دراسات أمريكا الشمالية و اللاتينية

”البروباغندا” العصا السحرية لقوة الإعلام الأمريكي…!

*مصطفى قطبي

يبدو الإعلام ـ في يومنا هذا ـ سلاحاً أمضى في ترسيخ الحقائق، أو قلبها، وتتسيد أمريكا، بما تملكه من إمكانات، عصر الإعلام هذا. لقد لعب إعلام الشركات وممثلوه دوراً مفصلياً في شنّ الحروب الظالمة على يوغسلافيا والصومال وأفغانستان، ولعب دوراً إجرامياً في تدمير العراق وليبيا، وفي الحرب على سورية واليمن، وفي التغطية على جرائم الأنظمة القومية الرجعية المرتجّة…

تعتمد إدارة الأزمات السياسية المصنعة على تقنيات التضليل الإعلامي، وهو ما يطلق عليه الخبراء عمليات الدعاية السوداء، القائمة على ما يسمى بناء القوام التراجيدي، أي جعل السرديات أكثر تماسكاً وغير قابلة للافتضاح، وكذلك توظيف المعاناة، بتضخيم المقاربات بشكل تحمل فيه المستهدف بالدعاية السوداء المسؤولية عن المعاناة المفترضة، ويتم فيها أيضاً توظيف التباينات باستخدام عمليات التنميط الإثني والقبلي والثقافي وغيرها، كما أنها تستثمر التزوير بشكل واسع، سواء عن طريق المونتاج، أم من خلال المواد والوثائق المزيفة واستخدام شهود الزور، كما يؤكد الخبراء، وكما يحصل في إدارة الإعلام المغرض لما يجري في الوطن العربي.‏

ولمعرفة هذه الحقيقة فإن من خطّط للسيطرة الاستعمارية على العالم العربي بشكل خاص، وضع الإعلام في قمة أسلحته وفوق بقية الأسلحة الحربية المتنوعة، ومن هنا تم الاعتماد على الحرب الدعائية في الولايات المتحدة حتى أصبحت ركناً رئيسياً من سياستها العدوانية، إذ لم تسر واشنطن في أي اتجاه إلا وكانت ”البروباغندا” أساس تحركها وممارساتها العدوانية وبسط هيمنتها على الدول. فلم يكن غزو الولايات المتحدة للعراق عام 2003 آخر برامجها الدعائية الكاذبة، حيث سوقت من أجل التمهيد له قصصاً وفبركات دفعت من خلالها الرأي العالم لقبول عدوانها الذي بدأته بما سمي بـ ”الضربة الاستباقية” التي تتيح للقائمين على العدوان بالتضليل والدعاية تحقيق مخططاتهم العدائية، وما إن يصحو الرأي العام من غفلته، حتى يكون الأمر قد تمت تسويته على الأرض لتبدأ بعدها بإيجاد مسوغات وقصص إعلامية أخرى تستمر من خلالها بخداع الرأي العام مرات ومرات حتى تنفذ كل أهدافها.

فالحرب الدعائية، تشنها الولايات المتحدة من أجل تحقيق مآربها في كل مكان من العالم، وكي لا نذهب بعيداً سنأتي على ذكر أمثلة من الواقع تؤكد ذلك، فمن يتذكر المرحلة التمهيدية لأحداث ما سمي بـ ”الربيع العربي”  يدرك أن الدعاية الأمريكية بدأت بشن ”حرب الصور” وقامت بسيناريوهات تمثيلية تجسد أبشع أشكال الاستغلال للاستفادة منها في قتل الإنسان المستهدف عقلياً وأخلاقياً، وبالتالي جره بدايةً إلى ”قبول” أهداف محركي الفكرة، ومن ثم الاندماج فيها إلى حد التعاطف معها والاندفاع بشكل لا إرادي ـ وربما وفي كثير من الأحيان ـ إرادياً لتبني ما تم تسويقه، والقيام بالفعل لخدمة المحرض من حيث يدري أو لا يدري.

تنفق أميركا على الدعاية الخارجية نحو 6 مليارات دولار سنوياً وتنظم عملية الانفاق وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وتمول مئات المجلات والصحف والفضائيات في مختلف أنحاء العالم وبأكثر من 20 لغة. وتقوم الدوائر والأجهزة الإعلامية التابعة لمراكز القرار، بإيجاد صلات نفعية ورشاوى وشراء ذمم صحفيين ومثقفين وقادة بعض الجمعيات واللجان التي تطلق على نفسها إما لجان حقوق الإنسان أو ”المجتمع المدني” وتنظيمات أخرى مكونه من ذوي النفوذ في أحزاب ووسائل إعلام تقوم بعملية التأثير على المحيط الاجتماعي المحلي في البلدان النامية.‏ ولتنفيذ مخططاتها تعمل لتشويه والوعي، وإحلال بدائل وهمية مشوقة محل الوقائع الفعلية، ودفع المجموعات المتأثرة أو المرتشية إلى السلوك المطلوب ميدانياً، وخلقت من نمط التفكير والحياة الاستهلاكية إلى أن هؤلاء جاهزون للحصول على المال ولو كان ثمناً للانتماء الوطني.‏

فما هي الطرق التي تستخدمها وسائل الإعلام الأمريكية للسيطرة على الشعوب عبر وسائل الإعلام؟

للإجابة على هذا السؤال، لابد أن نستأنس بشهادة المفكر الأمريكي أفرام نعوم تشومسكي” أحد فلاسفة هذا العصر المشهورين، وهو يهوديّ وله العديد من النظريات العلمية التي تدرَّس في الجامعات، كما أنه متفهم دون سواه من الفلاسفة الغربيّين لمشكلات شعوب العالم الثالث، وبالأخص منها مشكلة الشعب الفلسطيني الذي شرد من أرضه ووطنه من قبل إسرائيل. لقد اختزل المفكر الأمريكي ”تشومسكي” الإجابة، وأجملها في تسع استراتيجيات أساسية تلقي الضوء على أساليب صناعة وعي الشعوب وإعادة هيكلتها، بحيث تسهّل عملية السيطرة عليها…

فما هي هذه الاستراتيجيات…؟‏

أولا: استراتيجية الإلهاء: وهي عنصر أساسي في التحكم بالمجتمعات، وتتجسّد في تحويل انتباه الرأي العام عن طريق ضخ وابل من الإلهاءات والمعلومات التافهة بشكلٍ متواصلٍ وكثيفٍ، لمنع عامة الناس من الاهتمام بالمعارف اللازمة على مبدأ يقول (حافظ على تشتت اهتمامات العامة، بعيداً عن المشكلات الاجتماعية الحقيقية، واجعل هذه الاهتمامات موجهة نحو مواضيع ليست ذات أهمية حقيقية، اجعل الشعب منشغلاً، دون أن يكون له أي وقت أو أي قدرة على التفكير).‏

ثانياً: ابتكر المشكلات… ثم قدّم الحلول. هذه الطريقة تسمى أيضاً ”المشكل ـ ردّة الفعل ـ الحل”. أي في البداية يتمّ ابتكار المشكلة أو الموقف المتوقع بغرض إثارة ردة فعل معينة من قبل الشعب، وحتى يطالب هذا الشعب بالإجراءات المراد أن يقبل بها. وعلى سبيل المثال: ترك العنف الحضري يتنامى، أو تنظيم تفجيرات دامية، حتى يطالب الشعب بقوانين أمنيّة على حساب حريّته، أو ابتكار أزمة مالية حتى يتمّ تقبل التراجع على مستوى الحقوق الاجتماعية وتردّي الخدمات العامة كشرّ لا بد منه!

ثالثاً: استراتيجية التدرّج، بمعنى أنه لكي يتم قبول إجراء غير مقبول عادة، يكفي أن يتم تطبيقه بشكل تدريجيّ، مثل أطياف اللون الواحد (من الفاتح إلى الغامق)، وعلى فترة تدوم سنوات أو أشهراً أو أياماً!

وقد اعتمدت هذه الطريقة لفرض الظروف السوسيو ـ اقتصادية الجديدة بين الثمانينات والتسعينات من القرن السابق: بطالة شاملة، هشاشة، مرونة، تعاقد خارجي ورواتب لا تضمن العيش الكريم. وهي تغييرات كانت ستؤدي إلى ثورة شاملة لو تمَّ تطبيقها دفعة واحدة.‏

رابعاً: استراتيجية المؤجَّل: وهي طريقة أخرى يتم اللجوء إليها من أجل إكساب القرارات المكروهة القبول لدى الناس، والإيحاء على أنَّ تقديمها كدواء وكحلّ ”مؤلم ولكنه ضروري”، ويكون ذلك بكسب موافقة الشعب في الوقت الحاضر على تطبيق شيء ما في المستقبل، لأنّ قبول تضحية مستقبلية يكون دائماً أسهل من قبول تضحية حينيّة، وذلك لأسباب أهمّها: أولاً ”كل شيء سيكون أفضل في الغد”، أو أنه سيكون بإمكانه تفادي التضحية المطلوبة في المستقبل، وأخيراً يترك كل هذا الوقت للشعب حتى يتعوّد على فكرة التغيير ويقبلها باستسلامٍ كاملٍ عندما يحين أوانها.‏

خامساً: مخاطبة الشعب كمجموعة أطفال صغار: في هذا السياق تستعمل غالبيّة الإعلانات الموجهة لعامة الشعب خطاباً وحججاً وشخصيات ونبرة ذات طابعٍ طفوليّ، وكثيراً ما تقترب من مستوى التخلف الذهنيّ، وكأن المشاهد طفل صغير أو شخص معوَّق ذهنيّاً، حيث كلما تمَّتْ محاولات مغالطة المشاهد، كلما زاد الاعتماد على تلك النبرة. لماذا؟

يعلل أصحاب هذه الاستراتيجية ذلك بالمقولة التالية ”إذا خاطبتَ شخصاً كما لو كان طفلاً في سنّ الثانية عشرة، فستكون لدى هذا الشخص إجابة أو ردّة فعلٍ مجرّدة من الحسّ النقدي بنفس الدرجة التي ستكون عليها ردّة فعل أو إجابة طفل من عمر الاثني عشر عاماً”.‏

سادساً: استثارة العاطفة بدل الفكر: وهي تقنيّة كلاسيكية تستعمل لتعطيل التحليل المنطقيّ، وبالتالي تعطيل الحسّ النقديّ للأشخاص. كما أنَّ استعمال المفردات العاطفية يسمح بالمرور إلى اللاوعي حتى يتم زرعه بأفكار ورغبات ومخاوف ونزعات أو سلوكيات محدّدة.‏

سابعاً: إبقاء الشعب في حالة جهلٍ وحماقة: وذلك من خلال العمل بطريقة يكون خلالها الشعب غير قادر على استيعاب التكنولوجيات والطرق المُستعملة للتحكم به واستعباده، وذلك تنفيذاً لمقولة مفادها ”يجب أنْ تكون نوعيّة التعليم المُقدَّمة للطبقات الدنيا هي النوعية الأفقر، وبطريقة تبقى على أثرها هوة واسعة معرفيّة تعزل الطبقات الدنيا هذه عن الطبقات العليا، دون التمكن من فهم طريقة وأسلوب هذا العزل المتعمَّد من قبل الطبقات الدنيا”.‏

ثامناً: تشجيع الشعب على استحسان الرداءة في كل شيء، بمعنى تشجيعه على أنْ يجد أنه من ”الرائع” أن يكون همجيّاً وغبيّاً وجاهلاً وبعيداً عن المعرفة العلمية والحضارة.‏

تاسعاً: تعويض التمرّد بالإحساس بالذنب. وتقوم هذه الاستراتيجية على جعل الفرد يظن أنه هو نفسه المسؤول الوحيد عن تعاسته وفقره وتخلفه، وأنّ السبب في تلك المسؤولية يعود إلى نَقصٍ في ذكائه وقدراته أو مجهوداته، وبالتالي عوضاً عن أنْ يثور على النظام الاقتصادي، يقوم باحتقار وبامتهان نفسه، ويحسّ بالذنب، الأمر الذي يولد عنده شعوراً بالاكتئاب يكون من آثاره الانغلاق وتعطيل التفكير والذهن وتعطل أي تحرّك إيجابي.

وبطبيعة الحال، فإنَّ شلّ التفكير أو تعطيله وتعطيل أي إمكانية للتحرك، كل ذلك يقود إلى الخنوع والذلّ والقبول بالأمر الواقع مهما كان قاسياً، والوصول إلى التسليم بأنّ ”الشعب لا يستحق الديمقراطية” بل يستحق أن يحكم بالقوة وبالسيف كما يُقال.‏ هذا ومن خلال ما تقدّم عرضه من هذه الاستراتيجيات التسع، نرى أنها تطبق فعلاً على الكثير من دول العالم الثالث، وبصورة خاصة على منطقتنا العربية، لاسيما من حيث تركيز وسائل الإعلام الأجنبية والعربية الموالية لها على الكثير من النقاط الواردة في هذه الاستراتيجيات.

فالملاحظ قبل كل شيء تحويل انتباه الرأي العام العربي عن مشكلة الأمّة، وتبديل هوية الصراع العربي الإسرائيلي ليصبح صراعاً عربياً عربياً، ثم العزف على الوتر الطائفيّ، ثم تشجيع الإرهاب في بعض الدول العربيّة عبر خلق بؤر إرهابية ومدّها بالمال والسلاح وتبرير إرهابها تحت أبواب المطالبة بالحريّة والديمقراطيّة، ومن ثم سياسة الإفقار المتّبعة من قبل العديد من الأنظمة العربية تجاه مواطنيها وتفشّي البطالة والفساد، هذا إلى جانب الاستهتار بالشعوب واعتبارها غير قادرة على تقرير مصيرها بنفسها أو التشكيك بقدرة الإنسان العربي على اقتراح الحلول لمشاكله عبر تصويره بأنه إنسان يفتقد المبادرة والذكاء.‏ فأمريكا لا تترك شاردة ولا واردة تحدث في منطقتنا العربية إلا ويكون لها دور فيها، وإذا لم يكن لها دور، تعمل سريعاً على الدخول فيها وتوجيهها بالشكل الذي يخدم مصالحها ونفوذها، وما يحدث في فلسطين والدول العربية الأخرى التي تتدخل في شؤونها تلك الدول لهو خير دليل على ذلك.

فسوريا وليبيا والعراق بل واليمن وتونس والجزائر والسودان لا يمكن أن نعزل ما يجري فيها من تطورات عن الإرادة الأمريكية التي تريد لتلك الصراعات أن تستمر، طالما أنها تصب في النهاية في صالحها، فمواردنا النفطية وثرواتنا بأشكالها المختلفة يسهل الحصول عليها في ظل هذه الأجواء الصعبة التي تجعلنا في حالة ضعف شديد بالشكل الذي يدفع بالقوى العظمى في العالم لأن تتربص بنا وتستنزفنا مثلما نرى اليوم.

ومن ثمّ وتلاقياً مع أهدافها تسخر التكنولوجيا ”الصورة” ومن جانب واحد لتعرض لنا ما يخدم سياساتها وإستراتيجيتها في المنطقة العربية والإسلامية. وتتقاطع مع من ينفذون هذه المخططات على الأرض عبر مدّهم بكل وسائل التطور. ولنلحظ هنا أن من توفر لهم أميركا هذه الأجواء ومعها بالطبع فرنسا وبريطانيا منغمسون إلى حد النخاع بمشروعها… وهم أصلاً بعيدون كل البعد عن الواقع الحقيقي للشعوب العربية وتطلعاتها.

وبالطبع من الصعب أن تجد آثار الغزو اليومي تأثيرها دون توفر عنصر رئيسي وهو وجود الجسور المحلية الإقليمية والداخلية للغزو في البلدان الأخرى، فالأنظمة السياسية التابعة للمراكز الاستعمارية الغربية والأميركية، تقوم بعملية الترويج للغزو الإعلامي وتصوغ مؤسساتها الإعلامية والثقافية وفق مضمون الغزو الامبريالي الإعلامي، ووسائل الإعلام المحلية التي تقوم بعملية الضخ اليومي لبرامج المركز الغربي، تحاول إعطاء وسائلها طابعاً ”محلياً” وتدعي الحيادية والموضوعية بهدف زيادة التأثير من خلال الاندماج والتماهي. بينما نجد في برامجها الإخبارية عملية تشويه الأحداث بصورة فظيعة، يمتزج فيها الكذب بالحقيقة وفي حالات معينة يكون الحدث صحيحاً وينقل بصورة تشبه الحقيقة ولكنها تأخذ في مجمل الوضع لتصبح مشوهة في نهاية الأمر وبالتالي يحصل المتلقي على معلومات غير صحيحة وكاذبة، المهم أن يدفع لسلوك منسجم مع المعلومات المفبركة.

 يقول أحد المنظرين الصينيين في علم الاتصال:” الحرب الإعلامية هي فن النصر دون حرب”.‏ ولكن الحرب الإعلامية ليست سوى المقدمة الضرورية لتحقيق النصر، وإذا لم تجد في تحقيق الهدف، على الإعلام أن يمهد المناخ المناسب لشن الحرب العسكرية أملاً في تحقيق النصر.‏

باحث وكاتب صحفي من المغرب

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى