دراسات قانونية

الحق في معرفة انتهاكات حقوق الإنسان في النظم الاستبدادية السابقة

 د. أيمن سلامة، الأستاذ الفخري للقانون، المعهد الدولي لحقوق الإنسان، جامعة ديبول – شيكاغو – الولايات المتحدة الأمريكية.

شهدت سائر الأقطار العربية و لا تزال تشهد العديد من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بيد أن هذه الأقطار لم تتخذ آليات العدالة الانتقالية في فترات التحول الديموقراطي بعد إنهاء وإقصاء النظم الاستبدادية السابقة.

وتعد آلية “كشف الحقيقة”, أحد أهم بل تأتي على قمة هذه الآليات من حيث أهميتها و فاعليتها في السعي نحو العدالة، وتحقيق السلم والمصالحة.

ولقد برز الحق في معرفة الحقيقة بوصفه مفهوما قانونيا على كافة الأصعدة الوطنية والإقليمية والدولية، ويرتبط ذلك الحق بالتزام الدولة بتوفير المعلومات والحقائق للضحايا, ولكل المجتمع حول الملابسات والظروف التي أحاطت بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في العهود السابقة.

أهمية كشف و معرفة الحقيقة:

لا غرو أن كشف ومعرفة الحقيقة مسألة قانونية أولية مهمة، ليس في حد ذاتها بل توطئة لتحقيق غايات سامية متعددة الجوانب، حيث تختلف هذه الغايات سواء  كانت غايات نبيلة – مثل المساهمة في استعادة السلام وصيانته- وغايات أخرى – مثل محاربة الإفلات من العقاب، وردع انتهاكات حقوق الإنسان في المستقبل أو الحيلولة دون حدوثها، وتلبية مطالب الضحايا والدفاع عن حقوقهم، وإبعاد اللاعبين السياسيين السابقين عن الساحة السياسية، وإعادة تأسيس سيادة وحكم القانون.

وقد تتوازى معرفة الحقيقة عن الانتهاكات السابقة لحقوق الإنسان مع آلية أخرى يمكن التوصل بها في مراحل الانتقال والتحول الديموقراطي, والثورات، والانتفاضات الشعبية. حين أنشأت أحد أهم لجان التحقيق والمصالحة في العصر الحديث وتحديدا في دولة جنوب أفريقيا، منح العفو للعديد من المسؤولين السابقين في النظام العنصري السابق في هذه الدولة، في مقابل تعهد هؤلاء بضرورة الكشف عن حقيقة ما جرى وحدث من أفظع ممارسات عنصرية ارتكبت في عهد النظام العنصري السابق في بريتوريا.

إن معرفة الحقيقة عن الانتهاكات السابقة لحقوق الإنسان، تمنح المجتمعات القدرة على منع تكرار أحداث مماثلة للتي وقعت، وتسهل في حالات أخرى عمليات المصالحة وإعادة البناء حيث ينظر إلى معرفة الحقيقة على أنها ضرورة جوهرية لمعالجة التصدعات والانقسامات التي تحدث في السياقات المحلية في الفترة التي تلي إقصاء النظم الشمولية والاستبدادية.

كما ينظر أيضا إلى الحق في معرفة الحقيقة عن الانتهاكات السابقة لحقوق الإنسان باعتباره أساسا لعملية الإدعاء والاتهام الجنائي ذاتها، وذلك من خلال إجراء التحريات والتحقيقات المناسبة حول الانتهاكات المقترفة.

فلقد عُدَّ التقرير المفصل للجنة تقصي الحقائق التي شكلها المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر، الأساس القانوني الذي عجل بتحريك الدعوى الجنائية ضد الرئيس المخلوع “محمد حسني مبارك” أمام القضاء الوطني المصري، حيث خلص التقرير إلى أن “مبارك” مسئول مسئولية جنائية عن قتل مئات المتظاهرين في العديد من محافظات مصر أثناء ثورة 25 يناير, سواء كان ذلك بمساهمته جنائيا بإصدار الأوامر أو بالتحريض على قتل هؤلاء الثوار، كما أنه مسئول أيضا- وفقا لتقرير اللجنة- وذلك بالامتناع عن التدخل لوقف إرتكاب هذه الجريمة إعمالا لمبدأ المسئولية القيادية.

و تبرز أيضا أهمية معرفة الحقيقة عن الانتهاكات السابقة لحقوق الإنسان في تجسيد حقيقتين هامتين: الأولى: أنه ثمة خلل قد وقع في التعاطي مع الحقائق التي كانت موجودة في الحقبة الاستبدادية السابقة، والثانية: أنه بالنظر إلى أن جانبا كبيرا من التاريخ قد أغفل أو أهمل عمدا، فلم يعد معروفا للعامة في مجتمع الماضي والحاضر، ومن ثم تبدو أهمية ومغزى فحص وتمحيص ذلك الماضي من أجل تحديد هوية الأمة وتحديد أسس مستقبلها.

إن تحرك الأمة، وما نقصده في ذلك السياق هو الدولة بمؤسساتها المختلفة والمجتمع أيضا بكافة عناصره وأشخاصه، وذلك من أجل كشف حقيقة ما جرى من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في الحقب الماضية.

إن هذه الأمة، وهذا المجتمع يسعيان لتحقيق العدالة التي لم تتحقق في الماضي وذلك بحسبان أن العدالة قيمة سامية من قيم الديموقراطية وركيزة أساسية من ركائز حقوق الإنسان الأساسية، التي تم التأكيد عليها في كافة المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، كما أقرتها التشريعات الوطنية لمختلف الدول، فضلا عن هذا الكم الهائل من أحكام المحاكم الدولية أو الإقليمية أو الوطنية في ذلك الصدد.

إن معرفة الحقيقة عن الانتهاكات السابقة لحقوق الإنسان لا تفضي بذاتها إلى جبر ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان و حسب، بيد أنها تعد وسيلة مهمة للبدء في عملية جبر الضحايا.

لقد أشارت العديد من الهيئات الدولية والإقليمية والوطنية إلى معرفة الحقيقة عن الانتهاكات السابقة لحقوق الإنسان، واعتبر هذا الحق مبدأ توجيهيا في عديد من المواثيق التي تنشئ لجان الحقيقة والمصالحة، وأيضا في التشريعات الوطنية.

العلاقة بين معرفة الحقيقة و إرساء العدالة:

من الجلي وجود رابطة قوية بين عملية معرفة الحقيقة عن الانتهاكات السابقة لحقوق الإنسان بما تتضمنه من آليات ووسائل مختلفة، وبين إقرار  الحق وإرساء العدالة بشكل عام، فآليات كشف الحقيقة سواء كانت لجان تقصي الحقائق، أو لجان التحقيق والمصالحة، أو غيرها من آليات سوف تفضي في النهاية إلى تحقيق العدالة المنشودة من المجتمع, وذلك بفضل اعتبارات ومعايير عديدة منها: تشكيل واختيار هذه اللجان، والأشخاص الذين تستقي منهم هذه اللجان المعلومات والحقائق مثل الضحايا، والشهود، والمتهمين, أو أية هيئات أو جماعات او أشخاص آخرين، والدوافع التي دفعت بالمتهمين إلى ارتكاب مثل هذه الانتهاكات.

ومن هنا نخلص إلى أنه لن تتحقق أو ترسى العدالة من دون حقيقة حقة تم التوصل إليها بنزاهة وأمانة وحياد واستقلال.

الحق في الحقيقة بموجب القانون الدولي:

لقد انبثق الحق في معرفة الحقيقة عن الانتهاكات السابقة لحقوق الإنسان كمفهوم قانوني بموجب العديد من المواثيق والقرارات والأحكام القضائية الدولية. حيث اعتمدت لجنة حقوق الإنسان للأمم المتحدة، في دورتها الحادية والستين القرار 66/ 2005م والذي يقر بأهمية احترام وكفالة الحق في معرفة الحقيقة، بغية المساهمة في إنهاء الإفلات من العقاب وتعزيز وحماية حقوق الإنسان.

أقرت أيضا المادتين 32 و33 من بروتوكول عام 1977م الإضافي الأول إلى اتفاقيات جنيف لعام 1949م، بحق الأسرة في اقتفاء أثر فقيدها، فضلا عن الالتزامات المفروضة على أطراف النزاع المسلح فيما يتعلق بالبحث عن الأشخاص الذين أفادت التقارير بأنهم مفقودون، كما أن حالات الاختفاء القسري للأشخاص وغيرها  من انتهاكات حقوق الإنسان الفظيعة التي ترتكب خلال فترات العنف الجماعي بواسطة أجهزة ومؤسسات الدولة وتحت رعايتها قد عززت تفسيرا أوسع لفكرة حق الحصول على معلومات حول الأشخاص المفقودين.

لقد أكدت العديد من الهيئات الدولية المختلفة على الحق في معرفة الحقيقة عن الانتهاكات السابقة لحقوق الإنسان، وبوجه خاص  اللجنة الأمريكية لحقوق الإنسان، والمحكمة الأمريكية لحقوق الإنسان، والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، ومجموعة العمل التابعة للأمم المتحدة المعنية بحالات الاختفاء القسري، ولجنة حقوق الإنسان للأمم المتحدة. ولقد أفضت هذه الإقرارات المختلفة إلى اعتماد هذا الحق لدعم وحماية حقوق الإنسان الأساسية الأخرى مثل الحق في العدالة والحق في جبر الضرر لضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.

الآثار القانونية لالتزامات الدول بالكشف عن حقيقة الانتهاكات السابقة لحقوق الإنسان:

سبق أن أشرنا إلى أن كشف الحقيقة عن الانتهاكات السابقة لحقوق الإنسان لا يعد غاية قصوى تتغياها الدول والشعوب، بل إن إرساء الحقائق المجردة ولأول مرة يلزم الدول بالتزامات قانونية وسياسية وأخلاقية تجاه المجتمع بشكل كلي والأفراد بشكل شخصي.

حيث تلتزم الدول بموجب الحقائق الجديدة باتخاذ العديد من الإجراءات والتدابير تجاه ضحايا هذه الانتهاكات، باعتبار أن هؤلاء الضحايا هم جوهر ونقطة البدء والأساس الذي يدفع الدول للكشف عن الحقيقة.

حيث أقرت كافة الدول التي مارست واعتنقت الآليات المختلفة لكشف الحقيقة على واجب الدولة  في جبر ضحايا القمع الواسع والممارسات الوحشية غير الإنسانية من قبل النظم المستبدة السابقة، وهذا الجبر قد يتضمن من جملة عدة أمور: التعويض المالي، وإعادة الأملاك إلى ملاكها الشرعيين, وإعادة التأهيل للضحايا وعائلاتهم، وتخليد ذكرى الضحايا, ومحاكمة المسؤولين عن ارتكاب هذه الانتهاكات التي تم الكشف عنها.

بيد أنه، وفي ذات السياق، فإن حق الضحايا في الوصول للعدالة بواسطة كافة الإجراءات القضائية والإدارية المتاحة وغيرها من إجراءات عامة مطبقة بموجب القوانين المحلية القائمة والمواثيق الدولية المقررة يعد أحد أهم الحقوق للضحايا التي تقر لهم بفضل كشف الحقيقة عن الانتهاكات السابقة لحقوق الإنسان في دولة ما.

و بفضل الشفافية والحيدة والنزاهة والاستقلالية التي تتبع أثناء عملية كشف ومعرفة الحقيقة، تلتزم الدول بتوفير القنوات المختلفة للضحايا, وذلك من أجل التوصل إلى وسائل جبر الضرر الذي حاق بهم، والتي من بينها توفير المنبر العادل لعرض ومتابعة مطالب وشكاوى هؤلاء الضحايا دون إعاقة أو تأخير غير ضروريين من جانب سلطات الدولة المختلفة.

خاتمة

إن الحق في معرفة الحقيقة عن الانتهاكات السابقة لحقوق الإنسان لا يقتصر على كونه حق قانوني أصيل من حقوق الإنسان الأساسية بل يتخطى ذلك لكونه حقيقة إنسانية لصيقة بالفرد.

إن الحق في الحقيقة لا ينصرف أو يعنى بالماضي، بل يرتبط بإدراك الحاضر الواقع ويمتد ليتحكم في تشكيل واقع المستقبل.

إن على الدول تحقيق السلام ما استطاعت، لكن الحقيقة واجبة مهما تكون الظروف.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى