الجزائر , الصراع الدولي , صراع الأجنحة , الحراك.
مما لا شك فيه أن الجزائر كبلد ذو موقع إستراتيجي حساس يتوسط العالم ويتوفر على ثروات عديدة يجعل منها ذات وزن وقدرة على التأثير في إقليمها , وإن لم يظهر هذا حاليا بصورة جلية للأفراد الغير متتبعين للشأن الدولي والباحثين في تاريح الجزائر الدبلوماسي , من الأفراد الذين يستمدون معلوماتهم من الإعلام الموجه من طرف مختلف القوى المتصارعة وليس من الكتب والأبحاث الأكاديمية التي تراعي الحيادية في طرحها إلى حد ما ممن يملكون أدوات التحليل والإستقراء والإستشراف.
فرغم الدور الذي لعبته الجزائر في العديد من الأزمات الدولية على مر تاريخ الدولة الحديثة إلا أنه ومع إنفتاح العالم والإعلام في عصرنا هذا وتأزم الوضع بسبب التغيرات التي يشهدها العالم اليوم بسبب تغير موازين القوى وسقوط القطبية الأحادية بقيادة أمريكا بعد الصعود الروسي والصيني سوف يكون للجزائر مستقبلا الأثر البليغ في الأحداث العالمية.
فلا يخفى على أحد ممن يطلع ويتابع الوضع العالمي اليوم , أن تقهقر القوة الاقتصادية لأمريكا وصعود القوة العسكرية والإقتصادية لروسيا والصين قد أجج الصراع العالمي في العديد من بؤر الصراع والمضايق والمعابر المائية (مضيق هرمز , مضيق الملق , بحر الصين الجنوبي , شرق البحر المتوسط , البحر الأحمر) والتي تعمل اليوم أمريكا للإنسحاب من بعضها للتفرغ للقوتين الصاعدتين (روسيا والصين) بعد أن كانت تلعب دور الشرطي العالمي الذي يحافظ على الأمن وفق ما يخدم مصالح أمريكا , زيادة على تضاعف وتيرة النزاع في عدة أقاليم وبلدان تتوافر على موارد طاقوية معتبرة (فنزويلا , ليبيا , سوريا , مالي).
تلك النزاعات التي كان لها ارتدادات في منطقة الساحل والشرق الأوسط والعالم ككل, وقد أضاف إكتشاف طريقة تسييل الغاز من حدة الصراع ووسع في أبعاده وفي زعزعت علاقة العديد من الدول ببعضها البعض وأفضل مثال العلاقة السعودية القطرية والسعودية الإيرانية والمصرية التركية والتركية السعودية وغيرها من الصراعات المتشعبة والتي غالبا ما تكون بسبب إقتصادي ولكن يتم ترجمتها سياسيا أو دينيا للشعوب من أجل نيل الدعم من طرف الرأي العام في تلك البلدان وما يحدث في الجزائر ليس ببعيد فالجزائر تتأثر وتؤثر مثلها مثل باقي الدول.
فمنذ وفاة الرئيس هواري بومدين عرفت الجزائر تزعزع في علاقتها مع روسيا الإتحادية والتي كانت قواها في إنحدار بسبب الحرب الباردة التي أدت فيما بعد مع مطلع التسعينييات إلى سقوط الإتحاد السوفييتي تاركا الساحة لأمريكا لتقود العالم كأكبر قوة إقتصادية وعسكرية , ولعل أبرز ما ادى لهذا الخمول والتراجع في قوة العلاقة هو وجود تيارات تفضل الإنفتاح على فرنسا ومناهضة لسياسات بومدين التي كانت تفضل القطبية العالمية بين روسيا وأمريكا بعيدا عن فرنسا ,والتي وجدت متسعا للنشاط بعد عودة الجزائر للحاضنة الفرنسية التي كانت تحت مراقبة أمريكية بعدما حرص على تطبيق هذه الأجندة ما يعرف بالتيار الفرونكفيلي.
أغلب المتتبعين للشأن الجزائري يعلم أن الرئيس الشاذلي قد تم تنصيبه من قبل جهاز الإستخبارات الذي قام بإستبعاد محمد الصالح يحياوي وبوتفليقة آنذاك عن الرئاسة رغم أنهما كانا المرشحين الأكثر حظا لخلافته, وماكان هذا الإستبعاد لينجح لولا تواطؤ الجنرالات الذين يعرفون بضباط فرنسا والذين إخترقو الثورة الجزائرية في السنوات الأخيرة قبل الإستقلال , بعدما تكللت عملية “العصفور الأزرق” التي قامت بها فرنسا بالنجاح النسبي , والتي كانت تهدف لإختراق قيادات النواحي العسكرية للجبهة مما أدى فيما بعد بما يعرف بمعاهدة إيفيان والتي يرفضها حتى اليوم الكثير من الجزائريين على غرار القادة والضباط في صفوف الجيش الوطني الشعبي بفضل فطنة بعض القادة من ضباط جيش التحرير الوطني آنذاك والذين ساهمو في إحياء التيار الفكري النوفمبري الذي يطالب بالتحرر الكامل الغير منقوص من فرنسا والذي يشمل كل المجالات بما فيها الإقتصاد والثقافة.
فبعد تقهقر الإتحاد السوفياتي والذي كان الحليف الإستراتيجي لبومدين الذي يتداول الكثير من الشخصيات الفاعلة في الساحة الجزائرية شكوك في كونه مات مقتولا, تم الإنفتاح على فرنسا , تلك العلاقة التي كانت تريدها فرنسا وتحلم بها وهو الهدف الذي كان يريده الكثيرون ممن كانو في مناصب حساسة آنذاك ولكن لم يجدو متسعا عندما كان بومدين حيا, لذا ومنذ ذلك الحين تم رهن مستقبل الجزائر برغبة تيار فكري فرونكفيلي وبمساعدة إستخباراتية وعسكرية وأفول نجم التيار النوفمبري المتحرر من فرنسا مما أدى لدخول الجزائر في فوضى سياسية كانت تختفي وراء رداء الديمقراطية الغير راشدة, والتي تأزمت فيما بعد أكثر بما يعرف بسنوات التسعينيات, والتي عرف فيها ضباط فرنسا العصر الذهبي لهم , وعرف جهاز الإستخبارات الذي تم تحويله إلى جهاز الأمن والإستعلامات بقيادة الجنرال “محمد مدين” المعروف بالجنرال توفيق تطورا غير مسبوق فيما يخص الصلحيات والذي تدخل في مختلف ميادين الحياة, سواء سياسة أو إقتصاد, حيث قام الجهاز بإحتواء كل الجبهات المعادية للنظام من موالات ومعارضة وبقى مديره المعروف بالماجور أي الجنرال توفيق هو من يملك خيوط الللعبة حيث قام بتنصيب بوتفليقة رغم رفضه من قبل المؤسسة العسكرية آنذاك وهو الأمر الذي انقلب فيما بعد على الجهاز وعلى الإستخبارات عندما بدأ ما يعرف بصراع الأجنحة بين الإستخبارات والرئاسة والمؤسسة العسكرية , بعد أن تم تطهير هذه الأخيرة من جنرالات فرنسا وتم تنصيب قيادات جديدة على رأسها , بداية من نائب قائد الأركان “أحمد قايد صالح” مما أعطى نفسا لتيار النوفمبري من جديد للظهور في الساحة.
عرف صراع الأجنحة الثلاثة عدة فصول كان أولها في تحالف الرئاسة مع الإستخبارات ضد المؤسسة العسكرية والتي كانت تحت قيادة ضباط فرنسا , والذي أدى إلى زيادة قوة الرئاسة على حساب الإستخبارات مما أدى لبروز صراع ثاني بين المؤسسة العسكرية بقيادة نوفمبرية بتحالف مع الرئاسة ضد الإستخبارات (جهاز الأمن والإستعلامات بقيادة التوفيق), أدى هذا الصراع للحد من صلاحيات الجهاز الإستخباراتي ثم إلى تفكيكه كليا بعد حادثة تيغنتورين وإلحاق جزء منه إلى قيادة الأركان وجزء إلى الرئاسة التي أصبحت مرتعا لأخ الرئيس يديرها بصفة غير دستورية.
ورغم زوال الصفة الرسمية لجهاز الأمن والإستعلامات إلا أن العديد من الجمعيات والنقابات والوسائل الإعلامية والأشخاص والأحزاب التي كان يديرها من خلف الستار ويدعمها عن طريق رجال الأعمال الذين ساعد في صعودهم سنوات التسعينيات بقت تأتمر بأمره وتعمل على تنفيذ مخططاته لاستعادة قوته ولو بطريقة غير دستورية, وهذه الصفة الغير دستورية التي كان يتشاركها مع أخ الرئيس كانت سببا لبروز فصل جديد من الصراع , حيث تحالف الجهاز المنحل مع أخ الرئيس ضد المؤسسة العسكرية.
لقد تزامن هذا الصراع بين هذه الأجنحة مع غليان شعبي تصاعدت وتيرته بعد عدة حوادث ومشاكل كان يعيشها الشعب الجزائري والذي أدت لإنبثاق ما يعرف بالحراك نهاية شهر فيفري سنة 2019 والذي لم تعرف الجهة المنظمة أو المعلنة لتاريخ بدايته حتى الآن وتذهب مختلف الشكوك لكونه كان وليد أجندات أجنبية هندستها منظمات عالمية كمنظمة أوتوبور التي طبقت نماذج من الجيل الخامس للحروب عن طريق إحداث الفوضى بين مؤسسات الدولة والتسبب في اصطدامها مع الشعب, ويذهب البعض لكونه حراك عفوي قام به مجموعة من الشباب عبر مواقع التواصل الإجتماعي ببراءة المواطن الذي يأسى على حال بلده ويريد التغيير, إلا أنه لم تكن هناك معلومات واضحة عن ماهيته رغم أنه كان يعتبر نتيجة منطقية لما كان يحدث في الجزائر من مهازل سياسية بلغت حد ترشيح إطار صورة الرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة لعهدة خامسة.
مع بداية الحراك كانت المؤسسة العسكرية في شك من الجهة المنظمة له فكان أغلب ظنها أنه قد تم تنظيمه من قبل الأحزاب والمنظمات التي كان الجهاز المنحل يشرف عليها ويديرها من خلف الستار نظرا للصراع الذي كان قائما طوال السنوات السابقة بين الأجنحة الثلاثة, حيث لم يخفى تواجد العديد من المناضلين من عدة أحزاب محسوبة على الجهاز المنحل في الميادين وإبدائهم الرغبة في المشاركة أو حتى قيادة الحراك الشعبي , سواء من أحزاب القوى الإشتراكية أو حزب العمال أو التجمع الثقافي والديمقراطي وبعض الأحزاب الحديثة والتي كان لقادتها علاقات وطيدة مع الجنرال توفيق وجهازه ومع ضباط فرنسا في التسعينات والذي يمثلون اليوم الجناح السياسي الجديد للتيار الفرونكفيلي العلماني, ولكن تفاجئ الكل بمشاركة كل أطياف الشعب الجزائري بطريقة سلمية منقطعة النظير مما أحدث ضجة عالمية دعت القوى العالمية للإلتفات لما يحدث في الجزائر , الأمر الذي قابله الشعب الجزائري برفضه لأي تدخل في الشأن الداخلي للجزائر, بعد أن كانت هناك محاولات من قبل شخصيات جزائرية تابعة للأمم المتحدة للتدخل في الشأن الجزائري.
مما أدى بالمؤسسة العسكرية إلى تغيير خطابها لمساندة الأغلبية الشعبية وإشارتها لها أنها تساندها في مطالبها المشروعة وفق الدستور وبدون الخروج عن القانون, حيث هتف الشعب في مختلف الميادين “جيش شعب خاوة خاوة” إشارة منهم إلى قبول التلاحم بين الشعب والجيش ضد الفساد , مما أدى إلى الضغط على الرئاسة لإستقالة الرئيس, ودفع أخيه والجنرال توفيق للخطأ والتخابر ضد هذا الصعود لقوة المؤسسة العسكرية بعد قبول الشعب لمساندتها له , حيث كان خطأهم في رغبتهما في تفعيل الحالة الإستثنائية واقالة قائد الأركان والقيام بخطوات أخرى ضد الشعب أو ما عرف بإجتماع العصابة والذي أشارت له المؤسسة العسكرية فيما بعد بشكل واضح في خطاباتها.
والذي انتهى إلى إعتقال كل من شقيق الرئيس المخلوع والمدير السابق لجهاز الأمن والإستعلامات ومجموعة من الشخصيات التي حظرت ذلك الإجتماع السري ليتم وضع حد للصراع الذي كان قائما بين الأجنحة الثالثة, ولكن ما يعرف بحمة الثورة بقيت متواصلة في الشارع الذي يتداول أنه أصبح موجها من قبل عدة شخصيات معارضة في الخارج وأحزاب تابعة للجهاز المنحل أو ما يعرف بالدولة العميقة في الساحة السياسية الجزائرية , حيث أصبحت الهتافات الشعبية ضد قائد الأركان “احمد قايد صالح” ووصفه أنه جزء من العصابة, حيث تم تعميم هذا التوجه الجديد والذي يتناقض مع شعار “جيش شعب خاوة خاوة” ويناقض الاعتراف بالفضل لما قامت به المؤسسة العسكرية من اعتقال لرؤوس الفساد قد يرجح سببه لغياب التيار النوفمبري من الساحة السياسية.
كون حزب جبهة التحرير الوطني يعتبر ورقة محترقة للفساد الذي عرفه في السنوات التي سبقت بداية الحراك , ولكونه غير مؤطر ولا يملك ثقافة تنظيمية تمكنه من السيطرة على الميادين أو إستحداث وجوه إعلامية تملك من الكفاءات ما يمكنها من شرح الوضع الجزائري بكفاءة تقنع الأغلبية , فأغلب قياداته كانو لا يتقنون حتى التكلم بطلاقة , فغياب الجناح السياسي للتيار النوفمبري أدى إلى بقاء الصورة القديمة للجيش في أذهان الأغلبية الشعبية وسيؤدي هذا ربما إلى فشل العملية الإنتخابية مستقبلا, كما يراد له أن يكون من قبل التياري الفرونكفيلي الذي لطالما راهن على المجالس التأسيسية والمراحل الإنتقالية كون مشاريعه لا تلقى صدى لدى الشعب بقدر ما تلقى صدى لدى فرنسا التي تعارف المؤسسة العسكرية وترى نفسها كحاضنة للجزائر فيما يخص العلاقات الدولية سواء السياسية او المشاريع الإقتصادية, الأمر الذي يرفضه التيار النوفمبري الذي استرجع المؤسسة العسكرية والذي يلقى دعما اليوم بعد عودة روسيا للساحة الدولية كقوة مؤثرة تعرف تنافر في علاقتها مع فرنسا, وبإعتبار ان روسيا شريك إستراتيجي قديم للنوفمبريين الذين لقو دعم آخر من قبل أمريكا التي تريد التخلي على فرنسا واستبعادها من حلفائها بعد محاولة تحرر هذه الأخيرة من وصايتها.
لذا ستظهر الأيام مستقبلا الوضع في الجزائر والذي يرجح أنه قد تم تحديد مساره مسبقا من قبل التيار النوفمبري والقوى العظمى في العالم وأن ما يحدث في الجزائر من انتفاضة شعبية سيقابل تحسن في الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية للشعب الجزائري بعد تحرر البلاد وسياساتها الإقتصادية والثقافية من المستعمر القديم فرنسا. منقول من صفحة ماذا تقرأ