والتعاون الكامل مع جامعة الدول العربية.
إنذار القوى الإقليمية التي تعمل على دعم الإرهاب في ليبيا وزعزعة الاستقرار الليبي والاستقرار في دول الجوار العربية.
عقد مؤتمر للمصالحة بين القوى السياسية وبحضور كل رؤساء القبائل والقوى الدينية الرسمية وتحقيق توافق وطني يؤمن برفع العلم الليبي وضرورة تنكيس كل الرايات الدينية والقبلية لأنها تعني تقسيم ليبيا وتمزيقها.
التأكيد على دور القيادة العامة للجيش في توحيد الجيش، والعمل على دعم تحقيق التوافق الوطني بين المجلس الرئاسي ومجلس النواب واعتراف كل منهما بالآخر والاتفاق على مرحلة انتقالية تنتهي بعد إنجاز أهدافها في القضاء على الإرهاب، على أن يكون لمجلس النواب دوره في الموافقة على تشكيل الحكومة وسياستها أو اقتراح تعديل الحكومة والتوافق على شخصيات توافقية بعيدة عن أي انتماءات حزبية أو دينية أو قبلية.
خامساً: المستقبل:
على الرغم من الدعم الدولي والعربي الذي تحظى به حكومة الوفاق الوطني، وبالرغم من التطورات الإيجابية على صعيد الانتهاء من وثيقة الدستور والذي ينتظر طرحه للاستفتاء، إلا أن هناك العديد من التحديات التي يمكن الإشارة إلى أهمها فيما يلي:
لا يلوح في الأفق أي بادرة أمل في أن يؤدي الاستفتاء على الدستور تمهيداً لإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة إلى استقرار سياسي في الأمد القصير ما لم يتم تحقيق توافق وطني يؤمن بخطورة العامل القبلي والديني دورهما السلبي على استقرار ليبيا، ما يزيد من حالة الانقسام والاشتباك الداخلي بين القوى السياسية.
هزيمة داعش لا تعني بالضرورة تحقيق الاستقرار ما لم يتم القضاء على منابع التنظيم في ليبيا، كما أن استمرار التنظيم حتى الآن يعني أنه يستمد استمراريته من الجماعات الإسلامية المتطرفة في الداخل وفي منطقة شمال أفريقيا والساحل، وما هو إلا امتداد لهذه الجماعات، ومهما كان المسمى داعش أو القاعدة، فهذه الجماعات عديدة في ليبيا وجميعها تمثل خطراً على استقرار ليبيا، ولئن هزمت داعش فلسوف نرى القاعدة، ولئن هزمت كل الجماعات، فمارد القبلية وحروب القبائل هو أكبر التحديات المنتظرة، وكل هذا يؤكد ما سبقت الإشارة إليه في التقارير السابقة، وهو أهمية دور الجيش وتوحيده وبنائه تحت القيادة العامة وتحييد دور العوامل الدينية والقبلية في إطار دستوري ومؤسسي في مرحلة انتقالية بجدول زمني محدد وبتوافق وطني بين قوى وطنية معتدلة وبحضور ممثلين عن القبائل وبرعاية من جامعة الدول العربية.
مركز المزماة للدراسات والبحوث

 

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button