تحليل السياسة الخارجيةدراسات أمريكا الشمالية و اللاتينيةنظرية العلاقات الدولية

البعد الديني في السياسة الخارجية الأمريكية

مقدمة

الفصل الأول :دراسة في المسيحية الصهيونية الأمريكية المعاصرة
المبحث الأول: مسار تطور المسيحية الصهيونية الأمريكية
المطلب الأول:الأصول العقدية التي بنيت عليها أمريكا
المطلب الثاني:السياسة الخارجية الأمريكية كأداة لفرض القيم والنموذج الأمريكيين
المبحث الثاني: أهم المراكز والمؤسسات التابعة للأصولية المسيحية بأمريكا
المطلب الأول:مؤسسات اللوبي اليهودي الصهيوني
المطلب الثاني :مؤسسات اللوبي المسيحي الصهيوني

الفصل الثاني:المحافظون الجدد وصناعة القرار الأمريكي
المبحث الأول:اختراق المحافظون الجدد للمؤسسات السياسية الأمريكية
المطلب الأول الصحوة الدينية الثانية وبزوغ المحافظون الجدد
المطلب الثاني:تأثير المحافظون الجدد على مؤسستي البيت الأبيض والكونغرس الأمريكيين
المبحث الثاني:تأثير المحافظون الجدد في المسرح الدولي من خلال السياسة الخارجية الأمريكية
المطلب الأول :دور المحافظون الجدد في صياغة الإستراتيجية الأمريكية إبان الحرب الباردة
المطلب الثاني : المعالم الكبرى للسياسة الخارجية الأمريكية بعدا لحرب الباردة ودور المحافظون الجدد في بلورتها

الخاتمة

المقدمــة:

إن الأحداث في العالم تندفع بسرعة مخيفة، فالمنازعات والحروب والإشاعات، والنبوءات قد صارت اليوم حقيقة ناجزة .حيث لم يعد الدين مسيحيا أو إسلاميا أو يهوديا ، كافيا وحده لإيقاف طغيان عودة الظاهرة الدينية إلى الواجهة الدولية، حيث استطاعت أن تصنع بمؤسساتها وبرامجها نظاما شموليا في أغراضه، و أنشطته ، وعلاقاته وتمزج الدين بالتعليم وبالخدمات الاجتماعية وبالطب وبالسياسة وبالفن والحرب والسلم …و لا يفلت من شباكها شيء يتعلق بالحياة اليومية للإنسان ،حيث أصبحت هذه الظاهرة تجسد أفكارها في مؤسسات ومنظمات وجماعات وتحالفات متعددة نتج عنها تيار جماهيري واسع ومؤسسات متعددة الأغراض، وإمكانات مالية ضخمة، ونفوذ سياسي ليس من السهل مقاومته.وقد بدا ذلك بوضوح في قدرتها على تعبئة عدة ملايين للانخراط في العملية السياسية الانتخابية وتكمن مخاطر هذه الاتجاهات فيما يجري حاليا من تنافس محموم بين التيارات الدينية الغربية للسيطرة على القرار السياسي من جهة ، وتوجيه الرأي العام الشعبي من جهة ثانية مع تقاسم النفوذ الدولي وتوزيع الخريطة الدينية في القارات الخمس، وبالتالي التأثير على البيئة الدولية عن طريق صناع القرارات السياسية الخارجية وبذلك فالدوافع والقيم والعقلانية والشعور بالمسؤولية، والانتصار والولاء،والعقيدة، والعوامل الإيديولوجية والحزبية .كلها عوامل لها دورها في تحديد الموقف السياسي للشخص صانع القرار، وبالتالي التأثير على مجرى العلاقات الدولية، وارتباطا بالبيئة التي سوف ينفد فيه القرار السياسي، خلص مجموعة من الخبراء إلى بروز عدد من المؤسسات الدينية في محاولة منها لتأطير سلوك الفاعلين الدوليين، وبالتالي توجيه السياسة الخارجية، وإعادة صياغتها وفق المعتقدات

الدينية والقيم الأخلاقية . وكما توضح الأحداث الراهنة ، فالإنسان بالأساس كائن متدين بالدرجة الأولى، وأن التدين فطرة متجدرة في الكيان البشري .وأن الظاهرة الدينية تسجل يوما بعد يوم عودتها
إلى الواجهة وبقوة . وبذلك لم يفقد الشعور الديني شيئا من حيويته حتى في كنف أزمنة الحداثة .وقد تبين مما لايدع مجال للشك، أن المجتمع أللائكي لايمكن أن ينسلخ عن صوت الفطرة وان يستغني عن الإيمان، وأن عودة المقدس أخذ نصيبه في المجتمعات وبرهنت التحولات صدق شارل بودلير عندما قال:”لا يوجد في الدنيا ماهو أكثر أهمية من الديانات وهذا مايكرسه تنامي قوة وجاذبية التدين التي أضحت تغزو أركان المجتمعات العلمانية بل تجاوزت هذا إلى استقطاب قلوب الوزراء والساسة والقادة ، وأكيد أن هذا سيؤدي إلى التحكم في دواليب القرار السياسي، وتوجيه الرأي الشعبي والدولي، وفرض سلوكات وتصرفات خاضعة لمنطق القيم والأحكام الأخلاقية. وبالتالي إرباك حسابات الفرقاء الدوليين والحكم على السلوك الخارجي في العلاقات الدولية بالغموض والتأزم أحيانا. ويمثل النموذج الأمريكي الصورة النمطية للسلوك الديني في قالب سياسي، بحكم أن هذا المجتمع منذ تأسيسه أقيم على أسس عقائدية دينية محضة. وفي هذا الصدد يؤكد علماء الاجتماع ” الاجتماع الديني” بصفة خاصة :أن العقائد الدينية والكنائس تعكس المجتمعات التي تهيمن عليها، بقدر ما تعكسها هذه المجتمعات بدورها أيضا .فالحالة الأمريكية تمثل تعبيرا مثاليا لهذه المقولة حيث أنه “لم يكن غريبا بحسب جان بيار فيشو أن يولد المجتمع والدين في آن واحد، ولأن المهاجرين الجدد – الأوائل–كانوا من البروتستانت، فقد كانوا قوة غالبة فسادت كنيستهم وساد مذهبهم ،وبديهي أن تكون الحركة الدينية التي اجتاحت أمريكا مع بداية اكتشافها، امتدادا للتطور الديني الذي شهدته الساحة الأوربية. الأمر الذي يستوجب الرجوع إلى جذوره لاكتشاف حقيقته والوقوف عند معالمه.

وعليه فالصهيونية المسيحية كحركة ودعوة دينية مسيحية تدعوا إلى عصمة الكتاب المقدس، والعودة الثانية للمسيح، وقيام حكمه الألفي، وتأتي صهيونيتها من دعوتها إلى وجوب عودة اليهود إلى أرض الميعاد – فلسطين – تحقيقا للنبوءات التوراتية التي يؤمن بها المسيحيون ، وهذه الدعوة تعود جذورها إلى عام 1649 حيث وجه كل من عالمي اللاهوت التطهيريين “جوانا”وإبينزركاتريت” مذكرة إلى الحكومة البريطانية. يطالبان فيها أن لبريطانيا شرف حمل أولاد إسرائيل إلى الأرض التي وعد إياها أجدادهم .
وهكذا تفاعل شعور الحركتين الصهيونيتين المسيحية واليهودية بوجوب توطين اليهود في
أرض الميعاد، ونتج عنه مطالبة اليهود للمسيحيين الالتزام بثلاث مواقف:
*-رفض العداء للسامية ومحاربتها، وتطهير المؤسسات الدينية والطقوس الكنسية من كل أثر سلبي لها.
*- الكف عن دعوة اليهود إلى الدخول في المسيحية.
*- الاعتراف بحق اليهود في دولة خاصة بهم ، وأكيد أن هذا التفاعل قد أسفر عن ظهور حركة بروتستانتية تطهيرية تحمل صفات وراثية عدة :سياسية، ويهودية، ومسيحية شاردة منفلتة من قيود كنيسة روما ، وبدأت بذلك ملامح مرحلة جديدة من الحركة الدينية المسيحية، بميلاد تيار ما سمي بالإصلاح الديني الذي بدأه مارتن لوثر تم تبعه كالفن الفرنسي، والذي اتخذ شعار العودة إلى الأصول أي إلى حرفية الأسفار المقدسة . وقد عزز هذا التيار آنذاك “صراع الملك الإنجليزي هنري الثامن مع الكنيسة حيث أصدر سنة1538 أوامره إلى كل كنائس انجلترا بإنهاء الوصاية الكهنوتية على الكتاب المقدس وتفسيره .
وتكمن أهمية هذه الدراسة في البحث في البعد الديني لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية من خلال الوقوف على الجانب الصهيوني في الحركة المسيحية الأصولية الأمريكية التي تشكل عنصرا

أساسيا في توفير البيئة الملائمة للنفوذ الصهيوني اليهودي، و ترسيخ مجموعة من الآراء المتحاملة في شعور الرأي العام الأمريكي وثقافته، وفي سياسات الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية بصفة عامة والشرق الأوسطية بصفة خاصة ..
كما تهدف هذه الدراسة إلى ” كشف العلاقة بين الحركة المسيحية الأصولية المعاصرة بقضية فلسطين،وذلك بالوقوف على الجانب غير اليهودي من الصهيونية من خلال تحليل البيئة الثقافية والدينية والسياسية التي تحمست للمشروع الصهيوني ودعمته، وما تثيره من أطروحات سياسية وعقائدية وممارسات ضغط وتأثير في المجتمع الأمريكي، وفي السياسة الخارجية الأمريكية، وهنا يتبادر إلى الذهن أسئلة مهمة لعل الجواب عنها يسهم في اكتمال الرؤية عن ملامح هذه الحركة من قبيل كيف استولت هذه الديانة الجديدة على أمريكا ؟وكيف أطرت صناع القرارات السياسية الخارجية الأمريكية؟ بل وكيف استطاعت أن تشكل اللبنات الأولى للنظام الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي لأمريكا على أساس عقائدي ؟ وكيف استطاعت أن تنتقل من مجرد حركة دينية بسيطة إلى حركة دينية سياسية لها تأثيرها في صناعة القرار السياسي الداخلي والخارجي؟ و هذا ما سنناقشه في هذه الدراسة على وفق التصميم الآتي:

الفصل الأول: دراسة في الصهيونية المسيحية الأمريكية المعاصرة

يحتل الدين مكانة رئيسية في الحياة اليومية للمجتمع الأمريكي بكل طبقاته على مر القرون, ففي مرحلة الثورة على الإنجليز والاستقلال، كان ” الآباء المؤسسون”يعبرون في خطبهم الحماسية عن مزيج من المشاعر الوطنية والدينية، بل وحتى عندما شهدت أمريكا أخطر مرحلة هددت وحدتها، عند اندلاع الحرب الأهلية بين أهل الشمال والجنوب، كان كل من الطرفين يلجأ إلى الدين لتبرير موقفه،و قدكان رجال الدين في حركة دائمة مع الجنود، يعقدون جلسات الصلاة يوميا، و يشرفون على مواساة الجرحى ويصلون على الموتى في ساحة المعركة وفي هذا الإطار يقول – توماس بايرز-« إن الولايات المتحدة الأمريكية اليوم أكثر الأمم المتقدمة تدينا بأشواط كبيرة…فاليمين المسيحي الأمريكي يتمتع بسلطة كبيرة على الشعب الأمريكي » .
هذا اليمين المسيحي الذي تكمن جذور أفكاره الدينية اليمينية الحديثة في التطور الفريد للبروتستانتية الأوربية، وبخاصة فيما يتعلق بالمعتقدات القدرية وعلاقة أمريكا بالتدبير الإلهي، هذا الاعتقاد أدى إلى بروز مجموعة من الجماعات والمنظمات الضاغطة ذات الطابع الديني، التي أصبحت تتمتع بنفوذ كبيرة داخل الولايات المتحدة الأمريكية، بحيث تعتبر من الفاعلين الأساسيين في السياسة

الأمريكية، بعدما كان تدخل رجال الدين في الشؤون السياسية محدودا، إن لم نقل معدوما في معظم الأحيان .
وللإشارة فإن دراسة الظاهرة الدينية بأمريكا، ومدى تأثيرها على صناعة السلوك السياسي الأمريكي الخارجي، يستوجب رصد أهم المراحل التي قطعها التفكير الديني في أمريكا منذ استيطان الآباء الأوائل في العالم الجديد(المبحث الأول).غير أن هذا المسار الذي رسمه الدين في الحياة اليومية للإنسان الأمريكي سيفضي إلى״بلقنة״ الوضع الداخلي الأمريكي من خلال إطلاق العنان لتناسل المذاهب والمنظمات الدينية التي تسعى إلى تمجيد دور أمريكا الحضاري المتمثل في تخليص العالم وتحضيره لبناء مملكة الرب الكبرى –كما يعتقدون- (المبحث الثاني).

المبحث الأول: مسار تطور المسيحية الصهيونية الأمريكية
لقد شكل الفكر الديني أهم الخصال التي بني عليها المجتمع الأمريكي، فالأفكار الدينية التي حملها البيوريتانيون إلى أمريكا شكلت الإطار العام لأغلب تحركات الآباء المؤسسين، وعليه كما يقول جيمس فن :« لا أحد يستطيع أن يفهم أمريكا وحرياتها إلا إذا وعى وتفهم التأثير الذي باشره وما زال يباشره الدين في صنع هذا البلد .. » سواء على مستوى الالتزام الأخلاقي الديني للأفراد والعلاقات الاجتماعية التي ترتبت عنه (المطلب الأول)أو على مستوى صناعة السلوك السياسي الخارجي لأمريكا وفق الدور الحضاري الذي ارتضوه لها. (المطلب الثاني).

*المطلب الأول: الأصول العقدية التي بنيت عليها أمريكا.
يعتبر الدين أحد الركائز الأساسية التي قامت عليها فكرة أمريكا، فقد استلهمت جل حركاتها وسكناتها، ومعظم إسقاطاتها من العهد القديم ، وبذلك نمت مع أمريكا منذ تأسيسها حركة دينية أصولية، ألقت بضلالها على شتى مناحي حياة الإنسان الأمريكي، بل إن إشكالية العلاقة بين الدين والسياسة قديمة قدم المشروع الأمريكي لا ينتهي الجدل بشأنها .

ففكرة أمريكا ليست في الأصل إلا التطبيق العملي للفهم البريطاني لحكايات العبرانيين، وأساطير إسرائيلهم في الكتاب المقدس، فالمهاجرون الأوائل ظنوا أنفسهم بل سموا أنفسهم إسرائيليين وعبرانيين ويهودا، وأطلقوا على العالم الجديد اسم أرض كنعان وإسرائيل الجديدة ، فهم كما يقول “لي فريد من”:« يريدون أن ينشئوا في أمريكا دولة تيوقراطية تعيد سيرة اليهود التاريخيين، فالخطباء استمدوا نصوص خطبهم من العهد القديم، وأما الآباء فقد استعاروا منه أسماء أولادهم …وكان تاريخ اليهود في العهد القديم قراءاتهم اليومية، بل لربما كانوا يعرفونه أكثر مما يعرفون تاريخ أي شعب ».
وبهذا فكريستوف كولومبس كانت تحكمه رؤية دينية أثناء مغامراته التي قادته إلى اكتشاف العالم الجديد. فهو يعتقد أن« الله جعله رسولا للجنة الجديدة و الأرض الجديدة بعد أن حدثه بها يوحنا المقدس في سفر الرؤيا ..، فقد كان يعتقد بأن مغامراته تأتي ضمن إرادة الرب » .
فالرؤية الدينية التي توجه المستوطنين الأوائل سيجسدونها على أرض الواقع « بتأسيس أول مستعمرة على ساحل فرجينيا التي صيغت قوانينها ونظمها من قداس ديني بكنيسة جيمس تاون سنة 1619، وهم يأملون في إنشاء مملكة الرب ونشر البروتستانتية البيوريتانية بعيدا عن أنظار كنيسة انجلترا الأنجليكانية، وتحكم العائلة الملكية في انجلترا .» .وبذلك فإن اكتشاف العالم الجديد وبناء المستعمرات الجديدة يمكن اعتباره بمثابة تصدير الأزمة التي كانت تعيشها انجلترا إبان التمرد الذي قاده كرومويل الذي استطاع أن يضم إلى صفه أصوات البيوريتانيين الذين فشلوا أنداك في تطهير كنيسة انجلترا، وبديهي ألا يكون هذا الخروج والهجرة إلى العالم الجديد بريئا، فتمثلوه على غرار خروج اليهود من مصر هروبا من ظلم فرعون، ورحيلهم إلى أرض الميعاد التي وعدهم بها الرب . فقد كانوا ينظرون إلى أنفسهم نظرة خاصة وهم يكتسحون أرض الميعاد ( العالم الجديد) وهم يستنسخون فكرة إسرائيل التوراتية التاريخية ويتقمصون شخصيات أبطالها. إن هذا الاعتقاد دفعهم بالتعهد والالتزام مع الرب على غرار ما فعله العبرانيون مع يهوه حيث أكدوا أنه:« إذا أَََََمَّنَ الرَّبُُّّ ذهابنا إلى العالم الجديد سنؤسس مجتمعا تحكمه القوانين الإلهية».

ومن هذا المنطلق يؤكد الأب البروتستانتي جون كوتون:”إن الرب حين خلقنا ونفخ فينا روح الحياة أعطانا أرض الميعاد (أمريكا)؛ وما دمنا الآن في أرض جديدة فلا بد من بداية جديدة للحياة نعمل فيها من أجل مجد هذا الشعب المختار” . ففكرة العهد اللاهوتي تخمرت في أذهان البيوريتانيين الأوائل فجعلتهم مكلفون بمهمة خاصة من الرب قدرها لهم؛ هي تحضير العالم وفك قيوده من أغلال الشيطان ونوازع الشر. وبديهي أن تجد هذه النمطية في التفكير آثارها على أرض الواقع؛ حيث اعتبرت المبرر الأساسي لجرائم البيوريتانيين التي ارتكبت في حق شعوب العالم الجديد كشعب كونوي وجيرانه من شعوب “بوهاتان”و”توسكاروا” و”مونتوك” و”نانتوك” وغيرها من الشعوب التي سلخت من أسمائها وأبيدت ودفنت مدنها وحواضرها وقراها تحت ما سار يعرف أولا “بإسرائيل الله الجديدة” ثم “انجلترا الجديدة” و”أمريكا” فيما بعد .
بهذه الخطوات زحف المجتمع البيوريتاني الذي أراد أن يحول العالم الجديد إلى دولة شبه تيوقراطية ترعاها إرادة الله و تبارك خطواتها ليتجدر بذلك الاعتقاد بأن أمريكا أرض الميعاد وأن ساكنيها الجدد يلزم عليهم أن يكونوا في مستوى أبناء إسرائيل وبذلك «ظل أول من وضعوا النظريات الكونفدرالية مثل القس دانا يؤكدون على أن الشكل الوحيد للحكومة التي أسسها الرب بطريقة واضحة كانت حكومة العبرانيين، كانت تلك جمهورية كونفدرالية ويهودا رئيسها » .وعليه فولادة الجمهورية أعطاهم تصديقا على أن هذه المسيرة التي تجند لها البيوريتانيون الثوار ترعاها يد الله وتباركها حيث أن « آلام ولادة الثورة التي أدت إلى الاستقلال، أيقظت أبناء المستعمرات على رسالة جديدة في المجاهل. وبذلك تحولت إسرائيل الله إلى جمهورية، وصار القدر الاستعماري قدرا وطنيا متجليا » . فالآباء الأوائل المؤسسون للدولة الأمريكية مثل جفرسون، أدامس، فرانكلين، جاين لم يكونوا معزولين عن التوراة لحظة تأملهم في نمط الحياة الذي يلائم مملكتهم الجديدة وهم بذلك يسقطون

نواميس التوراة في بنود وثيقة الدستور الأول لأمريكا من خلال التأكيد على وجه الشبه بين ما نزل على موسى من ألواح وبين ما نزل على قلب واضعي اللبنات الأولى للدستور الأمريكي ، وهم بذلك يغالون ويستطردون في التشبيه والقياس بين شريعة موسى والدستور الأمريكي؛ وبين بني إسرائيل والأمة الأمريكية، ولا غرابة بعد ذلك أن تجد صامويل لانغدون يفتتح كلامه بمناسبة ميلاد الدستور الأمريكي بهذا النص المستلهم من أسفار التوراة حيث يقول :« أنظر لقد علمتكم فرائض وأحكاما كما أمرني الرب إلهي لكي تعملوا هكذا في الأرض التي أنتم داخلون إليها، لكي تمتلكوها، فاحفظوا واعملوا لأن ذلك حكمتكم وفطنتكم أمام أعين الشعوب الذين يسمعون كل هذه الفرائض فيقولون : هذا الشعب العظيم إنما هو شعب حكيم وفطن .

في الحقيقة إنه شعب حكيم وفطن استطاع أن يخرج من كماشة الكنيسة الأنخليكانية وأن يجعل حرية العبادة وعبادة الله كما يشاء المرء دون وساطة بين الإنسان وربه، إنها مرحلة عصمة الكتاب المقدس دون غيره »
وبهذا أصبحت الشخصية الدينية تعتمد على الفردانية في إطار ما يسمى״ بالدين المدني״ أو الإنجيل الاجتماعي، وأصبح المواطن الأمريكي أمام إلتزامين؛ إلتزام نحو مذهبه الذي يؤمن به ونحو قيم المجتمع التي أصبح ملزما للانصياع لها، ولعل السبب في هذه الفردانية هو التنوع الكبير في المذاهب في صفوف البيوريتانيين على شكل أبرشيات مستقلة لكل واحد منها نسقها وطابعها الخاص إضافة إلى مزاحمة الكنيسة الكاثوليكية للكنيسة البروتستانتية من أجل تجنيب الدولة الناشئة الأهوال التي قد يسببها الإعلان عن دين رسمي للدولة من خلال صدام ديني بين الطوائف، وبذلك يكون الآباء الأوائل المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية قد استفادوا من جيرانهم الأوربيين الذين أنهكتهم الحروب الدينية (1648-1618).إذ أسروا على استقلال الكنيسة عن الدولة وعن الكنيسة الأنجلكانية، ليس لهدف إقصاء وإبعاد الدين وفصله عن الحياة السياسية كما حصل في أوربا، وإنما لهدف حماية الدين نفسه من  الدولة، وهذا ما دافع عنه ˝جيمس ماديسون˝ قائلا :« السلطة المدنية يجب إبعادها عن تقرير المسائل المتعلقة بالاعتقاد والعبادة، وأن أعضاء المجلس التشريعي لا يملكون الحق أو افتراض الحكمة لوضع أنفسهم كقضاة للحقيقة الدينية.» وبذلك استجاب التعديل الأول للدستور لهذا النسق الفكري بإقامة جدار فاصل بين الدولة والكنيسة من خلال إقحام عبارة توماس جيفرسون الشهيرة « لا دين رسمي ولا كنيسة رسمية» كبند من بنود الدستور الجديد؛ وبذلك تكون المسألة الدينية أول موضوع يدفع بالآباء المؤسسين إلى تعديل الدستور من خلال السماح بأقصى حرية للفرد المتدين بعيدا عن تسلط الدولة، كل هذا في الحقيقة زاد من تعميق الاعتقاد بالرسالة الإلهية الملقاة على عاتق البيوريتانيين في إنشاء مملكة الله، وهذا ما يتطلب منهم إظهار سمو روحي يجعلهم في مصاف بني إسرائيل التي تحكي أسفار العهد القديم عن طهرا نيتهم، ومباركة الإله يهوه لحركاتهم، إن هذا الطموح والرغبة في السمو الروحي سيجد تجسيده في سلوكات المهاجرين الأوائل، فغداة الاستقلال وفي محاولة لاختيار تصميم لخاتم أمريكا جعل فرانكلين كتصميم لخاتم أمريكا “صورة موسى رافعا يده ، والبحر الأحمر متفلق وفرعون في عربته تبتلعه المياه مع شعار التمرد على الطغاة طاعة لله » أما جفرسون فاقترح رسما لبني إسرائيل في التيه يرشدهم السحاب في النهار وعمود النار في الليل، وعبر عن هذا بصراحة في إحدى خطبه بقوله :

إنني بحاجة إلى فضل ذلك الذي هدى آباءنا في البحر كما هذا بني إسرائيل وأخذ بيدهم من أرضهم الأم ليزرعهم في بلد يفيض بكل لوازم الحياة ورفاه العيش ،وهم يسقطون حكايات العبرانيين وسيرة موسى وأسفار العهد القديم والتلمود والأفكار القبلية على واقعهم من خلال صياغتها صياغة تستجيب لمتطلبات العالم الجديد ومن هذا لا يمكننا أن نفهم تأسيس مجلس الشيوخ إلا باعتباره استمرارا لما فعله موسى عندما اشتكى إلى يهوه أنه لا يطيق الحكم وحيدا فأمره باختيار سبعين رجلا من الحكماء والرتباء . وتجدر الإشارة إلى أن حركة الإصلاح الديني و العودة إلى الكتاب المقدس و بالأخص العهد القديم قد فتحت المجال لأساطير صهيونية لاختراق المسيحية عبر التفسيرات الحرفية للثورات، وبذلك

أخذت اللغة العبرية باعتبارها لغة الثورات مكانها بين اللغات العالمية، واعتبرها الإصلاحيون مفتاحا ضروريا لفهم محتوى التوراة، وبذلك انتشرت العبرية والدراسات اليهودية في الجامعات إلى درجة انه لم يعد أحد يرفض التفسير اليهودي للعهد القديم وبالخصوص التفسير المتعلق بأرض الميعاد واستعادة اليهود لفلسطين، إضافة إلى إشاعة فكرة أن إسرائيل الواردة في العهد القديم تعني كل الجماعات اليهودية في العالم التي وعدها الرب للعودة إلى فلسطين». هذا الوعد بإيفاء النبوءة بإعادة اليهود إلى فلسطين وذلك ليس حبا في اليهود، بل من أجل الوعد الذي أعطي لهم» هذه العودة التي يجعلها الإصلاحيون شرطا واقفا لبداية الألفية الثالثة بتحقيق مشروع« نهاية التاريخ » من خلال وضع أطروحاتها وملاحمها من طقوس تدمير بابل وإبادة أهلها وانتظار عودة المسيح الثانية ليخلص العالم ويعم العدل والسلم والسلام في مملكته بعد القضاء على قوى الشر. وبذلك أصبح هاجس أمريكا التسريع بمجيء هذا اليوم الفاصل حيث ستقام معركة فاصلة مع الشيطان في فلسطين بعد تأسيس دولة يهودية فيها أو ما يسمونه بمعركة – هرمجدون- حرب نهاية العالم، إن هذا الفهم الذي تضفيه قراءة التوراة بفهم يهودي جعل الأمريكيين يبررون التطرف الأصولي، وبذلك فهم مثل اليهود مسكونون دائما بهاجس الخطر الذي يهدد وجودهم، وكما عبر عن ذلك روبرت فولر :

«إن الحاجة الدائمة إلى الشيطان والحديث عن خطره المصيري الذي يتطلب فلسفة أمنية متشددة تقتل بالحدس واحتياطات وإجراءات وقائية شديدة التطرف والعنف …وعلى كل حال فإن هؤلاء الأنغلوساكسون البيض البروتستانت أو ما يرمز له بـ WASPمتجدرون ثقافيا في تراث توراتي يمدهم باستعارات أسطورية لكل عماء يهددهم فما أن يتمكنوا من لصق هذه الاستعارات بحادثة أو شخص حتى يصبح سفك الدم عملا مقدسا» إن هذه الاستعارات ولدت في التفكير الأمريكي رغبة إلى تأجيج رغبة الشيطان المحيق بهم من كل حدب وصوب لما فيه من قوة محركة لعجلة التاريخ، فنهاية التاريخ الذي ستعجل أمريكا بدايته هو مؤامرة نصبتها ونسجت خيوطا قوى شيطانية خارقة. وفي هذا الصدد أكد صامويل نويل :«أن الله في علاه يبقي بعض الأمم قوية الشكيمة حرونا عنيدة عن قصد كما فعل من قبل حين أراد أن يعلم إسرائيل الحرب » وبالتالي كان لزاما على الأمريكيين الاهتمام بتراث اليهود لما فيه من إرث مشترك  يستمدون منه تعاليم فك لغز «نهاية التاريخ» وعودة المسيح .ومما لاشك فيه أن هذا الاعتقاد أعاد الاعتبار لليهود في فكر البيوريتانية وكذا الرفع من مكانة اللغة العبرية والسمو بها إلى مصاف اللغات العالمية بل أكثر من ذلك كانت هي اللغة الأم في مجموعة من المستوطنات الأمريكية الأولى إذ أن أول كتاب نشر في العالم الجديد يهودي العنوان هو- pay psalm- وهو ترجمة مباشرة لسفر المزامير وكانت العبرية ضمن الموضوعات الإجبارية في الجامعات حيث أن من بين أول الأطروحات التي قدمت في 1642 أطروحة جامعية بعنوان – العبرية هي اللسان الأم- وقد كانت البروتستانتية البيوريتانية في تلك الفترة أكثر تعصبا لليهودية من اليهود أنفسهم. حيث أصبحت المسيحية الأمريكية مطبوعة بصبغة يهودية إنها – مسيحية يهودية – ارتكزت على مقولتي أرض الميعاد والشعب المختار التي شكلت أساس استعمار أمريكا واستعمار فلسطين فيما بعد. فالصبغة اليهودية للمسيحية دفعتها منذ البداية إلى المطالبة بوطن قومي لليهود في فلسطين قبل أن يدرج هذا في جدول أعمال الحركة الصهيونية.
وكما يقول سيليج أدلر :«إنه منذ فجر التاريخ الأمريكي كان هناك ميل قوي للاعتقاد بأن مجيء المسيح المنتظر لاحق لعودة اليهود إلى فلسطين…كان يشكل جزءا من مصفوفة التاريخ الفكري الأمريكي التي كانت تتضمن دائما خيطا من العصر الألفي السعيد في الفكر المسيحي الأمريكي» .
إن هذا الاعتقاد سيتعرض لأكبر هزة في تاريخ الأمة الأمريكية غذاة الثورة الفرنسية التي هيجت في أمريكا حركة علمانية عقلانية معادية للدين التقليدي واعتبرته «إمبراطورية الخرافة »إلا أن الصحوة الدينية العظمى الثانية* أعادت إلى الأذهان الرسالة الكبرى للبيوريتانية في إقامة مملكة الرب، وانتشرت بذلك« العقيدة الميللية »وظهرت كنائس جديدة على أساسها، حيث دعا ويليام ميللر على غرار ما ذهب إليه القس شارلز فيني على أن عودة المسيح الثانية بين 21مارس 1843و12 مارس 1844 اعتمادا على سفر دانيال . إلا أن عدم تحقق هذه النبوءة لميللر خلق خيبة أمل لدى الجمهور الأمريكي المتعطش إلى حياة الألفية السعيدة. إن المسيح سيعود باعتبار ذلك تدبيرا إلهيا بعد توقف  التاريخ، وستكون النهاية بمعركة هرمجدون قبل المجيء الثاني للمسيح وستكون إحدى علامات نهاية التاريخ الممهدة لهذه المعركة عودة اليهود إلى فلسطين إنه حلم إقامة مشروع مملكة الرب التي يعم فيها الأمن والسلام والعدل و« أن تؤسس على الأرض أنبل معبد تم بناؤه لتسبيح وعبادة الأعلى والأقدس والحق وستكون أرضه عبارة عن نصف الكرة الأرضية وسقفه السماء المرصعة بالنجوم.. وجنوده من المصلين عبارة عن اتحاد من جمهوريات عديدة تضم مئات من ملايين السعداء.» إنها معالم كبرى مما لاشك فيه ستكون المؤطر الأساسي لحركات وسكنات الشعب الأمريكي سواء في مواجهة معيقات الارتقاء الروحي للأفراد ثم تبديد عوائق إقامة مملكة الله في علاقتهم بالآخر ومواجهتهم لشعوب العالم .

المطلب الثاني: السياسة الخارجية كأداة لفرض القيم والنموذج الأمريكيين.
رأينا فيما سبق كيف أن حركة الإصلاح الديني بزعامة مارتن لوتر لخصت شعارها في العودة إلى الأصول، أي العودة إلى حرفية الأسفار المقدسة، ورأينا أيضا كيف دفعت هذه العودة الآلاف من البيوريتانيين إلى العالم الجديد باعتباره أرض الميعاد وطلبا للحرية الدينية، وما صاحب هذه المغامرة من إسقاط حكايات وأساطير الكتاب المقدس على أنفسهم، حتى:« أصبح يهوه إلها اليهود إلها للمسيحية وحل أبطال العهد القديم، وأنبياؤه محل قديسي المسيحية » .
وبذلك نما في أمريكا هذا التيار المسيحي وهو يشق طريقه بقوة وينظر إلى المستقبل بعين النبوءات التي يزخر بها العهد القديم ويرى لزاما عليه أن يساهم في تحقيقها ، فإنهم إنما يتصرفون بمشيئة الله وإرادته، فرغم أن المواطن الأمريكي حر في أن يعتنق دينا ما أو يرفضه أو حتى يرفض جميع الأديان، ورغم أن الدستور بنص صريح أقام جدارا فاصلا بين الدين والدولة، فرغم كل هذا تبقى المسيحية هي الديانة الأولى في الولايات المتحدة الأمريكية وأن المذهب الرئيسي فيها هو البروتستانتية.كما ينبغي أيضا إدراك أن للدين تأثير قوي في مسيرة التاريخ الأمريكي، نلمحه في تطور نظام الحكم والتداول على السلطة، كما نلمحه في نمط العيش وما يلازمه من سلوكات وعادات وحركات دينية مختلفة ومتشعبة تتمتع بشعبية كبيرة وتأثير قوي ومستمر في الفكر الأمريكي، والسياسة الأمريكية، إلا أنه بات لزاما علينا ونحن ننبش في تاريخ المجتمع الأمريكي أن نقف عند أهم التطورات الدينية والسياسية والاجتماعية التي شكلت النسق الفلسفي للفكر الأمريكي، وبخاصة الأفكار والأحداث التي ساهمت في تكوين بنية الفكر الديني في مرحلته الأولى ولعل الهدف من دراسة هذه الأفكار والمفاهيم والأحداث وتعقب مسار هذا التراث عبر التاريخ الأمريكي هو الوقوف على مدى تأثيرها في صياغة وتوجيه سلوك أمريكا الثقافي والسياسي نحو العالم .وبعودتنا إلى سلوك وكتابات العديد من الآباء المؤسسين نجد مدى اعتقادهم بوجود خطة إلهية من تدبير الإرادة الإلهية، والتي نجد جذورها في سفر صامويل الثاني من الكتاب المقدس إذ ينص: « وعينت مكانا لشعبي إسرائيل فسكن في مكانه ولا يضطرب بعد »، فالآباء  المؤسسون في نظر ״كوتون ماذر ״كان هدفهم الوحيد هو حمل مسؤولية تنفيذ قضاء الله، هذه المسؤولية التي رفعتهم فوق الأمم وجعلت بركة الإله تصحبهم في مسيرة السبي والمذابح والإبادة المقدسة، فجورج واشنطن في خطاب تعيينه رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية أكد أنه:

« لا يوجد شعب أكثر جدارة من شعب الولايات المتحدة بألا يملك إلا أن يشكر ويعبد اليد الخفية التي تقود شؤون الإنسان، كل خطوة قادته إلى طريق الاستقلال الوطني تحمل في طياتها علامة التدخل الإلهي » إن تدبير الإرادة الإلهية التي عبر عنها واشنطن «باليد الخفية» هي التي ستشكل المبدأ الأساسي لسلوك أمريكا السياسي والاقتصادي مستقبلا حيث عبر بها- آدم سميت- في الاقتصاد عن القانون الأساسي للتجانس بين المصالح الشخصية والمصلحة العامة، إنها في الحقيقة مصلحة مملكة الرب التي كانت موجودة في عقل الله لأهداف عظيمة ومحددة منذ بداية الخلق، إنها خطة إلهية بهدف تنوير وتحرير جزء من البشرية التي لا تزال تعاني من الاستبداد ..فأمريكا خلقت بيد الله من أجل أن تكون المسرح، حيث على الإنسان أن يصل إلى وضعه وقيمته الحقيقية، كما عبر عن ذلك جون أدمز، وبعد هذا لن تستغرب إن سمعت عن نيكسون يقول : «الله مع أمريكا، الله يريد أن تقود أمريكا العالم » .

فعلى ظهر كل  دولار أمريكي طبع تصفعك صورة جورج واشنطن وبجانبه عبارة « في الله نثق » هذه الثقة في الإرادة الإلهية جعلت البيوريتانيين يعتقدون أنفسهم طرفا في علاقة تعاقدية مع الله، اختارهم واصطفاهم، دون غيرهم لأنهم شعبه المختار وألزمهم رسالة تخليص وتنوير بقية أمم العالم وهدايتها وتحريرها من قبضة الشيطان، بمباركة من الإله لمسعاهم على أمل العيش في مملكة الرب السعيدة .إن هذه الشريعة التي في الأساس عقيدة تعاهدية جعلت كما يقول – جون بريستون : «إن مبدأ العهد هو أساس كل أمالكم وهو الأساس الذي نشأ عليه كل إنسان، ليس أمامكم من مبدأ سواه، فقد عقد الله عهدا معكم وأنتم طرف في هذا العهد معه» هذا العهد الذي ألزمكم بمسؤولية نشر الكتاب المقدس، لذلك دعا ووستر المبشرين بقوله : «إذهبوا ومن أعالي كالغازي، وجبل صهيون، أعلنوا لقبائل إسرائيل في التيه، ولأتباع  النبي الزائف، ولجميع شعوب الأرض أن ينبوع النور قد تدفق لتطهير جميع الأمم، وأن الراية قد رفعت لتلتف حولها » .

ولا شك أن حركة التوسع الاستيطاني التي شهدتها أمريكا هي أساس النماء الاقتصادي الأمريكي، وأن رغبة النماء وتحقيق حلم بناء إمبراطورية الكونية يستوجب استمرار التوسع وعدم إطفاء نار الحرب حيث انه لابد« من شق قناة لهذا التوسع عبر المحيط، والاستفتاح بضم الجزر والبلدان القريبة، إنها حتمية الولادة الأبدية للثغور التي تتقدم باستمرار وحتمية الولادة الأبدية للمياه الأمريكية على هذه الثغور والجبهات التي ستصل الغرب بالشرق لتكمل شمس الحضارة الأنغلوساكسونية دورتها حول الأرض» إن هذه العقيدة تلازم الأمريكيين وما من مرة عبر عنها رؤسائهم، فالرئيسي ماكلني ذهب لغزو الفلبين من أجل «رفع شأنهم وتحضرهم، وتحويلهم إلى المسيحية * » بل إن الرئيس تافت عندما قم بغزو المكسيك أعلن “« يجب علي أن أحمي شعبي وممتلكاته في المكسيك حتى تفهم الحكومة المكسيكية أن هناك إلها في إسرائيل تجب طاعته» إنها ولادة أبدية للحياة الأمريكية على كل الثغور والبقاع فالعالم كله مجاهل وأن قدر أمريكا الذي لا ينازعها فيه أحد أن تملك منه ما تشاء من أرض لأن ذلك حقها الطبيعي ، ولأن إله الطبيعة والأمم هو الذي أورثها هذه الأرض وجعلها كائنا حيا لا يتوقف

عن النمو» إن هذا الاعتقاد في فكر الأمريكيين الأوائل قد تطور بعد وصول حركة التوسع الاستيطاني نحو الغرب بانتهاء الجبهة القارية الداخلية لما وراء المحيط حيث «ضل الغرب يفر أمام زحفهم ويتراجع إلى أن لم يبقى أمامهم من غرب وإلى أن صار عليهم أن يخترعوا لزحفهم غربا آخر ولو في أول الشرق» .
فالعناية الربانية جعلت البيوريطانيين يعتبرون المصير المبين الذي قدره لهم الرب بأن وهب لهم إسرائيل الحديثة – أمريكا – وما يفرض ذلك من عمل وحركة وتقدم استيطان تجاه الغرب ، أي غرب في أي مكان من الأرض قصد ابتكار مجتمع جديد بأمر من الرب يكون فيه«عالمنا كله يعيش تحت رحمة  ما فيا كولمبس الذي أوصى باستثمار ذهب في تحرير أورشليم » حيث تناسلت في الثقافة الأمريكية حب التملك والاستزادة فأصبح كل فرد تتحدد مكانته دينيا ودنيويا بالعمل، حتى أن العمل سيصبح فيما بعد تجسيدا حقيقيا للفضيلة قصد تحقيق الثروة والعيش في الفردوس الأرضي. إن البيوريتانية «وضعت الأمريكي وجها لوجه أمام مصيره مثلما وضعته وجها لوجه أمام الله» كما أكد هارولد لاسكى، فأصبحت البروتستانتية الأمريكية دين العمل في محاولة لخلق توافق مع الفردية الأمريكية ، فالفرد مسؤول عن أعماله ومصيره دون تدخل أي طرف ، فلا وساطة بينه وبين الله وليس هناك من يمنعه من تفسير النص المقدس . وفي هذا الصدد أكد والتر سكوت ويب – أن الأمريكي قد اتبع فطرية “دعه يعمل…دعه يمر” قبل حوالي قرن من اعتمادها وصياغتها من طرف آدم سميت .ومما لاشك فيه أن الفردانية ستنعكس على الكنيسة البروتستانتية حيث أنه«تعددت المذاهب بين معمدانيين بيض وسود، ومورمون، ومشيخيين ، ومنهجيين، وأسقفيين، وكويكرز، وشهود يهوه، وتتكاثر الجماعات الدينية والنحل لتتجاوز 3500جماعة دينية » . وأصبح بذلك« السوق السوق القومي للدين» الأمريكي مفتوحا أمام حرية التنافس بين شبكات وجماعات دينية كنسية على نفس الشكيلة التي تعرفها  السوق الإقتصادية من مضاربات .وأكيد أن الحرية الدينية والتعددية المذهبية ستشكل أساسا للتقاليد الديموقراطية في الممارسة السياسية الأمريكية في إطار تدبير الإختلاف عن طريق التعددية السياسية.

لقد انسجمت البروتستانتية الأمريكية مع أفكار ومفاهيم كالحرية الفردانية والسوق الحرة والديمقراطية، وبالتالي فالتاريخ الأمريكي راكم تجربة داخلية أكثر براغماتية من خلال تفشي البعد الديني في الحياة العامة على شكل اعتقادات وطقوس وممارسات عامة خارج إطار الكنيسة. وفي موازاة مع الممارسات الكنسية. إن هذه التجربة التي تعلي من مصلحة الفرد الأمريكي الأنكلوساكسوني الأبيض بوصفها قيمة فوق كل القيم لا تؤمن إلا بالنتائج العملية الملموسة كما ساهمت هذه التجربة أيضا بفضل تراكم مجموعة من السمات التي حدده الآباء الأولون للفرد الأمريكي من تشكيل الشخصية الأمريكية النموذجية. هذه السمات هي التي ستحدد المبادئ الكبرى للسياسة الأمريكية تجاه الآخر، الأمر الذي يجعل من الشخصية والسياسة الأمريكية خليط من المفاهيم المتناقضة التي استطاعت أن تؤسس لسياسة القوة لدى إمبراطورية المتناقضات حتى ضلت في أغلب أحيانها تنظر الى ذاتها كأمة قوية للغاية تستحق أن تقود العالم بل وأن تتملكه. وفي ضل هذا يؤكد «أوجيني في روستو»:”«نحن ننجدب إلى المبادئ المتعارضة بحماسة متساوية ونتمسك بها بعناد متساو ، هل يجب أن سياستنا الخارجية على القوة والأخلاق ؟ الواقعية أو المثالية ؟ البراغماتية أو المبدأ ؟ وهل ينبغي أن يكون هدفها حماية المصالح أو تشجيع القيم ؟ وهل يجب أن نكون قوميين أو عالميين ؟ ليبراليين أو محافظين ؟ ونجيب بخليط من الفرح والسذاجة، كل ما سبق ذكره » .إن هذه المبادئ التي أصبحت تقليدا أصيلا هي التي تشكل دعامة المعجم الدائم لخطب الآباء الفاتحين وأحفادهم من بعدهم حيث استطاعت أن تجد صداها لدى عامة الأمريكيين في سيرتهم الحضارية لمشروع نهاية التاريخ ، لا لشيء إلا لأن أمريكا الأمة هي« إسرائيل التوراة »التي ساقتها الخطة الإلهية الى قيادة العالم طالما حفظ شعبها وصايا عهدهم القديم، وبذلك فحركات وسكنات السياسة الخارجية الأمريكية تكون في سياق إنعاش هذه المفاهيم التي تربطها ارتباطا وثيقا بالفضيلة والإيمان .

إن تتبع السياسة الخارجية الأمريكية يفصح عن مجموعة من التقاليد والمفاهيم التي تقود وتوجه ديبلوماسييها، فالأمريكيون « يملكون كتابا مقدسا للشؤون الخارجية، استغرق تقنينه قرنين وانقسم الى عهدين كل منهما » من أربعة كتب، عهدنا القديم ساد على الجانب الأكبر من ممارساتنا الدبلوماسية منذ 1776وحتى تسعينات ق19، وعهدنا الجديد الذي سيطر على الجانب الأكبر من دبلوماسية الولايات المتحدة الأمريكية المعاصرة » .
إن هذين العهدين اللذان يحملان التقاليد الثمانية الكبرى للشؤون الخارجية سيجعلون أمريكا بالتأكيد كائنا مخلوقا للعلاقات الدولية.وإذا أردنا أن نفهم ونعي أكثر هذه الأفكار والمفاهيم التي أنعشت السياسة الخارجية الأمريكية وأطرتها لمدى طويل من الزمن علينا أن نسلم بفضل البراكماتية الأمريكية التي استطاعت بعد قرنين ونيف من الزمان أن تحصر لائحة من المفاهيم والتقاليد بدقة حيث أن «أي مبدأ أو إستراتيجية ليتأهل كتقليد أصيل يجب أن يحوز دعم الحزبين ، وأن يعمر بأبعد من المدى الذي ولد فيه ..ويكون له صداه عند عامة الأمريكيين ،حتى في الفترات التي لم يلهم فيها السياسة» .وبذلك تكون السياسة الخارجية الأمريكية من خلال هذه التقاليد قد أفصحت عن مرحلتين منسجمتين من مسار الأمة الأمريكية، صورة لأمريكا كأرض ميعاد وكهبة مهداة من الرب لبني إسرائيل في العهد القديم ، وكدولة صليبية ترعاها يد الله في العهد الجديد؛رسالتها إنقاد العالم وتحريره.

وبعودتنا إلى”الكتاب المقدس للشؤون الخارجية “من خلال رصد المبادئ الثمانية للعلاقات الأمريكية في مسار الأمة الأمريكية نجد أن البيوريتانيين الأوائل كانوا يعتقدون بأن “الحرية “هبة من الله”«لأن هذا العالم الجديد كان الملجأ للمضطهدين المحبين للحرية المدنية والدينية من كل مكان في أوربا، وإذا كان الصوت الشرعي للناس يجب أن يعلن الاستقلال فلدينا كل فرصة وكل تشجيع أمامنا لنضع أنبل وأنقى دستور على وجه الأرض؛ ولدينا من قوتنا ما يمكننا من أن نعيد بدء العالم » .إن هذا الارتباط القوي بالحرية كمبدأ من طرف امة بني تاريخها على أساس استعباد الآخر وحرمانه حتى من حقه الطبيعي في الحياة والموت، سيشكل مع بداية استقلال أمريكا دافعا أساسيا لتعزيز روح الوطنية «فأمريكا لن تذهب إلى الخارج بحثا عن وحوش لتقضي عليهم، إنها ترغب في الحرية والإستقلال  للجميع ، إنها بطلة نفسها فقط .وسوف توصي بالمصلحة العامة بالاعتماد على صوتها وبضربها المثل في تعاطفها اللطيف ..إن الولايات المتحدة يمكن أن تكون ديكتاتورية العالم، ولكنها لن تعود المسيطرة على روحها هي » .فالفهم الصحيح للحرية جعل السياسة الخارجية الأمريكية تدافع وتطعم الوحدة والحرية الداخلية للشعب الأمريكي من خلال صيانة حريات الأفراد المطلوبة للسمو والطهر الروحي، وبذلك فالآباء المؤسسون تنبهوا لما كان مستبعدا في حياتهم من انتشار الرذيلة في المجتمع الحر واستفحالها حتى أن “ونتروب”عملا بما قام به موسى في خطبة الوداع بسفر التثنية حيث حذر من أنه «إذا تعاملنا بزيف مع الرب، فإنه سوف يسحب عونه الحالي لنا ، وسنكون حكاية وموضع سخرية العالم، وسوف نخيب آمال خدام الرب ونجعل صلواتهم تتحول إلى لعنات علينا حتى نهلك في الأرض الطيبة التي نحن ذاهبون إليها» .

إنها صورة رائعة من التجانس بين الحرية كمطلب غال وبين الفضيلة كثمن لها. إنهم ينظرون إلى أمريكا “الجمهورية”-في العالم-بعيون الكتاب المقدس باعتباره النظام الوحيد الذي يعكسها دائما ويتولاها، إن هذا الإرتباط جعلهم يحسون بأنهم وحدهم دون غيرهم “شعب الله المختار” ترعاهم قدرة  الله وهم بذلك يؤسسون لنا في أكبر التقاليد في السياسة الخارجية الأمريكية “مبدأ الأحادية”إنهم بمبدئهم هذا يخشون وعيد الرب حيث يقول:«”ويل للبنين المتمردين الذين ينفذون خطة ولكنها ليست خطتي، والذين يسعون الى تكوين عصبة ولكنها ليست من روحي، والذين ينهبون لينزلوا الى مصر ولم يطلبوا نصحي، ولم يسألوا في» وعلى غرار هذا النص المقدس أسقط جورج واشنطن معانيه ليعظ به أتباعه بقوله:«لتضع ثقتك في الحلفاء خصوصا أولئك الذين هم أقوى منك ، ففي أفضل الأحوال سيجعلونك قطعة شطرنج في ألعابهم، وبالعكس عليكم أن تثقوا في الرب وفي أنفسكم في تعاملكم مع الغرباء، ولا تكونوا بعيدين في الحماية التي تكفلها العناية الإلهية الكريمة » . إن الذاكرة الأمريكية لن تنسى سياسة الحياد التي تشبع وعي الجمهور الأمريكي بها وأضحى يؤرخها على قطعة الدولار الأمريكي الذي زين بصورة واشنطن وبجنبه عبارة “في الله نثق “، وبذلك كان هم أمريكا أن تبتعد بوضوح عن النزاعات الأوربية صونا لمصالحها وضمان لحرية أفرادها. وقد عبر عن هذا “إيول بومفريت ” في رسالة إلى مجلس اللوردات *عام 1755إذ أكد: «أن الطبيعة فصلتنا عن القارة – أوربا-، وكما أنه ما من أحد ينبغي أن يسعى لفصل ماربطه الإله الأعظم، فلا أحد ينبغي أن يسعى لربط ما فصله الإله الأعظم » .

هذه الحرية الكاملة للحركة الأحادية جعلت أمريكا تنظر إلى العالم بعين الاحتراز، وبسياسة هادئة كمرحلة أولى لاستكمال عرش هذه الأمة الشابة إنه بعد النظر الثاقب الذي عبر عن دهاء الآباء المؤسسين، وقد عبر الوزير السويسري عن هذا عندما قال لجون آدامز الرئيس الثاني لأمريكا :–«سيدي إنني أعده أمرا مسلما به أنك سوف يكون لديك الإحساس الكافي لترانا في أوربا يقطع كل منا رقبة الآخر، بينما تراقبنا بهدوء فلسفي» وبذلك يمكن اعتبار المصلحة الأمريكية تستلزم البعد بقدر الإمكان من اشتباكها مع سياسة وتناقضات الآخرين وخاصة الأوربيين حيث أجمع جل الآباء الأوائل على أن آلام وجراح أوربا يجب أن تبقى خارج الإرتباط العاطفي بالسياسة الأمريكية، بل استطاعوا أن يقنعوا الشعب الأمريكي بأن سعادته الحقيقية في ألا يكون مرتبطا بالمصالح الأوربية والسياسة الأوربية وقد عبر عن هذه القناعة جون أدامز كويني بقوله : «هل هان الإخلاص البطولي والجود بالنفس من آلاف الأصدقاء  والإخوة الذين أقبلوا على التضحية عند الهيكل المقدس للاستقلال الأمريكي ، حتى يتبخر ذلك الاستقلال لفقعات ينفخها النفوذ الأجنبي فتتطاير كالهباء ويتلاعب بها طبقا لمصالحه وأهوائه ..الهلاك للأمريكي التي تكون روحه قابلة للخضوع لمثل هذه العبودية المتدنية» إن هذا المبدأ العام للسياسة الخارجية جعل أمريكا تتحدى التهديدات الخارجية بل أكثر من ذلك فهي أصبحت تفرض احترام حيادها وذلك من خلال قدرتها على اختيار السلام أو الحرب ليس كما يقرر الآخر بل طبقا لمصالحها ، وبذلك فالحقيقة التي تفهم جيدا هي أن الأمريكيون استطاعوا أن يجعلوا رايتهم محترمة بل ومخيفة في بعض الأحيان .إن الثقة في الله دون غيره جعل هاملتون يشير على أنه«من الحماقة أن تطلب أمة من أخرى معروفا لا يتفق مع مصالحها، ولا يتم هذا إلا بالتنازل عن جزء من استقلالها ..ليس هناك خطأ أعظم من أن تتوقع امة –أو تعمل حسابها – على مساعدة أو جميل من دولة أخرى » .فضمان استقلال أمريكا وحريتها الداخلية يفرض عليها أن تنأى بنفسها عن حروب أوربا وأطماعها غير أن هذا لن يجعل أمريكا في أمان ما لم تحرص على عدم انتقال القوى الأوربية إلى أمريكا، وبذلك فكرت منذ البداية في

صياغة “نظام أمريكي” فريد تضمنته الرسالة التي وجهها الرئيس الأمريكي جيمس مونرو إلى الكونغرس عام 1823، حيث أصبح هذا النظام في ما بعد يعرف بمبدأ مونرو، وهو بذلك يسعى إلى حماية المصلحة القومية لبلده ضد “الحلف المقدس” الذي تشكل في أوربا بعد هزيمة نابليون، فمؤتمر فيينا* الذي أعاد بناء نظام أوربا من جديد وما يعنيه هذا كله لأمريكا ومصالحها، فأوربا الموحدة الرجعية يمكن أن تشكل تحديا قويا للمصالح الأمريكية، وبذلك فالنظام الأمريكي الذي أعلنه مونرو وهو الإعلان عن تصميم أمريكي محكم للدفاع عن أي مصالح قومية حيوية آنية أو مستقبلية على الشق الغربي للمحيط الأطلسي.وفي الحقيقة فإن هذا النظام يجد جذوره في فكر الآباء الأوائل. حيث أكد أدامز في رسالة الى مجلس الشيوخ يقول فيها: «..ألم يحن الوقت للأمم الأمريكية لإبلاغ السادة الأوربيين بأن القارتين الأمريكيتين لم تعودا مفتوحتين أمام إقامة مستعمرات أوربية جديدة » .وأكيد أن هذا الإعلان سيثير حفيظة الضفة الشرقية للأطلسي من خلال القضاء على مصالحها في الأمريكيتين وبذلك كما يقول المؤرخ “طوماس باترسون” فإن :

«مبدأ مونرو كان يمثل دفاعا عن المثل الأمريكية، وأمن أمريكا وتجارتها  أي تأكيد المصالح القومية ..ووضع آخرون مبدأ مونرو في إطار آخر، وأشاروا إلى أن الإعلان قد يكون معناه إرفعوا أيديكم أيها الأوربيين، ولكن سمح للولايات المتحدة بأن تضع أياديها» . فأمريكا من خلال مبدأ مونرو تؤكد على أنه من أجل ضمان حرية أمريكا ووحدتها الداخلية عليها أن تنفصل عن شباك التحالف مع سياسات ومصالح الآخرين من التأثير. فهي التي تقرر حسب مصلحتها القومية. ما إن كانت ستلجأ للحرب أم تختار السلام، إن هذه الفلسفة جعلت أمريكا تزحف أمام ” المجاهل”الأمريكية في اتجاه الغرب والشرق متجاهلة مسألة الحدود، وهي بذلك تؤسس لمبدأ التوسع، المبدأ الرابع ضمن هذه الترسانة من المفاهيم التي شكلت التقاليد المقدسة للشؤون الخارجية. وبعودتنا إلى تاريخ أمريكا نجد هذا المبدأ يربطنا بمبدأ ” المصير المبين كما يعتقد جون أوسوليفان حيث أن “ميلادنا بداية لتاريخ جديد، يمكن أن تفترضه بثقة، إن مصير أمتنا هو أن تصبح أمة المستقبل العظيمة، فالمستقبل البعيد وغير المحدود سيكون عصرا للعظمة الأمريكية التي قدر لها أن تبين الجنس البشري عظمة المبادئ السماوية ..وان تؤسس على الأرض أنبل معبد تم بناؤه لتسبيح وعبادة الأعلى والأقدس والحق وستكون أرضه عبارة  عن نصف الكرة الأرضية وسقفه السماء المرصعة بالنجوم ..وجنوده من المصلين عبارة عن اتحاد من جمهوريات عديدة تضم مئات من ملايين السعداء » إنهم يجمعون بين توسيع النطاق الجغرافي الأمريكي بنشر الكتاب المقدس وتحرير الإنسان من قبضة الشيطان ومنحه نطاقا واسعا من الحرية والسعادة التي تستوجبها الأهداف العليا للعناية الإلهية الحكيمة، وبذلك تكون هذه التقاليد الأربع قد أتمت حلقة العهد القديم ومرحلة “مجاهل العالم الجديد”وأرض الميعاد مرحلة الارتباط بالرب والالتزام بعهد مرحلة شعب الله المختار الأمريكي التي وضع لها البيوريتانيون شعار :” « يجعلك الرب إلهك مستعليا على جميع قبائل الأرض، وتأتي عليك جميع هذه البركات وتدركك إذا سمعت لصوت الرب إلهك» .

إن هذه المبادئ الأربع كشفت عن تأثير فكرة أرض الميعاد على السياسة الخارجية الأمريكية من خلال تقوية شوكة هذه الأمة الشابة التي فتحت عيونها على العالم في محاولة منها لفرض قيمها وثقافتها فيما أصبح يعرف بالنموذج الأمريكي وهم بذلك يؤسسون لدولة صليبية شعارها: «فاذهبوا إذن وتلمذوا جميع الأمم » هذا الشعار الذي سيتحول إلى مبدأ خامس في السياسة الخارجية فيما يصطلح عليه بالإمبريالية التقدمية، فألبرت جي بيفريدج استحضر نفس خط السابقين وأضاف : « رفاقي المواطنين إنها أرض نبيلة التي أعطاها الرب إياها، أرض يمكن أن تطعم وتكسوا العالم ..أليست لدينا رسالة لنؤديها، واجب نتحمله تجاه رفاقنا ؟وهل منحنا الأب القدير هبات وراء صحارينا، وميزنا باعتبارنا شعبه المختار لنبلى ونتعفن – فحسب- في أنانيتنا ». وهو بذلك يدشن انطلاقة مرحلة جديدة في التاريخ الأمريكي تكون فيه الثورة الصناعية عمود السيطرة على العالم، إذ حقق الأمريكيون لأول مرة في تاريخهم فائضا في الميزان التجاري. اعتمادا على المضاربة التجارية. ومما لاشك فيه فإن هذا الفائض سيدفع الصناعيون والممولون والساسة للحديث عن الحاجة لمنافذ خارجية للطاقات والسلع الأمريكية فأصبحت فيه أمريكا في عالم تتنافس فيه الدول على التجارة والملاحة، ولم تعد تضمن سلامتها ولا سلامة نفوذها إلى الأسواق: « إنني امبريالي ببساطة لأنني لست انعزاليا »كما قال مهان، إنها امبريالية بضمير ذاتي، امبريالية تقدمية –توسعية- تولدت من إدراك الأمريكيين للرسالة الدينية ليس من خلال تعطشهم لمزيد من الأرض فحسب، فالمستعمرات لم تكن صالحة للمشاركة كليا في الحياة القومية، ولكن من خلال هذه المرحلة على العالم تعلم الطريقة الأمريكية حيث « كان الحل الإمبريالي الوسط هو السماح للعلم الأمريكي بالتقدم مع إنكار أن الدستور يتبع العلم » ونتج عن هذا في السياسة الخارجية التزام قوي بالسعي وراء أفكار مجردة مثل الحرية والديمقراطية والعدالة، وتكون بذلك قد وضعت اللبنة الأولى لتأسيس الدولة الصليبية. هذه الدولة التي بزغت ملامحها مع خطاب ويلسون غداة الحرب العالمية الأولى حيث أكد: «إننا -كأمة أمريكا-مشاركون سواء أردنا أو لم نرد –في حياة العالم ومصالحه التي هي في الأصل مصالحنا. نحن شركاء مع الباقين «إن الولايات المتحدة الأمريكية راغبة في أن تصبح شريكا في أي جمعية ممكنة للأمم، تتشكل لتحقيق تلك الأهداف وجعلها آمنة من الانتهاك، و ليمنحنا الرب فجر ذلك اليوم الذي يتحقق فيه التعامل الصريح والسلام المشترك والتوافق والتعاون» حيث تحركت ” صوت أمريكا من خطاب ويلسون – الذي أخذ اسمه فيما بعد يطلق على المبدأ السادس للشؤون الخارجية في مسعاها لتحقيق مملكة الرب وهي تصف انخراطها في أحداث الحرب العالمية الأولى بأنها انطلاق حملة صليبية لردع العالم وجعله سالما وأكثر ديموقراطيا، فالقدرة الإلهية التي أناطت لأمريكا هذه المهمة«لا تدع أحدا يفترض أنه يمكن فصل التقدم عن الدين والإنسان الذي يتجدر إيمانه بالكتاب المقدس يعرف أن الإصلاح لايمكن أن يتوقف..فمع الرب كل الأشياء ممكنة». وبذلك ولصيانة مبادئ السلام والعدل في العالم كان لزاما على ويلسون أن يقحم جنوده في حملة صليبية لإنهاء الحرب الأوربية وجعل العالم آمن من أجل الديمقراطية وهو يعتقد أن الرب غرس فينا رؤية الحرية ..إنه يمكنني أن أحرم من آمل أننا مختارون ، مختارون بوضوح لنري أمم العالم الطريقة التي يسيرون بها في دروب الحرية …وسوف نقاتل من أجل الديمقراطية، من أجل حقوق الإنسان وحريات الأمم الصغيرة ..من أجل هيئة عالمية للأمم الحرة ستأتي بالسلام والأمن لكل الأمم وتجعل العالم نفسه في النهاية حرا” وبذلك أحس ويلسون أن الليبرالية العسكرية هي المنقذ الوحيد للحضارة من الفوضى، وأن الرغبة في القوة مسألة عظيمة إنه في الحقيقة اقتداء بآلهته لم يأت بسلام ولكن بسيف. وبظهور القوى الأوربية الكبرى التي حدت من الليبرالية العسكرية وتراجع مصالح أمريكا أمام الزحف  الشيوعي دفع دبلوماسيا إلى تطوير إستراتيجيتهم من خلال التفكير في “احتواء” الأزمة بدل مواجهتها وهم بذلك يؤسسون لسابع مبدأ في السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية الذي كان في البداية عبارة عن مشروع بسيط لإعادة إعمار أوربا وتأهيلها في إطار ما يعرف بمشروع مارشال ليتوج بمحاصرة المد الشيوعي وتحرير شعوب شرق أوربا، لتدخل أمريكا في مرحلة انسجمت فيها سياسة الاحتواء مع الليبرالية التقدمية لتحقيق إرادة الرب التي عبر عنها ترومان بقوله “لقد خلقنا الرب ونصبنا في موقع السلطة والقوة التي ننعم بها الآن من أجل غرض عظيم” .

و في هذه الظرفية فطن الخبراء الأمريكيون إلى أن سياسة “الاحتواء” ستمهد لتأسيس عالم حر ديمقراطي مسالم يكون فيه النموذج الأمريكي هو المثال الأفضل. وبعودتنا إلى المبادئ السبع واستحضارنا للرسالة التي حملها البروتستانت إلى العالم الجديد المتمثلة في تحضير أممه وإقامة مملكة الرب نكون قد كشفنا على نية في “تحسين العالم”من خلال دمج هذه المبادئ مع رسالتهم المقدسة. إنهم بذلك يؤسسون لمبدأ ثامن يتجلى ببساطة في التعبير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي عن التزام أمريكا بتحضير العالم، تمهيدا لإقامة مملكة الرب السعيدة. فالدبلوماسيين الأمريكيين ينظرون إلى المستقبل باعتبارهم مبشرين مخلصين للأمم إنهم كما يقول ” جونسون “: إننا نحلم بعالم حيث الكل يحصل على الطعام ومليء بالأمل وسوف نساعد في صنع ذلك” إنه أمل الارتقاء بكل الناس إلى حالة صاعدة من الحضارة المسيحية بتوزيع الكتاب المقدس وتعميمه وتبسيط مهارة قراءته فقد حان الوقت كما يقول “هنري والاس”من أجل بدرة تفاح “جون جي ماكوني ” الحديثة ترعاها الروح التبشيرية ..لتذهب في العالم كله وتعظ بالإنجيل ..الاستثمار والعلم والتكنولوجيا، والإنتاجية لكل الشعوب .”إنها حرب علماء الاجتماع والمبشرين الملزمين بإجبار العالم على أن يتشكل وفقا للقالب الأمريكي كمرجعية للعالم أكثر من رجل شرطة العالم” .إن هذه المبادئ الثمانية التي صيغت في مراحل مختلفة وتطلب تقنينها ردحا من الزمن ليس باليسير شكلت صفحات من تراث المجد الأمريكي الذي سيوجه السياسة الأمريكية في تحركاتها في الفترة المقبلة “لتقيم العدل وتسير في تواضع مع الرب “إلى نقطة مبهجة حرة من بين أمم أخرى حرة، أعطيتنا أيها الرب الكثير وندين لك، باستقلال أرضنا وكم هي سعيدة أمتنا ” هذه الأمة التي استطاعت أن تجمع الطيب بالقبيح وأن تزاوج الأخلاق بالسياسة، فنصبت نفسها إلها وأمرت العالم بالسجود طوعا أو كرها إنها كما يقول أرنولد توينبي “:إن أمريكا كلب ضخم ودود في غرفة صغيرة جدا، وفي كل مرة يهز فيها ذيله فرحا يحطم شيئا”.

المبحث الثاني: أهم المراكز والمؤسسات التابعة الأصولية المسيحية بأمريكا.إن تحول الاعتقاد البروتستانتي الأمريكي القائم على التفسير الحرفي للنبوءات التوراتية “الاعتقاد في حرفية الكتاب المقدس” إلى حركة مسيحية صهيونية سبقت الصهيونية اليهودية في الدعوة إلى قيام وطن قومي لليهود في فلسطين مع مؤتمر بازل سنة 1897.ساهم في ظهور اللوبي المسيحي الصهيوني بالولايات المتحدة الأمريكية قبل ظهور اللوبي اليهودي بعقود. هذين اللوبيان الذين نشطا في إنشاء منظمات ومراكز ومؤسسات تابعة لهم أو بالأحرى تسير على نهجهم وسياستهم و بالخصوص اللوبي المسيحي الصهيوني الذي سنعمل على دراسة مجموعة من المراكز والمؤسسات التابعة له في ” المطلب الثاني ” على أن نعمل على دراسة مراكز ومؤسسات اللوبي اليهودي الصهيوني في -المطلب الأول-.

المطلب الأول: مؤسسات اللوبي اليهودي الصهيوني
لا يخفى على أحد دور اللوبي الصهيوني وأثره في توجيه السياسة الأمريكية في مختلف المجالات..لذا كان من الضروري معرفة حقيقة هذا اللوبي وكيف يؤثر في جوانب الحياة الأمريكية ويخضعها للمطالب الصهيونية والإسرائيلية .وقد كشفت الباحثة الأمريكية ” لي أوبرين ” كيف تمارس هذه الأقلية اليهودية الأمريكية الضغط الكبير على القوى السياسية الأمريكية وخاصة الكونكرس ودوائر الدولة وكيف تحمل السياسيين الذين يرشحون أنفسهم في الانتخابات على تدشين حملاتهم الانتخابية بإعلان مساهمتهم في دعم إسرائيل واستعدادهم لمساعدتها بعد فوزهم، وتقول الباحثة أنه إلى جانب نجاح الأقلية اليهودية في الاندماج في المجتمع الأمريكي فإنها نجحت أيضا في صعود سلم الهيئة الاجتماعية إلى الطبقة الوسطى والطبقة العليا وإنها من أكثر الأقليات إنشاءا للمنظمات الخاصة بها والانخراط فيها، بل وأصبح الإنظمام إلى هذه المنظمات هو أوضح تعبير عن الهوية اليهودية” .
وما يطلق عليه اللوبي اليهودي يقصد به أساسا اللجنة الأمريكية الإسرائيلية للشؤون العامة “إيباك” ومؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية إضافة إلى لجان العمل السياسي والتي تعمل على جمع التبرعات لدعم المرشحين إلى المجالس الأمريكية وتركز على الوقوف إلى جانب السياسيين الذين لهم علاقة بالمساعدات الأمريكية للشرق الأوسط وعلى المسئولين عن رسم السياسة الخارجية الأمريكية. وتؤكد الباحثة “لي أوبرين” أن هناك أكثر من ثلاثين منظمة يهودية تعمل على تأييد إسرائيل من خلال الضغط على المؤسسات الأمريكية وتوجيه سياساتها في اتجاه الدعم الكامل واللامشروط لإسرائيل نذكر منها على سبيل المثال:

*-اللجنة اليهودية الأمريكية :وهي تصدر الكتاب السنوي اليهودي الأمريكي، ومجلة كونتري، ومذكرات دائرة الشؤون الخارجية .*-عصبة مكافحة التشهير : وتعد من أنشط المنظمات الصهيونية في مجال محاربة العرب، حيث تقوم بملاحقة العناصر المؤيدة للعرب وتزود الموساد ومكتب التحقيقات الفيدرالي بالمعلومات التي تحصل عليها، كما تراقب كل المؤسسات والبعثات الدبلوماسية وتوزع الرسائل المكتوبة والمذكرات إلى الصحف ووسائل الإعلام المختلفة في الولايات المتحدة الأمريكية.
*- مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الأمريكية الكبرى : ويعمل على توفير منبر داخلي لمعالجة القضايا المتعلقة بإسرائيل والتي تتمثل بالنسبة لهذا المؤتمر في شرعية المستوطنات المقامة بالأراضي العربية المحتلة، ومنع قيام الدولة الفلسطينية، وكذلك إحداث قطيعة بين العرب والولايات المتحدة بالإضافة إلى التأكيد على أن القدس هي العاصمة الأبدية لإسرائيل.
*-مجلس الاتحادات اليهودية: والذي يعمل هو الآخر على تعزيز ودعم إسرائيل من خلال تنظيم اجتماعات مع أعضاء الإدارة الأمريكية والكونكرس الأمريكي في واشنطن، وله برنامج إعلامي شامل تنظمه قوة العمل الجاهزة لإسرائيل الآمنة ومقرها كليفلاند – أوهايو.
*-الإتحاد الصهيوني الأمريكي : يوزع على أعضائه مرشدا لبرنامج صهيوني وتعليمي في الولايات المتحدة الأمريكية يتضمن ضرورة إشراك شخصيات مسيحية في نشاطاتها لمواجهة الهجمة على اليهود وذلك للتمويه على العنصرية اليهودية بعد صدور القرار 3379 الذي وصف الصهيونية بالعنصرية.
*-المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي : ويقوم بدور صلة الوصل بين الطائفة اليهودية والبنتاغون .
*-اللجنة القومية للعمل السياسي: هذه اللجنة التي تتبنى شعارا مفاده أن الإيمان بإسرائيل يقوي أمريكا، وتعد من أضخم وأغنى اللجان المؤيدة لإسرائيل وهي أكبر الوكالات المسرحية والمواهب الأدبية في أمريكا بحيث يتم استغلال هذين المجالين باعتبارهما يتوفران على جماهير كثيرة وذلك لتمرير مجموعة من الأفكار المؤيدة والداعمة للسياسة الإسرائيلية بالإضافة إلى هذا فهي لا تكتفي بهذين المجالين –الأدبي والمسرحي-فقط بل تتعداهما إلى المجال الإعلامي بحيث تقوم بنشر إعلانات في الصحف الأمريكية تدعوا لدعم إسرائيل وتشويه صورة العرب بإظهارهم كشعب بدائي متوحش بعيد عن الحضارة.
ويعتبر اللوبي اليهودي الصهيوني ولجان العمل السياسي التابعة له أهم قوى الضغط ذات المصالح الخاصة في أمريكا. وبسبب ما حققته تلك اللجان من نجاح منذ مطلع الثمانينات، ومن أجل تغطية أكبر عدد ممكن من الولايات الأمريكية وتحقيق أكبر أثر ممكن في سير وتوجهات السياسة الخارجية قامت الجالية اليهودية في أمريكا بإنشاء المزيد من لجان العمل السياسي تحت أسماء لا تمت لإسرائيل أو لليهود بأية صلة، فبينما كان عدد تلك اللجان 57لجنة عام 1984ارتفع ذلك العدد ليصبح 80لجنة عام 1986.

وقد كتب “ركس وينغير تر” أن عدد لجان العمل السياسي التي كان يوجهها اللوبي الصهيوني في أثناء الانتخابات عام 1986بلغ 81لجنة وان عدد المرشحين الذين شاركت تلك اللجان في تمويل حملاتهم الانتخابية بلغ 230مرشحا.
وللوقوف على أكثر الأعمال تأثيرا على المؤسسات الأمريكية سنسوق أمثلة عن أشهر المنظمات وأكثرها ضغطا على السياسة الأمريكية سواء الداخلية منها والخارجية.
*- اللجنة الأمريكية الإسرائيلية للشؤون العامة –إيباك-
تشكل هذه المنظمة لوبي لوحدها نظرا لتشعب مجالاتها وكثرة اللجان التابعة لها .وقد تأسست هذه المنظمة سنة 1959في أعقاب موقف الرئيس الأمريكي –إيزنهاور- من إسرائيل عندما أصدر أوامره لها بالانسحاب من سيناء بعد العدوان الثلاثي على مصر . وتظم في عضويتها عدة منظمات صهيونية أخرى مثل بناي بريث- اللجنة اليهودية الأمريكية، والكونغرس اليهودي الأمريكي وغيرها…
ويقدر عدد أعضاء إيباك-بحوالي 44ألف ويتألف جهازها الموظف من حوالي 80شخص، وتعقد اللجنة مؤتمرا سنويا يحضره عدد كبير من الشخصيات الأمريكية السياسية من مجلس الشيوخ والنواب ومن خلال هذه المؤتمرات يتم تدريب وإعداد الكوادر اللازمة لهذه المنظمة .

أما عن الدور الذي تلعبه هذه المنظمة فهي تعمل على الضغط من أجل مزيد من الانحياز الأمريكي لإسرائيل من خلال التأييد الأمريكي المطلق لها باعتبار إسرائيل مصلحة إستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية ،وكذا المزيد من الدعم المالي والسعي لتحويل المساعدات والقروض إلى هبات .
ففي أبريل 1986 قال :-توماس داين- المدير التنفيذي لمنظمة إيباك الصهيونية :” إن العلاقات الأمريكية الإسرائيلية دخلت –مرحلة تورية-تميزت برفع العلاقات إلى مكانة عالية ومرموقة ،وفي هذا الإطار تم خلق وبناء مجموعات الدعم لإسرائيل من بين كبار موضفي الخارجية والدفاع والمالية ووكالة الاستخبارات المركزية CIAومن بين العاملين في هيئات البحث العلمي، وتنظيم التجارة والزراعة وغيرها من هيئات حكومية .
و يعتبر الكونغرس دعامة أساسية للعلاقات الأمريكية الإسرائيلية وبالخصوص في مجال تأمينات المعونات لهذه الأخيرة ففي سنة 1986 وهي السنة التي أكد فيها المدير التنفيذي للجنة الأمريكية الإسرائيلية للشؤون العامة إيباك على رفع مستوى العلاقات الأمريكية الإسرائيلية ، حصلت إسرائيل في هذه السنة على 1.8مليار دولار كمعونات عسكرية وعلى 1.2مليار دولار كمعونات اقتصادية و750مليون دولار كمعونة إضافية طارئة أملتها ظروف إسرائيل الاقتصادية المتدهورة .وبذلك بلغ مجموع المعونات لذلك العام ما يزيد على 3.70مليار دولار أي ما يعادل 25%من إجمالي ميزانية برنامج المعونات الخارجية ،بما في ذلك ميزانية دعم هيئة الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات والمؤسسات الدولية .

وفي المقابل حصلت 45دولة أفريقية يعاني معظمها الفقر والجوع والتخلف على اقل من 15%من إجمالي ميزانية المعونات الخارجية أي حوالي نصف ما حصلت عليه إسرائيل وحدها، وفي تعليق على حجم المعونات الأمريكية للكيان الصهيوني قالت جريدة “عال عمشمارالإسرائيلية “:إن –مشروع مارشال- لم يكن كريما مع دول أوربا التي دمرتها الحرب بقدر كرم الحكومة الأمريكية معنا .خلال أوج تدفق المعونات لأوربا حصلت الدول الأوربية التي فقدت حوالي 15الى 20%من قدرتها الإنتاجية نتيجة للحرب ، على معونات قدرت بحوالي 3% من الناتج القومي في هذه السنة-1985-حصلت إسرائيل على معونة تعادل على الأقل 25% من ناتجها القومي ” .أما إذا أضيف إلى المعونات الحكومية المباشرة ما تحصل عليه إسرائيل من معونات أخرى غير مباشرة وغير حكومية في صورة معارف فنية وثقافية ، فإن معونة أمريكا السنوية لإسرائيل قد تبلغ 40الى 50 في المائة ناتج إسرائيل الإجمالي .

بالإضافة إلى كل هذا تقوم المنظمة بمجموعة من الأعمال من اجل خلق العداء بين العرب والولايات المتحدة الأمريكية وتعكير العلاقات العربية الأمريكية ثم دعم السياسة الخارجية لإسرائيل ومباركة أعمالها العدوانية ضد العرب، وبالخصوص الشعب الفلسطيني الأعزل وحمايتها –إسرائيل-في المحافل الدولية .خصوصا الأمم المتحدة ومجلس الأمن .
وترجع خطورة هذا اللوبي إلى تشعبه داخل الإدارة الأمريكية في السنوات الأخيرة فالرجل الثاني في السفارة الإسرائيلية بواشنطن ، وهو اختيار “نتانياهو”شخصيا كان موظفا في إيباك لمدة 25عام.وقد حصل على الجنسية الإسرائيلية لهذا الغرض وهو يدعى –ليني بن دافيد-، كما أن مدير الشؤون الخارجية في منظمة إيباك –ستيفن روزن – هو نفسه الذي كان يشغل منصب مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى ،وقد ترك روزن العمل في مؤسسة تحمل اسم راند عام 1982 ليلتحق باللوبي الإسرائيلي إيباك، ولم يكتفي بالعمل هو فقط بل عمل على إقناع تلميذه السابق مارتن إنديك ليعمل في إحدى مراكز الأبحاث التابعة لإيباك، وهو معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى ؛ حيث تزامنت هذه الفترة مع أيام حكم كلينتون وتم اختيار مارتن أنديك ليكون أحد مساعدي مستشار الأمن القومي فكان لزاما عليه أن يؤدي القسم بين يوم وليلة ويتحول إلى مواطن أمريكي ليتولى المنصب الجديد ، وقد عين بعد ذلك سفيرا للولايات المتحدة في إسرائيل ثم انتقل إلى وزارة الخارجية الأمريكية في اكبر منصب مختص بالشرق الأدنى والأوسط والصراع الإسرائيلي العربي.

ويبدوا أن خريجي اللوبي يتمتعون بمواهب خارقة فهم يتولون مناصب مهمة مثل منصب رئيس اللجنة القومية للحزب الديمقراطي الذي يتولاه “ستيف جروسمان”وهو رئيس سابق لإيباك، وكذا مل سمبلر الذي ترك إيباك هو ا لآخر ليصبح الرئيس الحالي للجنة القومية للحزب الجمهوري ..وهناك أيضا “ارني كريستنسون “الذي كان مديرا للشؤون القانونية في إيباك وأصبح رئيسا لطاقم مكتب رئيس مجلس النواب السابق نيوت جينجريتش،بالإضافة إلى شخصيات أخرى تولت مهام كبيرة في إدارة كلينتون مثل وزيرة الخارجية ” مادلين أولبرايت ” .وتجدر الإشارة إلى أن منظمة إيباك لم تسجل كمنظمة أجنبية وإنما كمنظمة أمريكية تعمل وفق القانون الأمريكي وهي تركز في ممارسة ضغطها على مجموعة من المجالات كالمجال الإعلامي والمجال السياسي ،وكذا الاقتصادي هدا الأخير الذي يشكل عصب الحياة بالنسبة لجميع الدول وهي النقطة التي يركز عليها اللوبي اليهودي؛ حيث تمتلك البورجوازية اليهودية مواقع تابثة في الحياة الاقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية ؛وهي ليست كتلة معزولة ومنطوية على نفسها وإنما تؤلف جزءا لا يتجزأ من البورجوازية الاحتكارية الأمريكية, وبهذا تتداخل مصالح الرأسماليين اليهود الكبار مع مصالح الرأسماليين الأمريكان تداخلا وثيقا وتصبح الأهداف موحدة، ومن تم الولاء للإيديولوجية الصهيونية وللمصالح الإمبريالية الأمريكية في وقت واحد.
أما فيما يخص المجال الإعلامي فتصدر عن إيباك عدة منشورات من أهمها تقرير الشرق الأدنى الذي يصدر بصورة أسبوعية ويوزع على أعضاء الكونغرس ومجلس الشيوخ وكبار موظفي الإدارة ووسائل الإعلام والسفارات ويركز على إظهار أن المقاومة الوطنية الفلسطينية لإسرائيل هي إرهابا.

*-الأمريكيون من أجل إسرائيل آمنة :
تم تأسيس منظمة الأمريكيون من اجل إسرائيل آمنة سنة 1971 ويترأس مجلسها هربرت زويبون ،وتدار من طرف المدير بيتر غولدمان وتتميز هذه المنظمة عن غيرها من المنظمات المؤيدة لإسرائيل بمواقفها المتصلبة, وهي مقبولة بوصفها قوة شرعية تمثل اتجاها سياسيا قائم في الولايات المتحدة وإسرائيل, وقبولها هذا يرجع إلى دورها الأساسي الذي لايقتصر على جهرها بالموقف المتطرف ؛بل يتعداه إلى ممارسة الضغط المستمر على المنظمات الأخرى، وخصوصا في الطائفة اليهودية كي تتحول إلى اليمين ، وقد تأكد هذا بالملموس من قولها :”نحن نشجع المنظمات والحركات الأخرى على اتخاذ مواقف أقوى في دعم إسرائيل، وقد أحرزنا نجاحا مهما في هذا المجال ” .
ومن الناحية السياسية تدعو هذه المنظمة إلى العداء الشديد للشيوعية وللعرب والى صهيونية متطرفة على غرار صهيونية جابو تنسكي، هذا الصهيوني المتطرف الذي يتخذ من القوة كمبدأ أساسي في حياته حيث يقول “إن القوة يجب أن تكون هي هدفك”، ويعتبر من المتعصبين الداعين إلى قيام دولة يهودية، والى عدم إخضاع اليهود في فلسطين إلى القوانين الوضعية .وقد كان وراء إنشاء – منظمة بيتار-وهي منظمة للشبيبة المسلحة التي كانت تحث اليهود على الهجرة إلى فلسطين .وكذلك بنا ميليشيات “الهاغاناة”التي انبثق منها الجيش الإسرائيلي ، وفي عام 1925أنشأ رسميا الحركة التصحيحية داخل المنظمة الصهيونية العالمية.وطالب جابو تنسكي بمملكة في إسرائيل على جانبي نهر الأردن؛ وطالب المنظمات الصهيونية على العمل عسكريا ضد العرب وبدون أية مساومة.
وتقف منظمة الأمريكيين من أجل إسرائيل آمنة ضد أي انسحاب من الأراضي المحتلة وتؤيد بناء المستوطنات ؛وتعتبر سياسة الولايات المتحدة _رغم التحيز الواضح والبين لهذه الأخيرة في مجال الصراع العربي الإسرائيلي تجاه إسرائيل – سياسة ترضية ومعادية لإسرائيل, وقد وقفت ضد اتفاقات كامب ديفيد والانسحاب من سيناء ولا تزال تعتبر مصر عدوة ،وأيدت بقوة غزو لبنان ،وتؤكد على أن وجود إسرائيل قوية شرط أساسي لأمن الولايات المتحدة والمصالح الغربية في الشرق الأوسط.

هذا فيما يخص الهيكلة والدور الذي تقوم به هذه المنظمة؛ أما عن الأعمال التي تقوم بها من اجل دعم إسرائيل فهي تركز على نشر الهجمات على أعدائها، وكانت إحداها تلك التي وجهت ضد لجنة الأصدقاء الأمريكيين للخدمات بسبب موقفها المعادي لإسرائيل والمؤيد لمنظمة التحرير الفلسطينية, وفي سنة 1982نسقت ائتلافا للاحتجاج على تخلي أمريكا المتزايد عن إسرائيل وفي فبراير 1983قامت برعاية وفد إسرائيلي قَدِمَ إلى الولايات المتحدة لشن حملة على خطة ريغان وشمل الوفد اثنين من المستوطنين من جناح اليمين هما الحاخام “أليعزر فلدمان”من مجلس مدينة كريات عرافا و”ويغال كوتئيل “المدير التنفيذي للجالية اليهودية المستجدة في الخليل والذي استخدم الزيارة لجلب المزيد من المستوطنين من أمريكا؛ وقد شاركت المنظمة ذاتها بنشاط في حملة الاستيطان في إسرائيل بوصفها وكالة لبيع أراضي الفلسطينيين في الضفة الغربية لليهود الأمريكيين وحدهم ،وتؤكد الباحثة الأمريكية ” غريس هالسل “أن مكاسب الإسرائيليين من التحالف مع اليمين المسيحي الجديد في الولايات المتحدة هو ربح مزيد من الأراضي واستيطانها وتستشهد بكلام أحد أعضاء اليمين المسيحي الجديد حيث يقول “إننا نحن المسيحيين نؤخر عودة المسيح من خلال عدم مساعدة اليهود على مصادرة مزيد من  الأراضي الفلسطينية، “ويقول على اليهود أن يمتلكوا كل الأراضي التي وعدهم الله بها قبل أن يتمكن المسيح من العودة. ولكن لن يطول الوقت قبل تحقيق الفداء الكامل وقبل الفداء الروحي؛ على الله أن يتعامل مع أمته إسرائيل.إن عبارة الفداء كما هي مستعملة اليوم في إسرائيل تنطبق على مصادرة أراضي العامة في إسرائيل الكبرى سواء من خلال الشراء الشرعي أو الشراء القسري أو المصادرة ,وتقول غريس هالسل أيضا أن المسيحيين معظمهم يتبوؤون مراكز حكومية رفيعة ؛يصلون على مدار الساعة حتى يتحقق اليوم الذي لايبقى فيه الفلسطينيون على أرضهم وحتى تصبح الأرض كلها ملك لليهود؛ وتؤكد أيضا أن المسيحيين يتوجهون إلى منزل في واشنطن ثمنه نصف مليون دولار، وأنهم يوجهون صلواتهم ليس من اجل جميع الشعوب في كل مكان وليس من اجل السلام على الأرض،وليس من اجل الفقراء والمشردين والمحتاجين بل من أجل الأرض ، الأرض التي يمتلكها الآن الفلسطينيون؛والتي يريدون أن يأخذوها منهم ويضعوها بأيدي اليهود الإسرائيليين لا لشيء سوى لتحقيق نبوءات الكتاب المقدس, حيث أن عودة المسيح تتطلب عدة مراحل والتي تتمثل في عودة اليهود إلى فلسطين و قيام دولة إسرائيل وهجوم أعداء الله على إسرائيل ووقوع معركة هرمجدون و انتشار الخراب والدمار ومقتل الملايين، و ظهور المسيح المخلص ومبادرة من بقي من اليهود الى الإيمان بالمسيح ثم انتشار السلام في مملكة الرب لمدة ألف سنة أو ما يسمى بالمملكة الألفية –أي العيش في الألف عام السعيدة دون شرور- .

أما عن علاقة منظمة الأمريكيون من اجل إسرائيل آمنة بالمؤسسة اليهودية فتكمن في توجهها نحو المنظمات اليهودية الأمريكية وزعمائها ؛وتؤكد مقالة نشرتها –جيروزالم بوست-أن المنظمة تأسست كردة فعل على هيمنة المواقف الليبرالية والغير المنحازة لإسرائيل بين المفكرين اليهود الأمريكيين ,وتشن المنظمة هجمات على الاتجاه الليبرالي؛ وكانت الهجمات المسمومة و بخاصة تلك التي شنها رائيل إيزاك في النشرة الإخبارية للمنظمة بعنوان الكونغرس اليهودي الأمريكي واتحاد الجماعات الدينية العبرية الأمريكية التحطيم الذاتي في المجتمع اليهودي المنظم؛وكان سبب هذا الغضب والفزع أن هاتين المجموعتين قد اشتركتا في تآلف لتجميد النشاط النووي مع منظمات معادية لإسرائيل.

ويقول إيزاك:أن حركة تجميد النشاط النووي تشكل تهديدا مزدوجا لأن أعضاءها يكنون عداءا مريرا لإسرائيل ولأنها ستضعف قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على الوقوف في وجه المخططات السوفياتية العالمية ، خصوصا في الشرق الأوسط.
أما من ناحية التمويل فتعتبر المنظمة معفاة من الضرائب بموجب قانون ضريبة الدخل؛ وبحسب استمارتها الضريبية لسنة 1981كان دخلها الكلي خلال السنة ذاتها84.219 دولار قياسا ب7000دولار في سنة 1977 ومنذ نفس السنة ودخلها يتضاعف سنويا وكان مجموع نفقاتها 78.563 دولارخصص56% منه لخدمات البرامج بما في ذلك نحو الثلثين للإعلان بشأنها وقيل إن 29%منه دفعت أجورا لموظفي الجباية المحترفين ؛وفي يوليوز 1982 وفي أوج الحرب في لبنان تلقت المنظمة من المنظمة الصهيونية العالمية القسم الأمريكي 5000 دولار للمساهمة في تكاليف منشوراتها .

*- المجلس القومي لإسرائيل الفتاة:
نشأت حركة إسرائيل الفتاة سنة 1912 وتقوم بدور تهدف من خلاله تعزيز اليهودية الأورثودكسية في أمريكا بتحديثها وجعلها ذات معنى في العصر الحاضر, ولتحقيق هذا فهي تقوم بتغييرات معينة في الشعائر الدينية كالغناء الجماعي وإلقاء المواعظ باللغة الإنجليزية .
ويشرف على إدارة المجلس القومي لإسرائيل الفتاة الرئيس هارولدجاكوبس بالإضافة إلى نائبه افرايم ستورم, وتشارك فروعه الأعضاء فيه بواسطة المندوبين الذين يختارون الموظفين في المؤتمر القومي .كما أن تلك الفروع تساهم بحملاتها لجباية المال في دعم المجلس الذي يعتبر منظمة معفاة من الضرائب وفي مقابل هذا تقوم المنظمة بالعديد من الخدمات تشمل ماهو أكثر من القضايا الدينية بحيث تشرف على عدة برامج للتأمين الصحي ونوادي للشباب والرياضة وتنظم للمسنين رحلات إلى إسرائيل.
ويتميز الموقف السياسي للمجلس القومي بتأييده القومي للدولة الإسرائيلية بحيث يقوم بتشجيع الهجرة إليها إلى درجة تجعله من المغالين حتى بين المنظمات اليهودية الأمريكية المتطرفة في مواقفها الداعمة لإسرائيل ويقول جاكوبس في أعقاب مجزرة صبرا وشتيلا أنه لا علاقة لإسرائيل بالمجزرة, ويقوم المجلس بعدة أعمال لدعم إسرائيل من ضمنها دعم عمل اللجنة الإسرائيلية الأمريكية عندما يتطلب الأمر إرسال برقيات أو وفود إلى أعضاء الكونغرس وتقوم بأكثر أعمال المجلس القومي في سبيل دعم إسرائيل لجنته للشؤون العامة التي يرأسها ماتيو ماريلز ،وقد اشتملت خلاصة أعدها المجلس لنشاطاته في سنة 1973 على إشارات واضحة للدعم الذي تقدمه المنظمة لإسرائيل حيث انه في أعقاب التورط في الحرب اللبنانية ضاعف المجلس نشاطه لتعزيز الدعم لإسرائيل داخل الطائفة اليهودية وخارجها.

ومن الواضح أن كل هذه الأعمال جعلت من حركة إسرائيل الفتاة تتمتع بدعم دولة إسرائيل واعترافها على الصعيدين السياسي والديني حيث افتتحت إسرائيل الفتاة –المنظمة- مركزا دوليا في  القدس في كنيس يشورون واشتملت برامج المركز على مؤسسة إسرائيل الفتاة للدراسات اليهودية التي تقدم محاضرات يومية عن التوراة وموضوعات ثقافية وعلى مراكز الشباب للطلاب وللشباب العازبين وعلى مركز الموارد للأمريكيين الذين يزورون إسرائيل أو يدرسون فيها.وفي الولايات المتحدة يشجع المجلس القومي السياحة الأمريكية في إسرائيل ولديه لهذا الغرض برامج مثل بعثة “أشفا “الصيفية للشباب ورحلات خاصة للكبار كما انه يشجع أعضاءه على الهجرة إلى إسرائيل التي يسهل أمرها فروع المجلس القومي لإسرائيل الفتاة.وفي نشرة المجلس “وجهة نظر إسرائيل الفتاة “إعلانات لشركة ميشاب لبناء المساكن وتطويرها التي تعرض “بناء بيتك في إسرائيل ” ومكاتب ميشاب كما تقول الإعلانات قائمة في القدس وتل أبيب وحيفا. وكما سبق أن اشرنا فإن الأصولية اليهودية تعقد عدة تحالفات للقيام بمجموعة من الأعمال في إطار الضغط على المؤسسات السياسية الأمريكية لتحقيق أهدافها ، ومن ضمن الأطراف التي تسعى إلى التحالف معها أولئك المسيحيين الذين يعتقدون أن دعم الأصولية اليهودية أو بالأحرى دعم قيام دولة يهودية في فلسطين –إسرائيل الكبرى –هو ضروري للتعجيل بالمجيء الثاني للمسيح أو ما يطلق عليه حاليا المملكة الألفية السعيدة –كما يعتقدون_.

ومن ابرز تيارات المسيحية البروتستانتية التي تتحالف معها الأصولية اليهودية والتي تعتقد في حرفية الكتاب المقدس وتؤمن بالمجيء الثاني للمسيح تيار اليمين المسيحي وبالخصوص تيار المحافظين الجدد الذي ينشط هو الآخر في إطار منظمات و جمعيات تشكل لوبي مسيحي صهيوني تشعب هو الآخر في الوسط الأمريكي و أصبح يتحكم في دواليب السياسة الأمريكية لا سيما الخارجي.

*المطلب الثاني: مؤسسات اللوبي المسيحي الصهيوني
رغم أن اليمين المسيحي ظهر بشكل ملحوظ على مسرح الأحداث الأمريكية مند العقد الثاني من القرن العشرين تقريبا, إلا أن جذوره كانت موجودة في البدايات الدينية للمجتمع الاستيطاني حيث انه وبتأثير من البروتستانتية البيوريتانية – التطهيرية ثم الإيفانجيلية الأصولية ظل الاعتقاد ببعث اليهودية قبل المجيء الثاني للمسيح يشكل جزء من التاريخ الأمريكي فالطهوريون الأوائل آمنوا بالأفكار الأصولية وبالعهدين القديم والجديد من الكتاب المقدس حيث أنهم عندما وصلوا إلى أمريكا اعتبروها أورشليم الجديدة وشبهوا أنفسهم بالعبرانيين القدامى الذين فروا من ظلم فرعون.
وقد استمر تأثير هذه الأفكار التي آمنوا بها في مختلف مراحل تطور الأمة الأمريكية فالرئيس الأمريكي – رونالد ريغان-مثلا كان ينطلق في سياساته – كما يقول جيمس ميلز في مقال له بمجلة سان دييجو: من إيمانه بنبوءات الكتاب المقدس فاظهر بصورة دائمة التزامه القيام بواجباته تمشيا مع إرادة الرب ؛أي العمل بما يحقق نبوءة الرب انسجاما مع إراداته السامية حتى يعود المسيح ليحكم الأرض ألف سنة، ومن تم فإن توجه ريغان للإنفاق العسكري وتردده إزاء مقترحات نزع السلاح النووي يتفق مع رؤيته المستمدة من الكتاب المقدس.
وقد أعطى الانتصار الإسرائيلي في حرب يونيو1967 وما نتج عنه من احتلال للقدس زخما كبيرا للحركة المسيحية الصهيونية والأصولية في أمريكا ، إذ كان احتلال القدس أكثر أهمية من إقامة إسرائيل؛ حيث اعتبرت عودة اليهود الى القدس تحقيقا لنبوءات التوراة وتأكيدا لصحتها ودليلا على قرب مجيء المسيح. ومع صعود المسيحية الصهيونية والأصولية الأمريكية في أواخر السبعينات وبداية الثمانينات وبالخصوص في عهد رونالد ريغان كقوة سياسية مؤثرة تشكلت منظمات مسيحية صهيونية موالية لإسرائيل ربطت بين بقاء إسرائيل وبقاء أمريكا عظيمة؛ باعتقاد أن الرب يبارك أمريكا لأنها تدعم إسرائيل فظهرت بذلك منظمة الأغلبية الأخلاقية عام 1979 التي أسسها القس جيري فولويل ؛كما تأسست السفارة المسيحية عام 1980 للدفاع عن حق إسرائيل في القدس؛ وأنشأت مؤسسة جبل المعبد التي يتمحور هدفها الأساسي هي الأخرى في إعادة بناء الهيكل وذلك تمهيدا للمجيء الثاني للمسيح أو بالأحرى كمرحلة من المراحل التي سبق أن تطرقنا إليها والتي تعتبر ضرورية للمجيء الثاني للمسيح .

كل هذه المنظمات لم تمنع من قيام مجموعة من المنظمات و الجمعيات الأخرى ذات الأهداف والأنشطة المختلفة على الصعيد الاجتماعي والثقافي التي تصب في اتجاه واحد وهو ذلك الهدف السياسي المنشود المتمثل في قيام إسرائيل وبناء الهيكل ثم تحقيق نبوءة الكتاب المقدس. ومن أمثلة هذه المنظمات نذكر:
*- جمعية العائلة الأمريكية :التي أسسها القس” دونالد وايلد مان” والتي تعرف بانتقاد الثقافة العامة والدعوة إلى الاحتشام في العروض السينمائية والتلفزيونية بالإضافة إلى انتقادها لمبدأ فصل الكنيسة عن الدولة باعتبار أنه مبدأ مشكوك فيه من الناحية التاريخية.
*-العصبة الكاثوليكية للحقوق الدينية والمدنية catholic lagune Religion and civil rights: والتي تأسست من طرف الكاثوليكي ” فيرجيل بلوم ” بالأساس – للرد على التمييز ضد الكاثوليكية في وسائل الإعلام وتعتبر محافظة وأصولية فيما يتعلق بمبدأ الفصل بين الكنيسة والدولة و تقود حملات ضد المدارس العمومية -باعتبارها تدرس العلمانية –وتدعوا للمدارس الدينية.
*- منظمة المدافعون المسيحيون لخدمة الإيفانجيلية :Christian advocates Serving Evangelism :التي تأسست كجامعة مساعدة قانونية بقيادة جان ألان سيكولو وهو محام إيفانجيلي ومسيحي ولد ثانية وتركز على رفع الدعاوي أمام المحاكم في القضايا المتعلقة بالمدارس بحيث تدافع عن حقوق التلاميذ في تلقي النصوص الدينية في المدارس، وشارك سيكولو القس بات روبرتسون في ” المركز الأمريكي للقانون والعدالة “الذي يعتبر هو الآخر من أهم جماعات المساعدة القانونية المسيحية في الولايات المتحدة الأمريكية .

*-منظمة الائتلاف من اجل الإحياء Cristian Coaliation revival وتعتبر من ضمن منظمات “الإحياء الأصولي ” التي تعتقد بحرفية الكتاب المقدس وصلاح القوانين الإلهية للمجتمع المعاصر ، وتدعو المنظمة التي يقودها جاي جرمستيد أعضاءها الى إقامة حكومة تطبق تفسيرهم للكتاب المقدس وهي منظمة متطرفة في رفضها لمبدأ الفصل بين الكنيسة والدولة.
*-منتدى النسر :Eagl Forum الذي تأسس في السبعينات لمعارضة قانون الحقوق المدنية ويرأسه فيليس شالفلي الكاثوليكي المتشدد وأحد نشطاء الحزب الجمهوري المعارضين للإجهاض
وعقب إقرار التعديل الدستوري للحقوق المدنية .تحول “منتدى النسر” الى معارضة التعليم العام والمثلية الجنسية والإجهاض وفصل الكنيسة عن الدولة ؛وتقدر عضويته بحوالي 100ألف عضو.
*-منظمة التركيز على المرأة من أجل أمريكا: Concerned Wemen Amirica for: هذه المنظمة التي تقودها بيفرلي ليهي والتي تهاجم ” الحياة العلمانية ” ومبدأ الفصل بين الكنيسة والدولة وتركز على خطر الإجهاض والقيم العائلية المحافظة وإباحة الصلاة في المدارس،ومعارضة المثلية الجنسية، وتقدم ليهي برنامجا إذاعيا دينيا كل يوم، يبث من المحطات الإذاعية المسيحية في مختلف الولايات .
*-منظمة ائتلاف القيم التقليدية :Traditional values Coalition : التي يقودها القس لويس شيلدون وأحد النشطاء ضد المثلية الجنسية ، وتروج المنظمة للأجندة التقليدية لليمين المسيحي خصوصا في معارضة المثلية الجنسية والمطالبة بتحريم الإجهاض والدعوة للسماح بالصلاة في المدارس وكذا الالتزام بنصوص الكتاب المقدس .

*- منظمة السفارة المسيحية الدولية:International Cristian Embassy Jérusalem : جاءت هذه المنظمة عام 1980 بعد قرار الحكومة الإسرائيلية اعتبار القدس عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل في العام نفسه . ويقول المنشور التأسيسي لهذه المنظمة الصهيونية المسيحية “إنه من الواضح أن الله وحده هو الذي أنشأ هذه السفارة المسيحية الدولية في هذه الساعات الحرجة من أجل تحقيق الراحة لصهيون، واستجابة حب جديدة لإسرائيل.”
ويرى أعضاء هذه المنظمة أنه إذا لم تبقى إسرائيل، فإنه لا مكان للمسيح عند مجيئه الثاني، ولا تكتفي هذه المنظمة بدعمها وجود إسرائيل، بل تدعم سياستها التوسعية بما فيها اعتبار القدس وغزة والضفة الغربية حقوقا أعطاها الرب للشعب اليهودي.
ويتمحور الهدف الرئيسي للمنظمة حول الدعم الكامل لإسرائيل من خلال القيام بالعديد من المؤتمرات ومن ضمنها المؤتمر المسيحي الصهيوني الأول الذي عقد سنة 1985 حيث صدرت عدة قرارات منها دعوة كل الأمم للاعتراف بإسرائيل والمطالبة بالقدس عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل. وكان البند الأخير في إعلان المؤتمر أن أعضاء المؤتمر يصلون وينظرون بلهفة لليوم الذي تصبح فيه القدس مركزا لاهتمام الإنسانية، حين تصير مملكة الرب حقيقة واقعة .
أما عن المؤتمر الثاني الذي أقيم بمناسبة الذكرى الأربعين لقيام إسرائيل – سنة 1988– فقد خرج هو الآخر في بيانه الختامي بإقرار جميع أعضائه لحبهم لإسرائيل وللشعب اليهودي والحق المقدس لليهود في العيش أحرارا في أرض إسرائيل كلها بما فيها يهودا والسامرة، وكذلك تشجيع عودة الشعب اليهودي كله من الشتات استجابة لدعوة الرب .
وأقامت السفارة مركزا لها في أكثر من 40 دولة، وفي الولايات المتحدة الأمريكية وحدها يوجد لهذه المنظمة 22 فرعا في 22، ولاية وفي كل فرع كاهن وأسقف برتبة قنصل ومهمة القناصل داخل الولايات المتحدة وخارجها تنظيم التجمعات والتظاهرات المؤيدة لإسرائيل. وكانت منظمة السفارة المسيحية وراء القرار الأول الذي صدر عن الكونغرس الأمريكي في شهر أبريل 1990 والذي دعا الإدارة الأمريكية إلى الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل .
والملاحظ أن جميع هذه المنظمات تتفق حول مجموعة من النقاط التي من ضمنها أن فصل الكنيسة عن الدولة يعتبر ظلما في حق الشعب الأمريكي؛ وتؤكد كذلك على التعليم الديني بالنسبة للأطفال؛ وذلك من خلال فرض الصلاة في المدارس بالإضافة إلى الوقوف ضد مجموعة من القوانين  التي تبيح الإجهاض وكذا القيام بالهجوم على مجموعة من عيادات الإجهاض وعمليات قتل لأطباء وممرضين كانوا يجرون عمليات الإجهاض، كل هذه الأعمال تأتي في إطار الاعتقاد بأن الأمة الأمريكية أمة مسيحية، ويجب أن تتهيأ للمجيء الثاني للمسيح.
كل هذه الأعمال وهذه الضغوطات تبقى متواضعة بالمقارنة مع أعمال منظمات أخرى مثل منظمة الأغلبية الأخلاقية ومؤتمر القيادة المسيحية الوطنية لأجل إسرائيل ومنظمة الائتلاف المسيحي، هاته المنظمات التي تعتبرمن أنشط المنظمات داخل الولايات المتحدة الأمريكية خصوصا وأن مؤسسيها من أشهر الشخصيات مثل جيري فولويل وفرنكلين ليتل وبات روبرتسون.
ولبيان القوة التي تضفيها هاته المنظمات إلى اللوبي المسيحي الصهيوني سنحاول رصد بعض الأنشطة التي تقوم بها من خلال التطرق إليها على التوالي:
*جيري فولويل ومنظمة الأغلبية الأخلاقية. The moral majority
تأسست هذه المنظمة من طرف القس والواعظ التليفزيوني جيري فولويل عام1979 لنشر الأخلاق المسيحية التقليدية، ولذلك استهدفت معارضة كل من الإجهاض والمثلية الجنسية وتقنين حقوق اللواطيين والسحاقيات، والمطالبة بإيقاف الحضر على الصلاة في المدارس. وفي مجال السياسة الخارجية تستهدف هذه المنظمة محاربة الشيوعية وتوفير دفاع قوي للولايات المتحدة ومعارضة التجميد النووي بحجة الاعتقاد اليميني المسيحي والذي يسيطر على عقول كل من يؤمن به، هذا الاعتقاد الذي يتمثل في كون أن العالم ينتظر معركة الهر مجدون النووية بين قوى الخير والشيطان .وتمثل إسرائيل موقعا بارزا في برنامج الأغلبية الأخلاقية وخطاب مؤسسها جيري فولويل. هذا الأخير الذي لايملك الشعب اليهودي في إسرائيل والعالم صديقا أوفى منه بحيث لايفوت هذا المبشر ورجل الأعمال الفرصة في أية مناسبة كانت لإعادة تأكيد دعم الأصوليين المسيحيين الدائم والشامل للدولة العبرية والجماعات اليهودية .

ففي عام 1985 وفي القدس تحديدا وخلال مأدبة كبرى أقامها على شرف موشي ارنز وزير الدفاع الإسرائيلي وعضو مهم في الليكود سمع ّأحد الحضور جيري فولويل ينحني تجاه الوزير يقول له :”أود أن أشكرك مجددا على الطائرة التي أهديتني إياها” .
وتؤكد هذا أيضا الباحثة الأمريكية غريس هالسل من خلال مقابلة مع أستاذين جامعيين هما جيمس برايس والدكتور ويليام غودمان وهما من اللجنة المسيحية، وهذان الأستاذان كانا قد قاما ببحث حول حياة فولويل دام 15 سنة حيث أكدا أن الإسرائيليين قدموا الطائرة هدية إلى جيري فولويل وأن ثمنها يتراوح ما بين 2.5 و3.5 مليون دولار بالإضافة إلى نصف مليون دولار ثمن قطع الغيار.
والواقع أن إسرائيل لا تقدم هذه الأموال والهدايا حبا في سواد عيون هذا الواعظ التلفزيوني وإنما تقديرا للأعمال الكثيرة التي يقوم بها من اجل إسرائيل؛ لكن فولويل لا ينتظر مقابلا على أعماله هاته كونه يقوم بكل هذا من أجل تحقيق نبوءات الكتاب المقدس، فبالنظر إلى برنامج المنظمة فهو يتضمن دعم إسرائيل دون شرط وكما يقول فولويل :” فإن البرنامج ومنظمته وسيلة لحماية وتطوير الموقف بجانب الشعب اليهودي وإسرائيل. فالرب قد حدد حدود إسرائيل وأيد مطالبها في الأرض واليهود لهم حق تاريخي ولاهوتي وقانوني في أرض إسرائيل”. وتعود جذور فكر فولويل الصهيوني إلى معتقداته الإيفانجيلية الأصولية المتهودة، وهو يشير باستمرار إلى ما يسميه وعد الرب لإبراهيم منذ أربعة آلاف عام .”سأبارك من يبارك إسرائيل وألعن من يلعنها”.
ومن هذا الموقف ينطلق فولويل ليؤكد على أنه من الواجب على الولايات المتحدة ألا تتردد في تقديم الدعم المالي والعسكري لإسرائيل.
ويعتبر فولويل أول سياسي أمريكي يتطرف في القول بأن دعم الولايات المتحدة الأمريكية لإسرائيل ليس من أجل مصلحة الولايات المتحدة نفسها. وما يبين قوة نشاط المنظمة وكذا شعبية جيري فولويل وقدرته على الإقناع هو الاعتماد الكامل والكبير على هذا الواعظ التلفزيوني بحيث  عندما قصف بيغن عام 1981 المفاعل النووي قرب بغداد تخوف من رد فعل سيء في الولايات المتحدة ومن أجل الحصول على الدعم لم يتصل بسيناتور يهودي أو بكاهن يهودي، وإنما اتصل بفولويل.حيث كان بيغن قلقا لأن الأمريكيين في ذلك الوقت زودوا إسرائيل بطائرات f16 وبالقنابل لاستعمالها في حالة الدفاع عن النفس، واستعملها بيغن لتوجيه ضربة مبكرة إلى العراق. وهكذا طلب بيغن من فولويل قائلا :”اذهب إعمل من أجلي ” ووعده فولويل بأنه سيلبي ، و قبل أن يغلق سماعة الهاتف قال فولويل لبيغن “السيد رئيس الوزراء أريد أن أهنئك على المهمة التي جعلتنا فخورين جدا بإنتاج طائرات f16 ” .

كل هذا يفسر بشيء واحد فقط وهو أن الشعب اليهودي وإسرائيل مدعوم من طرف الولايات المتحدة الأمريكية فكل عمل عسكري تقوم به إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني أو ضد أي دولة عربية يكون الفيتو الأمريكي دائما في حمايتها من أي عقوبات قد تتخذ ضدها، وقد أكد الباحث جيمس برايس هذا حيث قال “إن أي عمل عسكري قامت أو ستقوم به إسرائيل تستطيع أن تعتمد فيه على دعم اليمين المسيحي ”
وفي هذا الإطار يقول جيري فولويل أن دعمه لإسرائيل غير مشروط وأن إسرائيل هي خط الدفاع الأمريكي في الشرق الأوسط. وكان لمنظمة الأغلبية الأخلاقية قيادة على المستوى القومي برئاسة فولويل تسمى القيادة القومية للأغلبية الأخلاقية، وفروع في كل أنحاء الولايات المتحدة .وقد تملكت الأغلبية الأخلاقية نظاما متطورا للتنظيم والاتصال حيث وصل عدد أعضائها إلى 6.5مليون أمريكي ومدت اتصالاتها البريدية والإليكترونية إلى حوالي 25 مليون أمريكي علاوة على اتصالاتها بالبيت الأبيض والكونغرس؛ وتصدر المنظمة الكتب والمنشورات، وأبرزها التقرير الشهري المسمى تقرير الأغلبية الأخلاقية ويصل هذا التقرير الى مليونين ونصف المليون من المشاركين بما في ذلك الرئيس الأمريكي وكل أعضاء الكونغرس وحكام الولايات وأكثر من 82 ألف رجل دين فضلا عن كبار الصحفيين ومحطات الأخبار المسموعة والمرئية. “ويٌنْفَقُ على هذا التقرير حوالي مليون و200 ألف دولار”.

وقد سلكت المنظمة مسلك اللوبي بحيث تعمل على تأمين الدعم المالي للمرشحين للمناصب السياسية ممن يؤيدون وجهة نظرها، وتمكنت المنظمة من مخاطبة الأمريكيين وتوعيتهم من خلال شبكة فولويل الإذاعية والتلفزيونية الدينية وتعبئة الملايين من غير المهتمين بالعمل السياسي للانخراط فيه وممارسة الحقوق الانتخابية إضافة الى أساليب الضغط المكثف في الكونغرس سواء لإنجاح مشروع أو مرشح مؤيد لها وإفشال المعارضين .
*- فرنكلين ليتل ومؤتمر القيادة المسيحية الوطنية لأجل إسرائيلThe national christian leadership conférence for israél: لقد نشأ هذا المؤتمر عام 1980من تجمع عدة جماعات ومنظمات مسيحية صهيونية .ويقول بول فيندلي “إن الهدف من ذلك التجمع المسيحي الصهيوني هو الاهتمام ببقاء ودعم إسرائيل ورفاهيتها” .ويمارس المؤتمر نشاطاته بأشكال وأساليب متعددة منها النشاطات اللاهوتية والمؤتمرات والمسيرات ووسائل الضغط المنظمة والإعلانات.
ويرأس هذه المنظمة فرنكلين ليتل وهو مسيحي صهيوني وأستاذ في جامعة تامبل في بنسلفانيا ويقول الدكتور ليتل الذي يعتبر أكثر المسيحيين تأييدا لإسرائيل “أن تكون مسيحيا يعني أن تكون يهوديا “كما يقول أنه من الواجب على المسيحي أن يضع دعم أرض إسرائيل فوق كل اعتبار، ومن أجل الحصول على الدعم للهجوم الإسرائيلي على لبنان فإن مؤتمر القيادة المسيحية الوطنية لإسرائيل نشر في واشنطن بوست وفي صحيفة نيويورك تايمز إعلانا في صفحة كاملة من كل من الجريدتين عنوانه ” التضامن المسيحي مع إسرائيل ” .
وفي هذا الإعلان قال المسيحيون إن تضامننا مع الشعب اليهودي ودولة إسرائيل هو جزء من التزام بالسلام والعدالة لجميع الشعوب في الشرق الأوسط. إننا نعتقد أنه من الحقوق والواجبات الثابتة لكل حكومة أن تضمن السلام والأمن لمواطنيها. وكما ورد فإن الإعلان لايشير إلى أي اهتمام بأصحاب المعتقدات الإسلامية أو المسيحية الذين يعيشون في الشرق الأوسط بحيث أن المسيحيين الذين  وقعوا على الإعلان قالوا إنهم يؤيدون تأييدا كاملا الغزو الإسرائيلي للبنان ووصفوا أخيرا أولئك الذين عارضوا سياسات إسرائيل باللاسامية .

وتقيم المنظمة مؤتمرا سنويا في واشنطن العاصمة لخدمة إسرائيل ويحضره أعضاء من الكونغرس الأمريكي ويؤكد البيان الختامي للمؤتمر على تأييده الكامل لليهود وعلى الالتزام بأمن إسرائيل، وبأن كل الأراضي المقدسة هي ملك للشعب اليهودي، وأن القدس هي العاصمة الموحدة الأبدية لإسرائيل والتي لايجوز تدويلها أو أن تكون محلا للتفاوض أو الحلول الوسط.. باعتبارها تشكل قيمة مهمة وأساسية لدى اليهود، ولدى المسيحيين البروتستانتيين أنفسهم لأنه المكان الذي يجب أن يقام عليه الهيكل استعداد للمجيء الثاني للمسيح وقد أكد البيان الختامي أيضا أن الشعب اليهودي في أي مكان سيظل شعب الله المختار الذي “يبارك الرب من يباركه ويلعن من يلعنه”.

وفي ذكرى مرور 40 عاما على انتهاء الحرب العالمية الثانية أصدر مؤتمر القيادة المسيحية الوطنية لأجل تحرير إسرائيل بيانا وجهه إلى جميع المسيحيين ونشره كإعلان في صحيفة نيويورك تايمز، هذا البيان الذي اعتبر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الخاص بإعلان الصهيونية كشكل من أشكال العنصرية ..اعتبره فضيحة لابد من إزالتها من سجل الأمم المتحدة وقد أكد أيضا هذا البيان على إعطاء اهتمام خاص لمعنى إسرائيل في فكر الشعب اليهودي وعقيدته وحياته خلال تاريخه الطويل ودعا إلى رفع الأصوات ضد اللاسامية التي تختفي وراء معاداة الصهيونية، وبالإضافة إلى هذا يعمل مؤتمر القيادة المسيحية الوطنية لأجل إسرائيل كائتلاف منظمات تعمل لدعم الصهيونية وإسرائيل وسط المجتمع المسيحي الأمريكي .ولذلك يعتبر من أقوى جماعات الضغط المسيحية الصهيونية. ويضم اللوبي المسيحي الصهيوني في الولايات المتحدة منظمات أخرى أصغر فهناك المنظمة المسماة مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل التي نشأت هي الأخرى بهدف تعزيز الموقف المسيحي الصهيوني ودعم إسرائيل. وهناك المصرف المسيحي الأمريكي لأجل إسرائيل The Amirican Christian Trust for Israël لنقل الأموال الأمريكية مباشرة إلى إسرائيل واستخدام التبرعات والمساهمات المالية في شراء الأراضي في الضفة الغربية وبناء وتوسيع المستوطنات.

ويصل الأمر لحد الاعتقاد بأن أمريكا ودعمها لإسرائيل ليس فقط التزاما سياسيا، وإنما رسالة إلهية بسببها يبارك الرب أمريكا وأصبح ملايين البروتستانت الأمريكيون يدعمون إسرائيل عن إيمان بأن دعم أمريكا لإسرائيل هو السبيل الأساسي لبقاء أمريكا السياسي والروحي. واستنادا على النص التوراتي “سأبارك من يباركك وألعن من يلعنك ” ، جعلت الصهيونية الأصولية أو بالأحرى البروتستانتية الصهيونية الأصولية في أمريكا – إسرائيل فوق الجميع – فالرب يبارك من يبارك إسرائيل، وهكذا أسست منظمات المسيحية الصهيونية الانحياز الأمريكي لإسرائيل على أساس لاهوتي ثقافي قبل الأساس الإستراتيجي وهذا الأساس اللاهوتي الثقافي هو الذي زاد من ضخامة وتأثير نقود إسرائيل واللوبي اليهودي في الولايات المتحدة .

*- بات روبرتسون منظمة الائتلاف المسيحي Christian Coalition
تأسست هذه المنظمة من طرف القس بات جوردون روبرتسون الواعظ التليفزيوني ومؤسس الشبكة التليفزيونية C.B.N عام1989وقد صعد روبرتسون مع صعود اليمين المسيحي في السبعينات والثمانينات، وذلك ما شجع روبرتسون للترشيح لرئاسة الجمهورية في الانتخابات الأولية للحزب الجمهوري عام 1988، وبعد ما فشلت حملة معركة روبرتسون للترشيح للرئاسة قاد تحولا داخل اليمين المسيحي الأمريكي وهو التحول من التركيز على البيت الأبيض والكونغرس إلى التركيز على مجالس المدن ومجالس المدارس وحشد الأصوات الانتخابية في الولايات المتحدة من خلال منظمة الائتلاف المسيحي التي أسسها وإخثار الشاب رالف ريد ليديرها .

إن روبرتسون ابن السيناتور السابق عن ولاية فرجينيا – ويليس روبرتسون- متخرج من مدرسة الحقوق في جامعة – بال – والذي يستضيف برنامجاًََ لمدة تسعين دقيقة يوميا يدعى نادي السبعمائة، هذا البرنامج الذي يصل إلى أكثر من 16 مليون عائلة أي إلى أكثر من 19٪ من الأمريكيين الذين يملكون أجهزة تلفزيون وهو يوظف حوالي 1300 شخص لإدارة شبكته التلفزيونية المسيحيةC.B.N .

وتضم – C.B.N – بالإضافة إلى نادي السبعمائة 3 محطات تلفزيونية ،محطة راديو، محطة تلفزيون – سي.بي إن – بالاشتراك، ومحطة تلفزيون في جنوب لبنان ، ومراسلون في أكثر من 60دولة وهي تقدم أخبارا من وجهة مسيحية إلى 27.3 مليون مشاهد تلفزيوني يشتركون بمحطة البث ويتألف جهاز المحطة من فئة يعملون خارج اللأستوديوهات في واشنطن وفي الإدارة المركزية في – فرجينيا بيتش- التي تدير مكاتب في لندن ونيويورك ولوس أنجلس.
كل هذه الأعمال والمحطات التليفزيونية من أجل نشر وجهة نظره المسيحية والتبشير بمعركة الهرمجدون التي ستقوم بين قوى الخير المتمثلة في الدين يؤمنون بنزول المسيح وقوى الشر المتمثلة في المسلمين أو بالأحرى كل من لايصدق بالمجيء الثاني للمسيح، هذا وتركز منظمة الائتلاف المسيحي على مجموعة من القضايا الأخلاقية وبصفة خاصة الإجهاض وحقوق اللواطيين والسحاقيات وتمويلات الصندوق القومي للفنون بحيث تشجع على أعمال عنف ضد عيادات الإجهاض بالإضافة إلى معارضة مبدأ فصل الكنيسة عن الدولة وتهاجم أيضا تقنين حقوق اللواطيين والسحاقيات بدعوى أن في ذلك تمييزا لهم عن سائر المواطنين، وذلك من خلال إسقاط تشريعات في عدد من الولايات تنص على مجموعة من الحقوق لأولئك اللواطيين والسحاقيات . وكان الائتلاف المسيحي قد قاد هجوما على الصندوق القومي للفنون بدعوى أنه يمول الفنون الإباحية، وقاد أيضا حملات حشد انتخابية على مستوى الولايات والمستوى القومي، ودعم فوز ريغان وبوش بالرئاسة باعتبار هذين الأخيرين التزاما بدعم إسرائيل في خطاباتهم وبرامجهم السياسية، ويقول روبرتسون عن مهمة المنظمة :”إنها تحرك المسيحيين صفا واحدا وجماعة واحدة في الوقت المطلوب ..إننا الرأس ولسنا المؤخرة..إننا في القمة ولسنا في القاع لنظامنا السياسي..الائتلاف المسيحي سيكون أكبر قوة مؤثرة في أمريكا بنهاية عقد التسعينات ..لدينا من الأصوات ما يكفي لحكم هذا البلد ..وعندما يضجر الناس سنحكم البلد ” .

ويصل عدد أعضاء الائتلاف الى 1.5 مليون عضو من المتبرعين المؤيدين ويتواجد في 25 ولاية من خلال 50 ألف عضو قيادي و25 ألف عضو ارتباطا بالكنائس ومنذ 1991 يعقد الائتلاف المسيحي مؤتمره السنوي تحت عنوان “طريق الى النصر يحضره 4000 وفد من مختلف الولايات كما يحضره رموز اليمين المحافظ في الحزب الجمهوري ويتوفر الائتلاف المسيحي على نظام اتصالات متقدم يستطيع الوصول يوميا إلى الملايين سواء عبر الشبكة التلفزيونية -C.B.N- أو من خلال الانترنيت والبريد الإليكتروني والبريد السطحي والهاتف والفاكس.
وتوزع منظمة الائتلاف المسيحي قبل كل انتخابات “بطاقات الرصد ” في أكثر من 70 ألف كنيسة لتحديد اتجاهات الناخبين إزاء برامجها كما توزع دليل الناخب الذي يحدد للناخب من ينتخبه وقد وزع التحالف 33 مليون نسخة من دليل الناخب قبل انتخابات 1994 و45 مليون نسخة قبل الانتخابات الرئاسية لسنة 1996 .

ويعكس خطاب الائتلاف المسيحي وحركته مضمونا مسيحيا صهيونيا متطرفاk فقد اعتبر بات روبرتسون أن إعادة مولد إسرائيل هي الإشارة الوحيدة إلى أن العد التنازلي لنهاية الكون قد بدأ وأن بقية نبوءات الكتاب المقدس أخذت تتحقق بسرعة مع مولد إسرائيل .
ويعتبر روبرتسون أن عودة القدس إلى اليهود هي أهم حدث تنبئي في تاريخنا. وأن زمان غير اليهود قد قارب على النهاية “، وتسيطر على عقله فكرة نهاية العالم بمعركة هرمجدون بين الروس والعرب الكفار من جهة وإسرائيل وأمريكا من جهة ثانية .
وقد نجحت المنظمات المسيحية الصهيونية في ترويج أفكارها ومعتقداتها وكيف لا وهي التي تتوفر على جميع الإمكانيات من تلفزيون وأنترنيت …هذا النجاح الذي ساهم في بروز الدور السياسي لحركة اليمين المسيحي الذي أصبح يشكل ما يسمى “بحزب الله ” في إطار تحالف الإيفانجيليين والحزب الجمهوري. واختراق مجموعة من الشخصيات التي تنتمي إلى اللوبي المسيحي الصهيوني للمؤسسات السياسية الأمريكية كما سنرى في الفصل الثاني .

الفصل الثاني:المحافظون الجدد وصناعة القرار الأمريكي.

لعل الحضور الديني في الخطاب السياسي الأمريكي، جاء بتزامن مع التأثيرات التي شكلها صعود تيار المحافظين الجدد الذي عرف طريقه إلى العمل السياسي، ليشكل عنصرا ضاغطا على الإدارة الأمريكية؛ حيث استطاع أن يخترق المؤسسات الدستورية الأمريكية – البيت الأبيض والكونغرس–(مبحث أول) وأكيد أن هذا التطور الذي عرفه فكر المحافظين الجدد سيجد صداه في المنتظم الدولي من خلال تأطير وتوجيه سلوكات صناع القرار الأمريكي الخارجي، الذي بدأت ملامحه منذ هجوم بيرل هاربر لسنة 1941إلى الوقت الحالي (مبحث ثاني ).

المبحــث الأول: اختراق المحافظون الجدد للمؤسسات السياسية الأمريكية .

لاشك في أن أفكار الثورة الفرنسية التي جسدتها الحركات العقلانية التي تدعو إلى تقديس العقل وخلق القطيعة مع الدين، قد أثرت في مسار الحركة الدينية الأمريكية. حيث ظهرت مجموعة من الكتابات تدعو إلى إبعاد الدين عن الممارسة السياسية. والأكيد أن هذا أدى إلى ظهور حركات إحياء ديني قوية اجتاحت أمريكا برمتها على مدى سنوات الحرب الباردة ( مطلب أول) حيث استطاعت أن تكسب تعاطف جمهور عريض، استغلته في النفاذ إلى مراكز القرار السياسي الأمريكي عن طريق اختراقها للمؤسسات الدستورية الأمريكية التشريعية والتنفيذية (مطلب ثاني).

المطلب الأول : الصحوة الدينية الثانية وبزوغ المحافظون الجدد
رغم أن تيار المحافظون لم يتجسد بشكل ملحوظ على مسرح الأحداث إلا مع العقد الثاني من القرن العشرين، فإن جذوره كما سبقت الإشارة إلى ذلك موجودة في البدايات الأولى للمجتمع الاستيطاني الأول.
فالآباء الأوائل آمنوا بالأفكار الأصولية، وبالعهدين القديم والجديد من الكتاب المقدس، واستمر تأثيرهم في مختلف مراحل تطور المجتمع الأمريكي حتى يومنا هذا. غير أن الثورة الفرنسية وما فتحته من مجال أمام انقلاب سياسي حقيقي وبالخصوص موجة الأفكار الديمقراطية التي بدأت بالسيطرة على المسرح السياسي؛ والتي أدت إلى إعادة تشكيل الخريطة الأوربية ومعها الذهنيان السائدة .
كل هذه الأفكار أثرت وبشكل كبير على التدين في الولايات المتحدة الأمريكية حيث ظهرت حركات عقلانية تنادي هي الأخرى باستخدام العقل، وقد سرت موجة جديدة من الليبرالية المتطرفة في رفضها للتقاليد والقيم الاجتماعية،والأخلاقية السائدة .

أدى هذا إلى ردة فعل مسيحية يمينية حيث ظهرت بوادر موجة جديدة من الإحياء الديني من خلال إعادة الاعتبار لمكانة الكتاب المقدس ،بفتح مجال لحركة دينية جديدة اجتاحت أمريكا. حيث تم التكثيف من النشاط الديني اليميني في أمريكا ووصف بعض قادة الحركات الجديدة أنفسهم وأتباعهم بالأصوليين لأنهم يعودون إلى أصول الدين بما في ذلك النصوص الدينية وتعاليم المسيح، هذه الأفكار التي توحي بتطرفهم نحو اليمين جاءت تعبيرا عن ردة فعل لما اعتبروه ليبرالية متزايدة في الأوساط الدينية البروتستانتية المعتدلة والتي اعتبروها تشويها للدين الصحيح، حيث عمد الأصوليون الجدد كما فعل الطهور يون الأوائل إلى الإصرار على عصمة الكتاب المقدس – بعهديه القديم والجديد – وعلى تفسير حرفي لنصوصه، وكان من نتائج ذلك أن رفض كثير من اليمينيين النظريات التعليمية التحديثية مثل نظرية النشوء والتطور الداروينية وفكرة كروية الأرض بل استمر بعضهم في معارضة هذه النظريات حتى منتصف القرن العشرين في إطار المطالبة بتدريس الكتاب المقدس ككتاب علمي يطرح بدائل لهذه النظريات .
ورغم أن تقديم سكوبز للمحاكمة بتهمة انتهاك قوانين الولاية بسسب قيامه بتدريس نظرية داروين حول نشوء الإنسان باعتبار هذه النظرية تعارض الاعتقاد بالخلق الإلهي للإنسان؛ كان بضغط من طرف اليمين المسيحي أو بالأحرى الأصوليين الإيفانجيليين لم يأتي بنتيجة لصالحهم حيث جري وصفهم بالتعصب واللاثقافة ومعاداة الحداثة، إلا أن هذا لا يعني أن هذا التيار الأصولي يعتبر هامشيا في المجتمع الأمريكي،والدليل على ذلك هو قانون تحريم الخمر الذي استمر في الولايات المتحدة من عام 1919 إلى 1933؛ وكان تعبيرا عن أخلاقية بروتستانتية أصولية في النظام الاجتماعي الأمريكي.

ومن الأحداث التي ساهمت أيضا في العودة إلى الكتاب المقدس حرب يونيو سنة 1967 والانتصار العسكري المدوي لإسرائيل فيها حيث ساهمت في إحياء الصهيونية المسيحية الأصولية الأمريكية وتوثيق علاقات التعاون بين منظماتها والمنظمات الصهيونية اليهودية والدولة الإسرائيلية .وقبلها كانت سعادة المسيحيين الأصوليين في الولايات المتحدة الأمريكية لا توصف؛نتيجة قيام إسرائيل عام 1948 حيث اعتبروا الحدث “أعظم حدث في التاريخ الحديث ودليلا على أن نبوءات التوراة صارت حقيقية ” فطبقا لإيمان هؤلاء؛ ومعظمهم من الذين يومنون بأن التوراة تنبأت بنهاية العالم؛ وإحلال مملكة جديدة بعد العودة الثانية للمسيح، فإنه من الضروري تجميع اليهود في الأرض المقدسة قبل عودة المسيح .بمعنى آخر فإن نهاية العالم لا تتم إلا بعد تأسيس إسرائيل الجديدة .

وبالرغم من أن هؤلاء المسيحيين أصيبوا ببعض القلق والانزعاج حينما علموا أن معظم قادة إسرائيل المؤسسين كانوا علمانيين ولا يستجيبون للتنصير وأنهم أعضاء في حزب العمل الذي له روابط وثيقة مع الاشتراكية الدولية المرفوضة من قبل الكنائس الأمريكية. إلا أن الانتصار الإسرائيلي العسكري لسنة 1967 كما سبق الذكر وما نتج عنه من احتلال لبقية أرض فلسطين وخاصة مدينة القدس إضافة إلى أراضي عربية أخرى كان أكثر أهمية عند المسيحية الصهيونية من تأسيس دولة إسرائيل والدولة اليهودية في 1948، فقد رأت فيه وخاصة احتلال إسرائيل للقدس كاملة ” تحقيقا للنبوءة التوراتية وإشارة لاقتراب نهاية الأزمنة” .وقد عبرت عن ذلك مجلة المسيحية اليوم Cristianty Today في 21من يوليوز 1967 بقولها “لأول مرة منذ أكثر من ألفي عام فإن القدس الآن كاملة بأيدي اليهود مما أعطى ويعطى لدارس التوراة إيمانا عميقا ومتجدرا في صحتها وصلاحيتها”.
وأمام هذا الانفجار العقائدي تظهر يقظة الكنيسة من خلال سعيها للتحكم في دواليب القرار السياسي وتوجيه الرأي العام في إطار إعادة التنصير كأولى أولويات الكنيسة ، وهكذا انطلقت في 1990 عمليات تنصيرية أخذ أحدها إسما هو مسيرة الإنجيل. وتبعتها الأيام العالمية للشباب في 1997، وكذا صدقات عام 2000 التي استهدفت الشباب بل انتقل الأمر إلى حملات دينية كبرى في جل العواصم الأوروبية .فبعد حملة فيينا 2003 تأتي حملة باريس توسان 2004 لتتلوها حملة لشبونة 2005 ثم بروكسيل 2006 فحملة بودابست 2007، ونظمت مع هذا مؤتمرات موازية لعل أهمها المؤتمر الدولي لإعادة التنصير، غير أن الخطير في الأمر هو تسلل كنائس دينية إلى أجهزة القرار السياسي الاقتصادي على حين غفلة في عدة بلدان .

وفي خضم هذه التطورات الهائلة والتعدد المهول للطوائف والنحل ظهر إلى الوجود تيار مسيحي أكثر صهيونية من الصهاينة أنفسهم وهو تيار المحافظون الجدد ، هذا التيار الذي يمثل حاليا أحدث تيارات الفكر المحافظ داخل الولايات المتحدة والأكثر تأثيرا على سياسة الرئيس بوش سواء الداخلية منها أو الخارجية، وقد بدأ هذا التيار كحركة فكرية يقودها عدد من المفكرين الليبراليين – اغلبهم يهود نيويورك – ، وقد دافع هذا التيار بشدة عن ضرورة اتخاذ سياسة خارجية نشيطة في مواجهة الشيوعية؛ ولم يحبذوا فكرة انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من العالم لأن ذلك سيفسح المجال أمام الإتحاد السوفيتي ليحل محلها .
والملاحظ أن أفكار المحافظين الجدد تأثرت بما جاء به ليوشتراوس الذي يعتبر الملهم الفلسفي لهذا التيار ، وقد عمل شتراوس كأستاذ للفلسفة في جامعة شيكاغو بالولايات المتحدة التي انتقل إليها من وطنه الأم ألمانيا سنة 1973 بعدما شاهد بشكل ملموس انهيار الديمقراطية البرلمانية الألمانية على يد النازيين والشيوعيين في آن واحد.

وقد أسس شتراوس في شيكاغو – رابطة الفكر الاجتماعي – التي مثلت النواة لنمط التفكير الاجتماعي الفلسفي لدى تيار المحافظين الجدد .وبهذا نجد أن التيار الشتراوسي وتلامذته ساهم في تشكيل وعي الجيل الجديد فلسفيا وسياسيا في الولايات المتحدة الأمريكية، ولعله من المفيد التأكيد على أهمية التيار من خلال التنويه بالمكانة التي كانت له في الجامعات التي درَّس فيه شتراوس. ومن أهم الأفكار التي يدافع عنها هذا التيار ويسعى جاهدا لنشرها على الصعيد العالمي هي فكرة الديمقراطية، فحسب هذا التيار يجب أن تكون قوية وكافية حتى تستطيع أن تقف في وجه الطغيان الذي يشكل الخطر الأكثر على البشرية؛ وفي هذه النقطة بالذات تظهر مقولة “أن ليس ثمة من فلسفة بريئة”بشكل واضح للغاية ؛وهذه الأخيرة تعتبر من أهم أفكار ليوشتراوس وهي كرد فعل عنيف على النازية التي عرفها في شبابه والتي هرب بسببها إلى الولايات المتحدة ، وهذا ما يفسر تنظيره حول أهمية اتخاذ القوة في نقل الديمقراطية إلى العالم،القوة التي تعتبر من أهم مبادئ المحافظين الجدد في نشر أفكارهم وبالخصوص بعد أحداث 11 شتنبر ولعل هذا ما يفسر البعد الإيديولوجي المفرط في تداول نظرية “القوة لأجل”أو”القوة لغاية”؛ وهي التي يتم على أساسها نقد الأمم المتحدة ومجلس الأمن لعدم قدرتها على ردع الخطر الاحتمالي تماما كما فعلت عصبة الأمم المتحدة مع ألمانيا عندما اعتمدت المسايرة والاحتواء والحوار مع نظام قمعي نازي خطير على الديمقراطية وهذا ما نظر له “ريتشارد بيرل” قبل الحربعلىالعراق . وفي هذا يقول أحد الباحثين أن القراءة الحرفية لنصوص الكتاب المقدس تدفع بالألفيين ومنهم المحافظون الجدد إلى محاولة تسريع الأحداث والنزاعات العقائدية الدموية من أجل نزول الرب وبناء المملكة الألفية، بحيث تدفع العقيدة الألفية العمل السياسي وقيادات العالم المسيحي نحو الصدام المحتوم مع الحضارات الأخرى، وفي مقدمتها الإسلام.

وارتباطا بما سبق قامت بعض المنظمات المساندة والتابعة لهذا التيار بأعمال عدوانية ضد مجموعة من شرائح المجتمع – كاللواطيين والسحاقيات –وكذا ضد مجموعة من عيادات الإجهاض، بدعوى الحفاظ على القيم الأخلاقية. هذه القيم التي تمثل لدى تيار المحافظين الجدد الأساس الذي تقوم عليه الديمقراطية، حيث تعتبر القيم الأخلاقية عند هذا التيار قيمة عليا مرتبطة ارتباطا وثيقا بالديمقراطية . ويرى شتراوس أن السياسة يجب ألا تمنع استصدار أحكام بالقيم وان من واجب الأنظمة الخيرة أن تدافع عن نفسها في مواجهة الأنظمة الفاسدة، وستحكم هذه الرؤية عقلية اليمين الجديد، التي ترى في نظامها السياسي ذروة الخير وفي أنظمة الآخرين ذروة الشر. وقد ساعد على هذا الاعتقاد بأن أمريكا أمة فضلتها العناية الإلهية وخصتها بمهمة مقدسة منذ بدء الاستيطان الأوربي لها، بالإضافة إلى الإدعاءات الأمريكية المستمرة بان لها مهمة مقدسة وهي نشر الديمقراطية والحرية والعلوم والنزعة الإنسانية في كل أنحاء العالم .ويكمن وراء هذه الأفكار مجموعة من الأهداف تدفع المسيحيين إلى الانغماس بالسياسة والاستيلاء على العالم. ولخدمة هذه الأهداف وفي مقدمتها إقامة مملكة الرب يسخر اليمين المسيحي بقيادة هؤلاء المحافظين مجموعة من المسائل والتي تتمثل في استغلال التكنولوجيا الحديثة من خلال التركيز على المجال الإعلامي في إطار ما يسمى بالكنيسة المرئية؛ عبر نشاطات وبرامج جماهيرية استعراضية فيما يسمى بالكنيسة الإليكترونية أو الكنيسة المرئية، أو الديانة في الوقت المناسب أو الرئيسي .

بيد أن مصدر القوة الأول تمثل في الشبكات الإذاعية والتلفزيونية التي أصبحت وسيلة حشد للجهود، وأداة لتوفير التمويل من خلال اتحاد المذيعين المرئيين الذي تضاعف عدد أعضائه أربع مرات خلال الفترة الممتدة ما بين1967و 1972. وقد ساهمت هذه الكنائس المرئية في الوصول بفاعلية إلى عدد كبير من الناس من خلال برامجها الاستعراضية. ويعني هذا التطور أن تيار المحافظين الجدد أو بالأحرى اليمين المسيحي كان حساسا للتغييرات التكنولوجية والاجتماعية في المجتمع الأمريكي. فتأسيس الشبكات الدينية التلفزيونية “الكنائس المرئية” كان تجاوبا مع أهمية وتأثير التلفزيون في المجتمع الأمريكي؛ فمتوسط ما يقضيه تلاميذ المدارس من الوقت أمام شاشات التلفزيون يفوق ما يقضونه في المدارس، أما البالغون فإنهم يمضون نصف وقت فراغهم في مشاهدة التلفزيون. وقد بدأ تأسيس هذه الشبكات التلفزيونية عام 1960 حينما أسس بات روبرتسون محطة تلفزيون فرجينيا التي كانت أول محطة يسمح لها ببث برامج دينية لأكثر من 50%من وقت البث؛ واستطاع روبرتسون اجتذاب 5 ملايين مشاهد لبرنامجه “نادي السبعمائة” واجتذب المبشر التلفزيوني جيري فولويل برنامجه “ساعة من إنجيل زمان” حوالي 5.6 مليون مشاهد . غير أن انتشار الشبكات التلفزيونية المسيحية تزامن مع نمو كنائس اللاهوت الأصولي ،وصعود المسيحية الإيفانجيلية الأصولية بدءا من النصف الثاني من السبعينات، فكما أظهرت استطلاعات معهد جالوب فإن ما بين خمس وثلث الأمريكيين في الفترة 1976 -1979 مارسوا العمادة من جديد – مسيحيين ولدوا ثانية – وتبقى هذه نتيجة طبيعية بالنظر للأعمال التي تقوم بها هذه الشبكات التلفزيونية كونها تخاطب ذلك المد الأصولي، فمقابل الكنائس التي لا تتجاوز دعوتها أبنيتها والأعضاء  بها أو الملتزمين بالصلاة فيها أيام الأحاد والأعياد والمناسبات الدينية؛ فإن الشبكات الدينية التلفزيونية كنائس مرئية تلفزيونية تصل دعوتها إلى داخل البيوت، فضلا عن أنها تستخدم الأسلوب الحواري الجذاب؛ فإن برامجها تتخطى الوعظ والإرشاد الديني إلى قضايا الانتخابات وشؤون المجتمع ابتداء من الضرائب والإجهاض والأخلاق ودور المرأة والأسرة والصلاة في المدارس مرورا بالشيوعية والحرب النووية وانتهاءا بدعم وتأييد إسرائيل وسياستها لأن في ذلك مرضاة للرب .

وتبرز أهمية وقوة تأثير الكنيسة المرئية وبرامجها في كون أغلبية مشاهديها من البالغين وبصفة خاصة أولئك الذين هم في سن الخمسين فما فوق؛ وتمثل هذه الفئة أضخم كتلة انتخابية وأكثرها ثراء في الولايات المتحدة الأمريكية ؛مما يعني أنها محل اهتمام السياسيين المتنافسين في الحملات الانتخابية المختلفة وبخاصة “حينما نعلم أن 75 بالمائة ممن هم في سن الخمسين فما فوق قد سجلوا أنفسهم في قوائم الانتخابات وأدلى 70 بالمائة في عام 1980 بأصواتهم في انتخابات الكونغرس ورئاسة الجمهورية”،وهذا يعني أن نسبة غير قليلة من هؤلاء كانوا من مشاهدي برامج الكنيسة المرئية ومن المتأثرين بها .
وتعتبر الكنيسة المرئية صناعة ثرية نتيجة جمعها للأموال باستخدام البرامج الاستعراضية التي تهتم بمسائل الوعظ الديني بل تهتم بالمسائل الاجتماعية والسياسية والعسكرية والأخلاقية والفنية والغنائية؛ بالإضافة إلى اعتمادها بشكل أساسي على تبرعات الأعضاء والجمهور المشاهدين المؤيدين والمتعاطفين مع هذه الكنائس. بحيث تجري العادة أن يعلن أصحاب برامج الكنائس المرئية، أثناء البث التلفزيوني عن فتح باب التبرعات بواسطة التلفون ويعلن عن الرقم على شاشة التلفزيون فيقوم المشاهد بالاتصال به خلال البث أو بعده وترسل التبرعات إما بشكل دوري أو مرة واحدة ورغم ضآلة قيمة المبلغ المتبرع به وغالبا ما يتراوح ما بين 20-50 دولار فإن الحصيلة تكون مبالغ طائلة وذلك بسبب كثرة أعداد المتبرعين؛ ويتلقى المتبرع عادة سيلا لا ينقطع من المنشورات والمطبوعات وأشرطة الراديو حول نشاط هذه الكنائس .

وهكذا ساعدت الكنيسة المرئية والمسموعة الحركة الصهيونية المسيحية على تحقيق مزيد من الانتشار أكثر مما حققه أسلافها القدامى؛ ونجحت الكنيسة المرئية والمسموعة في إقناع الكثير من الأمريكيين بأن أفكارها تمثل غالبية الرأي العام الأمريكي؛ وهي أفكار وقراءات للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعاصرة على ضوء تفسير النصوص التوراتية القديمة .وقد نجح دعاة التلفزيون في بدر فكرة وجود عدو خارجي يهاجم المسيحية حتى أن ملايين الناس أصبحوا يعتقدون أن عليهم واجب الإطاحة بالمجتمعات الشريرة المتآمرة ضد المسيحية؛بل أكثر من ذلك استطاعوا أن يشغلوا الرأي العام الأمريكي بفكرة نهاية الزمان والألفية السعيدة حيث أنه ومع اقتراب نهاية الألفية الثانية اجتاحت أمريكا موجة من التوقعات والنبوءات التي تشير إلى اقتراب نهاية العالم ونزول مملكة الله.وقد علق على ذلك المؤرخ الديني ويليم مارتن قائلا بأنه لم يسبق أن ازدهرت حركات نبوءات آخر الزمان في أمريكا مثلما تشهده صفوف المحافظين من البروتستانت، حيث أن الملايين من الأمريكيين كانوا يعتقدون أن نهاية العالم ستأتي في حياة الجيل الحالي وربما في الثمانينات، حيث يعود المسيح ليبدأ حكم الألف عام على مملكته الأرضية .

وفي استطلاع أجرته مؤسسة princetou reseurch Associates بتكليف من مجلة نيوزويك في 1999 /11/01 على عينة عشوائية تتألف من 755 أمريكي بالغ؛ بين أن النسب المئوية التالية من البالغين يعتقدون أن العالم سينتهي بمعركة هرمجدون حسب ما يصفها سفر الرؤيا:
*- 40 % من الأمريكيين البالغين بصورة عامة.
*- %45 من الأمريكيين المسيحيين البالغين.
*- %71 من البروتستانت الإيفانجيليين.
*-%28من غير البروتستانت الإيفانجيلين.
*-% 18من الكاثوليك ومن الدين يعتقدون أن المعركة سوف تقع
* – %47 يعتقدون أن المسيح الدجال موجود على الأرض الآن
*- %45 يعتقدون أن المسيح سوف يعود أثناء حياتهم . وفي شهر دجنبر1999 أجرى مركز بيو للأبحاثrew research center
دراسة بعنوان كيف ينظر الأمريكيون الى القرن الواحد والعشرون ,فأكدت هده الدراسة النتائج التي توصلت إليها مؤسسة بزينستون إذ وجدت أن :
44%من الأمريكيين يعتقدون أن المسيح سيعود أثناء حياتهم .
%22من الأمريكيين يعتقدون أن المسيح سيعود حتما قبل عام 2050
%44 من الأمريكيين يعتقدون أن المسيح قد لا يعود أثناء حياتهم .
و من خلال قراءة بسيطة لهذه النسب المئوية يتبين أن النقطة المختلف عليها هي الوقت الذي سيعود فيه المسيح؛ أما عن كونه سيأتي فهي نقطة محسوم فيها؛ بحيث أن الفئة الثالثة والتي تقول أن المسيح قد لا يعود أثناء حياتها و بالرغم من أنها تشكل 44 بالمائة إلا أن في جوابها هذا إشارة ضمنية على الإيمان بأن المسيح سيأتي. وبالتالي تكون النسبة التي تؤمن بالمجيء الثاني للمسيح هي الأغلبية الساحقة من المجتمع الأمريكي إن لم نقل كل المجتمع، وهذا إن ذل على شيء إنما يدل على التأثير الذي مارسته و تمارسه الكنائس المرئية و المسموعة على الرأي العام الأمريكي و صناعة القرار و الثقافة الأمريكيين .
وهذا ما تأكد بالخصوص نحو إسرائيل بحيث اكتست تعاطف شعبي أمريكي لا نظير له و بالخصوص مع بداية الثمانينات ؛كون عبارة إسرائيل صارت في مركز اهتمام قيادات الكنائس البروتستانتية الايفانجيلية في الولايات المتحدة الأمريكية و جعلت الشبكات الدينية التلفزيونية والإذاعية –الكنائس المرئية – من – إسرائيل- قضية القضايا في برامجها وحملاتها؛ تجمع التبرعات لدعمها و كذلك جولات زعمائها مثل جيري فولويل بات روبرتسون و جيمي سوا غارت و أورال روبيرتس و جيم بيكر ومايك إفانز.

وهذا ناتج أيضا عن الإرث التاريخي الذي ترسب في عقول الأمريكيين و بالخصوص لدى أولئك الإيفانجيليين المتعصبين و المتمثل أساسا في تلك الإسقاطات التي اعتمدها الآباء المؤسسون عند انتقالهم إلى العالم الجديد .و ذلك في إطار ما يسمى” بتهويد المسيحية”.
و في هذا السياق يأتي فولويل ليكشف عن مسيحية صهيونية و أصولية في كتابه “اسمعي أمريكا” بتأكيد أن الرب يحب اليهود و يتعامل مع الأمم حسب ما تتعامل به مع إسرائيل؛ و أن مخلصنا المسيح كان يهوديا، و الأعمال التي قام بها من منظمته الأغلبية الأخلاقية خير دليل على ذلك .

المطلب الثاني:تأثير المحافظون الجدد على مؤسستي البيت الأبيض والكونغرس الأمريكيين
حري بنا و ونحن نبحث في العلاقة بين الدين و السياسة في الولايات المتحدة الأمريكية ومدى حضور هذا العامل في السياسة الأمريكية أن نتتبع النفوذ الذي تتمتع به المجموعات الدنية داخل الإدارة الأمريكية؛ وعلى الخصوص داخل الحزبين الجمهوري و الديمقراطي، فمندالعام1980 بدا أن التحالق بين اليمين المسيحي و اليمين الجديد هو الحركة الأكبر تأثيرا. على الساحة السياسة الأمريكية إذ وجد اليمين المسيحي طريقة إلى داخل الحزب الجمهوري متحالفا مع اليمين السياسي . و هذه الصلة لم تبدأ سنة 1980؛ فالعلاقة بين القس ببلي غراهام زعيم منظمة”شبان المسيح” و الرئيس دوايت ايزنهاور معروفة كما أن القس غراهام كان يقيم صلوات إفطار في البيت الأبيض أثناء فترة رئاسة نيكسون، ولكن العلاقة وصلت إلى آفاق جديدة مع ترشيح ريغان و خلال رئاسته .و قد تعزز هذا التحالف بعد نهاية الحرب الباردة و انهيار الاتحاد السوفيتي مما أدى إلى تجديد الاهتمام بالقضايا المحلية في السياسية الأمريكية. وتركز اهتمام اليمين المسيحي على الأخلاق التقليدية مستفيدا من الدرس الذي خرج به من تجربة الثمانيات بأن يضع قدما داخل الحزب الجمهوري والأخرى داخل الكنائس الايفانجلية .
و في هذا السياق نجد توحدا في المصالح بين اليمين السياسي و اليمين الديني فكلاهما تجمعهما رؤية واحدة لأمريكا و العالم، فأمريكا هي( وطن استثنائي تاريخي ) لابد من أن يسود ويهيمن؛ ولا باس من ممارسة القوة في سبيل ذلك .ويأتي اليمين الديني ليدعم اليمين السياسي أيديولوجيا وذلك بهدف ضرورة تطهير الثقافة السائدة وشن الحرب المقدسة ضد(الشيطان) القابع في قلب الوطن أو الذي قد يظهر في أي بقعة من بقاع العالم معوقا امتداد (أمريكا)الرسالة التي تعبر عن الإرادة الإلهية devine Will .

وقد استمر تأثير اليمين المسيحي في العشرين سنة الأخيرة وخاصة على الحزبين الرئيسيين في أمريكا: الجمهوري والديمقراطي دون تمييز .فكارتر الديمقراطي وريغان الجمهوري تبنيا مقولات اليمين الديني بل إن المستشارين المقربين لهما كانوا رموزا لليمين الديني وتشير دراسة حديثة عن الدين في السياسة في الولايات المتحدة الأمريكية لمايكل كوربت وجوليا كوربت عن اختيارات التصويت الرئاسي في عامي 1980-1992 أن حركة اليمين الديني قد استطاعت أن تؤسس لها وجودا يجمع بين اليمين المحافظ سياسيا واليمين الديني إيديولوجيا؛ حيث توحدت الرؤى والتوجهات والممارسات التي امتزج فيها السياسي بالديني ، بهدف تغيير المجتمع الأمريكي جذريا ، الأمر الذي دفع أحد الباحثين بأن يصف اليمين الديني “بأكبر الحركات الاجتماعية التي شهدتها أمريكا في الربع الأخير من القرن العشرين “.
ولعب رالف ريد المدير التنفيذي للتحالف المسيحي فيما بين عامي 1989و 1997 دورا مهما في تطور اليمين المسيحي. وهذا الشخص الذي ينتمي إلى جيل جديد من الإنجيليين الذين لم يتربوا في الثقافة الأصولية أو حتى في ظل ثقافة إنجيلية محافظة ، فهو إنجيلي معاصر له اهتمام بالسياسة وساعد في أن يجعل من اليمين المسيحي الجديد تنظيما سياسيا عصريا من الناحيتين التكتيكية والإيديولوجية ويكون فاعلا في الحياة العامة .
وقد نجح ريد في ذلك كون أن اليمين المسيحي تغلغل بشكل كبير داخل الحزب الجمهوري ، ويتأكد ذلك من خلال المسح الذي أجرته اللجنة المركزية للحزب أو بالأحرى اللجنة القومية سنة 1993 على ممولي الحزب وتبين أن 92% أيدوا الصلاة في المدارس.
ورفض% 93 منهم أن تدرس بالمدارس المثلية الجنسية كأسلوب حياة مقبول .ورفض %84 منهم أي تمويل فدرالي للإجهاض ولبيان مدى تأثير اليمين المسيحي على مجموع المؤسسات السياسية الأمريكية وفي مقدمتها الكونغرس بمجلسيه (النواب و الشيوخ ) والبيت الأبيض سنعمل على رصد تعامل الإدارة الأمريكية مع مجموعة من القضايا في مقدماتها القضية الإسرائيلية باعتبارها تشكل لدى هؤلاء  الايفانجيليين إحدى الحلقات التي إن تلاشت وفقدت ضاع الهدف المنشود المتمثل في نزول المسيح؛وإقامة مملكة الرب الكبرى .فعلى مستوى مؤسسة الرئيس مثلا فكل شخص أراد أن يصل إلى  البيت الأبيض عليه أن يضمن برنامجه نقطة مهمة و أساسية كي يضمن الدعم الانتخابي و يفوز بشرف رئاسة الجمهورية؛ و هي الولاء التام و الدعم المطلق لليهود و للدولة الاسرائلية. و بدالك فان قيام الدولة الاسرائلية عام 1948 و كدا حرب 1967 و الانتصار العسكري لإسرائيل فيها كان من ضمن العوامل التي ساهمت في ظهور الصحوة الدينية و سلوكها نحو مقصدها العام باستعادة المكانة و الهيمنة طريق الدعاية الشعبية العامة؛ عن طريق اصطحاب هم التبشير في كل قطاع و مجال و تقوية العمل التبشيري و الثقافي و الإعلامي؛ ثم طريق الإمساك بمفاتيح القرار السياسي و الاقتصادي عبر لوبي قوي و شبكة منسجمة منظمة تدس أعضاؤها داخل الهيئات الحكومية . بالإضافة إلى أن هذه المرحلة بأحداثها و نتائجها شكلت –كما زعم أولائك الافانجيلين- تحقيقا لنبوءات الكتاب المقدس، فان الرئيس ترومان الذي عاصر قيام الدولة اليهودية والذي تأثر بالأفكار الصهيونية كان له شرف السبق في دعم اليهودية بعد توليه الرئاسة خلفا لروزفلت؛ حيث طلب من رئيس الوزراء البريطاني ادخال100 ألف يهودي إلى فلسطين و في عام 1946 أي بعد عام على تولية الرئاسة قال ترومان إن تأييد وطن قومي لليهود كان دائما صلب السياسة الأمريكية المنسجمة مع ذاتها.
وكان ترومان هذا أول من اعترف بدولة إسرائيل؛ وقد بلغ به الهيام بالصهيونية انه صرح في صباح يوم 14 ماي 1948 انه على استعداد للاعتراف إلى الصحافة حالا بإسرائيل ادا تسلم طلبا بدلك .وفعلا فقد سلم ترومان إعلان الاعتراف إلى الصحافة بعد 11دقيقة من إعلان الاستقلال .
والواقع أن النفوذ الذي بلغه اليهود و المسيحية الصهيونية على عهد ترومان لم يصلوه في عهد رئيس قبله و قد شمل هدا الحزبين الجمهوري والديمقراطي على السواء كما سبق الذكر؛ بل امتد ليشمل حتى الحزب الشيوعي الأمريكي فقد كان رئيسه إلى نهاية الأربعينات يهوديا يدعى جير هارت إيسلر.

وقد وصل الدعم الأمريكي في هذه المرحلة ذروته فعلى سبيل المثال بلغت المنح التي قدمتها أمريكا ل-لإسرائيل –من عام 1950الى عام 1954 “4035 مليون دولار”وقروضا بلغت 369 مليون دولار؛ ومساعدات فنية تقدر ب35 مليون دولار؛ وأجهزة علمية قيمتها 10 ملايين دولار؛ واستثمارات ب95 مليون دولار؛ وقد وصلت حصيلة بيع السندات الإسرائيلية 347مليون دولار؛ هذا باستثناء الإعفاءات الضريبية والرسوم التي تمنحها الحكومة الأمريكية على ما يصل من اليهود ؛وما يتم جمعه عن طريق الجمعيات والمنظمات الأمريكية المؤيدة لإسرائيل . والتي من ضمنها المنظمات التي سبقت الإشارة إليها في الفصل الأول، وقد خلف ترومان رئيس أكثر صهيونية وأكثر تحيزا منه وهو الرئيس إيزنهاور؛ حيث أن علاقة هذا الأخير مع اليهود قديمة قبل أن يصبح رئيسا .وهي تعود إلى الفترة التي كان يرسل فيها الطائرة تلو الأخرى إلى معسكرات الاعتقال اليهودية في ألمانيا عندما كان قائدا لقوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية وهي محملة بالمعلمين والكتب العبرية ولما أصبح رئيسا للولايات المتحدة أمر وزير الخارجية في 1954 بإصدار كتاب عن إسرائيل وسياسة أمريكا نحوها جاء فيه :”إن إسرائيل ولدت بعد الحرب العالمية الثانية وإنها قامت لتعيش مع غيرها من الدول التي اقترنت مصالح الولايات المتحدة بقيامها .” وقد بلغت به صهيونيته وتعلقه باليهود إلى درجة أنه لم يترك للرئيس كينيدي الذي جاء بعده إلا وصية واحدة أوصاه فيها بإسرائيل وقد نشرت جريدة جويش كرونيكل هذه الوصية في عددها الصادر يوم 27/01/1961 جاء فيها :”لقد تبلور في ذهني اعتقاد جازم نتيجة اتصالي الوثيق بكم بان شخصية إسرائيل القومية هي عصارة نقية للقوة والعظمة ، وهذا ما يحفزني على تتبع شؤون إسرائيل.يحدوني في ذلك عطف واندفاع نحو رعاية شؤونها ، مع تقديم تحياتي واحتراماتي.” لقد دشن كيندي تطلعه إلى الرئاسة برسالة بعث بها إلى الصهيوني الأمريكي جولد شتاين بتاريخ 10غشت 1960 جاء فيها بأنه “سيعمل جادا لو انتخب لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية على إنهاء الحرب بين العرب وإسرائيل “وقد أكد في غشت من نفس السنة أثناء خطاب له بأنه على يقين من بقاء إسرائيل، لأنها لم تخرج لحيز الوجود لتختفي،بل إنها ستبقى وليدة الأمل وموطن الرجاء؛ وأكد أيضا أنها ليست مسألة حزبية؛ بل هي التزام قومي والحزب الديمقراطي ملتزم بهذا الالتزام الذي سنه ويلسون .

وفي عهد جونسون حصلت إسرائيل على صفقات كبيرة من الأسلحة والمعدات التي مكنتها من هزيمة الجيوش العربية في حرب 1967. وقد كان أحد العوامل الرئيسية للدعم الكبير الذي قدمه الرئيس ليندن جونسون لإسرائيل هو الإعتقاد المسيحي المتطرف بمكانة اليهود في خطة الله وتدبيره للكون والبشرية وقد عبر جونسون عن هذه المعتقدات مرارا . ففي عام 1968 صرح جونسون أمام جمعية –بنات بارت- قائلا: إن بعضكم إن لم يكن كلكم لديكم روابط عميقة بأرض إسرائيل مثلي تماما. لان إيماني المسيحي ينبع منكم و قصص التوراة منقوشة في ذاكرتي تماما، مثل قصص الكفاح البطولي ليهود العصر الحديث من اجل الخلاص من القهر و الاضطهاد .و قد مرت مرحلتي كل من ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد بنفس الوتيرة إن لم نقل أكتر تأثرا و تحيزا من سابقيهم ،إلا أن المراحل التي تلت هذه المرحلة- و نتيجة للبعث الديني الذي شهدته الساحة الأمريكية- كانت أكثر تطرفا إلى درجة أن العام الذي عرف صعود كارتر إلى الحكم عرف بعام الإيفانجيلي كون أن كارتر أول رئيس أمريكي يعلن ولادته ثانية. ووفاء للأجندة المسيحية الصهيونية فان كارتر لم يزغ عن الطريق الذي رسمه سابقوه بحيث أول ما صرح به بعد وصوله إلى الحكم هو الالتزام بأمن إسرائيل،فقد أكد بقوله:”إن لنا علاقة خاصة مع إسرائيل؛ وانه من المهم للغاية انه لا يوجد احد في بلادنا أو في العالم أصبح يشك في إلتزامنا الأول في الشرق الأوسط إنما هو في حماية إسرائيل في الوجود إلى الأبد..والوجود بسلام؛ إنها بالفعل علاقة خاصة.و في عام 1979 فسر كارتر الخصوصية في العلاقة حيت قال :-إن علاقة أمريكا بإسرائيل أكتر من علاقة خاصة؛ لقد كانت و ما تزال علاقة فريدة لا يمكن تقويضها، لأنها متأصلة في وجدان الشعب الأمريكي نفسه و في أخلاقه و دياناته و معتقداته.وفي مارس من نفس السنة تم توقيع أخطر معاهدة في الصراع العربي الإسرائيلي في العصر الحديث ألا وهي معاهدة كامب ديفيد، وقد اعتبر لحظتها كارتر الرجل صاحب العصا السحرية الذي دفع بالسادات إلى توقيع هده المعاهدة. وهذا إن دل على شيء إنما يدل على صهيونية واضحة، وكتابه keepingfaith خير دليل على ذلك حيت يقول فيه:-إن الأخلاق اليهودية المسيحية و دراسة الكتاب المقدس هي موضوع مشترك يربط بين اليهود و المسيح. و كانت قناعتي بذلك هي جزء من كياني طوال حياتي؛ و كنت علاوة على ذلك على قناعة بان اليهود الذين نجوا من عمليات الإبادة خلال -الحرب العالمية الثانية- يستحقون أن يكون لهم وطن ، و أن من حقهم أن يعيشوا في سلام مع جيرانهم، و كنت على قناعة بان إيجاد وطن لليهود هو من تعليمات الرب و نتيجة لتلك القناعات الدينية و الأخلاقية فقد أصبح التزامي بأمن إسرائيل تابتا لا يهتز.

أما ريغان فقد صرح بأنه كان يشعر عند الانتخابات الأمريكية بأن المسيح يأخذه بيده ، وانه سوف ينجح ليقود معركة –الهر مجدون- التي يعتقد أنها ستقع خلال الجيل الذي يمثله و بالضبط في منطقة الشرق الأوسط .
و هذا ليس بغريب على رئيس تسيطر على عقله فكرة –معركة هرمجدون- و نهاية الزمان ؛ففي الاجتياح الإسرائيلي للبنان سأله أحد المراسلين عن رأيه فيما يحدث في الشرق الأوسط فأجاب بكل بساطة –ربما كانت هذه معركة مجيدو أي الهرمجدون.
وفي محاولة لكسب دعم شعبي و كذلك مساندة منظمات المسيحية الصهيونية قام ريغان أثناء مؤتمر ترشيحه للرئاسة عام 1980باعلان تأييده للأجندة الأخلاقية لليمين المسيحي في خطاب وجهه الى اجتماع كهنوتي؛ و بالفعل فقد قامت منظمة الأغلبية الأخلاقية بنشاطات مكثفة لصالح ريغان خلال حملته الانتخابية؛ و تمكنت الأغلبية الأخلاقية التي كانت تمثل القلب المحرك لليمين المسيحي من حشد ثلاثة ملايين ناخب في الانتخابات الرئاسية و التشريعية .و بذلك أصبح اليمين المسيحي قوة مؤثرة في فوز ريغان . و ردا للجميل أو بالأحرى للخدمة التي قدمتها منظمة الأغلبية الأخلاقية فقد عين ريغان عددا من شخصيات اليمين المسيحي في مناصب سياسية مهمة .وقد أعاد التأكيد كذلك على تأييده لقضايا أجندة اليمين المسيحي في خطابه أمام –الاتحاد الوطني للإذاعيين الدينيين عام 1983 .
و من خلال هذا فإن ريغان حين تولى الرئاسة بعد كارتر كان اكتر اندفاعا منه في تأييد إسرائيل و خطاباته و تصريحاته تطفح بالروح الصهيونية، يقول لأحد أعضاء اللوبي اليهودي الأمريكي “إني أعود إلى نبوءاتكم القديمة في التوراة حيت تخبرني الإشارات بان المعركة الفاصلة بين الخير و الشر مقبلة….و أجد نفسي أتساءل :إذا ما كنا الجيل الذي سيشهد وقوع ذلك، إنني لا أعرف إذا ما كنت قد لاحظت هذه النبؤات مؤخرا صدقني إنها تصف الأوقات التي نجتازها الآن.

و بعد 8 أعوام من حكم ريغان الذي كان قد وعد بتنفيذ مطالب الأغلبية الأخلاقية ظل نشطاء اليمين المسيحي يحركهم أمل حضر خلال حكم جورج بوش الأب، فحوالي 80% من الأصوات الايفانجيليين ساندت بوش في الانتخابات الرئاسية عام 1988. و بعد الانتخابات دعي حوالي 100 من قيادات اليمين المسيحي إلى البيت الأبيض لتبادل الآراء مع نائب الرئيس دان كويل و كبار مساعدي الرئيس . وكان زعماء حركة مناهضة الإجهاض واثقين من عزم الرئيس على اختيار قضاة للمحكمة العليا يسقطون حكم إباحة الاجهاض؛ و لكن ثقتهم تراجعت عندما عين بوش لويس سوليفان الذي لم يكن معارضا للإجهاض وزيرا للصحة. وفي سنة 1989 حكمت المحكمة بوقف قانون كان يحظر استخدام الأموال و التسهيلات العامة و الموظفين العاملين في إجراء الإجهاض ،ولكن اليمين المسيحي في أواخر الثمانينات لم يقبل بموقف بوش فواصل نفوذه داخل الحزب الجمهوري على المستوى المحلي –الولايات- بعد أن كان قد دفع بأحد قاداته وهو المبشر التلفزيوني بات روبرتسون للترشيح للرئاسة كحركة للمزايدة على ممارسة النفوذ على المستوى القومي .لكن العلاقة القديمة والوثيقة للرئيس بوش مع القس بيلي غرا هام رئيس مؤتمر المعمدانيين الجنوبي وأكثر رعاة الكنائس تأثيرا على الرأي العام الأمريكي والعالمي؛ بالإضافة إلى دعم القس الأصولي المسيحي المتطرف الآخر جيري فولويل لجورج بوش ؛ كانا من العوامل الرئيسية التي مكنت بوش من الحصول على ترشيح الحزب له. ويذكر أن الرئيس بوش قال في يناير عام1992في برنامج تلفازي بمناسبة الذكرى الثانية للحرب على العراق “إنه دعا أحد أصدقائه من رجال الدين وطلب منه النصح فبارك القس تلك الحرب” . ومما لاشك فيه أن بوش قد خاض غمار هذه الحرب دفاعا عن إسرائيل ونيابة عنها، فإسرائيل بالنسبة لأمريكا غاية ووسيلة كما تقدم .وقد أدلى الجنرال شوارسكوف بتصريح حول حرب الخليج بتاريخ 23 ماي 1991قال فيه للإسرائيليين :أريد أن أقول لكم جميعا أن الولايات المتحدة الأمريكية دولة صديقة لكم؛ بإمكانكم أن تثقوا بها وتعتمدوا عليها ؛وإنها لن تتخلى عنكم ..إن الحرب التي خاضها رجالنا والكلام دائما لشوارسكوف في منطقة الخليج كانت من أجلكم ومن أجل إسرائيل ، وقد عمل الرجال على تحطيم عدوكم -العدو الرئيسي لكم في المنطقة – .

وبعد الترويع والتركيع جاء دور التطبيع .هذه الخطة التي سارت عليها أمريكا وحليفتها إسرائيل ، فقد روعت أمريكا الشرق الأوسط و من وراءه العالم العربي الإسلامي في حرب الخليج وركعت العراق وحجمته ووزعت الغنيمة بينها وبين حلفائها ، من بترول ونفوذ في المنطقة، وكان مما وزع أيضا ولاءات العرب فقد خرجوا من الحرب موزعين ، لكن حرب الخليج لم تحقق الهدف الأساسي الذي هو التطبيع مع الكيان الصهيوني ، وكانت هذه هي المهمة التي أوكلت إلى من جاء بعد بوش ألا وهو بيل كلينتون . هذا الأخير الذي أثرت خلفياته الدينية على موقفه من إسرائيل ، فهو يحكي تأثره الكبير بموت أحد كبار رجال الدين النصارى حيث كان هذا القس قد تحدث إلى كلينتون قبل موته قائلا :”إنه –أي القس-يأمل في أن يصبح كلينتون رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية ، ولكن يجب عليه المحافظة على إسرائيل “وقد أوضح التحالف البروتستانتي اليهودي جليا خلال محادثات كامب ديفيد الثانية حيث نقلت الصحف قول كلينتون لعرفات “إن المسيحيين في كل العالم يقدسون جبل الهيكل “وهو يقصد به مكان المسجد الأقصى وكان ذلك ردا على عرفات الذي قال أنه لا يستطيع التنازل عن الأقصى لأنه مقدس عند المسلمين .وفي 5/10/2000 نقلت شبكة CNN أخبار المظاهرات الشعبية في يوغوسلافيا التي كانت تطالب باستقالة الرئيس سلوبودان ميلوزوفتش وقالت الشبكة الإخبارية “إن الولايات المتحدة الأمريكية تقف إلى جانب الشعوب التي تكافح من أجل الحرية “وفي اليوم الثاني علق الرئيس بيل كلينتون على الأحداث في يوغوسلافيا بتصريح قال فيه “إن الشعب اليوغوسلافي البطل يريد أن يستعيد حريته ، يريد أن يستعيد وطنه “. وفي تلك الفترة بالذات –لحظة تصريح بيل كلينتون – كانت الشبكة الإخبارية CNN تنقل أخبار أعمال المقاومة التي يقوم بها الفلسطينيون فيقتلون الإسرائيليين المدنيين؛ وكانت تلك الشبكة تعرض الأفلام الإخبارية الدموية المثيرة لكي توضح هذه الأعمال الإرهابية –في منظورهم- ،في حين كان الجيش الإسرائيلي في هذه اللحظة ينفذ عمليات وحشية ضد الشعب الفلسطيني ويهدم المنازل ويقتلع أشجار الزيتون في الأرضي المحتلة الفلسطينية لكن هذه الأحداث لم تجد طريقها إلى شاشات التلفاز الأمريكي ولا حتى القليل منها ، ولم يذكر الرئيس كلينتون في دفاعه الحماسي عن الشعب اليوغوسلافي – الذي يريد استعادة حريته واستعادة وطنه – شيئا عن كفاح الشعب الفلسطيني الذي لايزال منذ أكثر من نصف قرن يكافح من أجل استعادة وطنه .بل على العكس من ذلك كان الرئيس كلينتون ووزيرة خارجيته في تلك الفترة يطالبان الشعب الفلسطيني بوقف أعمال المقاومة إيقافا تاما كشرط أساسي للمفاوضات مع الحكومة الإسرائيلية .

وبالرغم من أن كلينتون ينتمي إلى الحزب الديمقراطي ، وكان فوزه نصرا لليسار السياسي ، لكن انتماءه اليساري لايعني أنه اقل تمسكا بالمعتقدات الدينية ودراية باستغلال الشعور الديني لدى عامة الشعب الأمريكي ، فقد كان كلينتون أثناء حملته الانتخابية حريصا على أن يراه الأمريكيون وهو يدخل إلى الكنيسة، ومع أن اليمين المسيحي كان دائما منحازا للحزب الجمهوري ، فكلينتون صرح مرارا أنه ينتمي إلى الأصولية المسيحية وهكذا فحتى بعد انتهاء ولايته ؛وعندما لم يكن لديه أهداف سياسية فقد خطب في حفلة لجمع التبرعات لصالح إسرائيل في كندا بتاريخ 24-07-2002 وقال في خطابه أنه مستعد لحمل السلاح والوقوف في الصفوف الأمامية للدفاع عن إسرائيل .

إضافة إلى هذا فالتأثير الذي مارسه اليمين المسيحي، وكذلك الثقافة الدينية اليمينية لخلفه جورج بوش الابن تجسدت في الإدارة الأمريكية الحالية التي أصبحت ناديا للمحافظين الجدد بدون منازع؛ فأشخاص من مثل بول وولفويتز الذي شغل منصب وزير الدفاع وريتشارد بيرل الذي اعتاد أن يستغل صداقاته واتصالاته داخل الإدارة الأمريكية لخدمة إسرائيل فهو وثيق الصلة بنائب الرئيس ديك تشيني وبوزير الدفاع رونالد رامسفيلد ونائبه بول وولفويتز؛ وهذا الأخير هو الرئيس المشارك مع بيرل للوصاية الصهيونية التي توجه السياسة الخارجية الأمريكية، وتعاد العرب والمسلمين .بالإضافة إلى هذا هناك أيضا بول بريمر الذي عينه بوش لإدارة العراق بعد الحرب وجون بولتون، وستيفن براين وكل هؤلاء تتلمذوا كما سبق الذكر على يد ليوشتراوس؛ الأب الروحي لتيار المحافظين الجدد .

ويؤمن هؤلاء بافتراضين أساسين فيما يتعلق بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية في مرحلة مابعد الحرب الباردة :الإفتراض الأول أن الولايات المتحدة هي القوة العظمى الوحيدة المتبقية، وأن ذلك يفرض عليها عددا من الإلتزامات والمسؤوليات التي لا يمكن تجنبها كعضو في النظام الدولي، ومن تم أهمية قيام الولايات المتحدة بتعزيز قدراتها العسكرية وامتلاك قوة عسكرية حديثة ومتطورة ،وهو مايتطلب زيادة ميزانية الدفاع وميزانية الإنفاق العسكري، والإفتراض الثاني هو أن الولايات المتحدة يجب أن تنتقي إلتزاماتها الخارجية بمعنى أخر فالولايات المتحدة يجب أن تتجنب الإلتزام الزائد في الخارج ،ويعني هذا أن قادة الولايات المتحدة يجب أن يمارسوا قدرا من التمييز والإنتقاء بالنسبة للقرارات التي ترتبط بها الولايات المتحدة الأمريكية بالنسبة للقضايا الدولية ، وأن يقوموا بذلك فقط عندما يكون الحفاظ على المستقبل الوطني والأمن في حالة خطر واضح .
وقد كان لهذا التيار تأثير كبير في الحرب الأخيرة التي تقودها الولايات المتحدة على العراق وبالخصوص بول وولفويتز حيث دعا منذ 1991 إلى الإطاحة بنظام صدام حسين بالتعاون مع المعارضة العراقية، وازداد إصراره بعد أحداث الحادي عشر من شتنبر وكان رأيه أن صدام حسين يجب أن يسقط قبل تسليم أسلحة الدمار الشامل إلى الجماعات الإرهابية مثل القاعدة، وذلك إضافة إلى اعتقاده بأن نقص الحرية في الشرق الأوسط من أسباب الإرهاب ،ولذلك فالديمقراطية ستقلل من خطر هذا الإرهاب .

ومما لاشك فيه أن الضغط الذي مارسه المحافظون الجدد على رؤساء أمريكا في العقود الأخيرة لزمه تأييد كبير داخل الكونغرس بمجلسيه بحكم أن المحافظون الجدد يستأثرون في غالب الأحيان بأغلبية المقاعد ،وبديهي أن تتجسد هذه الأغلبية في تمرير ترسانة من القوانين المؤيدة لإسرائيل، وفي هذا الإطار تعهد زعيم الأغلبية الجمهورية الجديد في مجلس النواب الأمريكي جون بوتر أمام مؤتمر إيباك في 8 مارس 2006 بقوله :”باعتباري الزعيم الجديد للأغلبية في الكونغرس فإنني أستطيع أن أؤكد لكم أنه لن يحدث في ضل قيادتي أن يتم بأي طريقة ممكنة مناقشة أي تشريع مناهض لإسرائيل في مجلس النواب .ويبقى أصدق تعبير لضغط المحافظون الجدد على الكونغرس في مشروع القانون الذي تقدم به كل من فرانك وولف وأرلين سيكتور باسم التحرر من الاضطهاد الديني في شتنبر 1997 حيث أكد أنه تشريع يهدف إلى سد الطريق على تنامي الاضطهاد الديني، من خلال تكوين مكتب جديد لمراقبة الاضطهاد الديني عن طريق الوزارة الخارجية بفرض عقوبات على الحكومات التي تشارك بنشاط أو فشلت في أحد الخطوات لتقليص الاضطهاد الديني . وبعد مناقشة مكثفة تمت الموافقة على القانون في ماي 1998 بأغلبية مجلس النواب ليخرج بذلك إلى الوجود تحت اسم قانون “الحرية الدينية الدولية “للتعبير عن السياسة الخارجية التي تنهجها الولايات المتحدة الأمريكية تجاه الأفراد الذين يتعرضون للإضطهاد الديني في العالم ، وتفويض للولايات المتحدة اتخاذ الإجراءات اللازمة .بما في ذلك ضرورة توفير فرص للبعثات الدبلوماسية الأمريكية في الخارج لتنظيم نشاطات دينية عن طريق أداتين مهمتين هما سفير مكلف بالشؤون الدينية لرصد الإضطهاد الديني في العالم ،ولجنة الحرية الدينية لإمداد الإدارة الأمريكية بتوصيات حول حالات الحرية الدينية في العالم .

المبحث الثاني:تأثير المحافظون الجدد في المسرح الدولي من خلال السياسة الخارجية الأمريكية.

منذ أكثر من ربع قرن حاول اليمين المحافظ الأمريكي فرض هيمنته الإيديولوجية والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية؛ وقد حقق في مهمته هذه نجاحات متفاوتة، فأمريكا التي استطاعت أن تكسر عزلتها بانخراطها في الحرب العالمية الثانية؛ خرجت بأكبر الامتيازات بالمقارنة مع التضحيات الهزيلة التي قدمتها. والأكيد أن هذه المغامرة ستدفع السياسة الخارجية الأمريكية إلى مزيد من التدخل في الشؤون الدولية، إفتتحتها بدخول غمار حرب باردة طويلة أدت ثمنها باهضا في إطار حروب الوكالة التي تقابلا فيها الطرفان وإن بشكل غير مباشر .
غير أن السقوط المفاجئ للإتحاد السوفياتي وإعلان بوش الأب عن ميلاد نظام عالمي جديد يكرس التفوق الإستراتيجي الأمريكي؛ أعطى الولايات المتحدة الأمريكية الحق الحصري في اللجوء إلى القوة لحل النزاعات الدولية .وبذلك وجد الفكر اليميني المحافظ الفرصة المواتية للتسرب إلى أغوار الإدارة الأمريكية في محاولة منه لتحويل أفكاره وأحلامه إلى برامج عملية، وقد تأتى له هذا إثر الزواج بين كل من اليمين الجمهوري السياسي واليمين الديني المتطرف الأمر الذي مهد له الوصول إلى البيت الأبيض وبقوة كما يظهر في إدارة بوش الحالية .والأكيد أن هذه المغامرة قد أعادت إلى الأذهان تلك التي خاضها الآباء المؤسسون الأوائل؛وذلك من خلال إحياء الثلاثية المقدسة المتمثلة في “العسكري والتاجر والمبشر” .وعليه كما سنرى فإن الإستراتيجية الأمريكية إبان الحرب الباردة (المطلب الأول) قد حددت المعالم الكبرى للسياسة الخارجية في النظام الدولي الجديد التي انتقلت من التسلط العولمي مع كلينتون الى عولمة الإرهاب مع بوش الابن (المطلب الثاني) في محاولة إنفرادية لإبتلاع العالم وأمركته وإخضاعه لفكرة “استبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة “.

المطلب الأول : دور المحافظون الجدد في صياغة الإستراتيجية الأمريكية إبان الحرب الباردة.
منذ بيرل هاربر في 1941 أخذت الولايات المتحدة الأمريكية في الإنخراط في الشؤون العالمية ، بقوة بدون تراجع ، وقد أفرز هذا الإنخراط نوعا من التشابك بين المطمح القومي للدفاع عن المصالح الأمريكية من جهة ونزعة الحركة التدبيرية التي تسعى إلى إقامة الألفية الثالثة السعيدة ،وأكيد أن هذا التشابك الذي عبر عنه وصول المحافظون الجدد إلى المؤسسات السياسية سيحدد المعالم الكبرى لسلوكات وتصرفات الساسة الأمريكان ، ففي 10يونيو 1942 أفصح الرئيس روزفيلت أن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تتبع طريقتين واضحتين في نفس الوقت إبان الحرب العالمية الثانية؛ أولهما إمداد فرنسا وبريطانيا بالموارد المادية، وثانيهما الإسراع لتطوير الموارد لدعم القوات المسلحة الأمريكية ” . وبذلك تكون هذه هي الخطوة الأولى في تكسير “انعزالية أمريكا” ،وقد كرس هذا مشروع قرار “الإعارة والإيجار” الذي استطاع روزفلت أن يقنع به الكونغرس حيث أكد أنه:أفضل طريق لإقصاء الولايات المتحدة الأمريكية من الحرب هو أن نبدل كل ما في وسعنا الآن لمساندة الأمم التي تدافع عن نفسها ضد هجمات جيوش المحور ..فهدفنا الوحيد هو إبعاد شبح الحرب عن بلدنا وشعبنا ..عن طريق جعل أمريكا مؤسسة عظيمة لتصنيع الديمقراطية ” . إنها مرحلة جديدة في الإستراتيجية الأمريكية تكون فيها متورطة تماما في شؤون العالم ، وأصبح الوضع يتطلب منها التدخل وبشكل مكثف مع الحرص على تجنب الخسائر البشرية التي قد تهز من استقرار الأمن الداخلي ،وهذا ما حاول روزفلت أن يؤكده في خطابه الشهير “أود أن أؤكد لكم أيها الآباء والأمهات ..أنني لن أرسل بأبنائكم إلى أية حروب أجنبية ” . إنها كما يقول ستيمسون “إعلان لحرب اقتصادية “.

وبانتهاء الحرب أصبحت أمريكا تتمتع بنفوذ قوي في أربعة أخماس أهم مناطق صناعية في العالم..لقد كانت النتيجة تدعو للسخرية، إذ أن الولايات المتحدة الأمريكية فازت بأكبر المكاسب بالمقارنة مع القوى العظمى الأخرى رغم أنها قدمت أقل التضحيات ” .إنها في رأي العالم” بطلة العدالة والحرية والديمقراطية “.غير أن هذه المكاسب ستتعرض لخطر السوفيات الذي بدأ الإحساس بعدائه يسري إلى كواليس وزارة الخارجية الأمريكية، وهذا ما عبر عنه جورج كينان بقوله “يجب ألا نفعل أي شيء يجعلنا نظهر كأننا نحدو حذو “تشرشل في تأييده المعنوي لقضية روسيا ، يبدو لي أن الترحيب بزمالة روسيا في الدفاع عن الديمقراطية ،سيؤدي إلى إساءة فهمنا ” ،فكل مايطلبه كينان أنذاك وهو أن يوقف روزفلت إمداد الروس بالدعم والتمهيد لمواجهتهم؛ وذلك “بتخييرهم بين تغيير سياستهم تماما والموافقة على التعاون على إنشاء دول مستقلة حقا في أوربا الشرقية، وبين فقدان تأييد ورعاية دول الغرب الحليفة خلال المراحل المتبقية من العمليات الحربية ” .إنها مرحلة جديدة للدبلوماسية الأمريكية؛ تحددت معالمها في سياسة الفهم العام لجورج كينان الذي أكد أن الإعتراف بالمصلحة القومية المعروفة بالعقل بحسبانها الدافع الشرعي للقسم الأكبر في سلوك الأمة ،والإستعداد للسعي وراء المصلحة دون ذريعة أخلاقية أو اعتذار ، ستكون السياسة هي التي تبحث الإمكانات التي تخدم مبادئنا الأخلاقية في سلوكنا وليس في حكمنا على الآخرين ..وذلك في الاقتصار على الاهتمام بشؤوننا مالم تكن هناك أسباب قاهرة للاهتمام بشؤون الآخرين ” .ومع تنامي المد الشيوعي لم يجد ترومان من بد إلا أن ينصب نفسه المدافع عن حضارة الغرب “إلا أن تلك السياسة تضمنت “أبعادا عنصرية حيث أن تطبيق مصطلح حضارة الغرب على الملونين في العالم كان يعني حكم الرجل الأبيض .لقد انتهت فترة سيادة أوربا الغربية ولم يبقى من جنس الرجل الأبيض غير الأمريكيين ..إن أهم ما في الموضوع هو أن جميع الأمريكيين بما في ذلك شخصيات بارزة في الحكومة كانوا على ثقة من قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على استخدام قوتها ونفوذها لإصدار الأمر إلى العالم كله بإتباع الرأسمالية الديمقراطية على النمط الأمريكي .

إن هذه الثقة التي عززها مشروع “منهاتن”وتمكن أمريكا من صنع القنبلة الذرية ستؤدي إلى علاقات أقل “همجية”مع روسيا ،حيث بدت القنبلة وكأنها معجزة مرسلة من السماء إلى الأمريكيين ، فقد أصبح في استطاعتهم فرض رغباتهم على أي أمة بمجرد التهديد باستخدام القنبلة؛ إلا أن هذه التهديدات لم تمنع فشل أمريكا من إقرار حكومة ديمقراطية ببولندا، إضافة إلى تشابك أزمة إيران وتركيا،بل وتطورت الأزمة أكثر عندما صرح المعسكر الشرقي بمقترح وضع حد نهائي لإنتاج واستخدام الأسلحة الذرية، حيث رد عليه إيزنهاور بقسوة ووضوح بقوله :”إذا تخلت الولايات المتحدة الأمريكية عن القنبلة الذرية،كيف تتمكن من صد الجيش الأحمر” .وبذلك بدأ سباق التسلح يشق طريقه نحو المستقبل وأدخل العالم في دوامة من التهديدات والتهديدات المضادة، مما فرض تغييرات متميزة في السياسة الخارجية الأمريكية وفي العلاقات الدولية بصفة عامة لتحديد مناطق نفوذ كل معسكر في العالم، الأمر الذي فتح المجال أمام إمكانية نشوب حرب عالمية ثالثة في أي لحظة .

إن الوضعية العامة للمنظومة الدولية فرضت علة ترومان صد الشيوعيين ولكن بطريقة أكثر عملية، حيث أكد في خطاب وجهه للشعب الأمريكي في 12/03/47″إنني أؤمن أن سياسة الولايات المتحدة الأمريكية يجب أن تساند الشعوب الحرة التي تقاوم محاولة الاستعباد ، سواء من خلال الأقليات المسلحة أو عن طريق الضغوط الخارجية ” . وقد نجح ترومان من إقناع الشعب الأمريكي لقيادة حروب صليبية بطولية لتحضير العالم اجمع؛ وأن يكون تدخله في العالم صراعا بين الظلام والنور؛ أو الخير ضد الشر حسب تعبير ترومان .
وعلى أساس هذه الخلفية انطلق مشروع مارشال لتهيئ وإعادة بناء أوربا الغربية التي دمرتها الحرب؛ وحماية الجزر اليونانية وتركيا وإيران من الضغط السوفياتي، وأكيد أن هذا التطور في الإستراتيجية الأمريكية كان سيصطدم مع مطامح السوفيات في امتلاك أكبر قدر من العالم مما كان يلوح في الأفق بملامح نشوب حرب نووية مدمرة.
وفي خضم هذا التوتر كشف ترومان بشكل مباشر وأكثر وضوحا بيانا شاملا للإستراتيجية القومية الأمريكية، من خلال وثيقة حملت رقم 68 لمجلس الأمن القومي..إنها كما يقول والتر لافيير :”إحدى الوثائق التاريخية الرئيسية الخاصة بالحرب الباردة . إنها المبرر الوحيد في تولي أمريكا دور دركي العالم كله .وقد أدرك ترومان أن هذه الوثيقة تعني بدل مجهودات عسكرية فائقة في زمن السلم، وكانت تعني أيضا مضاعفة الميزانية أو زيادتها حتى ثلاثة أمثال ،كما كانت تعني كذلك إجراء تغييرات جسيمة في الطريقة التي تعودنا أن ننجز بها أعمالنا في زمن السلم ” .وبذلك تكون هذه الوثيقة قد وضعت معالم الرؤية الأصولية للنزعة العدوانية الشرسة للسوفيات في خضم الحرب الباردة. التي هي في الأصل حرب فعلية يتوقف عليها بقاء العالم الحر ،طرف هو النبل والسمو وطرف آخر هو الشر المطلق حسب تعبير جمعية جون بيرتش اليمينية المتطرفة، ووعاظ أصوليي اليمين . وفي هذا يقول بول نيتز محرر الوثيقة رقم “68” لمجلس الأمن القومي أن “المخطط الإستراتيجي الأساسي للكرملين هو التخريب الكامل أو التدمير عن طريق العنف لكل من آلية الحكم وبنية المجتمع ،فالهدف الحقود الثابت لدولة العبيد يكمن في الإجهاز على تحدي الحرية في كل مكان، والاندفاع الطليق للكرملين يطالب بالسلطة الشاملة على جميع الناس داخل دولة العبيد نفسها مع سلطة مطلقة على سائر العالم ،وقوة الشر هي قوة كفاحية بالضرورة ، مما ينفي حتى مجرد التفكير بالمصالحة أو التسوية السلمية ،إنها مرحلة حرجة بالنسبة للشعب الأمريكي الذي كان مضطرا لتقديم مزيد من التضحيات والتخلي عن بعض امتيازاته في دوامة الصراع المفروض عليه ، فالمهم من وراء كل هذا بشكل خاص بالنسبة للشعب الأمريكي هو “تحصين نقاباتنا العمالية،ومشروعاتنا المدنية ومدارسنا وكنائسنا مع سائر أجهزة الإعلام ووسائل التأثير في الرأي ضد النشاط الشرير الذي يقوم به الكرملين؛ الذي يسعى إلى تخريبها وجعلها بؤر للنهوض في اقتصادنا وثقافتنا وبنياتنا السياسية ” .

ومنذ ذلك الحين أصبحت أمريكا منشغلة إما بحرب أومجابهة كما تفرضها قيود الحرب الباردة ، إنه اختبار حقيقي لمبدأ الإحتواء الذي شكل عصب حلم أمريكا في حماية العالم من كتلة سوفياتية معادية، لذا فإن ميكائيل هاوارد –أستاذ التاريخ في أكسفورد-يقول:”طوال مائتي سنة قامت الولايات المتحدة الأمريكية دونما تردد يذكر بحماية المثل الأساسية الأولى للتنوير ؛والإيمان بحقوق الفرد الممنوحة من الله ؛وبالحقوق المتأصلة في المجتمع؛وحرية الكلام ؛وبنعم المشروع الحر؛و بإمكانية تحقيق كمال الإنسان ؛وبشمولية هذه القيم قبل كل شيء ” .إنها جملة من المبادئ المرموقة التي تؤسس معالم المنظومة الأخلاقية للقومية الأمريكية؛ المؤطرة لأداء أمريكا كقوة عظمى في العالم، إنها منظومة متجدرة في التراث الأمريكي منذ جون أدمز إلى تيودور روزفلت وويلسون .فالدور الأمريكي شبيه بذلك الدور الذي يمكن تخصيصه للأستاذ أو المشرف أو أي محرر آخر. إنها رسالة تم إحياؤها في مبدأ ريغان الذي دعم ” أولئك الذين يخاطرون بحياتهم في سائر القارات من أفغانستان إلى نيكارغوا لتحدي العدوان المدعوم سوفياتيا . إنها سياسة لاتحتمل التردد ولا التراجع، سياسة تفرض على النموذج الأمريكي أن يكون حازما في صده للشيوعية ،ففي الفترة التي وصل فيها مشروع مارشال ذروته، وبات دور المساعدات الأمريكية أكثر إيجابا، انطلقت معه حملة جد متوحشة لاتخضع لأية قواعد تحكمها “ومن ثم فإن معايير السلوك الإنساني المقبولة لاتسري هنا، لذا يتعين علينا تطوير إدارات للتجسس ولمقاومة التجسس ،كما يجب أن نتعلم أن نخرب ونقوض أعداءنا بوسائل أكثر مهارة وأكثر تطورا وأكثر فاعلية عن تلك الوسائل المستخدمة ضدنا .

وبالتالي دخلت أمريكا نفقا يصعب عليها أن تحدد مصالحها خصوصا بعد تنامي المد الشيوعي في دول العالم الثالث ، فبعد كوريا ثم الصين هاهي كوبا وإفريقيا ، فالولايات المتحدة التي زادتها الحرب الباردة صلابة، أصبحت الآن على استعداد للتعامل مع كل المشاكل الصعبة والعويصة واتخاذ كل الإجراءات لمنع ظهور كوبا أخرى من جديد؛ إنها آفاق جديدة للعظمة الأمريكية التي أفصحت عنها الرؤية الخاصة المفعمة بالتفاؤل لجون كينيدي الذي كان يؤمن بان الولايات المتحدة الأمريكية كانت آخر وأفضل أمل متاح للبشرية لتحقيق الرجاء والسعادة والحرية في كل شعوب العالم ..ولتعرف كل أمة سواء تتمنى لنا الشر أو الخير أننا سندفع أي ثمن ، ونتحمل أي عبء ،ونواجه أي مشكلة ونساند أي صديق ،ونقاوم أي أعداء من أجل ضمان بقاء ونجاح الحرية ..إننا نتعهد بكل ذلك أو أكثر . فقد ظلت الأهداف الأمريكية كما هي بلا تغيير؛ وكان حلم جون كينيدي اتخاذ زمام المبادرة في الحرب الباردة ،والإسراع في سباق التسلح من خلال بناء القوة المضادة للتمرد ضدا على أي عصيان مسلح أو ثورة في أدغال آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية؛ عن طريق حرب العصابات أو فرق القبعات الخضراء، إنها حالة من إشاعة الحرب؛ حتى يعلم العالم أنه لا مجال لما يطلق عليه حروب التحرير الوطنية. “فعندما أخذتنا الحماسة الوطنية في سنوات كينيدي، سألنا أنفسنا ما الذي يمكن أن نفعله من أجل وطننا ؟ فأجاب وطننا أقتل الفيتناميين الشيوعيين” هكذا عبر عن ذلك فيليب كابوتو . إن هذا التحرك القوي والتدخل العنيف في الشؤون الداخلية للدول في العالم لم يؤججه سوى تنامي”سيل العقائد الشريرة والقدوات الخبيثة”؛وردا على رسل التحريض على الفتنة تساءل الأمريكيون :”ماذا سيحل بديننا ومؤسساتنا السياسية، بالقوة الأخلاقية لحكوماتنا وبالنظام المحافظ الذي صاننا من التحلل الكامل .لو أن عدوى المبادئ الشريرة لم يردعهما رادع ” .

غير أن هذا المخلص لم يكن في الحقيقة غير أمريكا ، فالسيطرة الأمريكية على العالم نضر لها الآباء ونفدها وخاض غمارها الأحفاد، فلم يكن الرئيس “هواراد وليم”يحلم وهو يرى “أن اليوم الذي يكون فيه نصف الكرة الغربي برمته ملكا لنا من الوجهة الفعلية ليس ببعيد تماما ، مثلما أنه اليوم ملك لنا .حقا من الوجهة الأخلاقية بحكم تفوقنا العرقي ” . إنها الأخلاق التي نهم منها ريغان وهو ينظر إلى غير الأمريكان أنهم “أولاد مشاكسون يمارسون جميع امتيازات وحقوق الكبار”،بل على أمريكا وهي تأذبهم أن تعاملهم بقسوة ،وهذا ما جعل تصريحاته تتسم بقدر كبير من الغلظة والصرامة وهو ينظر إلى أن الإتحاد السوفياتي هو بؤرة الشر في العالم الحديث ” ؛ وأن مكافحة هذا الخطر يستوجب الجمع بين أشكال القتل العسكرية و غير العسكرية ،ففي فترة ريغان “برز ما يعرف آنذاك ضرورة الذهاب إلى المصدر”بهدف تحقيق ما تريده وما يتفق مع مصالحها ،ومنع ما يتهدد هذه المصالح إنها ممارسة صريحة للقوة ” ؛ من خلال بناء قوة عسكرية رائدة بتصعيد سباق التسلح إلى درجة أصبحت الصناعة العسكرية الأكثر ازدهارا في العالم حيث “وصل الإنفاق العسكري في كل أنحاء العالم إلى حوالي 350 بليون دولار سنويا ؛أو 150 دولار لكل شخص على وجه الأرض” .إنها مرحلة لإشاعة الحرب وتسويقها في العالم؛ حيث استطاعت القوى الغربية أن تلجأ إلى العنف الدولي ، وإنها ليس ضد بعضها البعض .إن هذه الحرب والعسكرة لم تكن ممكنة لولا حضور اليمين الجديد في التوازنات المؤسساتية، إذ كان بالإمكان تصور أجوبة أخرى أقل تهديدا لاستقرار المنظومة الدولية في غيابه .فالمخطط الأمريكي للسيطرة الأحادية على العالم عبر التفوق العسكري المطلق استطاع تخريب سياسة الانفراج بين الغرب والشرق من خلال توحد اليمين الراديكالي مع اليمين الحزبي الجمهوري واختراقه للمؤسسات السياسية. وقد اتضحت تفاصيله أكثر في حقبة الثمانينات عندما قامت المجموعة نفسها بأوسع تعبئة عسكرية عرفتها الولايات المتحدة الأمريكية في زمن السلم ؛عندما طرح المحافظون الجدد عقيدة التفوق. لتنتقل أمريكا بذلك من سياسة الاحتواء والتعايش إلى التدابير الفاعلة ، وبذلك كما يقرر ريتشارد بييرل – وهو أحد المحافظين الجدد النافدين في الإدارة الأمريكية –كان يجب على أمريكا تقديم البرهان على أن الانفراج غير فعال، وإعادة الاعتبار لأهداف تؤمن الانتصار ” بل أكثر من ذلك ،فلإنعاش رغبة الانتصار في نفوس الأمريكيين ، فقد راح اليمين يزور المعطيات ويضخم في الحقائق ، حيث أضحت التقديرات الإستخباراتية الوطنية مليئة بالأحكام التي لا أساس لها حول النيات السوفياتية .

لقد تم ببساطة اختراع هذه التعميمات السخيفة والمجافية للحقيقة من أجل تغيير ميزان القوى داخل المؤسسات الأمريكية ، كل هذا دفع رونالد ريغان في مارس 1983الى إعادة النظر في الهندسة العامة للأمن النووي التي أقامها نيكسون من خلال معاهدة حضر الصواريخ النووية التي أقامها نيكسون من خلال معاهدة حضر الصواريخ النووية لعام 1971 ، وأضاف إلى هذا إرساء دعائم مبادرة الدفاع الإستراتيجي الذي باتت معالمه في البزوغ بعد الأحادية التي تحققت عام 1991 بانهيار المعسكر الشرقي ، وظهور المخطط الأمريكي للسيطرة الأحادية على العالم عبر التفوق العسكري المطلق
. وخلاصة القول فمنذ ما يقرب ربع قرن ونيف حاول اليمين المحافظ الجديد الأمريكي فرض هيمنته الإيديولوجية والسياسية على عموم الشعب الأمريكي لضمان الحماية الشعبية للتدخل الأمريكي في العالم ؛قصد تحقيق حلم إقامة مملكة الرب الكبرى. وكلما تدخلت في بقعة من العالم إلا صوغت لنا مصوغا يبعدها عن اللوم والعتاب ويجعلها بطلة العالم ومنقذه .فمن مصوغ حماية المصالح القومية مع ترومان إلى حلم تنوير وتحضير العالم بمشروع مارشال إلى حماية الحرية والشعوب التواقة للتحرر مع جون كيندي ،إلى صيانة الديمقراطية وحماية حقوق حقوق الإنسان مع كارتر ،وأخيرا مع استئصال الشر في محاربة إمبراطورية الشر مع ريغان، والأكيد أنها ليست النهاية بل هذه هي البداية لسياسة أحادية الطرف ترتكز على التعبئة الدائمة والحرب الوقائية والتي ظهرت فصولها بوضوح غداة انهيار الإتحاد السوفياتي وانفراد أمريكا بقيادة العالم كما سنرى لاحقا .

إن هذه الرؤية إلى العالم من منطلق القوة هي التي تحكم أمريكا في كل حركاتها؛ بل وتعتبر من الثوابت في الإستراتيجية الأمريكية خصوصا وأنها مدعومة من طرف الحركات الأصولية البروتستانتية، وبالطبع كانت المنطقة العربية إلى جانب الاتحاد السوفياتي مسرحا لاختبار هذه الإستراتيجية ، وبذلك فإنها في تعاملها مع الشرق الأوسط والمنطقة العربية حكمتها خلفية جسدتها رؤية مضبوطة”من خلال مناظير أو وفقا لمعايير موضوعية موحدة أساسها رؤية الولايات المتحدة الأمريكية لذاتها ولدورها،ولأهدافها ولمصالحها في العالم” . فمع مطلع الخمسينات ارتكزت السياسة الأمريكية عن طريق أداتها الإستراتيجية إسرائيل على ثلاث ركائز أساسية حددت المعالم الكبرى للوجود الأمريكي في الشرق الأوسط ، ويتجلى ذلك في تحجيم النفوذ السوفياتي ومنعه من النفاذ إلى الشرق الأوسط؛ ثم الاستفراد بالسيطرة على منابع البترول ؛ و كل هدا عن طريق توطيد الوجود الإسرائيلي في الشرق الأوسط كركيزة ثالثة، تمهيدا لاتخاذ إستراتيجية تضمن تلبية المصالح الأمريكية العليا عن طريق إستراتيجية-حافة الهاوية*- و سياسة الاحتواء . و من هدا المنطلق تحركت أمريكا بكل قواها و عبر أداتها الاستراتيجية –إسرائيل- لردع مصر عندما أعلنت عن صفقة الأسلحة السوفياتية في شتنبر 1955 لسد الطريق أمام الاتحاد السوفياتي في النفاد إلى منطقة الشرق الأوسط و ضمان استقلالها.و بذلك فان كافة الاضطرابات التي ستشهدها الساحة العربية الآن مردها الأساسي للمطامع الشيوعية العالمية ..انه يتعين على الولايات المتحدة الأمريكية أن تتحمل مسؤولية الحفاظ على السلام العالمي .فضلا عن كفالة سيادة و استقلال دول الشرق الأوسط كما أكد إيزنهاور، و بذلك سيكون هذا الخطاب المرتكز الأساسي لمبدأ ايزنهاور الذي أعلنه في يناير 1957 المبني على ثلاث ركائز جوهرية :
 استعداد الولايات المتحدة الأمريكية لتقديم كل عون اقتصادي تحتاجه دول الشرق الأوسط.
 تخويل الرئيس الأمريكي حق إصدار قرارات تنص على تقديم مساعدات عسكرية عاجلة إلى أي دولة تستشعر خطرا خارجيا يتهدد أمنها .
 استخدام القوات الأمريكية المسلحة لصد أي عدوان على دول الشرق الأوسط خصوصا في حالة وقوعه من قبل دول خاضعة للشيوعية العالمية . ومع توالي الأحداث بدأت القومية العربية تتوسع، و اشتعلت المشاعر القومية الأمر الذي أدى إلى قيام الوحدة بين مصر و سوريا في فبراير1958 التي أدى صداها إلى خلق اضطرابات داخلية في لبنان في ماي من نفس السنة ، أعقبها سقوط النظام الملكي بالعراق على يد الثوار الأحرار في يوليوز 1958 مما دفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى إرسال قواة المارينز للشواطئ اللبنانية؛ الشيء الذي جعلها تبدو أمام الدول العربية في مظهر الدولة المعتدية إذ لم تمضي إلا سنين حتى تفجر الحقد باندلاع حرب يونيو 1967 التي تكبدت فيها الجيوش العربية خسارة فاضحة. ومما لاشك فيه أن طعم انتصار إسرائيل و احتلالها لبقية أرض فلسطين و بخاصة القدس إضافة إلى أراضي عربية أخرى شكل تأكيدا على أن خطة الرب تسير في مسارها الصحيح و أنها الآن في حلقتها الأخيرة ، و أن نهاية التاريخ أصبحت قريبة مما يجعل الكثيرين من المسيحيين الأمريكيين ينظرون إلى الشرق الأوسط و الصراع الدائر فيه كانعكاس للأحدات التي يصورها التراث التوراتي؛ ففلسطينيو و عرب ق 20 يصبحون الفلستيين الذين حارب بطلهم جوليات الملك داوود . و الحقيقة التي لا جدال فيها هو أن هذا الانتصار لم يكن ليتحقق لولا الدعم العسكري الأمريكي، وقد علقت جريدة هيرالد ثريبيون الأمريكية على هذا الدعم بقولها:”إن الحكومة الأمريكية مهتمة بان تمتلك إسرائيل مركزا دفاعيا قويا ضد جيرانها ذوي النوايا العدوانية ” .

و في خضم هذه الأحداث استطاعت إدارة نيكسون أن تمتص هذا التوتر و التقليص من حدة الأزمة ، و ذلك بإتباع إستراتيجية تتضمن العمل على تجميد الصراع العربي الإسرائيلي و الإبقاء على الأرض محتلة ، مع الاستمرار في دعم و تقوية إسرائيل بما يجعل من غير الممكن هزيمتها من قبل جيرانها العرب و لو مجتمعين .إضافة إلى هذا تسرب بعض الشعور بالارتياح و لو نسبيا إلى نفسية المسؤولين الأمريكيين تجاه قضية الشرق الأوسط لعدم وجود ما يدعو إلى الحيرة و القلق بسبب اتفاقها –أي أمريكا – مع الاتحاد السوفياتي على تهدئة التوتر في المنطقة و فرض ما سموه –الاسترخاء العسكري – على الأوضاع الشرق الأوسطية . مقابل سحب أمريكا يدها من مأزق الفيتنام. غير أن أحداث أكتوبر 1973 أرجعت المنطقة من جديد إلى التأزم وفرضت على الإدارة الأمريكية وضعا طارئا جديدا ، و كان تقدير كيسنجر أنداك انه لا ينبغي السماح تحت أي ظرف بهزيمة إسرائيل ولو أدى الأمر إلى تدخل عسكري أمريكي ، وفي ذلك الوقت قال كيسنجر كلمته المشهورة “لن نسمح للسلاح السوفياتي لأن يهزم السلاح الأمريكي” . وبذلك كشفت الحرب على أن مستقبل إسرائيل المستندة إلى القوة العسكرية ينذر بمخاطر كبيرة ، ويطرح احتمال عودة المنطقة إلى إطلاق النار من جديد في أي لحظة .وبذلك كان لابد من التفكير من داخل المأزق في مسار آخر في السياسة الأمريكية بالمنطقة؛ بتدشين مسيرة السلام ابتداء بمؤتمر “ميناهاوس ” تحت إشراف الأمم المتحدة في 1977.ومع بداية هذه المرحلة تمسكت أمريكا لوحدها باحتكار كل جهود التسوية في المنطقة .التي توجتها بعقد اتفاقية “كامب ديفيد”بين إسرائيل ومصر تحت إشراف هذه المرة إدارة كارتر وليس الأمم المتحدة.غير أن مخطط إسرائيل الرامي إلى الإستيلاء على جنوب لبنان والقضاء على الوجود الفعلي لمنظمة التحرير الفلسطينية بلبنان دفعها إلى ارتكاب مجزرة صبرا وشتيلا تحت قيادة شارون سنة 1982 ، أمام صمت عالمي رهيب وتأييد أمريكي سافر؛ حيث أعلن ألكسندر هيج وزير خارجية أمريكا أنداك تأييد بلاده لكافة المخططات الإسرائيلية في لبنان باعتبار أن المصلحة واحدة .وللإشارة فإن هذه الحرب شارك فيها اليهود الأمريكيون كمتطوعين في الجيش الإسرائيلي بعد إذن من الإدارة الأمريكية؛ وفي هذا يقول الكاتب اليهودي شاحاك :إن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي تتمتع بامتياز يسمح لمواطنيها الأمريكيين أن يقاتلوا معها في حروبها .وأكيد أن هذه الحرب ستلقي بظلالها على الدول المجاورة كما عبر ريغان ،كإيران وروسيا وليبيا باعتبارها دول مساندة للإرهاب،وبذلك قامت البحرية الأمريكية بإسقاط طائرتين ليبيتين ، وقصف مقر الرئيس القدافي ،إضافة إلى تزويد العراق بالسلاح في حربه مع إيران،وكما يقول جيمس ميلز مسؤول حكومي سابق في إدارة ريغان “معظم قرارات ريغان السياسية كانت مبنية على تفسيراته اللفظية للنبوءات التوراتية ،ولقد قاد هذا الأمر ريغان إلى الاعتقاد بأنه لايوجد سبب للاضطراب بشأن الدين الوطني ،إذا كان الله سيطبق على العالم كله “فقد كان لأمريكا كما يقول-فرانك كيرمود–رئيس لمدة ثمان سنوات –ريغان-آمن بأنه يعيش في مرحلة نهاية الزمن،وتمنى أن تأتي النهاية خلال رئاسته” .

المطلب الثاني : المعالم الكبرى للسياسة الخارجية الأمريكية بعد الحرب الباردة ودور المحافظون الجدد في بلورتها في العلاقات الدولية
مع انهيار المعسكر الشرقي بدأت معالم الإنفراد في السيطرة على العالم وفرض النموذج الأمريكي،فكان لابد لأمريكا أن تؤكد للعالم أنها الدولة الأعظم المهيمنة على الشؤون الدولية ، وبالتالي فتح مرحلة جديدة من الإستراتيجية بإعلان الرئيس جورج بوش الأب عن قيام النظام العالمي الجديد الذي يخلو من الإرهاب ويسعى للعدالة والمزيد من الأمن ،ويتيح لأمم العالم شرقه وغربه وشماله وجنوبه أن تزدهر وتعيش معا بانسجام” . وعلى مستوى الشرق الأوسط كانت الوضعية العامة للدول العربية مهيأة لتقبل هذه الإستراتيجية الجديدة بحكم الأزمنة التي فجرتها حرب الخليج الثانية وما نتج عنها من تصدع في الصف العربي ،وبدأت كمعالم السيطرة الأمريكية على زمام الأمور في الشرق الأوسط خاصة والمنظومة الدولية عامة ،وتكرس هذا أكثر مع قدوم كلينتون الذي بنا سياسته فيما يعرف بإستراتيجية “الالتزام والتوسع”على أعمدة ثلاث هي :
-الحفاظ على الهيمنة الحربية الأمريكية في العالم.
– تحقيق الرخاء الإقتصادي.
– تعزيز وترويج ديمقراطيات السوق الحرة في العالم .وبذلك سعى كلينتون على غرار ما ذهب إليه بوش الأب في تأديب حكام طموحين مثال صدام حسين ،في قالب من الشرعية الدولية ،فكل من بوش الأب وكلينتون استخدما الدبلوماسية التعسفية إلى جانب القوة، فكلينتون قصف يوغسلافيا سابقا وغزا الصومال و هايتي؛ واستمر في تأديب العراق ،إنها مسؤولية التفوق الأمريكي بعد الحرب الباردة، وكان كلينتون يركز في ذلك على العولمة الاقتصادية كوسيلة إيديولوجية قوية ربما تستطيع احتواء الحركات الوطنية والمعارضة حول العالم. وبالتالي لم يكن طموح أمريكا،فقط استعراض قوتها في ملاحقة مجرمي صربيا أو في تأديب العراق أو ليبيا . بل يتعداه إلى بناء نظام عالمي اقتصادي حر يفتح أبوابه أمام تدفق السلع الأمريكية؛ ولضمان نجاح هذه السياسة؛ عمد كلينتون إلى مبدأ الاندماج والتكامل أو التفتيت والتقسيم من خلال تسخير المؤسسات الدولية كسلاح للتسلط العولمي في العالم “وحيد القطب” ولردع الذين لم يفتنوا بالتجارة الحرة و لم يعجبوا بترويج كلينتون لـ” ديمقراطيات السوق أو التوسع الاقتصادي” .وهذه العقيدة هي التي جسدها زعيم الجمهوريين في الكونغرس في 1995 نيوت جينجريتش في قوله :أمريكا وحدها قادرة على قيادة العالم، فهي تبقى في الواقع الحضارة الوحيدة الدولية الكونية في تاريخ البشرية ، ففي خلال 300 سنة سمح نظام ديمقراطيتنا البرلمانية المحترم لحقوق المواطن و الحريات الفردية و التبادل الحر بأكبر قفزة اقتصادية في التاريخ ، قيمنا يستعيرها العالم اجمع؛و تكنولوجيتنا التي حولت أنماط الحياة كانت العنصر الأول المحرك للعولمة..واليوم قواتنا العسكرية متمركزة في كل مناطق المعمور بناءا على طلب الحكومات المضيفة.. فأمريكا هي الأمة الوحيدة الكبرى المتعددة الأعراق؛ والتي تستخدم الحرية كدليل ..إذا اختفينا غدا فمن غير الواضح أن يكون لليابانيين أو للألمان والروس كشعوب ، الإمكانية والقدرة على إدارة المعمورة، بدون حضارة أمريكية حية ؛فان البربرية والعنف والدكتاتورية سوف تسيطر على الأرض .

و في خضم هذا التجبر ظهرت بأمريكا مجموعة من الكتابات في محاولة منها لتفسير تطور السياسة العالمية بعد الحرب الباردة مثل أطروحة نهاية التاريخ لفوكوياما؛ و أطروحة صدام الحضارات لصامويل هنتنغتون؛و الواضح كما يقول هذا الأخير أن السنوات التي تلت الحرب الباردة شهدت بدايات لتغييرات عظيمة في هوية الشعوب و رموز تلك الهويات ،و بدأت تتشكل سياسات عالمية على طول الخطوط الثقافية . وبذلك فان الثقافة أو الهوية هي التي ستشكل نماذج التماسك والتفكك و الصراع في المنظومة الدولية بعد الحرب الباردة التي خرجت منها أمريكا ليست فائزة وإنما منهكة، فبدأت مهتمة أكثر وبشكل متزايد بمشاكلها الداخلية(التفكك الداخلي، المخدرات، الجريمة)وعلى الطرف الأخر أصبح العالم الإسلامي بشكل متزايد عدوانيا نحو الغرب؛ وبدأ وهم الخلود والاعتقاد بأن النموذج الأمريكي هو الشكل النهائي للمجتمع الإنساني في تصدع؛ خصوصا بعد تنامي ظاهرة العنف بين الجماعات والدول من أقطاب و حضارات مختلفة ،مع قابلية التصعيد حينما تتدخل الدول النسب* .

وتمثل الحضارة الإسلامية في هذه المنظومة أكبر تهديد للمصالح الأمريكية-حسب هذه الأطروحة- ،إلى درجة أن أغلب المحافظين النافدين في مراكز القرار الأمريكية مقتنعين بأن الخطر الإسلامي والمد الأصولي العالمي قد حل محل الخطر الشيوعي ، وبذلك كما يرى باري بوزان فهناك عدة أسباب لانبثاق الحرب الباردة الاجتماعية بين الإسلام والغرب؛ فمن الواضح الآن أننا نواجه شكل وحركة تتجاوز القضايا والسياسات والحكومات التي تكرسها؛ هذا ليس إلا صداما بين الحضارات؛ إنه بكل تأكيد فعل تاريخي لمنافس قديم منذ الميراث اليهودي المسيحي . وبذلك فمنذ حرب الخليج عام 1991 واستبدال الإتحاد السوفياتي بالدول المارقة تحركت أمريكا لمنع بروز أي منافس كبير في المستقبل، إنها إشارة جديدة لعقيدة الحرب الوقائية التي وجد فيها اليمين الراديكالي والقومي والمحافظ الجديد نفسه؛ ببسط نفوذه عن طريق الحرب؛يكون فيها الشعب الأمريكي مستعدا لخوض غمارها ، ولم يكن ذلك ممكنا إلا بعد أحداث 11 شتنبر 2001 الرهيبة.وربما كان المؤرخ الشهير بول كيندي على حق عندما قال إن بداية ق21 والألفية الثالثة كانت يوم 11 شتنبر2001وليس يوم الأول من يناير 2000،فهجوم الطائرات على نيويورك وواشنطن قد قاد إلى إعادة التفكير في الأفكار التي تأسست عليها العلاقات الدولية،فأمريكا ومعها العالم التي فوجئت بأن أمنها قد اخترق،قد فطنت وصحت على حقيقة كانت غائبة عنها،وهي أن الإرهاب له يد طويلة يمكن أن تصل إلى قلب الولايات المتحدة الأمريكية، وبذلك رأينا كيف أن التاريخ لم ينته بعد،وان البلد الذي يروج لتفوقه العسكري والاقتصادي والتكنولوجي؛ يجيش الجيوش ويتحرك في اتجاه عدو يطلق عليه الإرهاب ؛يريد أن يجتثه من جذوره حيث كان وحيث وجد . وبذلك أرجع زلزال 11 شتنبر للأذهان حادث بيرل هاربر؛ وإن كان هذه المرة أكثر حدة؛فلأول مرة في التاريخ يشعر هذا الشعب أنه معرض للضرب بقوة بل وبالضياع في عقر داره؛ فأصابه بالذهول واهتزت ثقته في ذاته ، واتضح هذا عندما اندفعت الجماهير إلى الكنائس لترفع صلواتها إلى الله؛ فامتلأت الكنائس بالعابدين في بكاء مستمر على الضحايا؛ وان كان في الحقيقة هو بكاء على أنفسهم وعلى ضعفهم وضياعهم ؛ لقناعتهم بدخول مرحلة تكون فيها 11شتنبر لحظة فاصلة في تاريخ المجتمع الأمريكي، والأمر والذي تنفرد به هذه الهجمة هو أن هذه هي المرة الأولى مند حرب 1812 التي هجمت فيها الأراضي القومية الأمريكية أو تعرضت حتى للتهديد .فقد جاءت هذه الأحداث في غير السياق المرسوم للتفوق الأمريكي وخارج إطار كل التخمينات، فقبل شهر من هذه الأحداث ذكر تقرير لوزارة الخارجية البريطانية بأن من شبه الأكيد أن الولايات المتحدة الأمريكية ستظل حتى عام 2030 القوة العسكرية والاقتصادي العظمى الوحيدة في العالم . فالهلع الذي أصاب أمريكا كان يندر بأخطار المستقبل، فما تعرضت له هو حسب الخبراء العسكريين بمثابة إعلان عن انطلاق حرب غير متكافئة ؛ التي ستشكل معالم اللجوء إلى القوة في القرن 21؛ وحذر هؤلاء الخبراء من أعمال إرهابية من نوع جديد تستند إلى شبكات دولية مبهمة جغرافيا. فكما يقول كولين باول إن ما حصل هو إعلان حرب على الولايات المتحدة الأمريكية ،من دون أن يكون أي أحد قادرا على تحديد الجهة التي أعلنت الحرب .

فبعد هذه التفجيرات؛ وتوجيه أصابع الاتهام للمسلمين؛ أصبحت أطروحة هنتغتون تسيطر على العقلية الأمريكية في تفسير الاضطراب الدولي، فقد لاحظت صحيفة فاينانشيال تايمز البريطانية على سبيل المثال حين حاولت استطلاع رأي بعض المسئولين الأمريكيين حول الفكرة بأن السياسة الأمريكية الخاطئة في الشرق الأوسط كانت وراء تفاقم ظاهرة الإرهاب، جوبهت بثورات غضب رافضة لأي بحث في هذه المسألة،وكان رد الجميع أنهم يكرهون أمريكا ليس لأنها تدعم إسرائيل؛ بل لأسباب ثقافية . وأكيد أن هذا المنعطف في مجرى الأحداث في المنظومة الدولية ستزود جورج بوش بفرصة نادرة يترصد من خلالها منطلقا إلى سياسته الخارجية التي تفوح بطموحات المحافظين الجدد في الاستيلاء على العالم من خلال الدور الأمريكي الجديد في القرن 21.إنها فرصة للقفز فوق المحرمات الدستورية والدولية في زمن الحرب الدائمة اللامنتهية، الأمر الذي دفعه إلى أن ينصب نفسه قائد زمن الحرب حيث أكد “أنا رئيس زمن الحرب وعلى الشعب الأمريكي أن يدرك أنني أرى العالم كما هو .والوحيد الذي دون سواه يستطيع أن ينقد أمريكا من أي تكرار ل11شتنبرأخرى؛ إنها كما يقول كارل روفيه -الإستراتيجي السياسي لحزب بوش- حرب أوسع نطاقا وأطول أمدا ضد الإرهاب بحيث يراها بوضوح، وربما بالمصادفة تمتد بالتأكيد إلى أبعد من مرحلة بوش “.ولضمان تسخير مأساة 11شتنبر لتمهيد الطريق إلى رد مفتوح ولا نهائي كما يقول غورفيدال :إن أول ما فعله بوش بعد أن ضربنا أنه اتصل بالسيناتور داشل ، وتوسل إليه عدم إجراء أي تحقيق من النوع الذي يجرى عادة في أي بلد عادي .ولهذا لن يعارض احد من الجمهور المصدوم دعوة بوش؛ والالتفاف حول قائد زمن الحرب “في حربه المقدسة”، وعليه فإن نشر القوة الإمبراطورية سوف يصبح بديلا من الدبلوماسية وفن إدارة الدولة، باعتبار أن الجمهور المصدوم المذهول متعطش للانتقام بغض النظر عن العواقب المحتملة في الرد المماثل . لكن الواقع جعل الحرب على الإرهاب حربا عنصرية في أساسها، بحكم أن فريق بوش لم يضع لها سببا غير أولئك الأشرار؛ فحملات التخويف والترويع التي تتضمنها الإعلانات المتلاحقة عن التهديدات الإرهابية تبدو شكلا من أشكال الحرب النفسية المقصودة؛ بهدف سن قوانين تقوض الحريات المدنية والحقوق الدستورية مما حرك شجون مجموعة من النقاد المعارضين من مثل أكدجيل نيلسون بقوله :”في خضم هذه الموسيقى العسكرية النشاز وخفقان العلم الملون بالأبيض والأزرق؛ والبلاغات الوطنية التي ميزت الاحتفال بيوم الاستقلال وواكبت الحرب على الإرهاب ضاع الحق في المعارضة والاختلاف في الرأي ، فكأننا منذ 11شتنبر لا نعاني إرهاب الإرهابيين وحدهم، بل أيضا إرهاب الحكومة الأمريكية؛التي تطالبنا بالإذعان الأخرس تجاه كل ما تقترح عمله كجزء من الضبابية وغير الفعالة على الإرهاب .فقد سن بوش أشنع اعتداء على القانون الدولي؛ حيث أعاد أمجاد الأجداد الأوائل من خلال حروب استباقية يكون الهجوم فيها أضمن الوسائل لحماية القومية الأمريكية.وعليه كما صرح بوش :”لن أنتظر على الأحداث فيما يدلهم الخطر،ولن أقف متفرجا فيما تقترب منا التهلكة أكثر فأكثر، وإن حربنا على الإرهاب قد بدأت فعلا ولكنها ما تزال في بدايتها ،إن هذه الحملة قد لا تنتهي في زمننا، ولكن يجب أن تشن في زمننا،إننا لا نستطيع أن نتوقف فجأة ..إن التاريخ يهيب بأمريكا وبحلفائنا أن نعمل؛ وإنه لمن مسؤوليتنا وخصيصتنا أن نحارب حرب الحرية. فأصبح بوش يعتقد أنه مكلف بمهمة أخلاقية لتفكيك الخوف الذي صاغته إدارته بعد 11شتنبر من الإرهاب، إذ أصبح هذا المصطلح الفاصل بين الخير والشر والعدو والصديق ، فالحرب على البربرية واجب أخلاقي على كل إنسان متحضر وعلى العالم أن يوطن نفسه هل مع أمريكا ..أم مع الإرهاب .فهذه الحرب التي أدخلت العالم في دوامة من الفوضى وعدم الاستقرار خلقت لدى أمريكا نظرة سوداوية إلى العالم لخصها روبرت كابلان في ما يلي ، إنني أعتقد أن نظرة بوش إلى العالم هي أن الهيمنة الأمريكية غير واضحة؛ فالعالم مكان سيء يسكنه الأشرار الذين يستطيعون إلحاق الأذى بنا؛ وإن أعظم إلتزام أخلاقي تجاه أمريكا هو تعزيز قوتها . و بذلك تكون الولايات المتحدة الأمريكية كما يصف جون ايكنبري -الخبير المعروف في الشؤون الدولية -:

إن الإستراتيجية الامبريالية الكبرى الجديدة تقدم لنا أمريكا بوصفها دولة تصحيحية تسعى لخلق نظام عالمي تتولى بمقتضاه إدارة الأمور.. في عالم أشد خطرا و أكثر انقساما. والولايات المتحدة الأمريكية فيه أقل أمنا .و بديهي جدا في ظل الهيمنة الشاملة على العالم أن تجد داخل إدارة بوش جل مستشاريه من مخضرمي عهد ريغان؛ الذين يؤمنون إيمانا لا يتزعزع باستخدام القوة وقائيا بغض النظر عن الدليل أو الذريعة. إن بول ولفويتز نائب وزير الدفاع الحالي مثلا صاحب رؤية قائمة على التسليم بأن الحرب لا تحتاج إلى دليل قاطع ؛بل التأكيد يجب أن يركز على النيات و القدرات . و بذلك فالسياسة الخارجية الأمريكية كما رسمها معظم مثقفي المحافظون الجدد أكدت على إطلاق العنان للقوة غير عابئ بالدبلوماسية.. كما تجسد في تدمير أفغانستان و العراق من بعدها. على أمل توسيع الحملة لتشمل قائمة طويلة ممن يسميهم محور الشر. و على كل حال تكون فعلا قد عولمت إرهاب الدولة. فبوش لم يكتفي بتجميد بنود الدستور و تجاهلها بل عطل عمل الأمم المتحدة و شل دورها. و كما يقول ريتشارد بيرل أنه لم يبق لنا إلا تحالف الراغبين؛ و من غير أن نصفهم بأنهم تهديد للنظام العالمي الجديد. فان علينا أن نعتبرهم أفضل أمل لهذا النظام و البديل الوحيد للفوضى الناجمة عن الفشل المخزي للأمم المتحدة.. إننا لن نستطيع أن نهزم أو نحتوي إرهابا متعصبا من دون أن نشن الحرب على الإرهابيين حيث ينطلقون. وهذا ما قد يتطلب أحيانا أن نستخدم القوة ضد دول تأوي الإرهابيين كما فعلنا في تدمير طالبان في أفغانستان .

والواضح أن التغيرات الحاصلة في تفكير و خطاب إدارة الرئيس بوش مذهلة؛حيث ارتفع إدراك التهديد وزاد التركيز على توازن القوة الأمريكية المؤيدة للحرية و أصبحت مبادئنا و ليس مصالحنا كما تقول الإستراتيجية هي التي سوف ترشد الحكومة في قراراتها ،و لفهم هذه الإستراتيجية أكثر حري بنا أن نعود إلى أهم الوثائق التي حددت معالمها؛ وهي وثيقة كونداليزا رايس حول رؤية الحزب الجمهور المستقبلية للعالم؛ من خلال استثمار الفترة الانتقالية التي دخلتها المنظومة الدولية بانهيار المعسكر الاشتراكي؛ و يجب “أن نبدأ عملية رسم سياسة خارجية جديدة من الاعتراف بأن الولايات المتحدة الأمريكية تتمتع بموقع استثنائي لكونها هي وحلفائها موجودون على الجهة الصحيحة من التاريخ “. وفي خضم هذه الوضعية الاستثنائية لأمريكا يبقى لزاما على إدارة بوش إعلاء المصلحة القومية الأمريكية ونشر قيمها و إن بالقوة،وذلك من خلال تعزيز نظام مالي عالمي مرن و مستقر في أوساط جميع الملتزمين بمبادئها؛ عن طريق القوة الأمريكية التي يجب أن تمنع الحروب و تبرز السلطة.و تتقاتل في سبيل حماية مصالحها إن لم تنجح في تعويقها. وهذا بمعية حلفائها الذين يشاطرون قيمها و حمل عبء نشر قيمتها إضافة إلى التعامل بشكل حاسم مع خطر الأنظمة المارقة و القوى العدائية التي تشكل محور الإرهاب. و الأكيد أن سعي أمريكا وراء مصلحتها القومية سوف يخلق ظروفا تعزز الحرية و الأسواق و السلام. فالأمر واضح و مباشر لدى رؤية الحزب الجمهوري؛ أو بالأحرى الجناح المتشدد فيه، للمصلحة القومية المباشرة باعتبارها الهدف؛ أما القيم تابعة لتحقيق هذه المصلحة. وأكيد أن هذا كله يستوجب دعم السياسة الاقتصادية الدولية من خلال توسيع أطر التجارة الحرة و تفعيل مميزات الاقتصاد الأمريكي؛ إضافة إلى بناء قوة عسكرية أكيدة و مصونة . وبذلك التقت مصالح اليمين الديني والسياسي لصياغة رؤية موحدة لأمريكا و العالم. فأمريكا هي وطن استثنائي تاريخي لابد أن يسود و يهيمن وذلك من خلال تطهير الثقافة السائدة بشن الحرب المقدسة ضد الشيطان في “قلب الوطن”؛ أو في أي بقعة من بقاع العالم ،معوقا امتداد أمريكا الرسالة التي تعبر عن الإرادة الإلهية فأصبحت بذلك الإدارة الأمريكية الحالية مند تسلمها مهامها تجسد ثلاثية”العسكري والتاجر والمبشر” التي رافقت الأجداد في مغامراتهم الاستكشافية الأولى؛ وذلك من خلال الانحياز داخليا إلى سياسات يمينية متطرفة تخدم التجار والأباطرة الأكثر غنى في أمريكا،أما الشأن الخارجي فتصب الإستراتيجية في تحقيق الهيمنة العسكرية،وفي واقع الأمر فالإدارة الحالية تعبير دقيق لليمين المتشدد في بعديه الديني و السياسي .والذي ظهرت معالمه بجلاء بعد أحداث11 شتنبر التي أعادت صياغة القاموس المفاهيمي للساسة الأمريكان بما يستجيب وخطاب المرحلة؛ من قبيل أن “أمتنا شهدت الشر” “إنهم يكرهون قيمنا” “إنه نوع جديد من الشر” “و حملتنا الصليبية سوف تاخد وقتا” . و أكيد أن حماية الأمن القومي الأمريكي يفرض عليها الاخد بإستراتيجية جديدة تناسب آخرة المستجدات و التطورات خصوصا بما يتعلق بالمؤسسة العسكرية التي تعتمد حشد القدرات بشتى الطرق دون انتظار الخطر. و هذه الإستراتيجية أو كما اسماها رامسفيلد بالخطوات الست و التي لخصها في “حماية الوطن الأمريكي و قواعده عبر البحار، ثم ضمان تامين القوة الأمريكية في مواقع العمليات البعيدة ؛و كدا حرمان الأعداء من الملجأ و أن لا مكان آمن في العالم يحميهم؛ ثم حماية شبكة معلوماتنا من أي هجوم واستخدامها لربط القوى الأمريكية عبر أنحاء العالم ،وفي الأخير تحقيق سيطرة غير مقيدة على الفضاء وحماية القدرات الفضائية الأمريكية من أي هجوم عدائي . فالسلوك الأمريكي الجديد الذي جسدته استراتجيه الأمن القومي التي أعلن عنها بوش الابن في 20 شتنبر 2002تكشف عن الهدف الأمريكي في الاستئثار بالعالم؛ و الحيلولة دون بروز فاعلين جدد؛ لضمان ديمومة النموذج الأمريكي عن طريق تطوير ثلاثية العسكري ، التاجر ، المبشر؛ “فالدفاع عن الشعب الأمريكي و مصالحنا في الداخل و الخارج من خلال تحديد تهديدات و القضاء عليها قبل وصولها إلى حدودنا.. إننا لن نتردد في اتخاد خطوات من جانب واحد إذا لزم الأمر ، كما أننا سنشن حرب أفكار للإنتصار في المعركة .

و بدلك سعت الإدارة اليمينية الأمريكية كما صرح بذلك بوش الابن ؛ إلى فرض نظام للقيم لا يمكن المساومة عليه ؛هذه القيم هي التي نحمدها و نتمسك بها؛ و إذا كانت هذه القيم خيرة بالنسبة لشعبنا فإنها خيرة كذلك للشعوب الأخرى؛ و هذا لا يعني أننا نفرضها بل يعني أنها قيم إلهية، هذه ليست قيم خلقتها الولايات المتحدة الأمريكية؛ بل هي قيم الحرية و الطبيعة الإنسانية .. إننا في هذه اللحظة من لحظات التاريخ إذا كانت هناك مشكلة عالمية فان دورنا هو أن نتعامل معها و نحلها .. هذا هو ثمرة القوة .. و هو ثمن المكانة التي نحتلها ؛و بذلك أصبحت القيم الأمريكية السياسية قيما كونية.. و بات لزاما أن تنقل إلى المجتمعات و الأنظمة السياسة.و أكيد أن هذه المسؤولية تجسدها الدبلوماسية الثورية كأداة التغيير و الانتفاض على الأوضاع الراهنة؛ بحكم أن السلبيات اللاأخلاقية كالطغيان و عصابات الشوارع ، والمخدات و الانهيارات المجتمعية؛ سرعان ما تتحول إلى ثقافة ، وتسود ، و بالتالي لا بد من التصدي لها في العالم و في الولايات المتحدة الأمريكية ؛وهنا يحدث اللقاء بين الميول الثورية لهذا التيار والميول المحافظة الأخلاقية المبسترة .و أكيد إن استراتيجية التصدي و الحرب التي انتهجتها أمريكا بعد 11 شتنبر؛ و التي تحتل فيها مكافحة الإرهاب الحلقة الأولى في حرب فريدة غير مسبوقة لا تخضع لقواعد الحرب؛ إذ يجب أن تتحرك أسرع ويجب أن تكون أكثر عنفا لحماية شعبك. ليس هناك شك في أن الولايات المتحدة الأمريكية. هي القوة التي تضع النظام (ولو بالقوة )؛ لأن أمننا ليس منظمة للنقاش و الجدال ،هكذا ينظر بوش إلى دور أمريكا في النظام الجديد و هي تحارب الشبكات الإرهابية الشبحية؛ ومنع أي دكتاتور معتوه من إطلاق مالديه من أسلحة الدمار الشامل؛ أو إن يزود بها حليفه الإرهابي سرا . و أكيد أن الحرب على الإرهاب سوف تعيد رسم خريطة الشرق الأوسط و وسط آسيا؛ بدأتها إدارة بوش بالإطاحة بنظام الطالبان ليعطي فرصة للانتشار الأمريكي على مدى آلاف الأميال التي تمتد من البلقان إلى حدود الصين .. من ((كامب بونديستو)) في كوسوفو بعد حملة 1999 إلى ((بشيكيك)) في فرغيزستان ؛بعد الإطاحة بطالبان ..فهناك 13 قاعدة جديدة تسع بلدان تحيط بأفغانستان؛ و بدلك أصبحت أهداف أمريكا دولية تسعى إلى خلق التفوق الأمريكي المطلق على عالم وحيد القطب لغرض فرض النموذج الأمريكي للديمقراطية على شكيلة حامد كرزاي في أفغانستان.وفي الحقيقة هذه هي الوصفة المعقولة التي يراها المحافظون الجدد للعراق و فلسطين .إن الذي سيخلف عرفات و صدام ، سيتبنى هموم واشنطن وتل أبيب باسم مكافحة الإرهاب . على أمل تعميم هذه الوضعية على الشرق الأوسط الكبير.

و أكيد أن مشروع الشرق الأوسط الكبير استلهمته الولايات المتحدة الأمريكية وعلى رأسها المحافظون الجدد من نظريتي ما يكل دويل وفوكوياما لتؤكد أن سبب الحروب المستمرة وانتشار الإرهاب في الشرق الأوسط هو بالدرجة الأولى : غياب أنظمة ديمقراطية . و بمفهوم الموافقة فان أمريكا تقود حربها على الإرهاب لتوسيع رقعة الديمقراطية في العالمين العربي و الإسلامي الذي بات الخطر الأول للحضارة الغربية ،و بذلك كما يقول الصحفي ما يكل ليند : إن المحافظين الجدد يسيطرون على الإدارة الأمريكية؛ يتحدثون علنا عن حملات عالمية من اجل الديمقراطية و لكن هدفهم الفعلي هو قوة و أمن إسرائيل؛ من هنا لا يمكننا التغاضي عن البعد الإسرائيلي الخفي في مشروع الشرق الأوسط الكبير الأمريكي . ومما لاشك فيه أن الطرح الأمريكي للإصلاح الديمقراطي في المنطقة قد جاء كبديل عن فشل إستراتجية القوة الذي زاد من أعداء أمريكا؛ و تنامي ظاهرة الاحتجاج ، و مقاومة الوجود الأمريكي؛ و من هذا المنطلق يمكن لنا أن نفهم بان المبادرة الأمريكية بنشر الديمقراطية ليست إلا وسيلة للتغطية على إرادة السيطرة و لصرف نظر الشعوب العربية عن المسائل الخطيرة العالقة و في مقدمتها القضية الفلسطينية . وبدلك فإن هدا المشروع قد عبر عن حالة من الاستعلاء المسكون بسوء النية ؛فالإدارة التي أعطت لنفسها حق تقسيم العالم إلى أبرار و أشرار؛ قررت أن تخترع إقليما جديدا بهده التسمية حيت يطمس معالم المنطقة وهويتها من أنها عربية إسلامية .. إضافة إلى أن توقيت إطلاق هدا المشروع له دلالته، إنه عرض على الدول الثمانية في سي أيلان في يونيو و قبلها نوقش في قمة إسطنبول 2004 لتحظى بالمشاركة الأوربية و إذا لحظت أن تسليم السلطة للعراقيين تجدد موعده في الشهر ذاته الذي ستجرى فيه أيضا الانتخابات الأفغانية.. إنما نحن بصدد مهرجان لتدشين حملة بوش الانتخابية .

و أكيد أن هذه الحملة التي أبرزت أيادي بوش البيضاء على البشرية؛ حملت بوش إلى ولاية ثانية و إنشاء أول مؤسسة رئاسية أمريكية على أساس الدين في تاريخ أمريكا . فلقد كان خطاب بوش في احتفال تنصيبه لولاية ثانية كما يصفه جيفري كيمب : كأنه موعظة قوية لنشر الحرية وإنهاء الاستبداد في العالم .. إنها خطبة إنشائية تلزم أمريكا بان تقوم بما ليس في مقدورها بما تملكه من مصادر ثروة ولا قوة، و إنما بخوض حرب دائمة ” .و هو بذلك يؤسس لعالم أكثر حرية و ديمقراطية باستهداف الاستبداد باعتباره التربة التي انبتت الإرهاب : فأمريكا لن تتجاهل الاضطهاد ولن تعذر المستبدين وستساعد المناضلين من اجل الحرية و الديمقراطية .والذين تعتبرهم القادة المقبلين لبلادهم الحرة ،وكما يقول بوش ،إننا سندافع عن أنفسنا وعن أصدقاءنا بقوة السلاح إذا اقتضى الأمر .. وأكيد أن هذا التحول في الإستراتيجية الأمريكية من مكافحة الإرهاب والحروب الإستباقية إلى استئصال الاستبداد قد فرضت على الدبلوماسية الأمريكية أهدافا أخرى ضمنتها كونداليزا رايس في خطاب تنصيبها في ثلاث مهمات عظيمة وهي على حد قولها سوف نوحد المجتمعات الديمقراطية على أساس قيمنا المشتركة وحكم القانون؛ وسوف نساعد المجتمع الديمقراطي ليحارب التهديدات التي تواجه أمننا المشترك؛ وسوف ننتشر الديمقراطية والحرية في أنحاء العالم . وفي هذا الصدد دعا بوش شعوب الشرق الأوسط إلى محاكمة حكوماتهم وجعلها مسؤولة أمامها .. فالرجال والنساء سيشاركون في نهاية المطاف في شؤون بلادهم، كما شاهدنا امتداد الإصلاح من المغرب إلى البحرين فالعراق . ومن جهتها قالت رايس مادام الشرق الأوسط الكبير منطقة الطغيان واليأس والغضب؛ فسيظل ينتج المتطرفين والحركات التي تهدد سلامة الأمريكيين وأصدقائهم، وبذلك فنجاح الحرية في أفغانستان والعراق سوف يمنح الإصلاحيين في جميع أنحاء المنطقة الأمل والقوة ”

.ومن هذا المنطلق يمكننا أن نفهم طبيعة موقف الإدارة الأمريكية المتشددة من سوريا ووجودها في لبنان ، وكيف سخرت مسألة اغتيال الحريري لتحريك المعارضة الداخلية من جهة وضرب حزب الله من جهة أخرى ،وجر الرأي العام الدولي إلى اتهام سوريا للبحث عن خلق عراق آخر في سوريا؛ تحت غطاء الإصلاح السياسي ونشر الديمقراطية والحرية.ومن جهة أخرى وفي مركز الصراع في الشرق الأوسط شكل دخول حماس اللعبة السياسية أكبر تحدي لمشروع كونداليزا رايس ، حيث وضع الإدارة الأمريكية في ورطة إذ وجدت نفسها أمامها مفترق الطرق.فهل تعارض الإنتخابات وهي راعية الديمقراطية في العالم أم تسمح بإجرائها ؟ والأكيد أن ماتخشاه أمريكا من تقبلها لحماس كفائزة في الإنتخابات من أن يكون وجودها في المجلس التشريعي سيقوض سلطة محمود عباس ، وبالتالي ستصبح العملية السلمية بالكامل في مهب الريح؛ ثم تخشى إعادة منح القضية بعدها الديني والعربي الإسلامي ،كما تخشى أن تنتقل حماس إلى نموذج تحتدي به الحركات الإسلامية المؤمنة باللعبة السياسية .وبذلك تكون الو.م.أ التي لاتهمها الديمقراطية بقدر ما تهمها مصالحها ومصالح إسرائيل تحفر قبرها بيدها ، ومن جهة أخرى بدأت أزمة إيران يوما بعد يوم تؤكد على انفلات المنطقة من سيطرة أمريكا كما أشارت إليه الاستخبارات الأمريكية من أنه بات بإمكان إيران صنع قنبلة نووية خلال 6 أو 10 سنوات قادمة فتح المجال لاستمرار حملات إعلامية وبدأ العد التنازلي للأزمة وأصبح ضرب إيران عسكريا لم يعد أكثر من مسألة وقت كما يشير كبنيت تيرمان ، وفي هذا الصدد أكد الرئيس بوش أن كافة الخيارات لديه متاحة من للتعامل مع تلك المشكلة متسلحة بدعوة الكونغرس بأغلبية -3276 صوت مقابل 3أصوات – إدارته إلى استخدام كل الوسائل الممكنة لمكافحة المشروع النووي الإيراني ، وذهب في هذا ديك تشيني بجعل إيران على رأس الدول المارقة .

واعتبر متابعون للشأن الإيراني أن زيارة رامسفيلد للقواعد الأمريكية في الدول المحيطة بإيران في أبريل 2005 بأنها تأتي ضمن الاستعدادات الأمريكية للقيام بعمل عسكري ضد إيران ، يضاف إلى هذا تلك التقارير التي تتحدث عن إعادة النظر في خريطة دول المنطقة من حيث الدعوة إلى دمج بعضها وتقسيم بعضها الآخر
والضغط على البعض الآخر بما يتفق والمصالح الأمريكية ،وما يحدث في السودان مع أزمة دارفور كخير مؤشر على ذلك .وبهذا فإن تزايد الحديث عن قضايا السياسة الخارجية الأمريكية التي تثار مع دول محور الشر الجديد الذي اتسع نطاقه ليضم ست دول –كوبا –زيمبابوي –بورما –بيلاروسيا –إيران –كوريا الشمالية-إنها خطة كما يقول جمفري كيمب “إنها أهداف لا تستطيع بلادنا ولا جيشنا تحقيقها ..إنها دعوة ستقود في النهاية لو تم السعي لتحقيقها إلى النكبة والمأساة.

خاتمــــــــــــة
لقد كان لاكتشاف أمريكا دور مهم في تسريع وثيرة النبوءات والأساطير الإنجيلية ، فاعتبرت إسرائيل الجديدة ،ولقب شعبها والمهاجرون البيوريتانيون بالشعب المختار، وبالعبرانيين، وتعرض سكانها الأصليين –الهنود الحمر – إلى حملة اضطهاد وتطهير لم يشهد لها التاريخ مثيلا ذهب ضحيتها أزيد من 400 شعب وثقافة ، فوصفوهم بأبشع الأوصاف من متوحشين وكنعانيي الأرض الجديدة ،والشيطان ، وقوى الشر ،وكانت تحركهم في ذلك دوافع دينية أكثر من أي دوافع أخرى .
وبذلك فالإيمان بعودة المسيح ، وبان هذه العودة مشروطة بقيام دولة إسرائيل في ارض فلسطين قد لعب في الماضي ويلعب اليوم دورا أساسيا في صناعة القرار الأمريكي الداخلي ،وكذلك فإن الإيمان بفكرة شعب الله المختار لعب في الماضي ويلعب اليوم دورا أساسيا في تجاوز القوانين والمواثيق الدولية ، ذلك لأن منطق المسيحية الصهيونية يقول أن شريعة الله هي التي يجب أن تطبق على شعب الله .. وبالتالي فإنه حيث تتعارض القوانين الإنسانية والوضعية مع شريعة الله فإن شريعة الله وحدها هي التي يجب أن تطبق ” ،كذلك فإن الإيمان بمعركة نهاية الزمان “معركة الهرمجدون” يقف وراء صياغة مجموعة من السلوكيات لدى صناع القرار الخارجي الأمريكي اتجاه العالم بأسره واتجاه إسرائيل بشكل خاص.
فعندما تجاوزت هذه المعتقدات والأساطير أسوار الكنائس لتستميل قلوب الملايين من الأمريكيين عن طريق منظمات وجمعيات نافذة في المجتمع الأمريكي ، وعندما استطاعت السطو على قطاع واسع من المنابر الإعلامية الأمريكية وبصورة خاصة التلفزة ، وعندما استطاعت استقطاب كبار المسئولين الأمريكيين في البيت الأبيض والبنتاغون ووزارة الخارجية كان لابد من الوقوف عند أبعاد هذه الأساطير والنبوءات لمعرفة كيف توجه الرأي العام الشعبي ،وكيف تجمع الأموال لدعم القادة الدينيين في اختراق المؤسسات الدستورية الأمريكية من جهة ومن اجل تطويق خطر هذه الحركة الدينية ونشر السلام والوئام بين الشعوب في كل هذه الأرض .

وفي الختام تجدر الإشارة إلى أن بروز الدين كعامل أساسي في صناعة القرار الأمريكي تأتي كتجسيد حقيقي لعودة الظاهرة الدينية في المسرح الدولي بشمولية إلى الواجهة؛ الأمر الذي يجعلنا نتساءل، هل سيكون الدين في المنظومة الدولية عنصر استقرار وسلام دوليين أم ستشتعل باسمه حروب دينية وطائفية ستقدم فيها الإنسانية أرواحا طائلة ؟.

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى