الثورة في الشؤون العسكرية بين الماضي و الحاضر

رغم ما كتب ونشر بشأن التبشير بحدوث ثورة في الشؤون العسكرية، والتي ستؤدي إلى إحراز انقلاب شديد في نظريات القتال وطرق إدارة الحرب، فإن السؤال الذي يلزم أن يثار هو: ما هي حقيقة وأبعاد تلك الثورة؟ ومدى جدية حدوثها؟
تلك الثورة تعتمد على ما تقدمه التقنيات العسكرية المتقدمة من قدرات وقدرات لم تتوفر من قبل، وهو أمر يجب تقويمه عن طريق الإبحار في أغوار الزمان الماضي، لإثبات الرابطة الطردية بين الريادة التقاني العسكري من ناحية، وبين بال الأداء العملياتي من ناحية ثانية، فكلما ازداد الريادة التقاني العسكري ظهر بال عسكري حديث، حيث كانت الاحتياج تدعو باستمرارً لتحسين الأسلحة والعتاد الحربي لتلبية مطالب العمليات، فيجد العسكريون أنفسهم في مواجهة إمكانات حديثة في مسرح الحرب، فينعكس هذا على تحديث العقائد القتالية، سعياً لتحقيق المبتغى من المناحرة المسلح بأقل خسائر عينية وبشرية ممكنة.
وفي جميع عصر على نطاق الزمان الماضي تستغل مجموعات الجنود العسكرية الريادة العلمي والتقاني فيه بهدف تحديث أسلوبها وتحقيق تقدم عسكري على أعدائها. فإذا كانت الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر، قد أنجزت مكسبها معتمدة على أفكار مثل الحرية والإخاء والمساواة، فإن حروب في روسيا في أوروبا والحرب الأهلية الأمريكية في منتصف القرن التاسع عشر، قد اعتمدت على التلغراف والسكك الحديدية والبنادق للربح. وفي الثلاثينيات من القرن العشرين وضعت جمهورية ألمانيا الاتحادية التكتيك والإدارة العالية في خدمة الدبابات وموجات المزياع والقنابل التي تشعبت وتوسّعت في ذلك العصر، لأجل أن تحقق ما عرف باسم “بليتزكريج”، أي شن خاطف ومفاجئ.
الثورة العسكرية الأولى
منذ ظهور الحروب البدائية تنقسم أسلحة القتال إلي فئتين هما:
أسلحة الصدمة، مثل: السيف والرمح والسونكي، وهي تستخدم للقتال القريب.
القذائف، والتي تعمل على إتلاف العدو من عقب، مثل: السهم، والطلقة، والقنبلة شديدة التفجير التي تطلق من غير مشابه الوسائل.
ولذلك كانت الثورة التقانية العسكرية الأولى تكمن في ظهور القوس، الذي يطلق من (8 12) سهماً، وبمدى يبلغ ما بين (200-400) ياردة، ليبدو قتال العمق ومرونة الأداء. وارتفعت غزارة التشكيلات، ومعدات القتال، مع المطواعية في توزيعها على مسرح العمليات، وجرت المحاولات لادخار الدفاع للقوة البشرية، بواسطة الدروع الفردية في القرن الثالث عشر، والبدلة الحديدية التامة في القرن الرابع عشر، في وجود اتساع مدى عتاد الاقتراب والالتحام.
الثورة العسكرية الثانية

ثم أتت الثورة التقانية العسكرية الثانية، بظهور البارود على يد الإنجليزي “روجر بيكون” عام 1260م، ليبدأ عصر حديث تسود فيه الأسلحة النارية بمختلف أشكالها، وتعم المدفعية غير مشابه جيوش العالم، ويَبقى استعمالها مستمراً حتى هذه اللحظة، وتغير الفكر العسكري في الطليعة بتبني نظرية الاستنزاف والمناورة، ثم الهجوم على الفؤاد والمؤخرة.
ومع ازدياد مقدار الحروب واتساع نطاقها واتجاهها باتجاه الدولية، وظهور المستعمرات الغربية والصراع على أماكن البيع والشراء ومصادر الحصيلة، صار على كل جمهورية تود الشدة، وتتوق إلى المنعة، أن تحاول إلى فرض السيطرة على أساليب ومحاور المواصلات البحرية الدولية، فغدت فرض السيطرة على البحار والأجواء من الأسباب التّخطيط بالغة الضرورة، فتزايدت قوة الأسلحة وسهولة استعمالها، ولهذا تفوقت المدفعية على الخيالة، وأخذت موضعها كمطرقة للمعركة، تدمر مجموعات جنود العدو في العمق، وتقطع أساليب انسحاب قواته الأمامية، وتهيئ أفضل السبل لقوات المشاة الصديقة المهاجمة من الواجهة، للقضاء على العدو، وفرض الإرادة عليه.
ثم كان لنفوذ التقدم التكنولوجي الذي أحدثته الثورة الصناعية في أوروبا أن أجبرت العسكريين المتمسكين بالقديم إلى البحث عن طرق حديثة لإدارة الحروب والمعارك، فقد توفرت وسائل لنقل المدفعية والقوات، وسرعة ممارسات الإمداد، والسهولة النسبية في المناورة على أجناب ومؤخرة الخصم، وظهرت الدبابة عام (1910م). ورغم ذلك دامت المدفعية على احتكارها لقوة النيران في المجال.
أما الطيران الحربي الذي ظهر عام (1911م)، فقد أنتج إحياء حرب الحركة مجددا، وصار بوسع الجيوش مبالغة سرعة إيقاع المعارك. وقد كان لوقع ظهور الغواصة الألمانية عام (1914م) أثره العظيم في المسرح البحري.
ولذلك عكف المفكرون العسكريون في جميع مناطق العالم على دراسة خبرات الحرب الدولية الأولى، والأسلحة الرئيسة المستخدمة أثناءها، لتحديد اتجاهات تحديث قوات الجيش، وطبيعة أي حرب مرتقبة، فسرعان ما ظهرت نظريات وآراء حديثة، مثل: نظرية “القوات المسلحة الضئيل الشديد”، التي نادى بها الجنرال “فولر” و “ليدل هارت” في بريطانيا، و “سيكت” في دولة ألمانيا. و “ديجول” في الجمهورية الفرنسية. ثم نظرية الحرب الجوية التي نادى بها “ديوي” في إيطاليا، و “زوكوف” في الاتحاد الروسي، و “ميتشيل” في الولايات المتحدة الامريكية. وقد كان ذلك يخالف النظريات المسيطرة في هذا الوقت، وهي الشدة البحرية في المملكة المتحدة والولايات المتحدة الامريكية الأمريكية، وحرب المواقع، أو الحرب الثابتة في دولة فرنسا، والحرب الشاملة والضربة الخاطفة في جمهورية ألمانيا الاتحادية.
فلقد ظهرت نظرية القوات المسلحة الضئيل نتيجة لتقويم دور المعدات والأسلحة الحديثة ذات التقدم التكنولوجي في حينها، وخصوصا الدبابات. ففي عام (1922م) نادى الجنرال “فولر” رئيس زوايا مجموعات جنود التاج البريطاني في كتابه “دور الدبابات في الحرب العظمى (1914 1918م)” أن فوز الحلفاء في الحرب الدولية الأولى يرجع إلى الدبابة. وأنه يلزم على الغرب أن يبني جيوشاً مدرعة وميكانيكية، تمتاز بصغر كمية مجموعات الجنود البشرية، ولكنها عظيمة الكمية من حيث النفوذ النوعي للمدرعات، كما رأى “فولر” أن (99%) من التوفيق في الحرب سيتوقف على السلاح، في حين بقية المكونات الأخرى من استعمال وقيادة وشجاعة وانضباط وإمداد بالاحتياجات لا تمثل إلا (1%) لاغير من التوفيق.
ولقد أيّد ديجول في مذكراته بخصوص الحرب أفكار “فولر”، بل إنه اعتبر أن سر انهيار دولة فرنسا في طليعة الحرب الدولية الثانية يعاود سوء تقديرها لنظرية القوات المسلحة الضئيل المدرع. وعلى ذلك اعتمدت نظرية القوات المسلحة الضئيل الشديد على المعدّة. وترى تلك النظرية أن الدبابة بإمكاناتها، كقوة نيران، وقدرة على إحراز الصدمة، سوف تلعب الدور المصيري في الحرب الجديدة للقتال في العمق، وتحقيق الاختراق السريع في دفاعات الخصم.
أما نظرية “الحرب الجوية”، فلقد ابتدعها الجنرال الإيطالي “ديوي”، ونادى بها في عام (1920م)، وأيدها “زوكوف” وزير الحماية التابع للاتحاد الروسي زمانها بقوة. وتتلخص تلك النظرية في تأسيس قوات مسلحة جوي يتكون من ألف قاذفة قنابل، يتم استعمالها في موجات، كل منها (500) طائرة لتدمير (100) مقصد استراتيجي في العمق التعبوي والاستراتيجي بما يقود إلى استسلامه. كما تشاهد تلك النظرية أن دور مجموعات الجنود البرية يجيء عقب هذا، كدور ثانوي وهو مجرد انتزاع أراضي الجمهورية المستسلمة.
ولكن تلك النظريات قد أساءت إستيعاب دور الشخص، وجعلته ثانوياً، وأكّدت على أن الماكينة ستحل محله، ولكن الواقع الذي ظهر في الحرب الدولية الثانية (1939 1945م) أكّد على الدور الرئيس للشخص في أي حرب، لأنه القادر على استعمال المعدّة.
ومن أكثر أهمية التقدمات التي حدثت في الفكر العسكري فيما بين الحربين العالميتين، هو ظهور مجموعات الجنود المنقولة جواً كنتيجة لتطور تقانة الطائرات، وإنتاج المظلات، الأمر الذي نتج عنه مبالغة خفة الحركة التّخطيط للقوات البرية. ورغم أن الروس كانوا أول من بدأ التجارب لاستعمال تلك مجموعات الجنود لكن الألمان هم أول من استخدموها في حربهم الخاطفة محققين نتائج حاسمة.
و بالنظرً لأن القاذفة التّخطيط قد ظهرت في تلك الآونة فكان يتم استعمالها كأحد وسائل إيصال الذخائر لمدى بعيد، فلم تكن هناك هنالك غرابة في أن المبدعين والمفكرين العسكريين قد سعوا لاستبدالها بحاملة ذخائر لا يقودها بشر، وقادرة على إحراز القدر ذاته من الدمار، فظهرت العبوة الناسفة الطائرة، للمرة الأولى في سماء بريطانيا، في صبيحة الثالث عشر من حزيران (1994م)، وقد كانت تعمل بمحرك نفاث طفيف، وبسرعة (350 ميل- ساعة)، وتطلق من على مسافة (320 كم)، وليصبح هذا إعلاناً بظهور عصر الصواريخ أرض-أرض.
الثورة العسكرية الثالثة
ثم أتت الثورة العسكرية الثالثة، بظهور السلاح النووي يوم (6 شهر أغسطس 1945م)، عندما ألقى الحلفاء أول عبوة ناسفة ذرية تعادل قوتها (20 ألف طن) من المتفجرات على مدينة هيروشيما اليابانية، ليتم قتل وجرح زيادة عن (150) ألف فرد، ولتدخل الأسلحة النووية الزمان الماضي.
الثورة العسكرية الرابعة
وقد كانت الثورة التكنولوجية العسكرية الرابعة بظهور الترانزيستور عام (1947م)، ليبدأ الماراثون المدهش في ميدان الإلكترونيات، وتصبح بعداً رئيساً ثابتاً في تعديل كل سلاح أو معدّة، وتسمح ببناء الأقمار الصناعية. ويبدأ ماراثون الفضاء بتدشين السوفييت لأول ساتلايت، وهو “سبوتنيك” يوم (4 تشرين الثاني عام 1957م)، ويعقبهم الأمريكيون بتدشين القمر “إكسبلورر 1” في (31 ينابر عام 1958م). و رغم الطليعة المتواضعة في استعمال تلك الأقمار بغاية التنويه، سوى أنه سرعان ما اتسع استعمالها في ميدان المُخابرات والتجسس والاتصالات والتصوير، بل وفي حمل الأسلحة الموجهة، والتي ظهرت في طليعة الستينيات، وتم استعمالها في فيتنام، وبعضها يعتمد على المستشعرات الكهروضوئية أو التليفزيونية، في حين القلة الآخر يستعمل مستشعرات الليزر.
ووفقا لذلك تشعبت وتوسّعت المحاولات الرامية إلى تحديث وسائل نقل المواد المتفجرة أو النووية، سواء من على سطح الأرض، عن طريق المدفعية بأنواعها، وقواعد الصواريخ، أو من الطقس، عن طريق الطائرات المتغايرة، أو من الفضاء، عن طريق الأقمار الصناعية، أو من الأحوال الجوية من فوق السفن أو الغواصات؛ أي أن إمكانات ووسائل التدمير دامت كما هي، في حين تركز التحديث التقاني وسائل الحمل والنقل، ولهذا جرى المراعاة بتقانة التوجيه لتزايد النطاق.
الثورة العسكرية الخامسة
ولم يشأ القرن العشرون أن ينتهي ليسلم زمام البشرية إلي القرن الواحد والعشرين، قبل أن يحسم على نحو ختامي المناحرة بين الرأسمالية والماركسية، لتسقط الأخيرة. وتصعد الأولى، ويبدأ التحوّل في الأيدلوجية الكونية القادمة، ويقوم النسق الدولي الأحادي القطبية، والذي تحاول أثناءه الجمهورية الكبرى المهيمنة إلى فرض نظريات عسكرية حديثة في العرض، ولكنها قديمة في الجوهر، اعتماداً على الثورة التقانية الخامسة بالتطور العصيب في ميدان الحواسب الآلية، والتي تمتاز بقدرات عالية لمعالجات المعلومات، فظهرت منظومات التسليح الآلية المتكاملة، الفائقة الدقة، والقوية النفوذ، خاصة في وجود إدخار تقانة الطاقة الموجهة.
ويتنبأ المتخصصون أن تلك الثورة ستغير من معدات وطريقة قصف الحرب في المستقبل، فهذه التقانة ستؤدي إلى إدخار مستشعرات متعددة تكفل الدقة العالية في تحديد غايات العدو، والعمل على تدميرها عن طريق الريادة العظيم في صناعة غير مشابه الذخائر، الأمر الذي سيجعل المشاحنة العسكري في المستقبل يعتمد على تخطيطية الشلل والصدمة، كبديل لحروب الاستنزاف المتعارف عليها. ويقصد بالاستنزاف ذلك التدمير المتتابع للعدو، ثم في الخاتمة يكون مبالغة العقوبة العسكري هو الضمان لهزيمة واستسلام العدو، في حين نجد أن حرب الصدمة تطيح مبكراً بأي أمل للخصم في الاستمرار في القتال، ولذلك نجد أن التكامل بين عمليات حرب البيانات، وضربات العمق المركزة من خارج النطاق سوف تؤدي إلى حدوث مثل تلك الصدمة.
ووفقا لذلك بات المقصد الرئيسي من الفترة الافتتاحية للحرب، هو السعي لإحراز الشلل في منظومة التحذير والدفاع الجوي واتخاذ المرسوم للخصم، الأمر الذي يجعله يتشكك في مقدرته على إدارة المناحرة العسكري، ومما يضيف إلى مقدار المفاجأة.
وقد حاولت جيوش التحالف العربي العالمي امتحان بعض مكونات تلك النظرية أثناء حرب تحرير الكويت، بشن حملة جوية لفترة (39) يوماً، وإن كانت تنفيذاً واقعياً لنظرية الحرب الجوية لديوي وزوكوف، سوى أنها تميزت بالتوسّع في استعمال الطائرات الموجهة بلا ربان، والتي أحرزت (530) هامة متعددة، وقضت (1700) ساعة في الأجواء، إضافةً إلى صعود دقة الإصابة للطائرات مقابل الغايات الأرضية، بنسبة (85%) فكانت الحملة البرية لفترة (100) ساعة، من دون خسائر بشرية تذكر في القوات العربية المشتركة، وقد دارت تلك الحملة بتغير ملحوظ في ديناميكية إدارة العمليات، حيث تم القتال متزامناً في ثلاثة أبعاد رئيسة هي: البعد القريب، والعميق، والمؤخرة، الأمر الذي جعل كل مجموعات جنود الخصم في مسرح العمليات،سواء في الواجهة أو العمق، معرضة لقتال متواصل، الشأن الذي أجدد الصدمة المطلوبة.
ثم تم تطوير الفكر العسكري الأمريكي لاختبار نظرية القتال من مسافة بعيدة مقابل بعض المقاصد التّخطيط العراقية في سبتمير (1996م)، والتي أنجزت أهدافها بفرض الإرادة على مجموعات الجنود العراقية، دون مجابهات قتالية دامية في مسرح الحرب.
ولذلك تم الإسراع في تحديث تقانة التوجيه المتقدمة، لضمان إصدار صواريخ وطائرات تعمل من دون ربان، يتم توجيهها آلياً، عن طريق النسق الكوني لتحديد المواقع Global Positioning System GPS على سطح كوكب الأرض، وبما يكفل توجيه ضربات نيرانية قوية للأهداف العدائية، وبدقة عالية، ومن مسافات عظيمة جدا.
وتم إصدار الصواريخ المبرمجة على مقاصد بعينها، تقوم بالتعرف عليها، وتمييزها، والكشف والتتبع لها، ثم تدميرها دون غيرها، ويضاف إلى هذا نسق مستشعرات تجميع ومعالجة المعلومات في نفس التوقيت، في الدهر الحقيقي Real Time ليؤكد على احتمالية إصدار أسلحة بالغة الدقة، ويؤدي إلي مبالغة فعالية دائرة الشغل المتكاملة (البيانات المرسوم التصرف) لتتيح للقوات الصديقة سرعة الأداء العالي عن الخصم، وعلى ذلك فرض الإرادة عليه، لمحافظتها على المبادأة والحسم في إدارة أفعال القتال، لأنه متى ما ارتفعت سرعة متابعة تلك الدائرة لأي من مجموعات الجنود المتضادة، تم إدخار الوقت الضروري للتأثير في المنحى الآخر، والعكس بالعكس.
وحالياً يقف العالم على أعتاب عصر عسكري حديث، أو ثورة عسكرية، حيث التقانة المستخدمة تضم:
الاتصالات الرقمية، التي تسمح بضغط البيانات وحفظها.
نسق أقمار صناعية يسمح بتوجيه الصواريخ باهتمام.
طائرات خفية لا يلتقطها الرادار.
وفي النهايةً، والأهم، المعالجة بالحاسب الآلي.
تلك الثورة الحديثة بدأت تبدو بوادرها منذ الثمانينيات، وقد كانت أولى الحروب التي قصفت في وجود الثورة الحديثة، حرب الخليج، عام (1991م)، حيث استخدمت قاذفات طراز F-117، والقنابل الموجهة بالليزر، وصواريخ كروز، التي تحددت أهدافها بعناية، والتي دمرت كثير من النُّظُم العراقية.
وفي البوسنة، استخدم الأمريكيون نسق JSTARS وهو نسق لمراقبة الأرض من الطقس، ومن الممكن عن طريقه التقاط على شاشة واحدة وفي أي نوع مناخ مقر وطراز أي نوع من أشكال الآلات، التي تمشي على الأرض، على منطقة مائتي كيلومتر مربع.
وتلك الثورة الوليدة لم تبرز بهدف الدفاع والمقاومة لأي نوع من الوعيد مقابل الولايات المتحدة الامريكية، أو حلفائها، كما وقع مع الأسلحة النووية، بل ظهرت فقط لأجل أنها أمر واقع، أي أن هناك مسؤولين عسكريين يشاهدون وجوب النفع من التقانة الجديدة، ليكونوا مستعدين في وضعية تعرضهم في المستقبل إلى الوعيد. وهو ذاته ما وقع في جمهورية ألمانيا الاتحادية في العشرينيات، حيث قامت الجمهورية بتحسين ما عرف ب “القذف الخاطف”، الذي اعتمد على تقانة ذلك العصر، دون أن يكون هناك ابتزاز لدولة ألمانيا أو احتمالات انفجار حرب دولية حديثة، كما كانت أوروبا تتوجه إلى قلص ميزانياتها العسكرية.
إن الثورة في الشؤون العسكرية تدور بخصوص تقصي التميز في ثلاثة مكونات:
1 تجميع البيانات: إن مراكز الاستشعار في الأقمار الصناعية والطائرات الموجهة بلا ربان، تستطيع التقاط جميع الأشياء يتحرك داخل حدود منطقة معينة.
2 معالجة البيانات: وهو ما تم عن طريق نظم متقدمة للقيادة والهيمنة والاتصال ونظم البيانات عرفت باسم C41، والتي تفسر البيانات التي تتلقاها من مراكز الاستشعار، وتعرضها على الشاشة، ثم تقوم هذه النظم بتكليف الصواريخ والدبابات بالقيام بمهام معينة.
3 استعمال كل هذه البيانات، في القيام بقصف المقاصد بعيدة النطاق، ولكن بدرجة عالية من الدقة. فالصواريخ من طراز كروز، التي توجهها الأقمار الصناعية، تستطيع إصابة عقار واحد على عقب مئات الأميال.
والقوات المسلحة الأمريكية لديها مكونات من هذه النظم الحديثة العاملة في الوقت الحاليًّ، ففي البحرية الأمريكية هناك نسق يسمى “القدرة في التعاون على التلاحم”، والذي يسمح لعديد من السفن الحربية على ضم راداراتها سوياً في رادار واحد أكثر قوة، يكون متاحاً لكل باخرة، ولكن أمريكا لم تبلغ في أعقاب إلى دمج كل المكونات التقدمية في نسق النظم، ذلك النسق الحديث سوف يسمح للقائد أن يواصل على الشاشة كل ما يجري على أرض الموقعة، وأن يختار هدفاً، ويدمره بكبسة زر.
سيناريو لحروب المستقبل
ومن هنا سنجد أن القائد الاستراتيجي في القرن الواحد والعشرين، سيدير الحرب بالأزرار، أي (بالريموت كنترول)، ولكن تلك العملية مرهونة بالعديد من المحاذير، لأن الحرب عندما تقع تكون دموية، كما أن تلك الحرب يصعب عليها مجابهة حروب العصابات، والحروب غير النظامية، كما يصعب تطبيقها في أنحاء الغابات والمدن والأدغال.
ولنتأمل سوياً ذلك السيناريو: جلس زعيم مجموعات الجنود التّخطيط في مواجهة الشاشة العملاقة في ترتيب إدارة العمليات، والتي توضح أجدد موقف لأوضاع مجموعات الجنود العدائية وأهدافها التّخطيط والتعبوية، وقد كانت الإنارة الخضراء المتقطعة توضح مواقع منظومة القيادة والهيمنة والاتصالات للعدو وأماكن مكونات تدشين النيران العدائية، في حين الإنارة (الفلاش) توضح مقدار الاتصالات الحالية على وسائل التواصل للخصم، لقد بدأت الحرب منذ ثلاثة أسابيع عندما رضي الرئيس على التسلل إلى أنظمة الحواسب للعدو.
وعلى عقب آلاف الأميال، بدأت الضربة الأولى في نصف الليل، وأُضيئت سماء العدو بموجات متتالية من الصواريخ البالستية، المطلقة من السفن والغواصات والقواعد الصاروخية بعيدة النطاق، وقامت الطائرات القاذفة بلا ربان بإلقاء آلاف الأطنان من القنابل والذخائر الفطنة والموجهة، وتم تدشين الصواريخ الجوالة المصممة لتعطيل الأنظمة الإلكترونية عند العدو.
وفي ميدان الفضاء بدأت بعض الأقمار الصناعية الضئيلة في تدشين أشعتها الليزرية، الموجهة مقابل أشد الغايات العدائية لتدمرها، وسرعان ما نقلت الأقمار الصناعية والطائرات بلا ربان فوق مسرح العمليات نتائج الخسائر لمركز القيادة الاستراتيجي، للتأكد من تقصي مقصد الضربة، والذي يتركز في تعمية العدو، بواسطة شل فعالية نسق القيادة والهيمنة والإنذار والدفاع الجوي، ولذلك عندما ظهرت الإنارة الحمراء فوق الغايات العدائية، كان هذا يقصد فوز الضربة في تقصي أهدافها، والإعلان عن حرب حديثة من دون دماء أو أشلاء.
كان ذلك السيناريو الجائز الحدوث في حرب المستقبل، والذي يجري الإعداد له هذه اللحظة في ولاية فرجينيا التي بالشمال في الولايات المتحدة الامريكية الأمريكية، من أجل إدارة حرب تحقق السيطرة على سلوك الخصم، وتجعله يعمل على حسب ما نرغب في، عن طريق تحييد استعمال العدو لقواته المسلحة، أو تقويض إمكانياته العسكرية دون أي مجابهة بشرية، وفي فترات تالية يتم القضاء على الخصم دون مجابهة في مجال القتال، وهو ما أطلق عليه الثورة في الشؤون العسكرية للقرن الآتي.
النتائج المترتبة على هذا
إن قوة الصواريخ الجديدة والقنابل أصبحت عالية إلى حاجز أن كل منحى يحاول أن حتّى تكون له الضربة الأولى لمنع العدو من القيام بالاستجابة، وفي الوقت ذاته، ستتسع العمليات العسكرية جغرافيا ايضاً، في حين يقل عدد مجموعات الجنود والآلات المستخدمة فيها، فعلى نطاق الزمان الماضي، يلمح أن مقدار مجموعات الجنود المستخدمة بداخل منطقة المعارك تقل مع الوقت، وعلى طريق المثال، في عام (1815م) كانت الفرقة العسكرية، التي تضم ما بين (15 و 20) ألف فرد تحتل منطقة تصل (25) ميلاً مربعاً، ومع إجابات عام (2015م) قد تتطلب الفرقة ذاتها منطقة ليست أقل من مائة ميل مربع. حيث تتحرك مجموعات الجنود بشكل سريع على أرض الموقعة، في وحدات ضئيلة، ولن يكن هناك ما عرف ب “خط مجابهة”، كما كان في الزمن الفائت.
وبما أن الدفاعات مقابل الصواريخ لن تكون سهلة كلياً، فإن الموانئ والقواعد الجوية، وأي مواقع ثابتة، سوف تكون معرضة للضرب، ولذلك فسيكون من العسير الاحتفاظ بالتسلسل في نقل الإمدادات، الأمر الذي يقصد أن مجموعات جنود الاستطلاع ستضطر إلى حمل مقادير أضخم من المؤن معها، في حين سيجد المقاتلون ومعداتهم أن المناورة وسهولة الحركة أكثر أهمية من الدروع الواقية.

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button