الحراك السياسي في الجزائر: من إسقاط السلطة إلى هندسة الخروج الآمن

تناول هذا التقرير موضوع الحراك السياسي الجزائري مركِّزًا على أسباب اندلاعه وكيف كانت طبيعة الحكم في الجزائر في عهد الرئيس بوتفليقة سببًا مباشرًا لهذه الحراك، مع تناول تداعياته السياسية والأمنية. وينهي الكاتب التقرير باستشراف مآلات هذا الحراك.

مثَّلت الهبَّة الشعبية في الجزائر، بتاريخ 22 فبراير/شباط 2019، حدثًا استثنائيًّا، أعاد إحياء الرؤية الثورية للتاريخ السياسي الجزائري بعد عقود من سيادة حالة الانعزال السياسية عن واقع غير ديمقراطي عاشته الجزائر بعد مرحلة العشرية السوداء، رغم حجم التظاهر اليومي والسلوك الاحتجاجي الذي تعرفه الجزائر منذ سنوات(1).

أسباب تفجر الوضع

تعامل الرئيس المستقيل، بوتفليقة، منذ وصوله قصر المرادية بآليات تكرس السلطة الرئاسية التنفيذية، وساعده في ذلك الظرفُ الدوليُّ الضاغطُ في سبيل مكافحة الإرهاب، وكذا الارتفاع غير المسبوق لأسعار النفط؛ مما جعل الجزائر تسدد التزاماتها المالية. وقد تحول بوتفليقة في المخيال الجمعي الجزائري، خلال عهدته الأولى، إلى الرجل المخلِّص خصوصًا بعد إقرار ميثاق السلم والمصالحة وقانون الوئام المدني، وهي أمور جُعلت في حساب الرجل منذ 1999.

ومع التعديل الممنهج للدستور وخوفًا من تداعيات الربيع العربي، كرَّس بوتفليقة سلطته المطلقة بإلغاء دور المؤسسة التشريعية وتحويلها إلى مؤسسة مهيمَنٍ على قرارها، خصوصًا بعد تعديل الدستور لتبرير ترشح الرئيس لعهدة ثالثة ورابعة. أضحت صناعة القرار السياسي في الجزائر مرتهنة بيد مؤسسة الرئاسة وتحديدًا بيد مستشار الرئيس، شقيقه الأصغر، السعيد بوتفليقة، الذي أضحى يوصف لاحقًا في الإعلام بـ”زعيم العصابة وسارق أختام الرئاسة”. وهذا ما جعل الساسة والمواطنين يتناقلون همسًا ولمزًا الدور المشبوه الذي يقوم به في صياغة القرارات وتعيين المسؤولين وتزوير الإرادة الشعبية الانتخابية، وصولًا إلى تمرير العهدة الخامسة بالقوة رغم اعتراض الكثيرين على ذلك.

ومنذ بداية العهدة الرابعة في سنة 2015، بدأ النقاش يزداد حدة ووضوحًا بهذا الصدد حول من يقرر في الجزائر! وبعد إقرار العهدة الرابعة، وصفت مختلف التشكيلات السياسية التعديل الدستوري بالعبثي، واتهمت شخصيات غير مخولة دستوريًّا بالسيطرة على القرار، وهو ما فتح المجال واسعًا على مصراعيه لمناقشة الفساد السياسي الذي ينخر الدولة، واختراق عملية صناعة القرار من طرف شخصيات لا تملك الصفة في هذا المجال.

ومما زاد الوضع تفجرَا ما أصبح مجالَا للتندر من الجزائريين ومدعاة للسخرية؛ إذ كيف يمكن لرئيس مقعد لم يخاطب شعبه منذ أكثر من أربع سنوات إلا بالرسائل المكتوبة أن يحكمها لخمس سنوات إضافية، وهو الذي قال قبل سنوات إنه انتهى زمنه وانتهى معه زمن الشرعية الثورية لتحدث الانتكاسة مرة ثانية بإقرار دستور على المقاس، في مارس/آذار 2016، ولتنتهي المسرحية بترشيح الرئيس لعهدة خامسة، في فبراير/شباط 2019، في تجمع جماهيري بالقاعة البيضاوية وسط حشد ضخم أسهم فيه ولاة الجمهورية وجميع أحزاب التحالف الرئاسي بإنزال وزاري ضخم، وهو ما يذكِّرنا بكتابات أ ريشار (A. Richards) الذي يرى أن السلطة وفي خضم غفلتها وفسادها، تبرر لنفسها اعتماد جميع ميكانيزمات المحافظة على السلطة، بما فيها جملة الإجراءات والاستراتيجيات التي تسمح بتأسيس تقاليد للمحافظة عليها(2).

وتعج مواقع التواصل واليوتيوب بتجمعات ما يعرف بالأعيان ورجال الدين ووعاظ السلاطين ممن قدموا القرابين والتماثيل واللوحات العملاقة، ممن يطلق عليهم في الجزائر بعبدة الكادر وصولًا إلى إهداء النوق والأحصنة النادرة لشبح وطيف رئيس لم يروه منذ أكثر من أربع سنوات. على أن كثيرًا من بين رجالات الدين المحسوبين على السلطة مَن ركب موجة تحريم الخروج على ولي الأمر، وأرسلوا رسائل تهديد لأئمة المساجد بالدعاء للبلاد بأن يعم الأمن، وأن الحراك ظاهرة محرمة يجب أن يطولها الغمز واللمز والتعزير.

فاقمت الأوضاع من جرح كرامة الجزائريين، وجعلتهم في موضع طعن في قدرتهم على تغيير واقع بائس ومؤلم، وهم الذين يفتخرون في كون نسبة الشباب تناهز 75% من مجموع السكان. ومع أنه من الصعب على نظام سياسي يقوم على العصبوية والزبونية توفير السلم الاجتماعي فقد وقعت حالة من الانسحاب الجماعي من الفعل السياسي لدى الشباب، وهو ما ترك المجال للأوليغارشيا السياسية الجديدة من رجال الأعمال الفاسدين أمثال على حداد والأخوة كونيناف الذين يقبعون الآن في سجن البليدة تحت طائلة العقوبات الجزائية.

أكد وزير الدفاع السابق، خالد نزار، الذي أصدرت المحكمة العسكرية عريضة دولية لإلقاء القبض أمس السابع أغسطس /آب 2019، وهو الذي يقيم حاليًّا بين فرنسا وإسبانيا حيث يمارس المعارضة عبر موقع تويتر، أن السعيد بوتفليقة كان مستعدًّا، حتى نهاية شهر مارس/آذار 2019، للقيام بأي شيء من أجل التمسك بالسلطة، بما في ذلك إدخال البلاد في “حالة الحصار” أو “حالة الطوارئ”. وكتب نزار، الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع سابقًا، أنه “حتى آخر دقيقة، تمسك المتحدث باسم الرئيس بالسلطة، مما ضاعف محاولات الالتفاف، والمناورات والمخططات اليائسة للحفاظ على وضع يده على شؤون البلاد”، وقال نزار إنه تحدث مع السعيد بوتفليقة مرتين منذ بداية الحراك الشعبي، وإنه يريد أن يدلي بشهادته للتاريخ، للتأكيد إلى أي مدى كان يريد هذا الرجل الذهاب بالجزائر، وإنه لم يُرد أن يَفهَم أن الستار قد سقط فعلًا.

ويصف نزار محاورة السعيد بوتفليقة في اللقاء الأول بأنه “رجل في حالة من الفوضى”، ويقول إنه نصحه بالاستجابة لمطالب المتظاهرين. وأضاف نزار: “قلت له: الشعب لا يريد عهدة خامسة، ويريد الذهاب إلى جمهورية ثانية، ويرفض السياسيين الذين يتقلدون مناصب حاليًّا، وأرى أنه يجب الاستجابة لهذه المطالب”، وأضاف نزار أنه قدم الاقتراح الأول، وهو ندوة وطنية، مع تحديد التواريخ، ومنها رحيل الرئيس في أجل ستة إلى تسعة أشهر، وتغيير الحكومة الحالية بحكومة تكنوقراطية، والاقتراح الثاني، والأكثر منطقية، هو أن ينسحب الرئيس إما عن طريق الاستقالة أو عن طريق المجلس الدستوري؛ ويتم في الوقت نفسه تعيين حكومة تكنوقراطية وإنشاء عدة لجان مستقلة تكون مؤهلة لتنظيم الانتخابات ووضع الأدوات اللازمة للذهاب إلى الجمهورية الثانية، مع اقتراح أن يستقيل رئيس مجلس الأمة. وبحسب خالد نزار، فإن السعيد بوتفليقة رفض على الفور الاقتراح الثاني، واعتبره “خطيرًا عليهم”، وعندما طرح عليه سؤالًا: في حال رفض الشعب الرسالة ماذا ستفعل؟ فردَّ السعيد بوتفليقة: “ستكون حالة الطوارئ أو حالة الحصار”. 

أما المحادثة الثانية بين نزار والسعيد بوتفليقة، فكانت عبر الهاتف، في يوم 30 مارس/آذار 2019؛ حيث يؤكد نزار أن السعيد كان “مذعورا”، وأخبره عن اجتماع نائب وزير الدفاع الوطني مع قيادات الجيش. وبحسب نزار، فإن سعيد بوتفليقة أراد معرفة ما إذا كان الوقت قد حان لإقالة قايد صالح. مؤكدًا أنه حاول ثنيه بشدة عن القيام بذلك، على أساس أنه سيكون مسؤولًا عن تفكيك الجيش في هذا الوقت الحرج، كما أوضح خالد نزار أنه نصح السعيد بوتفليقة بتطبيق المادة 7 التي يطالب بها الحراك وتعيين ممثلين عن المجتمع المدني لضمان الانتقال(3).

هل كانت الجزائر محكومة من طرف عصابة؟

بعد ستة أشهر من الحراك السياسي اكتشف الجزائريون أنهم كانوا يُحكمون من طرف سلطة قمعية وظفت كل معاني الطغيان والاستبداد والفساد غير الظاهر، والذي تجلى تدريجيًّا بعد دخول جهاز العدالة في كشف ملفات ثقيلة أظهرت لاحقًا تورط قيادات وزارية وسياسية وحزبية وأمنية في خط الإجرام المالي والتجاري العابر للقارات، وهو ما تطلب تفعيل منظومة القضاء العسكري لتسهيل محاكمة قادة النواحي العسكرية المتورطين في الفساد الكبير، إضافة إلى قادة أمنيين على غرار اللواء الهامل، مدير الأمن الوطني، الذي تبين لاحقًا ضلوعه في تهريب المال وتجارة الذهب هو وأفراد عائلته الصغيرة وعددهم أربعة (ثلاثة ذكور وبنت)، وذلك حسب تحقيقات أولية(4).

إن فكرة إجرامية السلطة، ظهرت في الجزائر ابتداء من نهاية العهدة الثانية للرئيس، ومع تزايد نفوذ شقيق الرئيس المعزول السعيد بوتفليقة، بحيث باتت المافيات المالية لاعبا أساسيا في تسيير دواليب السلطة والحزب الحاكم.

ويشير الباحث فنشينزو روجيرو أن فكرة إجرامية السلطة تتيح لنا فهما أفضل لفكرة المنهج المافيوي الممارس من قبل مجموعات إجرامية تستلهم ثقافة الطرف الأقوى التي يشاء منطقها أن يكون الطرف الأقوى هو من يحميه القانون. حيث إن المنهج المافيوي يستند إلى فكرة أن المجتمع بمجمله يستفيد من المؤسسة غير الشرعية(5)، وهو ما حوَّل السلطة السياسية في الجزائر إلى سوق سياسية تتنازعها مافيا المال والعقار الفاسد التي تتدخل في صناعة القرار السياسي والانتخابي.

حين تتركز السلطة بين يدي مجموعة وجدت من الوقت ما يكفي لبناء نسقها الزبوني لكي تضرب بجذورها في أعمق أعماق الجسم الاجتماعي، وذلك ما يمكنها بطبيعة الحال من الحصول على أغلبية انتخابية من خلال الاستحواذ على نتائج صناديق الاقتراع، فتغدو الآمرة على الأجهزة التنفيذية والتشريعية. غير أن الحراك السياسي قلب الأمور رأسًا على عقب وأعاد التنقيب في طبيعة النظامين السياسي والاقتصادي والعصب الحاكمة في الشأن الداخلي(6). وقد كشف الخبير الاقتصادي، عبد المالك سراي، عن تحويل 160 مليار دولار من أموال الجزائر بطرق غير شرعية، عن طريق “قنوات متعددة”، وذلك خلال السنوات الخمس الماضية، مشيرًا إلى أنه بين 2017 و2018، فقط تم تحويل ثمانية مليارات دولار بطرق غير شرعية(7).

تعاملت سلطة بوتفليقة مع الأفراد في الجزائر كرعايا وفضَّلت شراء السلم الاجتماعي بدل إحداث نقلة تنموية نوعية في البلاد؛ إذ تشير التقديرات إلى إنفاق ما يعادل 42 مليار دولار سنويًّا لشراء السلم الاجتماعي. وعلى سبيل المثال، يكشف تقرير عرض مشروع قانون المالية لسنة 2016 أن السلطات العمومية أنفقت ما يعادل 42 مليار دولار كتحويلات اجتماعية ودعم للسلع الاستهلاكية في ظل غياب مشاريع واضحة في مجال التشغيل أو بناء المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وهو ما قنَّن نهب الاحتياطي الجزائري من النقد الأجنبي(8).

لقد شكَّلت نهاية عهد حكم الرئيس، عبد العزيز بوتفليقة، التي استغرقت عشرين سنة، حالة جد استثنائية في تاريخ الرؤساء الجزائريين الذين سبقوه إلى قصر المرادية، بسبب إطالته في الحكم رغم العوائق الصحية وكثرة معارضيه، لينتهي هذا العهد في الأخير بضغط من الحراك الشعبي السلمي الذي أبهر العالم، بشكل مختلف عن نماذج “الربيع العربي” و”الثورات البرتقالية” التي شهدتها أوروبا.

لم يكن أي جزائري، قبل نشوب أول شرارة للحراك الشعبي السلمي، يوم 22 فبراير/شباط 2019، يتصور أن نهاية الرئيس بوتفليقة، “الرئيس الكامل الصلاحيات”، ستكون بالشكل الذي تم بعد ضغط كبير من الشارع، ضغط حظي بدعم كامل من المؤسسة العسكرية، التي اختارت صف الشعب وأكدت التحامها به وصونها لمطالبه “المشروعة غير منقوصة في التغيير”(9).

لم يكن أحد يتوقع أن تكون ردة فعل الشارع الجزائري على الإعلان عن ترشح بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة في 10 فبراير/شباط 2019 على النحو الذي تُرجم أمام عدسات الكاميرات بما في ذلك تمزيق صوره الموجودة على مقرات الأحزاب والمؤسسات الحكومية من طرف شباب وُلدوا في عهده. وكان أنصاره يحرصون على تضخيم كل فعل له وتصويره كمنجز سياسي واقتصادي. ولم يتردد البعض في إطلاق أوصاف ونعوت عليه بكونه “الرجل المنقذ والمُلهم والمبعوث الإلهي” وتكريمه في أكثر من مناسبة.

لكن الوقائع على الصعيد الشعبي كانت مختلفة تمامًا، فشعبية الرئيس ظلت تتناقص بشكل لافت من ولاية رئاسية إلى أخرى ولم ينتبه الفريق الرئاسي والدوائر الفاعلة في السلطة إلى مؤشرات اقتراب انفجار شعبي والاستياء من غموض الموقف الصحي لبوتفليقة وغيابه عن المشهد، وشعور الجزائريين بالإهانة والمساس بكرامتهم، والتي أدت في النهاية إلى حراك قضى على الصورة الرمزية للرئيس وأطاح بما تبقى من شعبيته ونسف مساره السياسي بالكامل. فقد تراكمت موجة من الاحتجاجات التي مسَّت المعلمين والأطباء والمحامين والشباب العاطل عن العمل ومعطوبي الجيش، والتي كشفت السلطات أن مجموعها بلغ 1100 احتجاج خلال العام 2018، على أن استدعاء الأرقام والمقارنات بين ما حصل عليه بوتفليقة في آخر استحقاقين رئاسيين، يؤشر إلى تراجع لافت في شعبيته(10).

تداعيات الحراك السياسي الجزائري

يبدو الحراك الجزائري ظاهرة سياسية واجتماعية ودستورية معقدة وعصية على الفهم السهل بحكم تداعياتها السريعة، فقد أسقط هذا الحراك مجموعة من المسلَّمات التي كانت عصية على السقوط في زمن قريب، وقد تمثلت التداعيات فيما يلي:

– شكَّل الحراك السياسي علامة سياسية فارقة في تاريخ الجزائر بحكم زخمه واستمراريته منذ 22 فبراير/شباط 2019.

– أسقط الحراك واجب التحفظ عن جميع المسؤوليات والأطر والأفراد في جميع القطاعات بدءًا بقطاع العدالة ووصولًا لقطاع التعليم العالي والتربية والصحة والأمن وغيرها.

– اندمجت في موجة الحراك أطياف المجتمع الجزائري بمختلف تشكيلاته وانتماءاته وهو ما أعطاه بعدًا شعبيًّا، وشكَّل نواة اجتماعية صلبة زادت في تدفقه وديمومته.

– شكَّل علامة فارقة في سلميته، بل إنه سجل مظاهر جديدة تمثلت في مشاركة أجهزة الأمن وقطاع الشرطة والدرك والحماية المدنية بشكل حمى الحراك السياسي الجزائري من جميع مظاهر الانزلاقات.

– أعطى نَفَسًا قانونيًّا ودستوريًّا للنقاش العميق لمفاهيم ترتبط بطبيعة السلطة السياسية وقواعد الانتخاب وحالات الاستقالة والشغور، خصوصًا بعد أن أُجبر -لأول مرة في تاريخ الثورات والهبات الشعبية- الرئيس المستقيل بوتفليقة على تأجيل الانتخابات أولًا، ثم الاستقالة ثانيًا بضغط من المؤسسة العسكرية، ثم إلغاء الانتخابات التي كانت مقررة في 4 يوليو/تموز 2019 إلى أجل غير مسمى. لقد كان الاحتجاج في الشارع السياسي الجزائري متمظهرًا في نمط جديد يجمع في ثناياه التظاهرات المهنية والتظاهرات المشاركة والتظاهرات الانفعالية والتظاهرات الاحتجاجية السياسية.

ولو أردنا تقييم نتائج الحراك الجزائري يمكن أن نقف على المخرجات التالية(11):

أولا: إلغاء الانتخابات برسالة من بوتفليقة، في 11 مارس/آذار 2019، تمت بضغط من شارع منفعل وأمر من المؤسسة العسكرية.

ثانيا: القضاء نهائيًّا على فكرة العهدة الخامسة.

ثالثا: إرجاء سيناريو انتخابي مزور، وتجنب تبديد أموال طائلة على حملات انتخابية صورية.

رابعا: وضع حد للتمديد واستمرار تسيير شؤون الدولة باسم الرئيس المحتجز.

خامسا: إعادة الثقة في المجتمع خاصة لدى الشباب الذي ظل لسنوات يعتزل العمل السياسي، وذلك بفعل تنامي التعاطي مع وسائل التواصل الاجتماعي؛ إذ يقدر عدد مستخدمي الإنترنت في الجزائر بحوالي 22 مليون شخص، أي حوالي نصف عدد السكان.

سادسا: تراجع أحزاب السلطة وما شهدته من تناقض في الخطاب وتشرذم واستقالات جماعية وبعث رسائل طمأنة وانتقاد للأحزاب المعارضة في ذات الوقت.

سابعا: وضعُ حدٍّ لحضور المسؤولين المتعجرفين وخصوصًا ولاة الجمهورية الذين كانوا يحكمون باسم السعيد بوتفليقة ورجال أعماله النافذين، والذين مارسوا دورًا مشهودًا في سلب الإرادة الشعبية وتزوير الانتخابات المحلية والتشريعية السابقتين بالإكراه.

ثامنا: إسقاط لوبي الطبقة المهيمنة بالإعلان عن استقالة الرئيس، يوم الثلاثاء 2 أبريل/نيسان 2019.

تاسعا: لفت انتباه العالم ونيل إعجاب الدول المعادية والصديقة بالحراك وسلميته، رغم ما مرَّ به المجتمع الجزائري من سنوات عجاف وإرهاب أكلت الأخضر واليابس.

مآلات الاستحقاقات المقبلة 

نلاحظ أنه وبعد أسبوعين من الحراك تبنَّت المؤسسة العسكرية خطابًا تطمينيًّا لشباب ولقادة الحراك، وذلك بالتركيز على عدة عناصر، أهمها أن الرابطة بين الجيش والشعب قوية وعفوية وأن الجزائر محظوظة بشعبها والجيش محظوظ بشعبه. واستمرت المؤسسة العسكرية باستعمال خطاب متناغم مع مفردات الحراك، وقد تُوِّج ذلك التوجه بإلزام الجيش الرئيسَ بوتفليقة بالتنحي الفوري.

واستمرَّ خطاب قيادة الأركان بنفس الاتجاه وعلى مدار ستة أشهر بنفس الوتيرة الداعمة للحراك، إلا أنه في مرحلة ما التزم بالمسار الدستوري تخوفًا من إقرار مراحل انتقالية قد تأخذ البلاد إلى المجهول. ومن جهته، أعلن المجلس الدستوري استحالة إجراء رئاسيات 4 يوليو/تموز 2019، وجاء في بيان للهيئة أنه تم رفض ملفي الترشح المودعيْن لديه في إطار هذه الانتخابات؛ حيث ذكر البيان أن “الدستور أَقَرَّ أن المهمة الأساسية لمن يتولى وظيفة رئيس الدولة هي تنظيم انتخاب رئيس الجمهورية، فإنه يتعين تهيئة الظروف الملائمة لتنظيمها وإحاطتها بالشفافية والحياد، لأجل الحفاظ على المؤسسات الدستورية التي تُمكِّن من تحقيق تطلعات الشعب السيد”، مضيفًا أنه “يعود لرئيس الدولة استدعاء الهيئة الانتخابية من جديد واستكمال المسار الانتخابي حتى انتخاب رئيس الجمهورية وأدائه اليمين الدستورية”(12).

وبناء على طبيعة الحراك الراهن في الجزائر ومع إسقاط حكم بوتفليقة وإسقاط تاريخ الانتخابات، تبقى العملية الانتخابية مخرجًا دستوريًّا مهمًّا. لكن ما يرتبط بها من إجراءات لوجستية وقانونية أكثر من مهم، خصوصًا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الانتخابات السابقة أشرفت عليها وزارة الداخلية رغم استحداث هيئة عليا مستقلة لمراقبة الانتخابات بموجب المادة 194 من الدستور والتي لم تكن تمتلك اختصاصًا أصيلًا، بل إن الانتخابات ظلت أسيرة الإدارة ممثلة في ولاة الجمهورية الذين أشرفوا بشكل مباشر على تزوير الانتخابات في أغلب الولايات ومارسوا ضغطًا رهيبًا على أعضاء الهيئة العليا المستقلة لمراقبة الانتخابات. وعليه، فإن إعادة صياغة هذه الهيئة بتمكينها من صلاحيات واسعة تتجاوز المراقبة إلى الإشراف والتنظيم وإعلان النتائج أصبحت عملية أكثر من ضرورية(13).

إن ما يتطلب تحقيقه مستقبلًا من إصلاحات مهمة رهين بالمعطيات التالية: 

– إنهاء مهام حكومة بدوي وذلك باستقالتها لأن رئيس الدولة الحالي لا يملك صلاحيات الإقالة في حالة التمسك بالخيار الدستوري أو إنهاء مهام إذا تم الاحتكام للخيار السياسي كما وقع مع إنهاء وزير العدل، سليمان براهيمي، من قبل رئيس الدولة بتاريخ 31 يوليو/تموز.

– توفير جميع شروط إنجاح الحوار عبر آلية تفعيل دور لجنة الوساطة والحوار وتعزيزها بشخصيات وطنية وازنة وجامعة والنأي بها عن جميع الضغوط السياسية والأمنية وتحديد مطالبها بدقة.

– الإسراع بتشكيل سلطة عليا دستورية للمراقبة والإشراف والتنظيم وإعلان نتائج الانتخابات وسحب جميع الصلاحيات من وزارة الداخلية ومن الولاة ومديريات التنظيم التي مارست تأثيرًا مباشرًا على مهام الهيئة السابقة وصلت في بعض الولايات إلى التهديد وكتابة تقارير مضلِّلة لإثارة الرعب في وسط أعضائها من القضاة والكفاءات، والسطو على مهامها المنقوصة أصلًا وذلك حسب ملاحظات ميدانية قدمتها مكاتب هذه الهيئة في مختلف الولايات أو اعتراضات مختلف التشكيلات السياسية. وهذا ما يتطلب إطلاع الرأي العام على التقارير التفصيلية التي قدمتها الهيئة العليا السابقة لرئاسة الجمهورية في الموعدين الانتخابيين السابقين المحلية والتشريعية لسنة 2017، والتي تضمنت تفاصيل العملية والخروقات المسجلة في عملها، وهو ما جعل نائب رئيس الهيئة السابق، القانوني إبراهيم بودوخة، يصرِّح ليومية البلاد بأن إنهاء مهام أعضاء الهيئة بمرسوم رئاسي جاء بسب كشفها للتزوير ولكون طبيعة عملها شكَّلت تهديدًا لحكم العصابة.

– استمرار التفاف الشعب والحراك حول المؤسسة العسكرية باعتبارها ضامنة الانتقال الديمقراطي ومرافقة الحراك، وهي التي أرسلت رسائل قوية لتحريك جهاز العدالة وفتح الملفات الثقيلة للفساد ودعمها في النأي بنفسها على العمل السياسي.

– تشكيل حكومة تكنوقراطية يُعهَد إليها بضبط المسار الانتخابي الرئاسي.

– إنهاء مهام جميع ولاة الجمهورية الذين كانوا جزءًا من المشهد السياسي السابق.

أما على المدى المتوسط فيتطلب الأمر:

– الاستمرار في محاربة الفساد؛ إذ لأول مرة في التاريخ السياسي الجزائري يمتلئ سجن الحراش بوزراء سابقين ومسؤولين في قطاعات الأمن والجيش والإدارة، بل برؤساء أحزاب التحالف الرئاسي المودعين رهن الحبس المؤقت.

– ضمان المحاكمات العادلة خصوصًا ما يتعلق بالقضاء العسكري تجنبًا لما من شأنه زج البلاد في ملفات قانونية دولية والحديث عن خروقات في مجال حقوق الانسان. وهنا نشير إلى استحداث مصلحة الضبطية القضائية لأمن الجيش بموجب مرسوم رئاسي لضمان قضاء عسكري يلتزم بشروط التقاضي والذي صدر بتاريخ 18 يونيو/حزيران 2019.

– إعادة صياغة القوانين العضوية للانتخابات والإعلام والجمعيات وقانون تمثيل المرأة وقانون النقابات.

– إعادة تشكيل سلطات الضبط في الإعلام السمعي البصري، وهيئة مكافحة الفساد والديوان الوطني لمكافحة الفساد وقمع الغش، والمجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي وغيرها من المجالس الاستشارية التي حولتها العصابة السابقة إلى أدوات سياسية لضمان استمرارية قبضتها السياسية على المشهد السياسي.

– إعادة النظر في المجالس الشعبية البلدية والولائية والتشريعية ومجلس الأمة، إما بالحل أو بتقصير عمر عملها بما يضمن إعادة الانتخابات في أقرب الآجال لضمان مجالس أكثر تمثيلية وأكثر نزاهة ومصداقية بشكل يعطي رسالة طمأنة للناخبين وللفاعلين السياسيين.

– إنهاء وصاية الشرعية الثورية التي مارستها الأحزاب العتيدة والتي أدخلتها أتون المال الفاسد وشراء الذمم وتغليب دور رجال الأعمال والدخلاء على الحياة الحزبية.

_______________________

* أ. د. بوحنية قوي: أكاديمي جزائري، جامعة ورقلة الجزائر.

مراجع

– عالج الفقه القانوني الأوروبي تحديدًا التظاهر ليس كحالة سياسية فقط، وإنما كمنعرج قانوني باعتباره يرتبط بصياغة مشهد قانوني جديد وبمنطق إعادة بلورة دولة العدل والقانون التي تهتم بالمقام الأول بتعزيز منظومة الحقوق المدنية الفردية والجماعية. للاستزادة أكثر، يطالع: لويس رولان وآخرون، التظاهر في الشارع، مجلة القانون العام وعلم السياسة، العدد الرابع 2006.

2 – قصي حسين، أركيولوجيا الفساد والسلطة، المكتبة الجامعية، دار البحار، بيروت، 2009، ص 76.

3 – انظر: السعيد بوتفليقة كان متشبثًا بالسلطة ومستعدًّا لإدخال البلاد في حالة طوارئ، موقع آخر ساعة، 29 أبريل/نيسان 2019، (تم الدخول في 1 يوليو/تموز 2019):

 https://bit.ly/2Ym3nIM 

– ورد في بيان لوكيل الجمهورية لدى محكمة الشراقة أن مدير الأمن الولائي متهم بالنشاط في جماعة إجرامية منظمة لتبييض الأموال؛ إذ تم ضبط مبلغ خيالي بمقر الضيافة التابع للدولة في إحدى الفلل على مبلغ 11 مليار دينار و343 مليون سنتيم و220 ألف يورو و30 ألف دولار و17 كيلوغرامًا من المجوهرات، وهذه المبالغ التي تم ضبطها لها علاقة مباشرة باللواء، الهامل، وابن الوزير السابق، محمد الغازي، يومية الخبر، الثلاثاء 16 يوليو/تموز 2019.

5 – فنشينزو روجيرو، المافيات كممثلات للحوكمة، من كتاب من يحكم العالم؟ أوضاع العالم 2017، مؤسسة الفكر العربي بيروت.

6 – للاستزادة يطالع: فرانسوا بورغا، الربيع العربي: السنة السادسة عودة إلى المربع الأول، أوضاع العالم 2018، مؤسسة الفكر العربي بيروت.

– انظر: تحويلات غير شرعية لـ160 مليار دولار في 5 سنوات، موقع المساء، 8 أبريل/نيسان 2019، (تم الدخول في 1 يوليو/تموز 2019):

https://bit.ly/2YpjQvB 

8 – انظر: مراد محامد، الحكومة تجمِّد إنجاز المشاريع بسبب نقص الاعتمادات المالية، موقع الخبر، 23 أكتوبر/تشرين الأول 2015، (تم الدخول في 29 يونيو/حزيران 2019):

https://bit.ly/2Zv0JN9 

9 – انظر: شريفة عابد شريفة عابد، نهاية استثنائية للرئيس بوتفليقة بعد 20 سنة من الحكم، 4 أبريل/نيسان 2019، (تم الدخول في 29 يونيو/حزيران 2019):

https://bit.ly/2MDL5f4 

10 – انظر: عثمان لحياني، هكذا تراجعت شعبية بوتفليقة: إخفاقات سياسية واقتصادية وفساد المقربين، موقع العربي الجديد، 10 مارس/آذار 2019، (تم الدخول في 1 يوليو/تموز 2019):

https://bit.ly/2Zu1ru1 

11 – انظر: فريدة بلفراق نهاية نظام وانتصار ثورة هادئة، يومية الخبر، 12 افريل 2019. (النسخة الورقية)

12 – انظر: المجلس الدستوري يؤجل رئاسيات 4 جويلية، موقع جريدة الخبر، 2 يونيو/حزيران 2019، (تم الدخول في 30 يونيو/حزيران 2019):

https://bit.ly/31cKa96 

13 – حقق الحراك السياسي مطالب مهمة أحدثت انقلابًا في بنية النظام السياسي، لعل أهمها: استقالة بوتفليقة، واستقالة الطيب بلعيز، رئيس المجلس الدستوري المحسوب على بوتفليقة، وإيداع الإخوة كونيناف ورجل الأعمال، يسعد ربراب، بالحبس المؤقت، وإعادة فتح ملف المتابعة القضائية في حق وزير الطاقة الأسبق، شكيب خليل، وتوقيف قائد الناحية العسكرية الثانية، السعيد باي، وقائد الناحية العسكرية الأولى، الحبيب شنتوف. وإيداع الفريق توفيق، واللواء طرطاق، والسعيد بوتفليقة، الحبس المؤقت بتهمة التآمر على الدولة والمساس بسلطة الجيش. وإيداع الأمينة العامة لحزب العمال، لويزة حنون، الحبس المؤقت بتهمة المساس بسلطة الجيش والتآمر على سلطة الدولة. وإيداع الوزيرين الأوليْن، أحمد أويحيي وعبد المالك سلال، الحبس المؤقت في عدة قضايا. وإيداع وزير التجارة، عمارة بن يونس، الحبس المؤقت. وإيداع عمار غول، رئيس حزب تاج ووزير الأشغال العمومية، وجمال ولد عباس، الأمين العام السابق بجبهة التحرير الوطني، الحبس المؤقت في قضايا فساد مالي. واستقالة رئيس البرلمان، معاذ بوشارب، وتزكية سليمان شنين، البرلماني عن حركة البناء المنشقة عن الحزب الإسلامي (حركة حمس) رئيسًا للبرلمان. وإيداع عدد كبير من رجال الأعمال المحسوبين على السلطة السابقة الحبس المؤقت على ذمة التحقيق.

 

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button