أخبار ومعلومات

الحرب في أوكرانيا: اختبار وفرصة للجزائر

أواخر الشّهر الفارط، كان العالم شاهدا على اندلاع حرب أوربية أعادت للجميع ذاكرة الحرب العالمية الثانية. بعد أشهر من التوتّرات الدبلوماسية بين جمهورية روسيا الفيدرالية والغرب بزعامة الولايات المتّحدة والاتحاد الأوربي حول الدّور الاستراتيجي لأوكرانيا، قرّر الرّئيس الروسي، فلاديمير بوتين، اطلاق ما أسماه “عملية عسكرية خاصة” ضد “النّازية الجديدة في كييف”.

خطاب بوتين مهّد لما يمكن اعتباره اليوم محاولة روسية لتشكيل نظام عالمي جديد بعد عقود من الهيمنة الأميركية التي استطاعت بسط نفوذها الأيديولوجي، الاقتصادي، الدبلوماسي بعد الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السّوفيتي في 1991.

بغض النّظر عن الرّؤى المختلفة والآراء المشحونة التي ميّزت الحرب الروسية-الأوكرانية، الأكيد أن نهاية أزمة كوفيد-19 قد عبّدت الطّريق لتغييرات جيوسياسية هامة ومصيرية خصوصا فيما يتعلّق بالتحالفات المستقبلية والمنافسة الاستراتيجية بين أميركا، روسيا والصين. في هذا الإطار، الجزائر ليست بمعزل عن هذه التّغيرات، بل إن هذه الحرب -التي يتوقّع بعض الخبراء أنها على حافة التصعيد- تجبر الرأي العام الرّسمي والشعبي على إعادة التمركز تحضيرا للتوازنات الدّولية والإقليمية القادمة.

منذ بداية الحرب، كان موقف الجزائر حريصا على عدم التّدخل في الأزمة الدّولية الرّاهنة وعلى البقاء على مسافة واحدة من كل الأطراف. كان هذا جليّا من خلال امتناع الجزائر عن التّصويت لصالح قرار إدانة روسيا في الأمم المتّحدة، والتّصريحات الرّسمية التي أشارت لمحاولة البعض “الزّج” بالجزائر في هذا الصراع.

إن هذه السياسة نابعة أساسا من عقيدة “عدم الانحياز” التي تشكّل معالم السياسة الخارجية الجزائرية منذ مؤتمر باندونغ 1955 والتي استطاعت إلى الآن تجنيب البلد العديد من الأزمات الدّولية والإقليمية. رغم ذلك، لقد مثّل التّدخل العسكري الروسي في أوكرانيا تحدّيا مختلفا كون “العملية العسكرية” غير قائمة على أي سند قانوني ولا تحظ بأي دعم دبلوماسي يمكن الاتّكال عليه.

من هذا المنطلق، يلاحظ المراقبون بأن الجزائر سعت أيضا إلى حماية نفسها، أقلّه على المدى القريب، من التبعات المحتملة لعلاقتها الاستراتيجية والتاريخية مع روسيا. في هذا السياق، انخرطت الجزائر في مقاربة إقليمية من بوّابة الجامعة العربيةعبر انضمامها للجنة الوزارية حول الحرب في أوكرانيا والتي تضمّ السودان، العراق، مصر، الأردن والإمارات (صاحبة مقعد حالي في مجلس الأمن). رغم الجهود الجزائرية، يمكن ملاحظة بعض من المعطيات التي قد تحمل تحذيرات مستقبلية.

سعت الجزائر، منذ استقلالها، على بناء علاقة متوازنة مع كل القوى الدولية والإقليمية بالرّغم من التوتّرات الظّرفية مع بعض الدول والتي تعتبر أمرا طبيعيا في العلاقات الدّولية. بالطّبع، الجزائر تعتبر “زبونا تقليديا” للصناعات العسكرية الروسية، الأمر الذي فرضته ظروف عديدة من بينها التشدّد الغربي في بيع السلاح للجزائر.

رغم ذلك، هذا لم يعني يوما أن الجزائر “حليف” لموسكو بل إن العلاقة كانت إلى غاية الحرب الأخيرة مجرّد “براغماتية اقتصادية وعسكرية”.

لذلك، استمرّت السلطات الجزائرية في لعب دورها الطّاقوي والأمني في المنطقة بدعم أميركي-أوربي ما جعلها “خيار اجباريا” للمعسكر الغربي. غير أن هذه العلاقة المريحة بين الجزائر وموسكو، واشنطن والحلفاء الغربيين اصطدمت مؤخّرا ببروز لاعب جديد على المستوى الدولي يتمثل في الصّين.

منذ أشهر، بدأت بوادر حرب أيديولوجية واستراتيجية لإعادة تقسيم مناطق النّفوذ في العالم والمسرح الأول كان أوكرانيا. لهذا، يبدو واضحا للعيان نضوج نزعة روسية-صينية لمواجهة واضعاف النفوذ الغربي المتمحور حول واشنطن، لندن، باريس وبدرجة أقل، برلين. في خضم هذا الصّراع الذي يمكن أن يمتدّ دبلوماسيا وعسكريا لمناطق أخرى في العالم بما في ذلك الخليج، الشّرق الأوسط وشمال افريقيا. في هذا الإطار، وإن كانت الجزائر قد استطاعت إلى الآن الحدّ من تأثرها بالصّراع، الأشهر المقبلة ستحمل تحدّيات صعبة للسلطات الدبلوماسية والبلد عموما.

منذ بداية الحرب في أوكرانيا، كانت الجزائر على قائمة الدّول التي يمكنها المساهمة في تغليب ميزان طرف على حساب الآخر. من جهة، يعتبر البلد مخزونا طاقويا حسّاسا بالنسبة لأوربا، خصوصا كونه يعتبر مصدرا أساسيا للغاز في اسبانيا وإيطاليا.

إضافة لذلك، سمعة الجزائر الدبلوماسية تعني أن أي تصريح أو توطيد للتّعاون الأمني والاقتصادي مع جنوب أوربا سيعتبر “دعما محتملا” وإن جاءت التصريحات الرّسمية الرّوسية بخلاف ذلك. من جهة أخرى، وإن كانت الجزائر في “شراكة استراتيجية” فقط مع روسيا، لا يمكنها ببساطة التخلّي عن التموين العسكري من طرف موسكو خصوصا في فترة تحدّيات أمنية خطيرة على الحدود الغربية. هذه المعطيات وغيرها كانت وراء زيارة نائبة وزير الخارجية الأميركي، ويندي شيرمان، إلى الجزائر ضمن جولة إقليمية لحشد دعم “الحلفاء والشركاء” ضد الحرب في أوكرانيا.

رغم أن مخرجات هذه الزيارة لم تكن مفصلّة لا من الجانب الجزائري ولا الأميركي، لاعتبارات دبلوماسية وسياسية، إلا أنه من السهل استنتاج عدم جدوى المحاولة الأميركية حسب التصريحات الرّسمية. الواقع أن الاختلافات بين الجزائر وشركائها التقليديين لم تعد بسيطة لدرجة التغاضي عنها في سبيل مصلحة أكبر.

يمكن القول أن عهد الجلوس بين كرسيين انتهى رسميّا، ما سيحمل نتائج غير واضحة حتى الآن.

أتت الحرب في أوكرانيا لتعيد تشكيل السّاحة الدولية في ظل بروز قوى دولية وإقليمية جديدة. مثل غيرها من البلدان، ستكون الجزائر على موعد مع خيارات اجبارية هذه المرّة. لغاية الآن، يبدو أن هناك توجّها غير معلن لبحث سبل توطيد العلاقات مع الصّين ما قد يعتبر “خيارا براغماتيا” في ظل التشاحن الغربي-الرّوسي خصوصا وأن بيكين لا زالت على “حافة الحياد” وفي مفاوضات مع الإدارة الأميركية. رغم هذا، أي التزام مع الصّين في هذا التوقيت قد يكون سابقا لأوانه خصوصا وأن معالم النظام الدّولي الجديد لم تظهر بعد وبالأخذ بعين الاعتبار السياق الانتخابي في أميركا (وبدرجة أقل فرنسا) هذا العام، الجميع، بما في ذلك حلفاء الغرب التقليديين، قد يكونون في خانة العقوبات.

بالإضافة لهذا، المواقف الأميركية والأوربية الأخيرة حول ملف الصحراء الغربية تشير إلى أن كل الأوراق ستكون مطروحة مع السلطات الجزائرية من أجل المطالبة بدعم ولو “رمزيا”. لهذا، بين مطرقة “العقيدة التاريخية” وسندان الظروف الحالية التي تهدّد “فكر باندونغ”، الجزائر ستجد نفسها في وضع يتطلب كثيرا من الحنكة، المرونة والاستباقية.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى