دراسات سياسية

الحرية والديمقراطية ثنائية التطوير في بناء الدولة

نبيل علي صالح (*)

اسم المجلة : مجلة المنهاج
العدد : 59
السنة : السنة الخامسة عشر خريف 1431هجـ 2010 م

أولاً: مقدِّمة ضروريَّة

كيف يُمكننا تقييم تجارب الحكم العربيّة بعد مرور عقودٍ على تحقيق الاستقلال والتحرّر من السيطرات الخارجيَّة المباشرة، وتسلُّم مسؤوليَّات القيادة من قبل نُخَب سياسيَّة محليَّة حاولت تطبيق رؤى وأفكار اقتصاديَّة واجتماعيَّة محدَّدة، كان الهدف منها تحقيق التنمية وإنجاز النهضة؟!..

لقد عملت تلك النُخَب القياديَّة على تطبيق برامجها وتجاربها السياسيَّة والاقتصاديَّة في ظلِّ مجتـمعاتٍ تقليديَّةِ الفكـر والثقافة والانتماء، خصوصاً بعد أن طرحوا ـ وقت تسلّمهم للحكم ـ أفكاراً وبرامج عمل سياسيَّة واقتصاديَّة طموحةً وجادةً (نظريّاً على الأقل)، عقد أفراد مجتمعاتهم الآمال الكبيرة عليها.

وتدور حالياً سجالات فكريَّة وسياسيَّة كثيرة حول النتائج العمليَّة التي أَفضت إليها تلك التجارب الحكوميّة (وبخاصّة الحديثة العهد منها نسبياً)، وعمَّا إذا كانت قد نجحت في إحداثِ تغييرات سياسيّة واقتصاديّة جوهريّة، أَفسحت في المجال أمام مجتمعاتها كي تكون قادرة على تحقيق نوعٍ من الاستجابة على مجمل المشاكل والتحدِّيَات المُثارة في العالم حاليّاً، بما في ذلك الاستجابة الفاعلة للتحدِّيَات المطروحة عليها من قِبَل مؤسَّسات وإدارات وقوى العالم الكبرى حاليّاً.

فهل حقَّقت تلك القيادات التغيير الموعود الذي تبنَّته ورَعته في كثيرٍ من خطاباتها وبرامجها النظريَّة؟!
وأصلاً هل تمتلك القاعدة الفكريَّة والعمليَّة النوعيَّة التي تؤهِّلها للاستفادة المتوازنة من الموارد الطبيعيَّة والبشريَّة المتعدِّدة والكبيرة التي لا تزال موجودة في بلدانها؟!

ثمَّ لماذا يتمُّ دائماً، في داخل اجتماعنا الدينيّ والسياسيّ العربيّ والإسلاميّ عموماً، التركيز على أهميَّة الأشخاص والرموز وإغفال دور الشعوب والكُتل البشريّة الحيويّة؟!.

ألا تُعطينا التجارب التاريخيَّة التي عاشتها أمَّتنا مع حكَّامها وأنظمتها الماضية، دلائل قاطعة على استحالة الرهان على حكمِ الفرد ونهج الشخص، والاعتماد الكليّ على مواهبه الذاتيَّة (الخارقة!؟)، واعتباره خشبة الإنقاذ، وصاحب المشروع الخلاصيّ..؟!

ثانياً: ملخّص تنفيذيّ عام

بناءً على ما تقدَّم ـ وبعد عرض المشكلة موضوع الدِّراسة ـ سنعمد إلى وضعِ القارئ أمام حقيقة فشل معظم تجارب الحكم العربيَّة القائمة حاليَّاً في تحقيق تنمية سياسيّة واجتماعيّة صحيحة للمجتمعات العربيّة. وهذا الفشل لا يزال يتكرَّر باستمرار مع تغيّر القيادات السابقة، وانتقال الحكم إلى القيادات الجديدة والتي يُمكن اعتبارها ـ بشكلٍ وبآخر ـ مجرَّد امتداد لسياسات الأمس إلى عالم اليوم، بحيث إنَّ التحدِّيَات والمشاكل والأزمات المُثارة سابقاً التي كانت تعاني منها نُخب الحكم العربيّ السابقة هي نفسها التي تُعاني منها حاليّاً القيادات الجديدة، وإنَّ التغييرات النوعيّة والكميّة المطلوب تحقيقها لم تُنجز بعد.
كما وسنؤكِّد هنا على أنَّ المدخَل الحقيقيّ لولوج طريق الإصلاح والتغيير هو مدخل (سياسي ـ ثقافي) أولاً، وبالنتيجة اقتصاديّ واجتماعيّ ثانياً، ينطلق من خلال إعادة النظر بأُسسس وقواعد السياسة العربيَّة المُسيطرة حاليّاً القائمة على حكم الفرد والاستبداد والشموليّة والملكيّة الوراثيّة، والتي يُمكن اعتبارها ـ على مستوى الفعل السياسيّ الداخليّ ـ مجموعة قوى محرِّكة تعمل على فراغ، وبمحصّلة صِفريَّة، كما ويُمكن اعتبارها ـ على مستوى العمل السياسيّ الخارجيّ ـ مجرَّد ردود أفعال مُنفعِلة على استراتيجيَّات الدول والقوى الدوليَّة الكبرى.

وهذه الإعادة المطلوبة في مجمل مكوِّنات الواقع السياسيّ العربيّ المُعاصر، لا تعني مطلقاً الحضّ على الثورة وتغيير الواقع القائم بالمعنى التقليديّ لمُصطلح الثورة التي مضى زمنها، وانتهت مفاعيلها الكلاسيكيَّة، بل بأنْ تقوم القوى والمكوِّنات الاجتماعيّة المتعدِّدة والمختلفةِ المصالح والتوجّهات ـ صاحبةُ المصلحة الأساسيَّة في التغيير ـ ببناء ذاتها، وتمكين مواقعها، وتطوير أدواتها وأساليب عملها الثقافيَّة والسياسيَّة لإنجاز مطلب التغيير المُلح.

بالإضافة إلى أنَّنا سنحاول تقديم بعض الرؤى والتصوّرات الفكريّة لمعنى التكوين السياسيّ الحديث للدولة الحديثة القادرة على طريق بناء مؤسّساتها وهياكلها السياسيّة والاقتصاديّة التي تأتي قضيَّة الحرّيَات العامّة على رأس الأجندة المطلوبة تطبيقها في هذا السياق، أي أن تكون الحريَّة الفرديَّة وحريَّة تداول السلطة وحقِّ التعبير عن الرأي والمعتقَد والأفكار والقناعات السياسيّة والاقتصاديّة، هي الفيصل والمعيار الحقيقيّ للدولة العربيَّة الحديثة. وهو ما نَعني به ضرورة تعزيز قِيَم ومبادئ الحكم الصالح القائم على الحريَّة والديمقراطيَّة والتنمية المُستدامة.

وبطبيعة الحال نحن عندما نصرُّ على ضرورة الالتزام بالديمقراطيّة ـ كآليّة للحكم السياسيّ وتداول السلطة والمشاركة الفاعلة في بناء الدولة والمجتمع ـ فإنَّنا نريد من ذلك أن تكون مجتمعاتنا بكلِّ تياراتها وقواها هي الحاضنة الأساسيَّة للمطلب الديمقراطيّ، أي هي مصدر السياسة وليست الدولة؛ لأنَّ المجتمعات هي الفاعل السياسيّ الحقيقيّ، أمَّا الدولة ـ كمؤسَّسة وهياكل وشخوص حاكمة منتخَبة إراديّاً وطوعيّاً ولفترات زمنيّة محدَّدة ـ فيقتصر دورها هنا على تنظيم السلطة، وسُبل تداول الحكم، والإشراف الأمين على تنفيذ السياسات المنبَثِقة من إرادة الناس المقرَّرة هي سلفاً لما تريد أنْ تكون عليه قِيَمها وأهدافها والتزاماتها ومصائرها.

وهذا الأمر يتطلَّب من القيادات السياسيَّة الجديدة الطموحة ـ إذا كانت ترغب فعلاً ببناء دولة القانون والمؤسَّسات ـ إعادة النَّظر بمفهومها الكلاسيكيّ النفعيّ عن الدولة (الذي ورثته عن النُخب السابقة) ومكانتها ودورها، وموقعها في البنيان السياسيّ العام للمجتمع، وضرورة إرجاعها إلى ميدانها الأساس، ألا وهو المجتمع.
وعندمـا تكون المجتمعات الواعيـة والمدرِكَة لحـاضرها ومستقبلها ووضعها الحضاريّ العام هي المنطلق الحقيقيّ والواقعيّ في بلورة النماذج والأهداف العليا التي يقوم عليها وجودنا السياسيّ والاجتماعيّ العام، عند ذلك يُمكن أن نقول بأنَّنا نسير على طريق تحقيق وجودنا الدولتيّ العصريّ الفعَّال، والاستفادة القصوى من قدراتنا وطاقاتنا الروحيَّة والماديَّة، وتفجير مواردنا الهائلة.

ثالثاً: أُسس ومكوِّنات الدولة الحديثة

تسمح لنا التجربة التاريخيَّة التي عاشها العرب والمسلمون منذ البدايات الأولى لنشوء تكويناتهم السياسيَّة، بأنْ نؤكِّد على حقيقةٍ ثابتةٍ وراسخةٍ، وهي أنَّ الطغيان السياسيّ (حكم الفرد المستبِدّ، ووضع الشخص في مركز الرأس من مشروع الأمّة) كان ـ ولا يزال ـ أحد أهمِّ العوامل والمسبِّبات التي أدَّت إلى حدوث كلِّ تلك التراجعات والانهيارات في تاريخ الحكم العربيّ، ووقوع الأمَّة ـ باستمرار ـ في مهاوي الضعْف والتفكّك والانقسام الأفقيّ والعموديّ، وتحوُّلِها إلى مجرَّد ريشة في مهبِّ رياح تخلِّفها وضعفها وانهماكها في اجترار ثقافتها المنغقلة الضعيفة والمضعضعة.. ولذلك نحن نعتبر ـ على الدوام ـ أنّ المراهنة على (الفرد ـ الحاكم)، هو رهان خاسرٌ مكلف، مهما امتلك من مؤهِّلات وخصائص فريدة.

وقد يكون من المفيد أن نذكِّر هنا بأنَّ الكثير من النُخَب السياسيَّة العربيّة ـ الحاكمة وغير الحاكمة، بما فيها الأحزاب الحاكمة والمعارِضة ـ اتَّبعت ظاهريّاً سياسات مستقلِّة جديدة (بشكلها وليس بمضمونها) عن السياسات القديمة، ولكنَّها بالمحصِّلة لم تكن فاعلة ومُنتِجَة، بل كرَّست حالة انسداد الآفاق وعمَّمت ثقافة الإحباط واليأس والتَّعب والاسترخاء لدى القطاع الأكبر من صفوف أبناء مجتمعاتها، وساهمت عن قصدٍ بتعميم ثقافة الفساد والإفساد، وما يُمكن أن تفضي إليه من سلوكيَّات وعلاقات اجتماعيَّة نفعيَّة يسودها الكذب والنفاق والأذى (بهدف الابتزاز) والإمَّعيّة والاستتباع والاستزلام والتملّق (تمسيح الجوخ) والتكالب على المناصب والكراسي، وو… الخ.

انطلاقاً من تلك الأجواء، وبالنظر إلى التجارب العربيَّة الفاشلة في الحكم والإدراة، يُمكننا التأكيد هنا على أنَّ التكوين الدولتيّ العربيّ والإسلاميّ المؤسسيّ الحديث ـ إذا صحَّ التعبير ـ لا يُمكن أنْ يتحقَّق ويُصبح أمراً واقعيّاً ناجحاً ومثمِراً من دون الوقوف المطوَّل أمام الركائز التالية:

الركيزة الأولى

إنّ استمرار اشتغال النُخب القياديّة السياسيّة العربيّة الجديدة ـ ممَّن يحملون شعارات التغيير والبناء ـ على الآليَّات ووسائل العمل نفسها التي آمنت بها والتزمتها عمليَّاً النُخب السابقة (وقد أثبت الزمن عقمها وفشلها وعجزها عن تحقيق الحدِّ الأدنى المطلوب من معاني ومفردات دولة القانون والعدل والمؤسّسات) سيكرِّس حتماً حالة الإخفاق السياسيّ والاجتماعيّ القائمة منذ زمن طويل. كما وسيهيِّئ للأمَّة الشروط والمُناخات المناسبة اللازمة لتجدُّد النِزَاعات والحروب الداخليَّة فيها (التي هي كالنار تحت الرَّماد في بعض الدول)، وعندها لن يكون شعار التغيير والتجديد المرفوع حاليّاً ـ مع وجود الشروط والأجواء ذاتها ـ إلا استنساخاً جديداً لأزماتِ الأمَّة السابقة، وبخاصّة أزمة دولها التحديثيَّة التي ما إن استلم أصحابها ورموزها زمام السلطة وناصية القرار فيها حتَّى حوَّلوها إلى دولة عصبيَّة حزبيَّة (بالمعنى الدِّينيّ والسياسيّ)، وصارت وظيفتها الأساسيّة محصورةً ـ بحكم تأسيسها على قاعدة الغلبة والقهر والتمييز ـ في تمكين أصحاب المصالح والجماعات المُسيطرة من احتكار الرأسمال الضخم والثروة الروحيَّة والماديَّة الهائلة التي تمتلكها الأمَّة.

ويهمّنا أن نُلفت نظر تلك القيادات إلى أنّه لا يُمكنها السير على طريق إجراء الإصلاحات الأساسيَّة المتوخَّاة من خلال تطوير مستوى وصيغة خطابها النظريّ الشعاراتيّ فحسب؛ لأنّ ذلك لا يُترجم المعنى الحقيقيّ للتغيير المطلوب في المبادئ والقِيَم وحتَّى في طبيعة الشعارات ومناهج العمل وسلوكيَّات التطبيق التي تسيّر تلك النُّخَب، ولا يعدو أن يكون معنى التغيير ـ عند ذلك ـ إلاّ نوعاً من التَّواصل الدافئ ـ وإنْ من وراء الستار ـ مع الأفكار والطروحات التقليديَّة القديمة، وإعادة اجترارها من جديدٍ بأشكالَ ونمطيَّات سلوكيَّة جديدة، وما يَعنيه ذلك من استمرار التغطية الفجَّة على المشاكل السياسيَّة والاقتصاديَّة الملحَّة القائمة والمتفَاقمة يوماً بعد يوم، بدل البحث الجدّي الهادئ عن حلولٍ دائمةٍ وعقلانيَّة لها. وهذا ما يعبِّر ـ كما يؤكِّد الكثير من المراقبين ـ عن حالة الضَّياع العقليّ الشامل، وعن الاستقالة المعنويَّة التي تُحاول عبثاً أنْ تُغطِّي على نفسها من خلال عبارات تَعرف تماماً أنَّها من دون رصيد، ولا تَحظى مطلقاً بأيِّ قبولٍ أو رضىً شعبيّ، وأنّ مبرِّر وجودها وتردادها الوحيد هو إقامة حاجزٍ يمنع المجتمع من إدراك عُمق المشاكل والأزمات المتلاحقة التي يعيشها.

إنَّ ما تطلبه مجتمعاتنا العربيَّة والإسلاميَّة عموماً اليوم من قياداتها ونُخبتها الحاكمة ليس بالأمر الصعب الذي يُعْجزها إذا ما توافرت النوايا الحسنة والإرادات العاقلة المرتَكِزَة على أبعاد مؤسسيّة في كلِّ ما يتعلَّق بشؤون الدولة والحكم والإدارة، خصوصاً وأنَّنا دخلنا في مواقع ومتغيِّرات وتحدِّيَات اقتصاديّة وسياسيّة هائلة جديدة تلفُّ العالم بأسره، وتواجهنا نحن بالذَّات على مستوى الأمّة والشعب والحكم، وتَفرض علينا تحدِّيَات جديدة للوعي والالتزام والعمل. فما تطلبه الجماهير الآن هو أنْ تَلتزم قياداتها المذكورة ـ كما ذكرنا سابقاً ـ بوجود الناس والمجتمع ككل، وحجمه، وقوَّة زخمه الروحيّ والماديّ الحضاريّ؛ لأنّ الإحباطات والتوتّرات والمصاعب التي تَعيشها هذه المجتمعات وصلت إلى درجةٍ لا تُطاق، وبات من الصعب جداً معها الوقوف في وجه الانفجارات المتوقَّعة، إذا لم يحصل التغيير الجذريّ المطلوب في مواقف تلك القيادات وسلوكها ووعيها والتزامها. ولعلَّ بناءَ وتشييد أُسس التغيير السياسيّ الحقيقيّ ـ في هذا السياق ـ هو من أُولى المهامّ المُلقاة على عاتق هذه النُخب الجديدة.

إنَّنا نعتقد بأنَّ البناء السياسيّ المتين يجب أنْ ينطلق فعليّاً في الوعي العمليّ، وفي توازن القوى الاجتماعيّة والسياسيّة، وما لم يحصل ذلك فإنَّ انتقالات السلطة والحكم ـ بالطرق والأساليب المعروفة ـ لن تُفيد شيئاً، بل بالعكس ستقود لاحقاً إلى الفوضى والخراب، وإلى سيطرة قوىً جديدةٍ على السلطة تحت ستار التعدديَّة والديمقراطيّة.
وهذه النقطة ـ في الواقع ـ جديرةٌ بالاهتمام لأنَّه من الضروريِّ جدَّاً تربية المجتمعات من جديد على ثقافةِ التعايش والتسامح والحوار، وتوعيتها على قِيم ومبادئ الديمقراطيّة والتعدديّة والاعتراف بالآخر، وذلك من خلال العمل على إنتاج مفاهيم وتصوّرات فكريّة جديدة تكفل تعميق شعور هذه الجماهير بالمسألة الديمقراطيّة، وتدريبها فعليّاً عليها، بما يَضمن تحويل ونقل الصراعات والخلافات الكثيرة المتوزّعة داخل اجتماعنا الدّينيّ والسياسيّ من دائرة العنف الرمزيّ والماديّ إلى دائرة السِّجال السياسيّ السلميّ بما يَجعلها مصادر مثمرةً ومنتِجةً.

الركيزة الثانية

كسر الحواجز النفسيَّة والعمليَّة الكثيرة القائمة بين الدولة كمركزٍ ونظامٍ ومحورٍ ومركزٍ للتنفيذ، وبين عموم الناس والمجتمع كطرفٍ يدور في فَلك الدولة ويَنفعل بقراراتها، وذلك من خلال نزول قيادات الدولة إلى الأرض، ووقوفهم أمام حقائق الأمور، وتلمّسهم لهموم الناس ومشاكلهم وإدارة شؤون معيشتهم في حاضرهم ومستقبلهم. ولا نعني بـ (النزول) هنا أنْ ينزل المسؤول الفلانيّ مثلاً إلى الأرض بجسده فقط، ولكن بروحه ومشاعره وكيانه ووعيه. ولذلك نحن نعتبر ـ طالما أنَّنا نتحدَّث عن الدولة العربيَّة التحديثيّة ـ أنّ أهم الحواجز (المطلوب من القيادات المُقبلة ضبطها قانونيّاً ومؤسساتيّاً) هو حاجز الأمن الذي جعل من مُعظم دولنا العربية الحاليّة برمتها (دولاً أمنيّة بامتياز)، لا همّ لها سوى التفنّن في اتِّباع أحدث أساليب الرقابة الدائمة على الناس، وملاحقتهم حتَّى غرف نومهم، والتلذذ بتعذيبهم نفسيّاً وماديّاً. وقد تبدَّت معظم الدول العربيَّة ـ من خلال ذلك الحاجز ـ بأنماط غير إنسانيّة من الاضطهاد والاستعباد ومصادرة الحرّيَات وإلغاء الآخر، فأصبح المواطن مقيَّداً وملجوماً منذ ولادته، وعاجزاً عن وعي واستلهام وتنمية عناصر ومعطيات التفكير السليم المُبدِع، وبالتالي بات شبه عاجزٍ عن الانخراط في مسيرة الإبداع الحضاريَّة الإنسانيَّة بسبب افتقاده للحريَّة باعتبارها الشرط الأوّليّ لنموِّ بذرة الإبداع والإنتاج في أيَّة بيئة.

لذلك فالدولة (أية دولة) التي تحترم نفسها، وتقدّر شعبها، وتشعر بأهميَّة وجود مواطنيها، ودورهم الفعَّال في المجتمع، وتعتبر نفسها شرعيَّة (في وجودها وامتدادها) وشعبيّة في ممارساتها… الخ، هذه الدولة التي تمتلك كلَّ تلك المواصفات وغيرها، ليست بحاجةٍ مطلقاً إلى الجانب الأمنيّ الرَّادع إلا من باب المحافظة على استقرار الدولة، ورعاية أمن الناس، والحفاظ على شبكةٍ عاليةٍ من الأمان الاجتماعيّ، وتكريس رفاهيَّة المجتمع، والسهر على حدود الوطن والدِّفاع عن المواطن بالطريقة الإنسانيَّة الحضاريَّة التي تَحفظ كرامة الإنسان، وبما يَخدم كلَّ أفراد المجتمع وليس أمن النُخبة السياسيّة الحاكمة فقط.

ومن الطبيعيّ جداً أنْ تهتمَّ الدول كلَّها بالأمن والاستقرار الاجتماعيّ، لكن الذي يميِّز الوضع في الدول العربيَّة ـ عن باقي دول العالم الأخرى ـ هو عدم ثقة النُّظم الحاكمة في عالمنا العربيّ بالوعي الوطنيّ العامّ لدى مواطنيها الذين يُعاملون حتَّى الآن كجواسيس وطوابير خامسة، ويُنظر إليهم دوماً كقوّةٍ معارضةٍ كامنةٍ يُمكنها أن تَخرج من القمقم متى ما توافرت لها الظروف المناسبة. والسبب في ذلك ـ على ما يظهر ـ أنَّ النِّظام الرسميّ العربيَّ عموماً يتوقَّع من مواطنيه أن يتحوَّلوا بسهولةٍ إلى لعبةٍ بيد القوى الخارجيّة، الغربيّة أو الأنظمة المُعادية العربيَّة، كما يتوقَّع منهم أن يُصبحوا بين ليلةٍ وضحاها ضحايا سهلة لدعايات التجمّعات والجماعات المتعصِّبة إيَّاها.

ومعظم دولنا العربيّة والإسلاميّة (دول عميقة) (deep state) بالمعنى الأمنيّ، وليس بالمعنى السياسيّ أو الاقتصاديّ أو الاجتماعيّ أو النفسيّ ـ السوسيولوجيّ؛ لأنَّها تتعيَّش على الأمن وترعى مصالحها به وعن طريقه، وتَحفظ وجودها العميق من خلاله.

وهذا كلُّه يجعل من فكرة (جهازيّة الدولة العربيّة) فكرةً صحيحةً على الدَّوام، حيث إنَّه وبالرغم من الاستخدام الكثيف للفكرة القوميَّة والتربية اليوميَّة للمشاعر القطريَّة والشوفينيَّة في معظَم دولنا العربيّة، لا تزال تلك الدول تتصرَّف في الواقع كجهازٍ خاص وكقوّةٍ لها ميليشياتها الخاصّة، وولاءاتها المخفيَّة العلنيَّة، وليس كمؤسَّسة مدنية لكلِّ أبنائها تؤمن بأنَّ من الممكن فعلاً المراهنة على المشاعر الوطنيّة والإسلاميّة أو المسؤوليّة الجماعيّة.

إذاً من هنا تبدو أمّ المشاكل منحصرة ومتركِّزة أساساً في أنَّ معظم السلطات العربيَّة القائمة عندنا ـ وبعد أن نشأت وتربَّت على اعتبار العامل الأمنيّ هاجسها الرئيس ـ لا تنظر إلى المعارضة (مهما كانت عقيدتها ورؤيتها السلميَّة الحضارية البعيدة عن العنف) إلا من الزاوية الأمنيَّة البحتة فقط.. وهي محقَّة في بعض الأحيان في تصوُّرها هذا، حيث تجد تلك السلطات كيف أنَّ كثيراً من معارضيها يرتمون في حضن القوى الدوليَّة، ويتلقَّون مساعداتٍ ماديَّة منها، ويستخدمون منابرها للهجوم عليها، ولتقسيم أبنائها ومجتمعاتها، وو..الخ.. فهذا النوع من المعارضة ليس مجالاً لحديثنا هنا، وتصرُّفاتها تلك مدانةٌ بشدَّة من قبلنا، وإن كنا نعتبر أنَّ طرق وأساليب حكم تلك السلطات ساهمت كثيراً في دفع تلك المعارضات الخارجيَّة للارتماء في أحضان الدول والمواقع والمحاور الدوليَّة الكبرى هنا وهناك..

ومن الطبيعيِّ والحال هذه أن يتحوَّل المواطن ـ في نظر هذه الدولة أو تلك، وفي مثل هذه الأجواء الضاغطة والمضطربة ـ إمَّا إلى مخرِّب ومتَّهم على الدَّوام، أو إلى موالٍ لجهاز السلطة القائمة، ولا حلَّ ثالثاً أبداً بينهما.
وانطلاقاً ممَّا تقدَّم نقول بأنَّ إعادة حقِّ الاعتبار النفسيّ والماديّ للمواطن العربي ـ من حيث كونه العنصر المحوريَّ الأهم في إحداث عمليَّة التغيير والبناء والتنمية والنهوض الحضاريّ المطلوب العمل عليها من قبل تلك القيادات ـ هو الذي سيساهم في إلغاء طقوس الظلم والقسر المتفّشية بكثرة في كثير من أوساط أجهزة الحكم والأمن العربي، وهو الذي سيضع تلك القيادات على المحكّ والتجربة العمليّة، واختبارات حسن النوايا.
الركيزة الثالثة:
تطوير وتحديث الإطار المؤسّسي للنِّظام العربيّ بما يتناسب مع المتغيِّرات والتطوّرات الهائلة التي يشهدها العالم، والتحدِّيات التي يواجهها هذا النِّظام، وذلك بهدف تحقيق الفائدة القصوى المرجوّة من الرأسمال الحضاريّ الضخم الكامن في الذَّات والطبيعة العربيَّة والإسلاميَّة، قبل فوات الأوان.

وفي هذا المجال نحن نعتبر أنَّه لن يكون بمقدور السلطة الرسميَّة العربيَّة القادمة إلى الحكم في مقبل الأيام والعهود تحقيق ذلك الهدف الكبير من دون الإدماج الطبيعي لجماهير الأمَّة كلِّها في عمليَّة التنمية المتوخَّاة بمفهومها الفرديّ والجماعيّ. وهذا الإدماج الطوعيّ لن ينجح ما لم يوجد إطار فكريّ وسياسيّ نابع من مقتضيات الانتماء الحضاريّ إلى الثقافة العربيّة وقادر على الاستجابة لتحدِّيات الحاضر وتلبية احتياجات المستقبل. وذلك هو الذي يدفع شعوبنا العربيَّة والإسلاميَّة بقوَّة للانخراط الفاعل والواعي في الوتيرة الراهنة للتطوّر الحضاريّ، ويُثير كوامنها وطاقاتها الذاتيَّة للإبداع والإنتاج والمنافسة مع باقي الحضارات، والمساهمة الإيجابيَّة في المسيرة الإنسانيَّة العالميَّة. إنّ ذلك لا يعني سوى أنْ يبحر (إطار التنمية الشامل) ضمن المركب الحضاري (العربيّ ـ الإسلاميّ)، ويقدّم للجماعات ـ التي انطبعت نفسيّاً وشعوريّاً وتاريخيّاً بخصائص وأهداف ذلك المركب ـ الوسائل والآليَّات العمليَّة القادرة على استيعاب قِيَمها ومبادئها الذاتيَّة الحضاريَّة.

والقصد من ذلك القول بأنّ الدولة لا تستطيع أن تكون منتِجَة ومثمِرة ومنجزة ما لم تحظَ بشرعيَّة تاريخيَّة مستقرّة قائمة على مبدأ الولاء الطبيعيّ لها. وليس لهذه الشرعيَّة من مصدرٍ آخر ـ كما يؤكِّد أغلب الباحثين ـ إلا قدرتها على إشراك رعاياها في نمط حضارة عصرهم، أي في إنتاج قِيَمِه، واستهلاكها على حدٍّ سواء. وفي كلِّ مرَّة تخفق فيها الدولة في تحقيق هذه المهمّة، تُطرح على المجتمع ـ وعلى التاريخ ـ مسألة تبديلها وتجاوزها، وتدخل لا محالة في أزمة سياسيَّة عميقة ـ كما هي حالتنا الراهنة ـ ولا تستقيم بعد ذلك إعادة بناء السياسة وترسيخ شرعيَّتها وقِيَمِها وفاعليَّتها إلا بالنجاح في إيجاد المخرج الذي يحقِّق للشعوب هذه الفرص التاريخيَّة الضروريَّة لمقاومة مخاطر التهميش والعزلة عن سيرورة التطوّر الحضاريّ المتسارع، وبالتالي الإفقار والتدهور والموت القوميّ البطيء. أي أن يكون المطلوب هو إعادة بناء المجال الجيوسياسي الملائم لنموِّ الحضارة.

من هنا يكون الإسلام ـ وإعادة تثمير وتأويل نصوصه بما يتلاءم مع العصر والانفتاح على الحياة وتقبل أفكار الديمقراطيَّة والتعدديَّة والدعوة السلمية وتمكين الحريَّات الخاصة والعامّة، ووو… الخ ـ هو العنصر والعامل الأساس الذي نستطيع من خلاله تجاوز الصعوبات والتحدِّيات التي تعجُّ بها ساحتنا، وتحقيق شروط الاندماج الفاعل والناجح في الحضارة العالميَّة، والمرتكِز على القِيَم الحضاريَّة والثقافيَّة للأمَّة.

ونحن عندما نضع الإسلام ـ وبالأخصّ الدعوة إلى التجديد الدينيّ من خلال الاجتهاد في نصوصه ومعطياته المعرفيَّة ـ في مقدِّمة العناصر والشروط اللازمة لاستنهاض همم أبناء الأمّة، فإنَّنا لا نطرحه كحلٍّ سحريّ سيؤدِّي مهامّه ووظائفه بالسرعة الفائقة، بل إنّ لذلك شروطاً وأجواء وتعابير وآليَّات عمل كثيرة، لا بدّ من العمل على إنتاجها وصياغتها من جديد في بيئتنا العربيَّة والإسلاميَّة حتَّى تؤدِّي في النهاية إلى إقامة نظام سياسيّ ديمقراطيّ مدنيّ شرعيّ يحظى برضا الناس، ويحمل طموحات المجتمع ورغبته الملحَّة في التغيير، ويعمل على تحقيقها في دوائر اجتماعه المدنيّ والمؤسساتي من خلال احترام الكرامة الإنسانيّة، وتوفير خيارات حقيقية لكافَّة أفراد المجتمع ضمن الإطار العامّ للنِّظام الإسلاميّ بحيث تتحوّل الدولة العربيّة من كونها إرثاً شخصيّاً ثابتاً ودائماً لفئة أو لفريق من السكان، وهاجساً جنونيّاً تعيشه بحدية أغلب النخب والتيَّارات السياسيّة القائمة ـ وتهدف من خلاله إلى الإطباق الكامل على مفاصل الحكم والسلطة والسيطرة على مقدّرات الأمّة ـ إلى مركز حيويّ كبير لخدمة المجتمع ككل، وللتنافس القانونيّ والدستوريّ الشريف في خدمة الناس، وتلبية احتياجاتهم الروحيَّة والماديّة، وبذل الجهد الكبير للتعاون الوطنيّ والقوميّ والإسلاميّ، والتفاهم بين التيَّارات والأطراف الاجتماعيَّة، وتطوير المشاركة السياسيّة الفعليّة في المسؤوليَّة الوطنيَّة الجماعيَّة، وخلق الظروف والمناخات السياسيَّة والاجتماعيَّة المناسبة لإعادة روح التضامن الوطنيّ والاجتماعيّ، وتحقيق الاندماج الطبيعيّ التدريجيّ، بحيث لا يبقى في الأمَّة من يشعر بأنَّه محروم من أبسط حقوقه وثمرات جهده وتعبه، أو أنَّه غريب في داخل وطنه.

رابعاً: استنتاجات هامّة

الاستنتاج الأوَّل: القناعة بالفكرة أساس تحقّقها

لا شكّ بأن التطوّر والتغيير سنّة وقانون كونيّ عام، وأنَّ المتغيِّر هو الثابت الوحيد في هذا الوجود، وقديماً قالوا بأنَّ دوام الحال من المحال، وأنَّه لا يمكن للمرء أن يغتسل مرّتين في النهر..
وبالنتيجة نقول بأنّ أيّ مجتمعٍ يرفض التغيير، أو على الأقل لا يقبل بإصلاح أحواله ومواقعه المتعدِّدة، والتخلُّص من ملابسه الرثّة القديمة غير الصالحة للحياة والعصر، فإنّه لا محالة يقود نفسه إلى التهلكة والانقراض الفرديّ والمجتمعيّ.
والمشكلة هنا لا تكمن فقط في عدم قبول السلطات العربيَّة الحاكمة بفكرة ومبدأ التغيير ذاته (إلا إذا كان يحقِّق مصالحها طبعاً)، بل تكمن أيضاً وتتركَّز في أنَّ الثقافة العربيَّة والإسلاميّة، بما هي رؤى وأفكار ونُظُم واعتقادات وعادات وتقاليد وسلوكيَّات عامّة مهيمنة على قناعات وعقول أفراد مجتمعاتنا، صعبة المراس وغير مِطوَاعة لقبول فكرة التغيير بحكم بُنيتها المُغلَقة، وسيْطَرَت نصوص تماميَّة ونهائية عليها، يُزعَم أنَّها تقدِّم حلولاً جاهزة ودائمة لمشاكلها وأزماتها التي قد تظهر في أيِّ زمانٍ ومكانٍ.

والمقصد أن نقول هنا بأنَّ الإنسان الشرقيّ عموماً اعتاد وألِفَ العيش مع العادات والتقاليد القديمة، بالرغم من تفاعله واستفادته من أحدث منتجات العصر الحديث، وتكوَّنت في داخله أجواء حميمية عاطفية مع تلك الأفكار القديمة بحيث بات من الصعب فصله عنها، حتَّى لوكان هذا الفصل يصبُّ في مصلحة عيشه الوجوديّ المستقبلي المتواصل والمستمر والممتد في عمق الزمان، كما يقول الشاعر المتنبي:

خُلقتُ ألوفاً لو رَجعتُ إلى الصِبا لفارقتُ شَيبي مُوجعَ القلبِ باكيا
فكيف يمكن لفردٍ يعيش حالة الزهو التاريخيّ بأمجاد الماضي التليد، ويَرهن وجوده لأفكار ماضويَّة غابرة، وتتحكَّم بمصيره الراهن فتاوى مضت عليها مئات السنين، ويؤمن بأنَّ مستقبله جاهز في ماضيه، كيف يمكن لهكذا إنسان أن يكون مقتنعاً بفكرة التغيير والتطوّر، ليكون مبدِعاً ومنتجاً وفاعل الوجود في حياته وممارساته؟!!
إنَّ جذر الحل لا بدَّ وأن ينطلق أولاً بالاشتغال على نقد الفكر والثقافة السائدة التي استغلَّها السياسيّ العربيّ لمصلحته من أجل تأبيد حكمه بتخويف ذاته والآخرين من ثقافة الجمهور العام.

الاستنتاج الثاني:فهم حقيقة التغيير والإصلاح المطلوب:

انطلاقاً من ذلك لا يكون التغيير المطلوب حالياً ـ على المستوى السياسيّ العربيّ بعد حدوث التغيير الثقافيّ والتجديد المعرفيّ الديني (ونعني به: إعادة قراءة النصّ على ضوء الحياة والعصر)- مجرَّد استبدال رؤوسٍ بأخرى، أو حكمٍ بآخر ونظريَّةٍ بأخرى، ولا قلب الأوضاع بالطريقة المعروفة للجميع… ولكنّه يعني استبدال عقائد ومناهج وآليَّات عمل لا تزال تحكم وتهيمن وتؤثِّر ـ بالمحصّلة الإجماليّة ـ سلباً على حركة الفرد والأمَّة، وتؤخِّر عمليَّة التنمية والنهوض المطلوب فيها. وهو يعني أيضاً خلق الشروط والمناخات الجديدة التي تسمح بإدخال مجتمعاتنا في عمليَّات التفاعل الحضاريّ الماديّ والفكريّ العالميّ الراهن من خلال تطوير مؤسساتها القانونية، وإلا كان هذا التغيير مجانِباً للواقع وفاقداً لأيَّة مصداقيَّة وتأثير عملي. لكن الذي حدث (ويحدث) عملياً هو عكس ذلك.

الاستنتاج الثالث:أسباب استنكاف الناس عن الانخراط في مسيرة بناء الدولة:

نشأت الدولة العربيَّة الحديثة بمعزلٍ عن هموم الناس والمجتمعات، وبقيت تمثّل سلطة النخبة العليا في مواجهة سلطة المجتمع وثقافته ومختلف تكويناته، أي أنَّها ظلَّت مستقلَّةً عن طبيعة المجتمع ومعتمِدة على الخارج، ومفصولةً عن تطلّعات الناس، تتحرّك هي في وادٍ وهو يسير في طريقٍ أخرى،غير متفاعل معها، ولا منسجم مع طروحاتها، وينطبق عليه وعليها المثل الذي يقول (كلٌ يغني على ليلاه).. ولذلك لم تكن (تلك الدولة) مقبولة، ومحترمة لدى أفراده.. وقد ترتَّب على لا شرعيّة الدولة في وعي أبنائها لها، كرههم وحقدهم الشديد عليها، وفقدان عنصر الثقة والتواصل بينهما، وسعي الفرد (والمجتمع) للخلاص منها بكلِّ الوسائل المتاحة أمامه، إلا في بعض المفاصل الزمنيَّة التي كان الحاكم يَتلاعب فيها بعواطف الناس الدينيّة ومتخيّلاتهم الثقافيّة، فيعمد إلى تعميم ما يمكن تسميته بالمظاهر الدينيّة الخارجيّة بين الناس (من جوامع ومعابد وحوزات ومدارس ومعاهد تعليم ديني وو..غيرها)، من دون أيِّ قناعةٍ حقيقية بها، بل لتكون بالمحصّلة مجرَّد دعايةٍ خارجيَّةٍ مجَّانيّةٍ لإرضاء الناس وتبديد طاقاتهم وتنفيس احتقاناتهم.

ولكن وبالرغم من كلِّ ذلك، لم تلقَ تلك الحركات والأعمال (الخلبية) ـ إذا جاز التعبير ـ أيَّ أصداء حقيقيَّة في المجتمعات العربيَّة، وبقيت العلاقة متوتِّرة جداً بين الفرد والحاكم، وقد دفع كره الناس للدولة إلى أن تعطي الدولة نفسها حقَّ مراقبة كافَّة أوجه النشاط الوطنيّ والاجتماعيّ عن طريق أجهزتها الرقابيّة الأمنيّة وغير الأمنيّة المعروفة من أجل متابعة وفهم أحوال الناس وزيادة إخضاعهم لسلطتها المركزية، وإجبارهم بالقوَّة وباستخدام كافَّة وسائل العنف العاري على منحها الولاء والطاعة، واحترام القوانين، ودعم معاركها، وتأييد شعاراتها.

ويبدو لنا أنَّ من أهمِّ أسباب ابتعاد الناس عن دولهم وحكَّامهم وحكوماتهم، ورفضهم السير في طريق التنمية والتطوّر، هو أنَّ نمط الدولة التسلطيَّة العربيَّة يَتصادم مع التكوين العقائديّ والثقافيّ والحضاريّ للناس وللمجتمعات العربيّة والإسلاميّة عموماً، ولا يَنسجم مع شعور الأمَّة النفسيّ ونسيجها التاريخيّ، ما أدَّى تدريجيّاً إلى ابتعاد الناس عنها، واستنكافهم عن المشاركة الطبيعيّة بأعمالها، ولذلك بقيت الدول العربيَّة عموماً ـ بحسب تلك الادِّعاءات ـ دولاً غريبة ذات منشأ غير أصيل، وتنتمي إلى مرجعيَّة حضاريَّة ومعرفيَّة أخرى بالرغم من بعض الشكليَّات والديكورات الدينيّة هنا وهناك لزوم الطلب والإعلان كما ذكرنا. أي أن تلك الدول تعاني أزمة شرعيَّة حقيقيَّة بامتياز، ولم تولد ـ بشكلٍ طبيعيّ ـ من سياق تطوّر داخليّ طبيعيّ، وإنَّما فرضتها ظروف الهيمنة الاستعماريَّة، فشكّلَ حكمها (حكم الدولة العربيّة الحديثة) مزيجاً من الرعاية البطركيَّة والجهاز البيروقراطيّ الموروث عن الاستعمار.

الاستنتاج الرابع :(الإنسان ـ الفرد) أساس الفعل التغييريّ:

إنَّ بناء دولة النِّظام والقانون والمؤسَّسات على أُسسٍ متينةٍ وصلبة تهيّئ القواعد الحقيقيّة لقيام الدولة العادلة والقويّة والقادرة على أعدائها فقط وليس على شعوبها المنهَكة والتَعِبَة والضعيفة، لا بدّ وأن يَبدأ من إعادة الأمور إلى نصابها من خلال الرؤية العقلانيّة والموضوعيّة الواضحة والمرتكزة ـ كما ذكرنا ـ على قاعدة وجود الإنسان الحرّ باعتباره صاحب المصلحة الأولى والأخيرة في عمليّة التغيير أو الإصلاح، وتنمية المجتمع وتطويره وتحديثه قانونيّاً ومؤسساتيّاً.

وفي اعتقادي نحن مازلنا ـ على الرغم من كلِّ ما قيل ويُقال عن الوطن والوطنيَّة والقانون والمؤسسات وو.. الخ ـ بعيدين عن تحقيق هذا الحلم، وسنبقى كذلك ما لم تُعالِج تلك القيادات ـ كما ذكرنا ـ مسألة شرعيَّة وجودها الطوعيّ الطبيعيّ (لا القسريّ) على رأس السلطة والحكم؛ لأنَّ نشوء السلطة العربيَّة الحديثة كان يُعاني منذ البدء ـ كما بات معروفاً ـ من غياب مسألة الشرعيَّة الطبيعيَّة.. وهي مستمرّة ـ على أيّ حالٍ ـ في هذا الطريق النضاليّ الطويل. حيث إنَّه وبدلاً من أن تُعيد تلك السلطات النظر بكلِّ الأسس القهريَّة التي تتأسس عليها حالياً، فإنَّه يتم تفعيل العمل بقوانين الاستثناء بصورة أشدّ حديَّة ممَّا كان عليه الأمر في الماضي.. وبالنظر إلى ذلك ـ وبما أنّ العنف يولِّد العنف والقوَّة تولِّد القوّة ـ لا بدّ من ظهور ردود أفعال سلبيّة في المجتمع، وولادة حركات عنف مدمِّرة ما سيُدخل مجتمعاتنا في المجهول الغارق بالسواد والظلمة.

من هنا دعوتنا الفكريَّة لتلك القيادات ـ مرَّةً أُخرى ـ إلى ضرورة أخذ العِبَر والدروس العمليَّة الكثيرة المتوافرة أمامها من التجارب السابقة والحاليّة. ولعلَّ الدرس الأكبر والأبلغ ـ الذي يجب ألا يغيب عن بال أحد ـ هو درس عدم مصالحة السلطة العربيَّة مع المجتمع والجماهير الواسعة. وهو أمر أساس يجب المبادرة للالتزام به، والمباشرة باتِّجاه تحقيق متطلَّباته الحيويَّة ومنها: العمل على إعادة النَّظر في الأوضاع السياسيَّة والاقتصاديّة ومختلف السياسات الاجتماعيّة التي اتُّبعت سابقاً في شكل الحكم ومضمونه، وفي قواعد توزيع الثروة داخل المجتمع، ونوعيّة مشاريع التحديث الهشَّة المقامة. وهذا يعني أنّ أزمة الشرعيّة التي تعاني منها الأنظمة العربيّة حالياً يجب أن تجد لها القيادات السياسية الجديدة الحلول المناسبة، وذلك من خلال فتح المجال الواسع أمام المشاركة السياسيّة للدخول في حوار يشمل كلَّ مواقع وامتدادات المجتمعات العربيّة.

الاستنتاج الخامس:بناء الدولة طوعياً لا قسرياً.

إننا نعتبر أنَّ تحقيق حلم دولة القانون، والنجاح في تغيير الواقع العربيّ الاقتصاديّ والاستراتيجيّ القائم، يتطلَّب منا جميعاً إعادة التأسيس الجديّ لنِظَام الحريَّات في الوعي العربيّ المعاصر، أي لنظامٍ يتَّسع لاختيارات البشر، ويبني مواقع حكمه وسلطته على قاعدة التعدديَّة السياسيّة والاعتراف بالآخر. والملاحظ هنا أنَّ الدولة العربيّة الاستبداديّة فوّتت تاريخياً على العرب والإسلام فرصة أنْ يتصدّى هذا الدّين ـ من خلال نخبه ومفكِّريه الكبار ـ بنفسه لاكتشاف النِّظام الديمقراطيّ، وقيادة مسألة الحريّات وحقوق الإنسان على مستوى العالم من خلال وجود كثيرٍ من المبادئ والأسس الحضاريّة الإنسانيّة التي أرستها قِيَم ومفاهيم الإسلام ذاته. ونحن عندما أطلقنا صفة (الإسلاميّة) على النّظام المؤسّسي الديمقراطيّ المقترَح فإنَّ ذلك لا يَكفي حتَّى يحقِّق هذا النِّظام للأمَّة التقدُّم والازدهار والنموَّ المطَّرد، وهذا ما يتَّضح من خلال استقرائنا لحركة التاريخ الإسلامي الذي حكمته ـ منذ أنْ تأسَّس نظام الحكم في الإسلام (منذ العصر الأمويّ وحتّى الدولة العثمانيّة) ـ أنظمة استبداديّة حملت ورفعت شعار الإسلام. لذلك ـ ولكي يكون النّظام قادراً على تحقيق غاياته وأهدافه الكبرى في التحرّر والتنمية ـ يجب أن يكون شرعياً ومعترَفاً به من قِبَل الناس، ويعترف هو نفسه بشرعيّة الناس، وشرعيّة الجماهير العريضة. فالسلطة ـ كممارسة وآليَّات حكم ـ يُنتجها الناس ويختارها المجتمع من خلال تداولها بالطريقة السلميّة الحضاريّة.

من هنا نحن نؤكِّد على أنَّ صفة الإسلاميّة ـ التي تعتبر بنظر الكثيرين مدخلاً لتطبيق الشريعة الإسلاميَّة ـ لا تكفي لتحقيق مطلب النهوض والازدهار، ولا تشكِّل ضمانة حقيقيَّة ضدَّ الانحراف والظلم، فالمجتمع ـ ومن خلال آليَّات الحكم التعدّدي المؤسَّسي التي تضع المرجعيَّة في اختيار السلطة بأيدي الناس لتكون السلطة موضوعاً للتداول وليس موضوعاً للاحتكار ـ هو القادر على صيانة ورعاية الأمَّة ضدَّ الظلم والاستبداد والقهر والطغيان، وتحقيق شرط النهوض والتقدّم؛ لأنَّه يمتلك عناصر شحن المجتمع بالحيويّة والفاعليّة الذهنيّة والانسجام والحراك، المؤدّية إلى إشعال الروح الجماعيّة لاستثمار الأخلاق الفطريَّة الكامنة في طريق نفع الجماعة والأمّة، وتهذيب ممارستها، وتنمية إمكاناتها وبَوْصلة اتِّجاهها.

ونظراً للدور العريق الذي يتمتَّع به الدِّين في التاريخ ـ وخصوصاً الإسلام ـ وفي أوساط الجماهير العربيَّة والإسلاميَّة كلِّها، وبخاصّة بعد تثبيت عنصر الاجتهاد فيه ليصبح مصدراً لنشوء نظام مدنيّ قادر على تنظيم حركة المجتمع بما يدفع أفراده باتجاه العمل والإنتاج (طالما أنَّ علاقاتهم السياسيَّة والاجتماعيّة والثقافيّة قائمة أساساً على مباني الفكر الإسلاميّ، ومؤطَّرة بنسيجه العقائديّ التاريخيّ) أقول: بالنظر إلى المعاني الكبيرة، يمكن أن نقرِّر هنا أنّ أسلوب وعي الناس للدّين، وفهمهم لقِيَمِه وطروحاته المدنيَّة ـ التي يجب الاجتهاد في كثير من مفرداتها وتطبيقاتها العمليّة ـ يشكِّل بحدِّ ذاته أهمَّ عاملٍ وحافز في تعجيل نضوج وتكامل المجتمع، واستتباب نُظُمِه وأُطُره الحقوقيّة والقانونيّة، وتوفير الأجواء المناسبة التي تتيح للجماهير المتديِّنة بالإسلام ـ والمفكّرين والنخب الثقافيّة والسياسية المختلفة ـ السير على طريق الإبداع والإثمار الماديّ والمعنويّ الحضاريّ.

وبطبيعة الحال يتحقَّق ذلك واقعياً فقط عندما نعتبر فكرياً وعملياً أنّ السلطة في الإسلام ليست شأناً إلهياً مقدّساً، ولكنّها شأن بشريّ. بينما الشريعة شأن إلهيّ مقدّس. فالله أرسل الرسل والأديان للناس وأمرهم بتطبيقها والالتزام بضوابطها وقوانينها الأخلاقيّة السامية والعالية من دون تفاصيل في الشأن السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماع المدنيّ؛ لأنَّ السلطة عموماً ـ ومنها سلطة الحكم السياسيّ، وحقّ إصدار الأمر ـ اختصاص بشريّ في البُعد المؤسَّساتي، وآليّات تنفيذ الأعمال المختلفة وتنظيم حال السياسة والاجتماع والاقتصاد، وهي حقٌّ يَختاره البشر. وبالتالي فإنّ شرعيّة أيّ نظام هي في اختيار البشر له لا في محتواه العقائديّ ومنصوصه الدينيّ اللاهوتي، فإذا اختاره الناس أصبح نظاماً شرعياً مقبولاً، وإنْ كانت إسلاميَّته منقوصة. أمّا النّظام المستبدّ فلا شرعيّة له حتّى لو كان يَحكم باسم الإسلام.

خامساً: خاتمة

إننا نعتقد أنّ هناك ضرورة عمليّة في تحكيم حركة الحوار العقلانيّ في مجتمعاتنا العربيّة المتوتّرة، وتأصيل قِيَم التسامح والاعتراف بالآخر، وتحمّل بعضنا بعضاً بالصورة التي تحقّق العدالة للجميع وتمنع من إقصاء أو إلغاء لطرفٍ على حساب طرفٍ آخر.. وإذا كانت الحركات الإسلاميّة المعاصرة قد لجأت (ولا تزال تلجأ) إلى تبنّي واستخدام أساليب العنف وأدوات القوّة لإزاحة أنظمة الاستبداد والتبعيَّة القائمة ـ تماماً كما لجأت إليه حركات أخرى غير دينيّة ـ فإنّ بعض هذه الحركات الجماهيريّة التي تلتزم بالدعوة السلميّة وتنبذ العنف وتؤمن بتداول السلطة، يجب ألا يُنظَرَ إليه وكأنَّه يلتزم بمنهجٍ وخطٍّ غريبٍ ومرفوضٍ، ومتَّهم بالإرهاب دائماً و… الخ، بل يجب التعامل معه بلغة الحوار والرشد والعقلانيَّة واحتواء مطاليبه سلميَّاً من خلال السماح له بالتعبير عن آرائه ومعتقداته بالطريقة الهادئة، وعدم مواجهته بلغة القمع والسيف والسجون والمعتقلات والمنافي الصحراوية. وأنا أوجه خطابي هذا إلى القيادات السياسيّة على وجه الخصوص باعتبارها تريد ـ كما تدّعي ـ العمل بهدوء وبالتدريج، على بناء واقعٍ سياسيّ تعدّدي لا يُلغي أحداً، ويكرّس حالة الاختلاف بالآراء، وتعدّد أساليب الفكر والوعي والاعتراف بالآخر.
إنّ الطريق الطويل ـ أمام تلك القيادات الشابّة الطموحة ـ ليس مفروشاً بالورود، وهو سيُلزمها بأن تعمل على إعادة النظر بـ (المنهج ـ الأزمة) الذي تربَّت عليه مجتمعاتنا على مدى قرونٍ طويلة، فلم تعد تعرف قيمة للحريّة وللحقوق الإنسانيّة، ونسيت أنَّ الإسلام الرساليّ الإنساني قد وهبها هذه الحريّة والحقوق كما ذكرنا، ولذلك يجب تربية أفراد مجتمعاتنا من جديد على تجسيد قِيَم الاعتراض السلميّ الصحيح والسليم، وتعليمها مبادئ الاختيار والتسامح والحريّة الفكريّة والسياسيّة.

نعم صحيح أنّ هذا المطلب صعب التحقّق والمنال في المدى المنظور، لكن توفّر إرادة العمل، والتطلّع نحو الأمام، والرغبة العمليّة الملحَّة في تحقيق الأهداف العليا في الحياة ، يمكن أن يجعل المستحيل ممكناً والخيال واقعاً.
والمهم هو أن تمتلك تلك القيادات إرادة العمل الجديّ والمسؤول باتِّجاه إنجاز المفردات الأساسيّة للتنمية والنهوض التي لا نغالي إذا ما قلنا بأنَّها هي المعنيّة بتطوير الواقع الحاليّ، والإسهام في تحريك إمكانات الأمَّة الهائلة وإيقاظها من غفوتها الطويلة، وحثّها عملياً على السير في طريق التقدّم والازدهار.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى