الأستاذ الدكتور كمال محمد محمد الأسطل
لم يبدأ مفهوم الأيديولوجيا من بداية الثورة الفرنسية فقط أو في عصر الإسلام مثلاً فقط كان الحديث عن ذلك، ولكن النزعات القومية كانت منذ الخليقة أي منذ وجود الإنسان على سطح الأرض، وفسروا هذه الأمور وهي أول غريزة حب البقاء والخوف ومرت بفترات زمنية محددة منذ الفكر الشرقي الصيني مثلاً نزعة التفكير القومي، اللغات والأشياء المشتركة بين التجمعات.. أرسطو تحدث عن الفكر السياسي، وسمات الطبقية في المدينة تقسيم عنصري في دولة المدينة نفسها.. وعندما سيطرت الحضارة الرومانية واليونانية أكثر واقعية من فكر أرسطو وبدأوا يبحثوا أن هناك نزعة عنصرية… ثم بحثوا عن فكرة العالمية والامبراطورية (البابا) ووجدوا القومية في العرق والدين….. فهم الرومان بحثوا عن شيئ لم يعثروا عليه الناس.. وذلك الوقت كانت الناس تصنع الآلهة ودخل الدين على عنصر القومية… اذا أول فكرة الأساسية الحاجة إلى البقاء ثم اللغة ثم العرق ثم الدين… مراحل مر بها الفكر القومي.. واستغلت عملية الدين من الاقطاعيين والناس.. الدين واللغة اللاتينية… ثم في العصور الوسطى كانت صكوك الغفران.. ثم فصلت الكنيسة عن الإقطاعيين والدولة..
أولاً: مفهوم القومية
القومية أيديولوجية تعني الولاء والإخلاص للأمة، والشعور بالوعي القومي، وتمجيد أمة واحدة فوق كل الآخرين، والتركيز بشكل أساسي على تعزيز ثقافتها ومصالحها بدلًا من الدول الأخرى أو المجموعات فوق الوطنية، أي وضع الوطن فوق كل شيء في العالم، ويرجع مصدرها اللغوي إلى “قوم” وتعني جماعة بينهم روابط معينة، ومدلولها السياسي يرتبط بمفهوم الأمة، التي تعني الشعب ذو الهوية الخاصة التي تربطه روابط موضوعية وروحية متعددة، منها اللغة والتاريخ والعقيدة والمصلحة.
ويُوضح لفظِ «القومية» من خلال أولًا: موقف أعضاء أمة ما حين يهتمون بهويتهم كأعضاء لتلك الأمة، وهنا تثار إشكاليات حول مفهوم الوطن أو الهوية القومية، ومعنى الانتماء إلى الوطن، ثانيًا: الحراك الذي يتخذه أعضاء أمة ما في السعي لتحقيق أو الحفاظ على شكل ما من أشكال السيادة السياسية، وهنا تدور الأسئلة بخصوص ما إذا كانت السيادة تتطلب امتلاك كيان سياسي كامل مع سلطة كاملة على الشؤون الداخلية والخارجية، أو ما إذا كان امتلاك شيء أقل من هذا كافيًا.
وتُستعمل القومية أحيانا لدعم مبررات تمدد الدولة ولو كلف الأمر إشعال الحروب، وكذلك في اتباع سياسات العزل، ويبرز التوسع عند رفع شعارات الضم لكل أعضاء الأمة تحت دولة واحدة، وأحيانا تحت ذرائع المصالح القُطرية أو الموارد، أما فيما يخص الحفاظ على السيادة عبر السبل السلمية أو الإيديولوجية البحتة، فإن القومية السياسية تبقى على صلة وثيقة بالقومية الثقافية، حيث الحفاظ على الثقافة وتوارثها في أشكال محددة، ويتم ذلك عبر تكريس الإبداع الفني والتربية والبحث لهذا الغرض، وقد تكون الخصال الإثنو قومية حقيقية أو مختلقة في جزء منها أو كلها.
لقد اشتقت القومية في اللغة العربية من كلمة (قوم)، والقوم مصدر قام أي اعتدل المرء أو الأمر واتزن، وقام بالأمر أي تولاه واعتنى به، قام الحق ظهر وثبت، والقوم أقرباء الإنسان الذين يجتمعون معه في أصل واحد، أو أرومة واحدة، والقوم الجماعة من جد واحد، وقومية الإنسان تعني قوامه أو ما يقوم به أمره أو يسند به، أو ما يقيم به أمره وشأنه، والإنسان يقوم أمره ويسند بقومه أي أهل نسبه، فقامة المرء تقوم بقومه وانتمائه إليهم وولائه لهم، وقوام أمر المرء أي اعتداله، وقيمته وقوته تكون بقوم، فالقومية بهذا المعنى تعني علاقة القوم فيما بينهم وكلمة القوم جمع لا واحد له، والقوم هم جماعة من الناس تربطهم ببعض علاقة اجتماعية، وقوم الرجل شيعته وعشيرته، إذاً القومية مصدرها اللغوي في العربي من القوم، أي جماعة من الناس تجمعهم جامعة يقومون لها.
أما الأمة في اللغة العربية فهي مشتقة من أمّ، والأم، بالفتح ثم السكون هو القصد، أم يؤمه توخاه، وقصده، وهناك معانٍ أخرى عديدة لها منها (القرن من الزمن، الطريقة، الدين، الشرعة والدين، كل الجيل من الناس، الحين، الجماعة، جمع لهم جامع من دين أو زمان أو مكان أو غير ذلك).
والمدلول أو المعنى الشائع للأمة الآن هي جمع لهم جامع من دين أو زمان أو مكان أو غير ذلك، والأصل في هذا الباب هو القصد أو وحدة القصد للجماعة أو الفرد، وتميزهم به وانفرادهم عن غيرهم بذلك القصد أو النهج أو الشريعة أو الدين أو الأصل، والأمة في هذه الحالة إشارة إلى وحدة النسب للجماعة البشرية من جهة الأم.أما في اللغة الإنكليزية، فيقابل القومية (Nationalism) والأمة (Nation)، واشتقت (Nation) من (Natio) اللاتينية التي تعني الولادة، ولكن (بويد شيفر) يؤكد على أن دراسة اشتقاق الكلمة الأساسية (nation) لا يساعدنا في هذا المجال إلا قليلا لأن قومية كل شعب من الشعوب قد عبرت عن نفسها بشكل يخالف الآخر كما انها تغيرت وتعدلت بمرور الزمن لذلك اختلف معنى الكلمة بالنسبة لكل لغة ولكل قوم ولكل فترة زمنية لأن الشيء نفسه تغير وتبدل.
إذن الأمة هي جماعة اجتمع أمرها لأحد الأسباب التي قد تكون (قصد واحد، دين واحد، شريعة واحدة، نهج واحد، أو فكر سياسي واحد، أو أصل واحد، أو حال واحد، أو غاية واحدة)، أو هي جماعة تجتمع على أكثر من واحد من تلك الشرائط، فيميزها اجتماعها ذاك أمة عن غيرها من الأمم، والشعور بالأمة هو ما يسمى بالقومية التي تجسد الشعور بوعي والانتماء لهذه الأمة، وفي الاصطلاح الدولي يقصد بالأمة أحياناً الدولة، بدليل ورودها في تسميتي عصبة الأمم و الأمم المتحدة.
وورد في (موسوعة السياسة) حول مفهوم الأمة “بأنهم مجموعة بشرية متجانسة، يكون تآلفها القومي عبر مراحل تاريخية تحققت خلالها لغة مشتركة والعيش على أرض واحدة ومصالح اقتصادية مشتركة، بما يؤدي إلى إحساس بشخصية قومية، وتطلعات ومصالح قومية واحدة ومستقلة، ومع هذا فإن هذه الشروط ليست نهائية ولا قاطعة فهناك أمم لا تتوفر فيها كل هذه الشروط وهناك شعوب توفرت فيها ولم تبرز إلى حيز الوجود كأمم بل كجماعات قومية داخل أمم متفرقة أخرى”.
ومن التعريف السابق، يعرض لنا (ساطع الحصري) مجوعة من التعاريف المتنوعة ومنها: تعريف يعود إلى أواسط القرن الثامن عشر، وهو التعريف المسطور في (الانسكلوبيديا- Ensyclopedie) (1751-1755) أي الموسوعة المشهورة التي نشرت تحت إشراف (ديدرو ودالامير)، لقد شرحت هذه الموسوعة كلمة (Nation) الأمة بما يلي، “اسم جمع يستعمل للدلالة على كمية كبيرة من الناس الذين يعيشون على قطعة من الأرض داخل حدود معينة، ويخضعون لحكومة واحدة”، وكذلك شرحت الموسوعة كلمة الدولة (Etat) بأنها “اسم جنس، يدل على جماعة من الناس الذين يعيشون معاً، تحت حكومة واحدة وفي حالة سعادة أو شقاء”. ويبدو أن الموسوعيين ما كانوا يميزون بين الجماعة التي تؤلف (الأمة) وبين الجماعة التي تعرف باسم (تبعة الدولة ورعاياها)، أي المواطنين، أو الشعب إن نظرتهم للأمة كانت تستلزم اعتبار جميع رعايا الدولة الواحدة أمة واحدة، وحسب رأي (ساطع الحصري) أن هذه النظرية كانت خاطئة، وفقاَ للكثير من النظريات القومية اللاحقة عليها.
وعرفت (الأكاديمية الفرنسية)، الأمة، مقتفية أثر (الإنسكلوبيديين)، بأنها “مجموع الأشخاص المولودين في البلاد، أو المتجنسين بجنسيتها، والعائشين تحت رعاية حكومة واحدة”، ولكن بعد مدة، شعرت (الأكاديمية) بعدم كفاية هذا التعريف فأضافت إليه الفقرة التالية”، ويطلق كذلك على مجموع المواطنين الذين يؤلفون هيئة اجتماعية متميزة عن الحكومة التي تدير شؤونها”. وينتقد (ساطع الحصري) كل الآراء التي لا تميز بين الأمة والدولة، أو الأمة والشعب (رعايا الدولة) والواردة في الفكر الفرنسي والإنكليزي، وهو يؤكد على التمييز بينهما، ويقول بأنه قد تفقد الأمة استقلالها فتحرم من الدولة الخاصة بها من جراء الاستيلاء أو الاحتلال على دولتها، وأن ذلك لا يغير ماهية الأمة، فلا يستلزم تغيير تسميتها، وهو يفضل التمييز بين الأمة والدولة ويؤكد على أن كل أمة تنزع إلى تكوين دولة خاصة بها، أي أن الأمة موجودة قبل وجود الدولة.
ولكن هناك آراء مخالفة لهذا الرأي، وسنعرضها من خلال النظريات المختلفة حول القومية، ويشير (الحصري) إلى تعريف(مانشيني) الإيطالي، الأمة بأنها “مجتمع طبيعي من البشر، يرتبط بعضها ببعض بوحدة الأرض والأصل والعادات واللغة، من جراء الاشتراك في الحياة وفي الشعور الاجتماعي”. ويعترض بعض الباحثين على عنصر وحدة الأصل في هذا التعريف، لأن من الصعب من الناحية العلمية والتاريخية إيجاد مجموعة بشرية ذات أصل نقي واحد نتيجة للاختلاط بين الأجناس والأعراق عبر التاريخ. ويعرف (إميل دوركهايم) (الأمة) بأنها “جماعة إنسانية، تريد لأسباب إثنية أو تاريخية فقط أن تحيا في ظل قوانين معينة، وأن تشكل دولة سواء أكانت صغيرة أم كبيرة، وهو الآن مبدأ مقرر عند الأمم المتمدنة”، وفي كتابه (رسائل حول حب الوطن) عام (1779)، عرف فردريك الثاني القومية بدلالة “الشعور الموجود والواقعي بحب الوطن”.
ويترافق هذا الشعور مع ما يعرف بـ(الترابط القومي)، والذي بدلالته نتلمس الوجود القومي الذي يعرف بوصفه الترابط العضوي بين أجزاء الجسد الواحد وفقاً لمقوماته الأساسية مثل وحدة الأصل واللغة والدين والعادات والتقاليد ليتداخل الوطن (الوطنية) مع القومية. ويعرف (أنتوني غدنز) القومية بأنها “منظومة من الرموز والمبادئ التي تضفي على الفرد الإحساس بأنه جزء من جماعة سياسية واحدة، وتتضح القومية في أجلى مظاهرها عند بناء الدولة الحديثة.
وأما (ارنست غيلنر) يقول حول القومية بأنها مبدأ سياسي يعتقد بأن الوحدة السياسية والقومية ينبغي أن تكون منسجمة والنزعة القومية كعاطفة أو كحركة يمكن تعريفها على أفضل وجه بلغة هذا المبدأ، والعاطفة القومية هي الشعور بالغضب الذي يستثيره انتهاك المبدأ، أو الشعور بالرضا الذي يبعثه تحقيقه، والحركة القومية هي التي تُفعلها عاطفة من هذا النوع، وحسب رأي (غيلنر) أنه توجد تشكيلة من الطرق التي يمكن أن ينتهك بها هذا المبدأ، والحدود السياسية لدولة معينة يمكن أن تفشل في أن تضم كل أعضاء أمة بعينها، ويقول (غيلنر) باختصار، إن القومية نظرية للشرعية السياسية، التي تتطلب عدم تقاطع الحدود الأثنية مع الحدود السياسية، وبخاصة ينبغي على الحدود الأثنية في دولة معينة أن لا تفصل القابضين على السلطة عن البقية وهو شرط استبعده شكلياً المبدأ في صياغته العامة”.
وجاء في (قاموس أكسفورد) الإنكليزي بأن “القومية هي الإرادة والرغبة لجماعة بشرية معينة تشترك في العنصر والثقافة، اللغة… الخ، في تأسيس دولة مستقلة”. وعرف (المعجم الفلسفي) لـ(جميل صليبا)، المذهب القومي (Nationalism) بأنه مذهب سياسي قوامه إيثار المصالح القومية على كل شيء، فأما أن يظهر هذا الإيثار في منازع الأفراد، وأما أن يظهر في منهج حزب سياسي يناضل في سبيل قومه، ويدافع عنهم ويعتز بهم. ويشير البعض في مسألة القومية إلى عنصري الوعي الذاتي والحركة السياسية لدى أبناء (الأمة) في سعيهم لتقرير مصيرهم وإثبات حقهم في خلق سلطتهم أو كيانهم المتميز (ثقافياً وسياسياً واقتصادياً)، أي في إنجاز مشروع دولتهم المستقلة، فإذا كانت مقومات الأمة موجودة موضوعياً، فإن القومية هي الوعي الذاتي الجماعي بهذا الوجود والحركة القومية السياسية هي من أجل التعبير عنه في شكل سياسي، ويكون هدفه في العادة هو إنشاء الدولة. ويقول (أنتوني سميث) حول القومية “تمثل القومية كأيديولوجية أهم ركائز العصر الحديثة، فلم يقدر لأي رؤى في العالم أن تترك بصمتها على الخريطة العالمية مثلما خلق القومية في تحريك الوجدان والوعي بالهوية، فالقومية تعطي الإنسان الشعور بالهوية والأهمية، ومبدأ القومية فرض على الأيديولوجيات الأخرى أن تكيف نفسها مع أيديولوجية القومية”.
ويورد (بويد شيفر) خمسة تعريفات اساسية للقومية هي:
- حب الأرض المشتركة او العنصر المشترك او اللغة المشتركة أو ألثقافة ألمشتركة.
- رغبة في الأستقلال السياسي للأمة وسلامتها وهيبتها.
- إخلاص غامض لكائن اجتماعي مبهم يعلو على الطبيعة يعرف أحيانا بالأمة أو الشعب folk هو أكثر من مجموع أجزائه كلها.
- عقيدة خلاصتها إن الفرد لا يعيش إلا من اجل الأمة مع ما يتبع ذلك من أن الأمة غاية في نفسها.
- أو أن يعتقد القومي أن أمته يجب أن تسيطر على الأمم الأخرى.
ومع أنه ليس بين هذه التعريفات ما هو صحيح بالكامل، و أنها جميعا أضيق من اللازم وأشد تخصيصا، ولو إننا بحثناها واحدة بعد الآخر على انفراد لوجدنا أن كلا منها لا يصف إلا وجها واحدا فقط من أوجه القومية، مع إن القومية الحديثة تتكون من هذه المظاهر ومن غيرها جميعا.
ونستخلص من التعريفات السابقة حول كل من (الأمة والقومية)، وحسب ما يذهب إليه كل من (علي عباس مراد وعامر حسن فياض)، بأن (القوم يقابل الأمة)، والقومية هي ميل ووعي نحو القوم أو الأمة، وأن تقارب مصطلحي القومية والأمة في دلالاتهما اللغوية والاصطلاحية يستند إلى ما بينهما من عناصر مشتركة تتمثل في (الإشارة إلى وجود جماعة مشتركة) والإشارة إلى وجود مجموعة من الروابط والمشاعر التي تمنح لكل جماعة هويتها وشخصيتها المميزة والمختلفة عن الجماعات الأخرى؛ والإشارة إلى إدراك الجماعة البشرية ذات الروابط والمشاعر المشتركة والمميزة لهويتها وذاتيتها وحرصها عليها، ودفاعها عنها لإثباتها وتأكيدها)، فهكذا يرتبط مفهوم القومية بمفهوم الأمة، فيتأسس عليه ويستند إليه، وبقدر ما تعكس القومية رابطة الولاء والانتماء الشعوري الواعي لدى الأمة، بمعنى أنها رابطة معنوية، تعكس الأمة الأساس المادي للقومية، التي تمثل الرابطة الشعورية المعنوية الواعية وتمثل مرتكزها الواقعي، لتعني القومية والأمة في النهاية مجموعة بشرية ذات وجود مادي ملموس يرتبط بروابط مادية ومعنوية، ذاتية وموضوعية، مثل وحدة الانتماء ووحدة الطابع الحضاري ووحدة اللغة… ومشتركات أخرى، تتفق عليها الأمة وتعتبرها مشتركات موحدة لها، وبذلك فإن وجود الأمة يشكل الأساس المادي لخلق الإحساس القومي وبلورته وتعميقه.
ثانيًا: نشأة وتطور القومية
أساس ظهور القومية في شكل مذهب جماعي وله دعاته المتحمسون له كان من البلد المضياف لكثير من الآراء والمذاهب المختلفة – أوروبا – كما عرفت وكان سبب ظهورها هو نفس الأسباب التي أظهرت بقية المذاهب الفكرية فيها متوخية الرغبة الشديدة في هدم سلطة الكنيسة الطاغية التي سامتهم سوء العذاب – كما تقدم – إضافة إلى ما كان يعيشه الأوروبيون من شريعة الغاب والظلم والعدوان وسوء الأخلاق في معاملة بعضهم وعدم وجود الدين الصحيح الذي ينير لهم الحياة، فكان ظهور القومية هناك مظهرا مشاركا لبقية مظاهر الخروج والانفلات عن سلطة الكنيسة وقبضة رجالها وكانت القومية هي إحدى معاول الهدم التي تكاثرت على الكنيسة بعد أن بدأت الكنيسة تترنح للسقوط النهائي إثر إفاقة الشعوب الغربية الأوروبية على واقعهم الشنيع من الذل والخوف والتنكيل والقتل الجماعي والجهل المركب والأحكام الجائرة على أيدي فئة تزعم أنها تمثل الرغبة الإلهية في كل ما تأتي وتذر، فظهرت القومية كغيرها من الأفكار الأخرى ووقفت من الدين وأهله نفس المواقف للنظريات الإلحادية الأخرى ويظهر أنه لم يكن لديهم أي جامع أو رابط يقدمونه لشعوبهم غير هذا الرابط الجديد الذي داروا حوله بكل جد وقدسوه إلى أن أوصلوه قريب الألوهية علهم يجدون فيه عزاءً عن الالتجاء إلى الإله الذي كان هو السبب في إذلالهم على أيدي رجال الكنيسة الذين كانوا يمثلونه في الأرض كما قرره زعماء الكنيسة الرهبان لهم لتحقيق شهواتهم وافتراء على الله تعالى، و على هذا فإن ظهور القومية في أوروبا وعامة دول العالم المسيحي إنما كان لتلك الأسباب الظاهرة وغيرها وكان لهم ما يبرر ذلك الخروج فيما ظهر من أحوالهم – وإن لم يكن مبررا حقيقيا – وبعد خروجهم ذلك الهوا كل ما راق لهم ومنها القومية التي قدسوها وزينوا أمرها لكل الشعوب لتكون العزاء والبديل عن الدين النصراني ورجاله يقول الندوي:
“ولا يزال القوميون في داخل البلاد وخارجها يزينون للشعوب الصغيرة القومية ويطرون أدبها ولسانها وثقافتها وتهذيبها ويمجدون لها تاريخها حتى تصبح نشوانه بالعواطف القومية والخيلاء والكبرياء وتدل بنفسها وتظن أنها مانعتها حصونها وما أعدت للحرب وتنقطع عن العالم وتتحرش أحيانا بالدول الكبيرة غرورا بنفسها أو تهجم عليها الدول فلا تلبث إلا عشية أو ضحاها وتذهب ضحية لقوميتها وانحصارها في دائرة ضيقة ولا يغني أولئك المسؤولون عنها شيئا كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ.
ومن الجدير بالذكر أن القومية كانت في نشأتها لا يرمي أهلها إلا إلى الخلاص من قبضة رجال الدين وتنفس الصعداء من الأغلال التي كانت عليهم. ولكن ما إن تم لهم ذلك الخلاص المنشود حتى انتقلوا نقلة أخرى فصاروا لا يقنعون بذلك الخلاص وإنما تطلعوا إلى ظلم الآخرين والبغي عليهم واستعمار الضعفاء من الناس واستعبادهم وحصل من وراء ذلك شر عظيم وفتن عريضة وحروب ثم انقلب السحر على الساحر فأصبحوا في دوامة القومية التي لا تعقل ولا ترحم ونبغت قرون الشر في رأس كل فريق من القوميين كل ينوح على ليلاه وكل فتاة بأبيها معجبة فانتعش بينهم فن المفاخرات لضرورة الحاجة إليه في ظل القومية التي لم يقم بناؤها في الأساس إلا على هذا المسلك البغيض في بداية تكوينها في أوروبا.
وبعد أن سار ركب القومية في أوروبا يحطم بعضه بعضا وكثرت الحروب بينهم نتيجة التعصبات القومية الشعوبية الهوجاء عاد الأسد إلى عرينه فقام مفكروهم وقادتهم بالدعوة الجادة إلى نبذ القومية وأنها رجعية وليست تقدمية حضارية ويجب نبذها وأنها تمثل أفكار “هتلر” النازي حين قسم العالم على أساس عرقي أفضلهم ألمانيا.
ولأن مسلك التقدم والحضارة لا يتماشى مع مسالك القومية الضعيفة فلفظتها أوربا لتقع في أيدي المخادعين والماكرين من النصارى العرب وغيرهم ليتموا حاجة في نفس يعقوب بعد أن بيتوا النية لحرب الإسلام كما سنذكر ذلك في موضعه.
يقول د. صلاح الدين المنجد: “تنبه العرب إلى فكرة القومية في أوائل القرن بعد أن مضى على موتها في أوروبا فترة طويلة بتأثير الغرب”.
ومما يذكره الباحثون عن القوميات الأوروبية وسبب ظهورها أن البدايات الأولى لظهور القوميات هناك كان أثر النزاعات التي احتدمت بين رجال الدين الكنسي والملوك حول الأحقية بالسيطرة والأمر والنهي هل هم الملوك فقط أم رجال الدين فقط وكاد أن يتم الحل بينهم على أن تكون السلطة الأمنية للملوك والسلطة الروحية للبابوات. إلا أن الأمور انحدرت إلى هاوية سحيقة كانت هي ثالثة الأثافي وهو النزاع الشرس الذي نشب بين رجال الدين أنفسهم وما وقع بين الكنائس من عداوات خرجت تباعا عن الكنيسة الأم في روما وتعصبت كل كنيسة لآرائها – كاثوليك – بروتوستانت – إصلاحيات… إلخ وانفلت الأمر وصار الحبل على الغارب فقام كل فريق بتكوين نفسه ومذهبه فانتشرت المذاهب والأفكار ومنها قيام القوميات على ذلك النحو وأخذ النزاع طابعا قوميا.
ثالثًا: مفكري ومنظري ايديولوجية القومية
1- جون جاك روسو
ظهرت الحركة الرومانسية والذهاب بالفكر الإنساني إلى أبعد ما يكون.. رسول القومية جان جاك روسو فهو صاحب الفكر القومي ورسول القومية وليس اللبرالية، صاحب الارادة العامة وما يقصد هنا تفاعل الناس مع بعضها يعتبر قومية ورجع إلى أفكار أفلاطون.. كل الفكر السياسي مبني على الأفكار الإثنية.
2- هيجل… بعد الثورة الفرنسية
اعتمد على اللغة وأكد ان أهم شيئ الأفكار وألمانيا في ذلك الوقت كانت مقسمة وبرغم ذلك اللغة هي رابط مشترك وفكرة عقلانية تجمع الشعب الألماني باللغة والحياة المشتركة ومجد الدولة.. وكان يقول أن الدولة هي أعظم مخلوقات الخالق.. وركز على التعليم حيث أن التعليم أهم شيئ لتقدم الشعوب تدرس النخب السياسية فهي التي تحقق شيئ للدولة أو تحطم هذه الدولة.. ويقول أكبر خطر على القومية النخب والعادات والتقاليد.. ممكن الأمم تنهار لكن من يقود الدولة فمثلاً اعتبر المستشار الألماني هولمت كول بسمارك العصر الحديث لقد تولى الحكم لمدة 12 عاماً… ثم أكد على الانتماء للدولة والوطن من المرتكزات الأساسية.
3– كارل دوتش
رائد في الاتصالات.. أجمع على ما سبق من عناصر القومية ولكن أدخل أشياء جديدة من خلال عمليات التواصل بالوسائل الجديدة من وسائل اتصالات.. فإذا كثفت الناس اتصالاتها تكون قومية.. كما ذكر انه يجب اللجوء إلى الدراسات الامبريقية الكمية.. فمثلاً.. نيجيريا لم يكن لها اتصالاتها مع العالم وفي القرن العشرين كثفت اتصالاتها بنسبة 25% فالعالم اليوم أصبح قرية واحدة.. وكلما زاد الاتصال زادت العلاقات ووجدت القومية ويحب قياسها على مدى الاتصال بين الشعوب. فنيجيريا اتصالاتها للخارج أصبحت أكثر من الداخل وهذا شعور قومي ثم انعكاس على النسبة.
رابعًا: المفاهيم المقاربة لمفهوم القومية
ترتبط مجموعة أخرى من المفاهيم بمفهومي (الأمة والقومية) ومن أبرزها (الشعب، الجنسية، العرق، الإثنية، الوطنية)، ونسعى لتحديد التداخل ونقاط الاشتراك بينها وتوضيح خطوط الفصل بين هذه المفاهيم ومفهومي (الأمة والقومية).
1– الشعب والجنسية
يشير مفهوم الشعب (People) إلى جمهرة من المواطنين الذين يتمتعون بالأهلية القانونية والسياسية، خلافا لمفهوم (الأمة) الذي يشير إلى كل أعضاء الجماعة الذين يشعرون بوحدة الانتماء، ويعتبر في الشعب الوقت الراهن عنصراً رئيساَ من عناصر تكوين أية دولة حديثة، من حيث إن الشعب هو العنصر البشري (الإنساني) في تكوين الدولة الحديثة. هكذا يكون الشعب هو مجموع المواطنين الذين يربطهم بدولة ما عنصر الجنسية، بغض النظر عن (العرق أو الأصل أو الدين). واصطلح الألمان على تسمية الانتساب إلى الدولة بكلمة (Nationalitat) والانتساب إلى الأمة بكلمة Volkstum)([]) وللجنسية (Nationalite- Nationality)، مدلول قانوني وسياسي، وهو الانتماء إلى دولة، تحدده معايير قانونية وسياسية خاصة بهذه الدولة. وإذا يستخدم مصطلح الجنسية لبيان العلاقة القانونية الأولية القائمة بين الفرد والدولة، فستكون الجنسية إحدى الخصائص القانونية التي تميز الإنسان بوصفه مواطنا في دولة ما عن غيره من مواطني البلدان الأخرى وهي إحدى عناصر هذه الشخصية مثل الاسم والذمة المالية والوطن أو المنشأة، وبما أن الجنسية هي علاقة قانونية سياسية بين الفرد والدولة، فإن جوهرها يتلخص في فرض الدولة سيادتها على ركن من أركانها (شعبها) بحيث يصبح الفرد بموجب ذلك عضواً في شعب الدولة، ولابد لقيام الجنسية من توفر ثلاثة أركان (وجود دولة أي سلطة ذات سيادة على شعب بإقليم معروف محدود) و(وجود فرد أو أفراد يتلقون الجنسية من الدولة) و(وجود علاقة بين الفرد والدولة).
ويرتبط المفهوم القانوني للجنسية بتطور الدولة-الأمة، وبالعودة إلى فكرة المواطنية التي يؤازرها هذا التطور باسم شرعيتها القائمة على أولية السيادة الشعبية، والمواطنية (Citizenship) قانونياً هي التمتع بالحقوق المرتبطة بالجنسية، وهذا المفهوم مرتبط بالديمقراطية. ويقول (عبد الرحمن البزاز) ان الانتماء إلى الجنسية هو انتماء قانوني ولا يشترط على كل من يحمل جنسية معينة أن يكون منتمياً إلى نفس القوم أو الأمة.
2– العرق والأثنية
يشير مصطلح (العرق Race) أو العنصر إلى مجموعة من الأفراد من النوع البشري، يمكن تمييزها على أسس بيولوجية وراثية، وكان المصطلح يُطلق سابقاً على أفراد يتشابهون في أشكالهم الخارجية ولكنه اقتصر في الوقت الراهن على أفراد يملكون نسبة معينة من الصفات الوراثية، مثل لون البشرة والشعر ونوعه وشكل الجمجمة ولون العيون وطول القامة وغير ذلك، أعلى من النسبة التي يملكها آخرون من النوع نفسه ويعنى هذا أن العنصر أو العرق ليس غير جماعة من الأفراد تشيع بينها صفات طبيعية معينة أكثر من شيوعها بين غيرها من الجماعات، ولذا فأن العنصر و كما أجمع فريق كبير من العلماء الانثروبولوجيون في اجتماعهم في باريس عام (1950م) بإشراف اليونسكو لدراسة العنصر ومعضلاته، ليس أكثر من وسيلة للتصنيف أو إطار ترتب داخله المجموعات البشرية المختلفة. وقد يفرز العرق أو العنصر وعياً وشعوراً عنصرياً، ويؤدي إلى حركة قومية على أسس عنصرية، ويتضمن ذلك الشعور بتفوق عنصر ما وسموه على الآخرين. ووجدت مثل هذه الحركات القومية العنصرية المعتمدة على آراء مفكرين ومنظرين قوميين عنصريين مثل النازية والفاشية. فعلى سبيل المثال، في مقال لـ(جوزيف آرثر دو جوبينو) بعنوان (فصل المقال في اللاتساوي بين الأجناس البشرية)، يؤكد الكاتب على فكرة وجود جنس (عرق) يضم كائنات كاملة منحت العالم كله معرفته، ويعتقد جوبينو بأن آريا في السنسكريتية تعني الرجل الشريف، وأن الجنس الأبيض فقد خصائصه الأصلية بسبب عملية تهجين السلالات”.
أما (الإثنية- Ethnicity)، فإنه مفهوم متعدد المعاني و يفتقد إلى الدقة، ويعرفها (انتوني غدنز) بأنها القيم والمعايير الثقافية التي تميز جماعة عن جماعة أخرى، وتتسم الجماعة الإثنية بوعي أفرادها وإدراكهم لهوية واحدة تفصلهم عن الجماعات الأخرى المحيطة بهم”. و(الإثنية Ethnicity) مشتقة من (Etnicus) اللاتينية، وتعني جماعة بشرية، وهناك من يقول بأنه تمت صياغة مصطلح الأثنية تمييزاً عن مصطلح العنصر أو العرق، إذ يوحي استخدام مصطلح العرق بدلالات ومعانٍ سلبية عنصرية ضيقة قائمة على أصول بيولوجية ثابتة، بينما يحمل مفهوم الأثنية معنى اجتماعياً يشير إلى مجمل الممارسات الثقافية والنظرة التي تمارسها وتعتنقها جماعة من الناس، وتتميز بها عن الجماعات الأخرى ويعتقد المنتمون إلى جماعة إثنية أنهم يتميزون من الوجهة الثقافية عن الجماعات الأخرى، ومن أبرز عناصر التمييز بين الإثنيات هي اللغة والعادات والتقاليد (الثقافة بصورة عامة)، وقد تلعب السلالات (سواء كانت حقيقية أو متخيلة) دوراً في التمييز بين الإثنيات، والفوارق الإثنية هي مما يجري تعلمه واكتسابه في سياق اجتماعي، وليس ثمة جانب فطري أو غريزي فيها فهي كلها ظاهرة اجتماعية خالصة يجري إنتاجها وإعادة إنتاجها على مر الزمن. وهناك من يعتقد بصعوبة الفصل والتمييز بين الإثنية وكل من (الأمة والقومية) كما يقول (ديفيد ميللر David Miller)، بأن القومية والإثنية عبارة عن مجموعة من الناس متوحدة معاً بواسطة خصائص ثقافية مشتركة، ومع ذلك لا توجد حدود فاصلة واضحة بين القومية والإثنية”. ويضيف أيضاً، أن جماعة إثنية معينة عبارة عن جماعة تشكلت عبر التاريخ، وتشترك في خصائص ثقافية (اللغة والدين.. الخ)، ولذلك فإن الإثنية إن لم تكن هي القومية، فإنها مصدر محتمل لها بصورة مستمرة أي الإثنية هي قومية جنينية وخاصة عندما تشعر مجموعة إثنية معينة أن هويتها الإثنية مهددة بالزوال.
وعلى هذا الأساس فإن هناك تصنيف للنظريات القومية إلى نظريات قائمة على الأساس الإثني، كما هو الحال مع النظريات الألمانية التي تعتبر وحدة الثقافة ووحدة اللغة هي الأساس في تحديد الأمة والقومية،و نظريات قومية تعتمد على المواطنة أو حرية الإرادة في الانتماء القومي بغض النظر عن الأصل والإثنية واللغة، مثل النظرية الفرنسية. وهناك من يعتبر الأمم المعاصرة امتداداً للإثنيات القديمة، ولكن (تودوروف)، يميز بين الإثنية والقومية، بأن الإثنية هي كيان ثقافي اجتماعي، ولكن (القومية أو الأمة) هي كيان سياسي وثقافي في آن واحد، وهذا ما يؤدي ببعض الباحثين إلى التمييز بين نوعين من القومية، هما القومية المدنية السياسية القائمة على تعاقد سياسي مدني دستوري، وهي القومية والوطنية، وفي مقابلها القومية الثقافية، القائمة على أسس إثنية.
ونخلص مما تقدم إلى القول بأن الأمة هي وجود سياسي، قد يعتمد على أسس تعرف بالإثنية وقد تتجاوزها وتكون أكثر شمولية منها، والإثنية وجود جماعي (اجتماعي وثقافي)، قد يتحول إلى وجود سياسي ويصبح قومية.
3- الوطنية Patriotism:
الوطنية من الوطن (Patria)، وهي مشتقة من (Patria) اللاتينية، وفي البدء لم تكن تدل على (الدولة) بالمعنى الحديث، بل تدل على الأبرشية والأسقفية التي تقدم إطاراً إدارياً، والأسقف فيها والد الوطن (Pater Patriae) هو الرئيس، وتحولت سلطته إلى سلطة زمنية على إقليم محدد، هذه الكلمة ستكون البلد- الوطن (Pays أو Patria)([]). ويوضح لنا (ساطع الحصري) بالتفصيل الفرق بين الوطن- الوطنية وبين (الأمة والقومية) فيقول بأن الوطنية هي حب الوطن، والقومية هي حب الأمة (القوم) والشعور بالارتباط الباطني نحوها. ويضيف (الحصري) بأن الوطن هو قطعة من الأرض، والأمة هي جماعة من البشر، وبناءً على ذلك الوطنية هي ارتباط الإنسان بقطعة من الأرض، والقومية هي ارتباط الإنسان بجماعة من البشر (الأمة)، وهناك تداخل بينهما أساسه أن حب الوطن يتضمن أيضاً حب المواطنين الذين ينتمون إلى ذلك الوطن، مثلما أن حب الأمة يتضمن في الوقت نفسه حب الأرض التي تعيش عليها تلك الأمة، وهما يرتبطان بالدولة، إذ أن الدولة توصل بين الأمة وبين الوطن، ولكن هذا الارتباط حسب اعتقاد (الحصري) لا يكون على نمط واحد في كل الدول وفي جميع الأدوار في التاريخ، بل أنه يلبس أشكالاً متنوعة فيختلف بين أمة وأمة.
خامسًا: عناصر وأشكال القومية :
هناك عدم اتفاق بين الباحثين على تحديد عناصر أو عوامل القومية فبينما يعطي البعض أهمية للغة والجنس والدين، ويلاحظ أن البعض الآخر يعطي أهمية كبرى لرغبة الأفراد في العيش المشترك أو الوحدة الجغرافية، ولذا فإننا سنتعرض لكافة عناصر القومية على النحو التالي:
- اللغة: هي أهم الروابط المعنوية التي تربط الفرد البشري بغيره من الناس، وهي أداة للاتصال والتفاهم بين الأفراد، و واسطة لنقل الأفكار والمكتسبات من الآباء إلى الأبناء، ويتميز مجتمع عن آخر عن طريق اللغة التي يتم بها التخاطب بين الجماعات.
- التاريخ المشترك: القوميات لم توجد بين يوم وليلة بل إنها مرت بمراحل تاريخية متميزة من حيث الوحدة والتفكك، والرقي والتخلف، الهيمنة والتبعية، والتوسع والانحصار، فاكثر القوميات الحديثة هي امتداد تاريخي لحضارات قديمة لعبت دورا متميزا في التاريخ الإنساني، فالتفاعل بين الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للبشر عبر التاريخ الإنساني وفر وجود أرضية صلبة لبروز قوميات حديثة تفخر بتراثها واصلها التاريخي.
- الدين: الدين مؤسسة اجتماعية طبيعية لا تستغني عنها أي جماعة إنسانية، مهما كانت بدائية، ففكرة الدين مندمجة بالإنسان منذ نشأته، فالدين كان له تأثير في تنظيم وسلوك البشر في ادوار ما قبل التاريخ. فحركة الإصلاح الديني التي سادت القارة الأوروبية في بداية القرن السادس عشر احتكمت إلى المشاعر الوطنية والقومية في حروبها ضد الكنيسة. الفيلسوف جوستاف لوبون يقول ” إن المبادئ الدينية تمثل دورا أساسيا عظيما بين مختلف المبادئ التي تسير الأمم والتي هي مناور للتاريخ وقطوب للحضارة، وتكون من المعتقدات الدينية في كل وقت أهم عنصر في حياة الأمم، ومن ثم في تاريخها”.
- وحدة الأصل أو العرق: عامل وحدة العرق أو الأصل هو أول العوامل المادية التي لها دور أساسي ومؤثر في وجود الأمم وتكوين الدول القومية، وكان لدى اليونان القدماء إحساس عميق بوحدتهم العرقية وبتميزهم عن بقية الشعوب الأخرى لما يجمع بينهم من خصائص مشتركة، ويرتبط عامل العرق برابطة الدم على اعتبار أن أصل الأمة هو الأسرة فالعشيرة فالقبلية.
- الوحدة الجغرافية (الإقليم أو الارض): الوحدة الجغرافية وهي ارض الوطن هو رابطة قوية في تكوين القومية واستمرارها، فالحدود الطبيعية تلعب على هذا النحو دورا هاما جدا في تطور القومية واستمرارها. والإقليم يعتبر ركنا هاما ورئيسيا من أركان قيام الدولة القومية، فالإقليم هو الإطار القانوني الذي تمارس فيه الدول القومية سيادتها.
- المصلحة الاقتصادية المشتركة: العامل الاقتصادي هو ثالث العوامل المادية التي قيل أنها ذات علاقة بتكوين الأمم وتأسيس الدولة القومية، أدت إلى بروز الدول القومية في أوروبا ومن بعدها في دول العالم الثالث إلى انه يمكن اعتبار العامل الاقتصادي عنصرا من عناصر القومية، ولكنه ليس بالضرورة أهم هذه العناصر على الإطلاق كما تدعي بعض المدارس الفكرية، فالعامل الاقتصادي مثله مثل بقية العناصر الأخرى للقومية ساعد ويساعد على استمرار القومية بصورها القديمة والحديثة والمعاصرة.
- الثقافة المشتركة: تعود أهمية الثقافة لفاعليتها الشديدة في قيم الأفراد ومعتقداتهم الثابتة، وتتمثل هذه الأهمية في القيم والمعتقدات الراسخة التي أثبتت فاعليتها في الماضي باعتناق الناس لها وتقبلها، الثقافة هي مجمل العقائد التي تؤمن بها جماعة ما.
وليس بالضرورة أن تجتمع كافة العناصر السابقة كي تشكل القومية بل يمكن أن يتوفر عنصر واحد أو اثنين أو جميعهم لدى الدولة القومية، ولكن يبقى القول بان جميع تلك العناصر هي عناصر داعمة للقومية.
ومما سبق نستنتج بان العوامل التي تؤدي إلى تعزيز القومية والشعور القومي للأفراد هما:
- تعزيز شعور الأفراد بالحرية والمساواة والإخاء والعدالة الاجتماعية.
- العمل على نشر الثقافة القومية وحب الوطن والانتماء إليه لدى الأفراد من قبل الدولة.
- دور الدولة في المحافظة على أمنها وحريتها والرقي بالوطن والمواطن.
- شعور الأفراد بأن الدولة هي دولة الجميع، والوطن كيان مشترك للجميع.
أما العوامل التي تضعف القومية والشعور القومي للأفراد هي:
- اختلاف القوميات وتعددها داخل الدولة الواحدة.
- استبداد الحكام وعدم تعزيز شعور الأفراد بالحرية والمساواة والإخاء والعدالة الاجتماعية.
- الحروب الأهلية داخل الدولة الأمر الذي يعمل على وجود ولاءات خارجية.
- التدخلات الخارجية في سياسات الدولة تؤدي إلى ضعف قومية الدولة.
سادسًا: أشكـــال القوميـــــة
1- القومية التوحيدية:
والمثال التاريخي علي ذلك توحيد ألمانيا وإيطاليا في القرن التاسع عشر حين أعلن قيام المملكة الايطالية عام 1861 والإمبراطورية الألمانية عام 1871.
2- القومية الانفصالية:
نشأت تاريخيا في دول تضم عدة قوميات أو جماعات مختلفة ولكل منها شخصيتها الثقافية المميزة كالإمبراطورية العثمانية وإمبراطورية الهابسبورغ، وكان الوعي القومي عند الجماعات المكونة لهاتين الإمبراطوريتين متأثرة ببعضها من حيث أن بعضها كان ردة فعل على الآخر، وقد زاد الوعي القومي، وممارسة المظاهر القومية عند الجماعات القومية الكبرى في إطار كلا من الإمبراطوريتين، من مخاوف الجماعات الصغرى مما ساهم في سرعة بروز الحركات القومية للحفاظ علي هويتها وشخصيتها والحصول علي استقلالها أمام الجماعات القومية المسيطرة.
3- القومية المناهضة للاستعمار:
أو تحديدا ما أسماه ريمون أرون القومية المناهضة لأوروبا الاستعمارية، والتي لا تعبر أحبانا عن وجود أمة بقدر ما تعبر عن رفضها لكافة أشكال الهيمنة التي يمارسها الاستعمار، ومنها محاولة فرض ثقافته ونمط حياته وقيمه علي المجتمعات المستعمرة، فتصبح القومية تعبيرا عن استقلالية الجماعة وتميزها الحضاري والثقافي عن الدولة المستعمرة، وتأخذ شكل التمرد ورفض التعاون مع الاستعمار ورموزه في الدولة المستعمرة، والتمسك بالرموز والتقاليد والقيم التي للجماعة، ونشير في هذا السياق إلي الحركة القومية في كل من الهند وكينيا أيام الاستعمار البريطاني.
4- القومية اليمينية المتطرفة:
وتمثل القومية الفاشية، وهي بعكس كثير من العقائد والحركات القومية، فهي عقيدة شمولية وكلية تنظم وتتناول كافة شئون الحياة، والفاشية تعتبر من أهم حركات القومية اليمينية المتطرفة، وكانت أكثرها انتشارا وقوة وتأثيرا في فترة ما بين الحربين العالميتين الأولي والثانية، وخاصة إذا اعتبرنا النازية (الاشتراكية القومية) بمضامينها الرئيسية نوعا من الفاشية، فالحركة الفاشية وصلت إلي السلطة في إيطاليا واستولت النازية علي السلطة في ألمانيا، وحركات فاشية في كل من أسبانيا ورومانيا وهنغاريا وبلجيكا، وهناك سمتان عامتان وراء إنشاء هذه الحركات أولهما الشعور بالإذلال القومي إما نتيجة خسارة حرب أو الضم القسري إلي دولة من قومية أخري، وثانيهما أوضاع اقتصادية سيئة وصلت في بعض الدول إلي درجة الفوضى الاقتصادية الشاملة.
5- القومية الاثنية:
تتميز الاثنية بالمظاهر الثقافية التقليدية وترتبط النظرية الاثنية بشكل مباشر بمفهوم الثقافة، عرفت “سنسيا انلو” الاثنية كرابط خاص يجمع أشخاصا ويعطيهم شعورا بأنهم جماعة مميزة عن غيرهم، ويتكون ذلك الرابط من ثقافة مشتركة وقيم وتقاليد ومعتقدات أساسية مشتركة تبلور الشخصية المختلفة لهذه الجماعة من الناس عن جماعات أخري.
سابعًا: تطبيقات عملية لأشكال القومية:
1- القومية الألمانية: وهي التي تقول بأن المقوم الأساسي هو اللغة والجنس الآري، فألمانيا النازية نادت بعلو وسمو الجنس الآري الألماني على ما عداه من القوميات الأخرى، والذي اعتبره هتلر أسمى فروع العرق الأبيض حيث وجدت هذه الأفكار صدى لها في ألمانية، وازدهرت مع قيام الحركة النازية، التي صاغت منها منطلقاتها العنصرية القائمة على تفوق الجنس النوردي الشمالي وصفوته المختارة ” العنصر الجرماني” الذي ينبغي أن يسود العالم.
2- القومية الفرنسية :وهي التي تقول بأن المقوم الأساسي هو مشيئة المعيشة المشتركة.
3- القومية الماركسية الروسية :وهي التي تقول بأن المقوم الأساسي هو حدة الحياة الاقتصادية.
4- القومية العربية: إن مفهوم القومية العربية يرتبط بمفهوم الأمة الواحدة التي لها هوية سياسية تجمع بين أفرادها روابط خاصة وفق وحدة تكوينية تضم اللغة والثقافة والمصالح المشتركة والتاريخ والمصير المشترك الواحد، والقومية العربية التي تجمع بين أبناء الشعب العربي الواحد، تهدف إلى تحقيق استقلال الأمة العربية وتحقيق وحدة الوطن العربي وبعث الحضارة العربية، وهي تستند إلى عناصر الوحدة الموجودة عند العرب في المشرق والمغرب، ولكن تبقى القومية العربية ضعيفة وهشه أمام أي قوميات أخرى وذلك لارتباطات الدول العربية الخارجية واختلاف المصالح واهتمام كل قطر عربي بقومية القطر على حساب القومية العربية المشتركة.
ثامنًا: أنواع القومية
تستخدم التعريفات الذاتية للأمم لتصنيف أنواع مختلفة من القومية، وقد تتجلى النزعة القومية على أسس مدنية أو إثنية أو ثقافية أو دينية أو أيديولوجية، ولا تستبعد هذه الفئات بعضها، فالعديد من الحركات القومية تجمع بين بعض أو كل هذه العناصر بدرجات متفاوتة، ويمكن استعراض أنواع القومية، كالآتي:
- القومية العرقية أو إثنية –Ethnic Nationalism: وتعرف على أنها الأمة من حيث العرق والنسب من الأجيال السابقة، كما تتضمن فكرة ثقافة مشتركة بين أعضاء المجموعة، وعادة ما تكون لغة مشتركة.
- القومية المدنية- Civic Nationalism: وتستمد الدولة الشرعية السياسية من المشاركة النشطة لمواطنيها ومن الدرجة التي تمثل بها “إرادة الشعب”.
- الدولة القومية – State Nationalism: ويفترض في هذا النوع أن تكون الأمة مجتمعاً لأولئك الذين يساهمون في الحفاظ على الدولة وقوتها، وأن الفرد موجود في المجتمع بشكل صريح للمساهمة في تحقيق هذا الهدف، وهذا غالبا ما ينتج في فاشية.
- القومية التوسعية –Expansionist Nationalism: شكل راديكالي من أشكال الإمبريالية (وليس القومية الحقيقية على الإطلاق)، ويتضمن مشاعر وطنية مستقلة مع الإيمان بالتوسعية، عادة عن طريق العدوان العسكري، على سبيل المثال النازية (أو الاشتراكية القومية) في ألمانيا.
- القومية الرومانسية – Romantic Nationalism: شكل من أشكال القومية العرقية التي تستمد فيها الدولة الشرعية السياسية كنتيجة طبيعية أو عضوية) وتعبير للأمة، وهو يعتمد على وجود ثقافة عرقية تاريخية تلبي المثل الأعلى الرومانسي (الفولكلور الذي تم تطويره كمفهوم قومي رومانسي).
- القومية الثقافية – Cultural Nationalism: وهنا تعرف الأمة من خلال الثقافة المشتركة، وليس المدنية البحتة ولا العرقية البحتة، وتعد القومية الصينية مثال على القومية الثقافية، حيث العديد من الأقليات القومية داخل الصين.
- قومية العالم الثالث – Third World Nationalism: وتنتج القومية هنا من مقاومة السيطرة الاستعمارية من أجل البقاء والاحتفاظ بهوية وطنية.
- القومية الليبرالية – Liberal Nationalism: الأفراد يُزعمون الاحتياج إلى هوية وطنية لكي يحيوا حياة ذات معنى ومستقلة، وأن الديمقراطيات الليبرالية تحتاج إلى الهوية الوطنية لكي تعمل بشكل صحيح.
- القومية الدينية- Religious Nationalism: وفيها يمكن النظر إلى الدين المشترك على أنه يساهم في الشعور بالوحدة الوطنية، ورابطة مشتركة بين مواطني الأمة.
- تعدد القوميات – Pan- Nationalism: حيث تنطبق تلك القومية العرقية أو الثقافية على أمة هي في حد ذاتها مجموعة من المجموعات والثقافات العرقية ذات الصلة مثل الشعوب التركية.
- قومية الشتات – Diaspora Nationalism: وهنا يوجد شعور قومي بين الشتات وهم السكان العرقيين الذين يعيشون خارج أوطانهم التقليدية.
- .قومية عديمي الجنسية – Stateless Nationalism: حيث تسعى أقلية عرقية أو ثقافية داخل دولة قومية إلى الاستقلال على أسس قومية (مثل الكاتالونيين والباسك في إسبانيا).
- المحافظة الوطنية- National Conservatism: مصطلح يستخدم في المقام الأول في أوروبا، لوصف متغير من النزعة المحافظة يركز على المصالح الوطنية أكثر من المحافظة القياسية، في حين لا يكون قوميًا بلا مبرر أو يسعى إلى أجندة يمينية متطرفة بشكل مفرط.
تاسعًا: النظريات القومية (الحديثة والمعاصرة)
النظرية هي “ذلك البناء الفكري، فحواه الشرح والتنبؤ وتحديد العلاج في أي مجال للبحث والمعرفة، وبذلك فإنها تمثل إجابة مفتوحة عن أسئلة مطروحة بصدد ظاهرة محددة”، وتكون النظرية القومية بهذا المعنى هي البناء الفكري الذي فحواه الشرح والتنبؤ وتحديد العلاج في كل ما يتعلق بالقومية، وإنها إجابة مفتوحة على أسئلة مطروحة عن ماهية وطبيعة القومية. ويحتل الاهتمام بالقومية كظاهرة حديثة العهد، ونمط حديث للتعبير عن الهوية الجماعية (السياسية والثقافية والاجتماعية)، مكاناً رئيساً في العلوم التاريخية والاجتماعية، ومع ذلك لا يزال الغموض يكتنف أساس التنظير لهذه الظاهرة، لأنه ينطوي على مصاعب نظرية ومنهجية جمة، وقد تعرض لدراسة هذه الظاهرة علماء الاجتماع والسياسة، فمن اهتموا بالتنظير للظاهرة القومية بحذر، على الرغم من أهميتها كقوة دفع وتشغيل للنظام الدولي الحديث. إن محاولات التنظير للقومية، كانت قد اختلفت عن بعضها من عدة زوايا، فمن حيث أصل نشأة الأمم، ومن حيث الشكل والإطار السياسي ومن حيث الوظيفة … الخ. وبذلك تعددت النظريات والآراء بصدد القومية، ولهذا يحذرنا (انتوني سميث)، بأننا نرتكب خطأً فادحاً فيما لو بحثنا عن نظرية موحدة عامة للأمة والقومية، والسبب في رأيه، أن لكل مجتمع تاريخه الخاص بعملية التحول إلى الأمة (تكون) وكل قومية، ومن ثم كل نظرية قومية تكتسب خصائص مميزة وخاصة بها. وهكذا تعددت النظريات القومية، ومعها تعدد تصنيف هذه النظريات.
1– النظريات القومية الحديثة (التقليدية)
يذهب أغلب الباحثين والدارسين لهذه النظريات، الى تقسيمها إلى ثلاثة مجاميع من النظريات أو إلى ثلاثة مدارس نظرية حول القومية، وهي:
أ- النظرية الألمانية (أو نظرية وحدة اللغة والثقافة).
ب- النظرية الفرنسية (وحدة الإدارة للعيش المشترك).
ج- النظرية الروسية-أو الماركسية (وحدة الحياة المادية- الاقتصادية).
أ-النظرية الألمانية (وحدة اللغة والثقافة)
تعود هذه النظرية حول القومية إلى بدايات القرن التاسع عشر، حيث ظهرت في ألمانيا فكرة تأسيس دولة قومية مستقلة للألمان، إستناداً إلى الرابطة اللغوية بوصفها المحدد الأساس الأول للأمة، وكان (هردر) (Herder) (1742-1803) في طليعة هؤلاء، حيث يقول إن العناية الإلهية تدبرت أمر الفصل بين الأمم أحسن تدبير ليس فقط بالغابات والجبال ولكن أيضاً باللغات والأذواق والشخصيات، وأن اللغة القومية بمنزلة الوعاء الذي تتشكل به وتحفظ فيه وتنتقل بواسطته أفكار الشعب.. وأن اللغة، سواء أقلنا إنها تكونت وخلقت دفعة واحدة من قبل الله، أم أنها تكونت تدريجياً بعمل العقل، لا يمكن أن نشكك في أنها في الحالة الحاضرة، هي التي تخلق العقل، أو على الأقل تؤثر في التفكير عميقاً، وتوجهه اتجاهاً خاصاً… إن قلب الشعب ينبض في لغته… إن روح الشعب تكمن في لغة الآباء والأجداد”، ويؤيد هذه الأفكار (فيخته)، وبصورة عامة تمت صياغة النظرية القومية الألمانية على أسس وحدة اللغة والثقافة بالإضافة إلى العناصر الأخرى التي تأتي بعد اللغة والثقافة وهي وحدة الأرض ووحدة المصالح المشتركة.
وقد وجهت انتقادات كثيرة لهذه النظرية، ويصنف (ساطع الحصري) هذه الانتقادات إلى؛ الانتقادات المستندة على الوقائع التاريخية و التي تتلخص في وجود دول مثل (سويسرا والولايات المتحدة) تجمع فيها أناساً من مختلف الثقافات واللغات، ووجود حالات انفصلت فيها الدول عن بعضها أو تفككت على الرغم من وجود وحدة اللغة، مثل أمريكا الجنوبية وأمريكا الشمالية و الانتقادات المستندة على ملاحظات النظرية التي تتلخص في أن للإنسان شيء أهم من اللغة، وهو العاطفة والمشيئة، وهذا يؤثر في تكوين الأمة أكثر من اللغة، واللغة يجب أن تعتبر من العناصر الثانوية.
إن العوامل التي دفعت بهؤلاء الألمان إلى أن يركزوا على عامل اللغة كأساس للأمة والقومية الألمانية كانت السبب السياسي المتمثل بالحروب والصراعات السياسية والنزاع مع الفرنسيين على إقليم (الزاس)، بالإضافة إلى صراعات داخلية بين المقاطعات الألمانية.
ب- النظرية الفرنسية (الإرادة المشتركة)
أثارت النظرية الألمانية عن(ارتباط) القومية باللغة المشتركة ردود فعل قوية في المحافل الفكرية والسياسية الفرنسية، لأنها كانت تخالف مطامح فرنسا، وتعرض مصالحها في سياساتها التوسعية إلى خطر. ودفع هذا بالفرنسيين، وانطلاقاً من مصالحهم السياسية الاستراتيجية، إلى بناء نظرية قومية خاصة بهم تلبي طموحاتهم وأساسها أن الإدارة المشتركة مبدأ رئيس في توحيد أبناء الأمة وتشكيل الأمة، وأول من نادى بهذه النظرية هو (ارنست رينان) (1823-1892) وخلاصة آرائه هي “إن المشيئة والإرادة المشتركة هي أساس تكوين الأمة؛ ان اللغة تدعو للاتحاد ولكن لا تفرضه، لا يجوز أن نتخلى عن هذه الحقيقة الجوهرية. إن الإنسان مخلوق عاقل وأخلاقي قبل الدخول في حظيرة هذه اللغة أو تلك، وقبل أن يكون عضواً في هذا الرس أو ذلك، وقبل أن ينتسب إلى هذه الثقافة أو تلك”، ويؤكد (رينان) على أن الأمة روح جوهر معنوي، وهذا الجوهر المعنوي يتألف من أمرين: أحدهما يعود إلى الماضي، وثانيهما يتعلق بالحاضر، وكلاهما يرتبطان ببعضهما البعض ارتباطاً وثيقاً، الاشتراك في تراث ثمين من الذكريات الماضية، والرغبة في المعيشة المشتركة، مع الاحتفاظ بذلك التراث الثمين المشترك، والسعي إلى زيادة قيمة ذلك التراث، أي تطويره، هذا هو أساس تكوين الأمة، أمجاد مشتركة في الماضي، مشيئة مشتركة في الحاضر، أعمال عظيمة تمت في سالف الأيام، ومشيئة صادقة لعمل أمثالها في مستقبل الأيام، هذه هي الشروط الأساسية لتكوين الأمة. الآلام المشتركة تربط وتوحد الأفراد أكثر بكثير مما توحدهم الأفراح المشتركة، إن وجود الأمة هو بمثابة تصويت مستمر للحياة المشتركة.
وحسب آراء (رينان) ان الأمة كيان اجتماعي مصطنع وليست معطى تاريخي طبيعي أو اقتصادي أو ثقافي أو ذات وجود موضوعي ثابت، إذن الأمة حسب رأيه ليست نتاج تطور اقتصادي أو عيش مشترك لجماعة معينة على قطعة أرض مشتركة، بل إن الأمة هي نتيجة مجموعة قرارات سياسية واجتماعية وإرادة سياسية تبدع وتكون الأمة وتديرها وتحافظ عليها، وهكذا فإن الأمة هي استفتاء يومي عام ومستمر، بمعنى تحديد الانتماء والولاء اليومي لوجود وبقاء الأمة، ومن ثم فإن الأمة ليست الشيء الذي يحافظ على ذاته تلقائياً، بل إن الأمة تحتاج إلى جهود يومية مستمرة، إنها لا تعيش إلى الأبد بدون تغيير، وليست خالدة لأنها مادامت مرتبطة برغبة وإرادة الأفراد والجماعة للعيش معاً، فإنه من الممكن أن تموت مع فناء هذه الرغبة لدى الأفراد والجماعات، إذا لم تجدد وتتغير وتنفذ صيغ أخرى. تعود جذور هذه النظرية إلى أفكار وآراء فلاسفة عصر التنوير، الذين نادوا بحقوق وحريات الأفراد في الاختيار، وتتجسد هذه الأفكار في نظرية العقد الاجتماعي التي تفسر وتحلل نشأة السلطة والتنظيم الاجتماعي إلى الإرادة الإنسانية، إذ لا يمكن إغفال الفكر العقلاني والديمقراطي الذي تقوم عليه النظرية الفرنسية في اعتمادها على تأكيد الارتباط القائم بين الفكرة القومية وحق الشعوب في تقرير مصيرها. وهذه النظرية هي أساس الوحدة لكثير من الدول في الوقت الراهن، إسنادا إلى التعاقد الدستوري والاتحاد الاختياري، ولكن مع هذا هنالك كثير من الانتقادات توجه لهذه النظرية، وهي كما يقول (ساطع الحصري) إن المشيئة المشتركة لوحدها ليست عامل رئيس للقومية، بل هذا من نتاجها، إن الأفراد يختارون العيش المشترك عندما ينتمون إلى أمة واحدة، ويفترقون عندما يكونون من أمم مختلفة، ومشيئتهم هذه تتبع وعيهم القومي وتتأثر بمبلغ معرفتهم للشعوب التي تتكلم بلغتهم وللتاريخ الذي يربطهم. وهذه الانتقادات تنطلق من منظور الوجود الموضوعي للأمة، أي ان وجود الأمة يسبق وجود ونشأة الوعي والشعور والرغبة بالانتماء إلى الأمة، أي أن الأمة تنشئ القومية (نزعة الحب والولاء إلى القوم) وليس العكس.
ج- النظرية الروسية (نظرية ستالين حول القومية)
النظرية الروسية حول القومية، وهي النظرية الماركسية (الشيوعية) حول الأمة، إن الحياة الاقتصادية المشتركة لم تكن في النظريتين السابقتين (الألمانية والفرنسية) ذات أهمية كعامل من عوامل نشأة الأمة، بالرغم من أهمية الاقتصاد في بعض كتابات المفكرين الألمان والفرنسيين، ولم تصبح هذه الحياة مهمة حتى بدأ الماركسيون بإعطاء الأهمية للاقتصاد كعامل أساس في تحليلاتهم السياسية والاجتماعية بصورة عامة وفي تفسير وتحليل نشأة الأمة بصورة خاصة. يقول (هوراس دافيز) بأن الماركسيون يصرحون بأنهم أمميون، ومع ذلك فإننا نجد في كل مكان ماركسيين يتصرفون كقوميين، على الرغم من أن محاولات ملاءمة القومية مع النظرية الماركسية كانت قليلة وغير مرضية، وفي النظرية الماركسية يزعم عادةً أن مصالح الطبقة هي التي تسود، وأن شكل التنظيم الاقتصادي (علاقات الإنتاج) يمارس تأثيراً حاسماً على مسار الأحداث. وتعود النظرية الروسية في القومية إلى (ستالين) بالدرجة الأساس، والذي ينظر كشيوعي ماركسي للقومية من منظور الايديولوجية الماركسية للملاءمة بين القومية والشيوعية في مقالة له عام (1913) بعنوان (الماركسية والمسألة القومية). ويعرف ستالين الأمة: بأنها مجموعة مستقرة، نشأت بصورة تاريخية، وقامت على أساس لغة وأرض وحياة اقتصادية مشتركة وتكوين نفسي مشترك، يظهر في وحدة ثقافية. إذاً و حسب هذه النظرية إن وجود لغة وأرض مشتركة ضروري لوجود الأمة، ولكن وجود مشروط بحياة اقتصادية مشتركة قائمة على أساس وحدة المصالح ووجود سيكولوجية (نفسية) مشتركة تتجسد في ثقافة مشتركة.
ولكن نزعة التفتيش عن عوامل اقتصادية ومادية في كل شيء، والتي استحوذت على تفكير الماركسيين، لم تقف عند حد اعتبارهم الحياة الاقتصادية المشتركة من الشروط الأساسية لتكوين الأمة، بل دفعتهم إلى أبعد من ذلك في هذا المضمار؛ إنها جعلتهم يربطون الحركات القومية بمقتضيات الرأسمالية ويزعمون أن القومية وليدة العهد الرأسمالي. وقد أشار لينين أيضاً إلى علاقة الحركات القومية بالرأسمالية في مقالة نشرها سنة (1914) تحت عنوان (حق الأمم في حكم نفسها وتقرير مصيرها)، وحسب الرأي الماركسي فإن إلغاء وتفكك الاقطاعية ودعم الروابط الاقتصادية بين المناطق المختلفة واندماج الأسواق المحلية في سوق قومية واحدة، كان أساس اقتصادي لتبلور الأمة وقد كانت البرجوازية القوة الطليعية في الأمم خلال نشأة الرأسمالية.
2- ألنظريات الموضوعية والذاتية حول القومية والأمة
وهناك من يجمع هذه النظريات الثلاث المختلفة في مجموعتين من النظريات تحت تسمية النظريات الذاتية في الأمة والقومية والنظريات الموضوعية.
أ–النظريات الموضوعية في القومية والأمة
وتتضمن النظرية الألمانية حول وحدة اللغة والثقافة بالإضافة إلى جانب النظرية الروسية أو الستالينية في وحدة الثقافة والحياة الاقتصادية المشتركة. حيث يمثل كل من هردر وفيخته وستالين أبرز المناصرين والداعين لهذه النظريات (الموضوعية) في القومية، ويربط الموضوعيون الأمة بشكل مباشر بمجموعة من العوامل والمعطيات الموضوعية، وحسب آرائهم أن غياب هذه العوامل، يعني غياب وجود الأمة والقومية، ويربط فيخته وجود الأمة بوجود موضوعي أو وجود قانون موضوعي طبيعي خارج رغبة وإرادة الإنسان وهذا القانون قانون طبيعي ومقدس وخالد وأزلي، والأمة بذلك لا يتم إنشاؤها أو تشكيلها وإنما وجدت وتشكلت بصورة طبيعية خارج إرادة وقدرة الإنسان. وباختصار يرى القائلون بهذه النظريات أن ولادة الأمة وظهور القومية ليس أمراً تختاره الأمة بإرادتها، بل إنه نتيجة لتفاعل مجموعة من العوامل التي تلعب دورها، بوصفها مجموعة من الخصائص المشتركة التي توحد بين أعضاء الجماعة الاجتماعية من جهة، وتميزها عن غيرها من جهة ثانية وهذه الخصائص والعوامل تشمل وحدة الأصل، والتقاليد والقيم المشتركة ووحدة الإقليم، ويضيف البعض منهم عامل وحدة الدين أيضاً.
ب-النظريات الذاتية
ويرى أصحاب هذه النظريات، أن ولادة الأمة وظهور القومية أمر محكوم بامتلاكها لإرادة العيش المشترك التي على أساسها تقيم هذه الأمة ارتباطها وترسم لنفسها أهدافاً ومصالح مشتركة، تعمل من أجلها وتدافع عنها، ولذلك فإن ولادة الأمة لا تكون بفعل قوة وإرادة خارجة عنها، وإنما تكون فعلاً إرادياً ذاتياً تمارسه الأمة بوعي وإدراك كامل، وقد اعتمدت التجربة القومية الفرنسية على هذا التفسير. ويمثل هذه النظرية، (ارنست رينان)، أن أفكار أنصار النظرية الذاتية من الناحية التاريخية انعكاساً أو رد فعل لأفكار أنصار النظريات الموضوعية (هردر و فيخته و ستالين)، وتتضمن آراء الذاتيين أو أنصار الإرادة في تكوين الأمة والقومية نقطتين رئيستين هما أن الأمة ليس لها أساس من ناحية الأصل المشترك، والثانية أن الأمة ليست شيئاً أزلياً وخالداً، وإنما تتكون على أساس الإرادة والذكريات والآلام والاهتمامات المشتركة.
وهناك من يضيف التفسيرات الغيبية (الميتافيزيقية) لظهور القومية والتفسير المركب (الذاتي والموضوعي)، حيث يرى التفسير الغيبي الإلهي أن ولادة الأمة وظهور القومية مرتبط أولاً وأخيراً بإرادة الله، ومن هذه المقولات (شعب الله المختار)، أما أنصار التفسير المركب (الذاتي الموضوعي) يؤكدون على ضرورة الجمع بين مضمون التفسير الذاتي (الإرادة) والتفسير الموضوعي (العوامل الموضوعية).
ويصنف (نديم بيطار) هذه النظريات تصنيفاً ثنائياً تحت اسم (المفهوم الميتافيزيقي للقومية مقابل المفهوم السوسيولوجي للقومية)، ويقول بأن المفهوم الميتافيزيقي يحدد شخصية الأمم والثقافات المختلفة بجوهر أو تركيب نفسي- عقلي ثابت ينطلق منه بصرف النظر عن الأوضاع الاجتماعية،الاقتصادية التاريخية والفكرية التي تحيط به، فيعالج مستقبلها ونمط حياتها وكأن هذه الأوضاع غير موجودة أو دون أثر مهم في تغيير أو تعديل أو تحويل ذلك التركيب أو الجوهر، وخلافاً لذلك يذهب ما يمكن تسميته بالمفهوم السوسيولوجي التاريخي الذي يرى أن الهوية القومية تعني في أحسن الحالات فقط طرق تفكير، وشعور وسلوك متماثل ومهيمن نسبياً، وتتغير مع حركة التاريخ وتحولاته الجذرية، فالهوية القومية حسب هذا المنظور هي هوية نسبية وتاريخية يحققها شعب ما عن طريق تفاعله أو علاقته الدياليكتية مع التاريخ ولا يرثها عن تركيب نفسي أو جوهر متأصل فيه. وبصورة عامة هناك من يسمي هذه النظريات القومية بـ(نظريات القوميين) في القومية أي أن أصحاب هذه النظريات كانوا أصحاب مشاريع بناء قومية ولم يكونوا أكاديميين، وهي تصلح كمفهوم انطلقت منه الأفكار المختلفة عن القومية والحركات القومية، ولكنها لا تكفي لوضع إطار شامل لكل أبعاد قضية القومية، وللوصول إلى رؤية نقدية وموضوعية عن القومية لا بد من تجاوز هذه النظريات الحديثة، وصولا إلى النظريات القومية المعاصرة.
3-النظريات القومية المعاصرة
قامت هذه النظريات على أرضية منهجية مختلفة تماماً عن النظريات القومية التقليدية،وتضم النظريات القومية المعاصرة مجموعة من النظريات التي ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين، ويصنفها الباحثون إلى النظريات البدائوية (Primordial) أو ما قبل الحداثية (Premodernity)، والنظريات الحداثية (Modernist) حول القومية. وقد برزت أسماء و مؤلفات أربعة أكاديميين في العلوم الاجتماعية والتاريخ، لكل واحد منهم آراءه وتصوراته الخاصة حول طبيعة القومية وتفسير نشأتها ووظيفتها، وهم:
- ارنست غيلنر وكتابه (1983- Nations and Nationalism) الأمم والقومية وأيضا (Culture, Identity, and Politics) [85].
- بنديكت أندرسون وكتابه (1963- Imagined Communities) المجتمعات المتخيلة.
- إيريك هوبزباوم وكتابه (1983-The Invention of Tradition) اكتشاف او ابتداع التقاليد و(Nations and Nationalism since 1780 ( Programme, Myth, Reality). .
- انتوني سميث، وكتابه (1986- The Ethnic Origins of Nations) الأصول الأثنية للأمم