دراسات شرق أوسطية

التراتبية وغياب الاستقرار في نظام الشرق الأوسط الإقليمي

لقد أظهر نظام الشرق الأوسط الإقليمي باستمرار نزعةً متأصلة نحو التوتر والأزمة. في إشارةٍ إلى آخر حدثٍ مُحفّز في العلاقات الدولية للمنطقة، قدّمت الانتفاضات العربية في عام 2011 عناصر جديدة في النظام الإقليمي للشرق الأوسط، وأضافت مستوياتٍ إضافية من التعقيد إلى دوافع عدم الاستقرار القائمة. على الرغم من الدراسات الكثيرة بشأن الجوانب المختلفة للعلاقات الدولية في الشرق الأوسط بعد عام 2011، إلا أن عددًا قليلًا منها ركّز على ظهور اتجاهات أكبر تؤطر أنماط التغيير في توزيع السلطة داخل الأطراف الإقليمية وفي ما بينها.

تتناول هذه المقالة الفجوة اللاحقة في الأدبيات المتعلقة بالعلاقات الدولية في الشرق الأوسط. وبصورة أكثر تحديدًا، تقدّم المقالة حجتين مترابطتين. بوصفهما نقطة انطلاق، تشير المقالة إلى نظامٍ هرميّ ناشئ في الشرق الأوسط يوجد فيه عدد من القوى الإقليمية، يليها ما يمكن تصنيفه قوى متوسطة إقليمية، وأخيرًا دولًا ضعيفة. هذا النظام الهرمي، كما تقول المقالة، هو في حدِّ ذاته أحد المصادر الرئيسة لعدم الاستقرار لأنه مستمدٌ من علاقات متعددة، وغالبًا ما تكون متداخلة بين الدول وداخلها في كل من الدرجات الثلاث.

تزعم المقالة أن غياب الاستقرار المتأصل في نظام الشرق الأوسط الإقليمي هو نتيجة التقاء أربعة تطوراتٍ متعاضدة بصورة متبادلة. أولًا، لقد استلزم السياق العالمي رحيلًا للولايات المتحدة أو إضعافًا ثابتًا لها بوصفها قوةٍ نشطة ومهتمة في المنطقة، ما فتح المجال بين الطامحين المحليين للتنافس على نفوذٍ أكبر، وحتى على الهيمنة الإقليمية. إن السياق العالمي الأكبر الذي يجد الشرق الأوسط نفسه اليوم فيه يستخّف بصورة متزايدة بنفوذ الولايات المتحدة، وقوتها في المنطقة. إن تحويل الاهتمام الأميركي إلى أماكن أخرى لم يحفّز بالضرورة قوى عظمى أخرى للتدخل، وملء الفراغ العسكري أو السياسي المفترض، نتيجة وجود مصالح تجارية للاتحاد الأوروبي، وروسيا، والصين في الأغلب في المنطقة أو كما في حالة روسيا، التي بدأت للتو في تحقيق غاياتٍ سياسية في بعض المناطق الساخنة في المنطقة مثل سورية.

لقد وفّر هذا السياق العالمي الأكبر المساحة والفرصة لدول الشرق الأوسط لأن تحاول أن تعزّز مواقفها في كلٍ من دول جوارها وخارجها. لقد سعوا للقيام بذلك من خلال إقامة الصداقات والتحالفات الإقليمية الجديدة والاستفادة أيضًا من انهيار السلطة المركزية الكلي أو قرب انهيارها في عددٍ من دول الشرق الأوسط بعد عام 2011. في مرحلة ما بعد 2011، هناك أربع من هذه القوى الإقليمية تتنافس من أجل نفوذٍ وتأثير أكبر، وهما إسرائيل والسعودية وتركيا وإيران. في حين تسعى اثنتان من هذه القوى الإقليمية، وهما إسرائيل والسعودية، للمحافظة على الوضع العالمي الراهن، تنظر تركيا وإيران، إلى نفسهيما على أنهما قوى مناهضة لهذه الهيمنة، وتسعيان لتقويض النظام العالمي، والتراتبية ذات الهندسة الغربية. إن المنافسة بين هذه القوى ومساعيها لتوسيع نفوذها هي السبب الثاني في التوترات الإقليمية وغياب الاستقرار.

ثالثًا، من بين البلدان في الصف الوسط من التسلسل الهرمي، يعدّ بعضهم أنفسهم مستفيدين من الوضع الراهن. في الواقع، إنهم يرون أنفسهم أقرب من حيث الهوية إلى القوتين الإقليميتين اللتين اضطلعتا بمهمة حماية الوضع الراهن نيابةً عن الولايات المتحدة والقوى الغربية. إن البحرين والإمارات العربية المتحدة ومصر والأردن أقرب كثيرًا إلى إسرائيل والسعودية لأنهم يعدّون أنفسهم “عربًا معتدلين” ويتبعون أجنداتٍ اقتصادية نيوليبرالية، ويتشاركون المخاوف الأمنية نفسها مثل الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين في ما يتعلق بالتطرف الإسلامي، المتمثل في حماس، وحزب الله، وإيران. تقف هذه “القوى الوسطى الحليفة” على النقيض من مجموعةٍ ثانية من الدول في الصف نفسه -الجزائر والمغرب وعُمان وقطر وتونس- إذ إن سياساتها أقلّ عقائدية، وأكثر مرونة، ولا تستند إلى ميزات الهوية المشتركة، ولكن تُوجهها المعايير الاستراتيجية أكثر. قد يطلق على هذه المجموعة “القوى الوسطى البراغماتية”.

في بعض الأحيان، يحدث أن تتصادم الاستراتيجية والهوية وتؤدي إلى توترات. فقد اتبعت قطر، على سبيل المثال، استراتيجيةً حمائية أسفرت عن المحافظة على خطوط اتصالٍ مفتوحة مع أمثال إيران، وحماس، وحتى حركة طالبان مع المحافظة على تعاونٍ دبلوماسي وأمني وثيق مع الولايات المتحدة، ودولٍ غربية أخرى. لكن في حزيران/ يونيو 2017، أطلقت الدول العربية “المعتدلة”، وهي المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين ومصر حملةً دبلوماسية وسياسية واقتصادية قوية ضد قطر، واتهمتها بإيواء الإرهاب، والتسبب في عدم الاستقرار الإقليمي.

على الطرف المتلقي للتأثير، هناك مجموعةٌ ثالثة من البلدان التي جعل منها انهيار السلطة المركزية فيها أو إضعافها بشدة، دولًا ضعيفةً، وعرضةً للضغوط الخارجية أو المالية أو العسكرية الخارجية. تنتمي كل من العراق واليمن ولبنان وسورية وليبيا إلى هذه الفئة من الدول التي اتضح ضعفها البنيوي، ومواطن ضعفها تعرضها لمكائد القوى الإقليمية وحلفائها من الدول وغير الدول. إما مباشرة أو من خلال حلفائها ووكلائها، فإن مساعي القوى الإقليمية لتعزيز مواقعها في هذه الدول الضعيفة أو المنهارة قد عمقت من ضعفها الوظيفي. هذا يشكل السبب الرابع لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط.

إضافة إلى عدم استقراره الكامن، يسهم نظام الشرق الأوسط الهرمي الإقليمي كذلك في توترات المنطقة بسبب المجموعة المعقدة من العلاقات التي تكمن وراء تفاعلات أعضائه مع بعضهم، ومع القوى الخارجية. في أعلى قمة الهرم، تنظر إسرائيل والمملكة العربية السعودية إلى نفسيهما بوصفهما حماة للوضع الراهن، ويستندون في علاقاتهم مع الولايات المتحدة، وبقية المجتمع الدولي إلى ذلك. ومع ذلك، ترى تركيا وإيران نفسيهما جهاتٍ فاعلة مناهضة لهذه الهيمنة ومصالحهما ليست بالضرورة متميّزة من خلال الترتيبات الدولية القائمة. كلٌّ من هذه القوى الأربع لها علاقاتها ومواقفها وأولوياتها الخاصة تجاه القوى الوسطى والدول الضعيفة في المنطقة: لقد توصلت إسرائيل والعربية السعودية إلى تسويةٍ موقتة (modus vivendi) قرّبتهم اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى، وكلتاهما تتنافسان وتسعيان لتقويض إيران، ونفوذها الإقليمي كلما وحيثما أمكن. المملكة العربية السعودية، بالتعاون الوثيق مع الإمارات العربية المتحدة والبحرين ومصر، تسعى لكبح جماح السياسة الخارجية المستقلة نسبيًا لقطر.

بعد أن وصلت مساعيها في سورية إلى طريقٍ مسدودة، تحالفت المملكة أيضًا مع الإمارات العربية المتحدة في محاولةٍ لضمان عدم وقوع اليمن في الفلك الإيراني. أما إيران وتركيا، فيقتطعون بنشاطٍ مناطق النفوذ في سورية، وفق ما فعلته إيران بالفعل في العراق، ومن خلال حزب الله في لبنان. وتركيا عززّت أيضًا علاقاتها القوية بالفعل مع قطر في عقب حملة المملكة العربية السعودية عام 2017 ضد قطر.

سعت الإمارات العربية المتحدة متحالفةً مع مصر الضعيفة، لتؤكد أن لديها وكلاء خاصين بها في مواقع السلطة والنفوذ في كلٍّ من ليبيا وفلسطين وذلك كي لا يجري إهمالها وتجاوزها.

هذه العلاقات المتشابكة بعيدةٌ كل البعد عن كونها دائمة، وتخضع لتحولاتٍ وانزياحات متكررة، وأحيانًا مفاجئة. الأسباب التي تكمن وراءها تمليها الضرورات المجتمعة لبقاء النظام، وتوازن التهديد، والهوية والقرابة الأيديولوجية. أيًّا كان سببهم محددًا، هذا التعقيد من العلاقات يديم عدم الاستقرار الذي هو متأصلٌ في النظام الهرمي الناشئ للشرق الأوسط فحسب.

تستمر المقالة في تحليل السياق العالمي الأوسع الذي يجد فيه الشرق الأوسط نفسه بعد عام 2011، مع التركيز على وجه التحديد على الأدوار التي تؤديها الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وروسيا، والصين في المنطقة أو ما يتعلق بها.

كما يوضح الفصل، وفرّت الأولويات المتغيّرة من القوى العظمى العالمية المجال والفرصة للقوى الناشئة في الشرق الأوسط لأن تحاول توسيع مجالات نفوذها وقوتها في ما يتعلق بدولٍ إقليمية أخرى. وستقوم المقالة بعد ذلك بدراسة التسلسل الهرمي، وتشكيل التحالف في منطقة الشرق الأوسط ما بعد الربيع العربي. وسيتبع هذا مناقشاتٍ لكلٍّ من القوى الإقليمية الأربع، ثم القوى الثانوية أو المتوسطة، وأخيرًا الدول الضعيفة. ستختتم المقالة بتسليط الضوء على الأسباب المتعددة والمعززة لعدم الاستقرار المتأصل في نظام الشرق الأوسط الإقليمي.

 

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى