النظم السياسية المقارنة

الدراسة المقارنة في العلوم السياسية

Comparative Study in Political Science

الأستاذ الدكتور كمال محمد الأسطل Prof Dr. Kamal M AlAstal

تقديم

يمكن تطبيق الدراسة المقارنة في مختلف فروع علم السياسة والعلوم السياسية سواء في مجال النظم السياسية أو في إطار العلاقات الدولية ومناهجها ونظرياتها أو في مجال الفكر السياسي أو دراسات الرأي العام أو النظم الحزبية ..وغيرها من الظواهر.

والواقع أن الدراسة المقارنة تحتاج إلى توضيح عدة أمور والإجابة عن عدة تساؤلات كمايلي:

أولا: تساؤلات تتعلق بمنهج الدراسة وطبيعة المعرفة في مجال السياسة المقارنة

يشمل ذلك التساؤل حول طبيعة المنهج المقارن، ماذا يقصد به؟ وكيف يستخدم في مجال الدراسات الاجتماعية بصفة عامة وفي ميدان علم السياسة بصفة خاصة؟ ما هي الموضوعات التي يصلح لها وهل توجد مجالات لا يمكن تطبيق المنهج المقارن بخصوصها؟ وماذا يمكن أن نستفيد من المنهج المقارن؟ هل يمثل بديلا حقيقيا للتجريب في العلوم الاجتماعية كما يقال أحيانا؟ لا يمكن الإجابة على هذه الأسئلة في هذه الدراسة التمهيدية وإنما نكتفي بعرض عام بخصوصها.

(1) ما معنى الدراسة المقارنة

يقصد بالمقارنة إبراز أوجه الشبه والاختلاف بين المتغيرات موضع الدراسة. وقد يعتبر البعض المقارنة شكلا من أشكال القياس. والمقارنة هي منهج للبحث يستهدف الكشف عن العلاقات التجريبية بين الظواهر السياسية وترتبط ارتباطا وثيقا بالملاحظة، وتعتبر درجة أعلى من التصنيف. ومن هنا فإن المنهاجية المقارنة، من حيث تعريفها، تفترض أصلا وجود تشابه جزئي Analogy بين الظواهر التي يريد الباحث دراستها. وبالتالي فإن التحليل السياسي المقارن يعنى بإظهار وتعليل الفروق وأوجه التشابه بين مختلف المؤسسات السياسية وأنماط السلوك السياسي.

(2) قواعد المقارنة

 والمقارنة بالمعنى المذكور أعلاه تفترض الخضوع لمجموعة من القواعد:

1- لا موضع للمقارنة بين أشاء متماثلة تماما أو متمايزة تماما. فالظواهر التي يراد إخضاعها للمنهاجية المقارنة لا بد وان تنطوي على نقط اختلاف ونقط التقاء,

2- لا يصح إجراء مقارنات مصطنعة تعتمد على تشويه للظواهر أو الحالات محل المقارنة. فكلما بعدت هذه الظواهر او الحالات عن بعضها البعض مكانا وزمانا وسياقا، زادت احتمالات التشويه وعدم الدقة في استخلاص النتائج.

3- ضرورة اعتماد المقارنة على إطار فكري Conceptual Framework يتضمن عددا من المفاهيم المترابطة التي يمكن تطبيقها على الحالات موضع المقارنة. بعبارة أخرى لا بد من الوضوح الفكري التام بالنسبة للمتغيرات التي يود الباحث إخضاعها للتحليل المقارن.

4- ضرورة خضوع الظواهر موضع المقارنة لمنهاج بحث واحد  توخيا للدقة العلمية في إظهار جوانب الاتفاق والاختلاف.

(3) أنواع أو مستويات المقارنة

تتخذ المقارنة اكثر من شكل أو مستوى:

أولا: مقارنة الوحدة أو الظاهرة في مرحلتين تاريخيتين مختلفتين في تطورها التاريخي في مجتمع معين. ومثال ذلك دراسة النظام السياسي المصري أو إحدى مؤسساته أو السلوك التصويتي أو نمط القيادة أو السياسات العامة قبل وبعد ثورة 1952، أو في عهد عبد الناصر وعهد السادات، أو دراسة البرنامج السياسي لمنظمة التحرير الفلسطيني قبل وبعد مؤتمر مدريد للسلام عام 1991   ، أو السياسة الأمريكية إزاء العالم الإسلامي قبل وبعد أحداث 11 سبتمبر-أيلول ، او مقارنة بين نظريات في العلاقات الدولية. وهذا المنهج يعتبر دراسة النظام السياسي أو جزئية معينة من جزئياته في دولة معينة، وهو بذلك يتبع المنهج التقليدي الذي يتناول دراسة دولة-دولة Country-by-Country Approach.

ثانيا: مقارنة ظاهرة او وحدة عبر المكان، أي في دولتين أو أكثر. ومثال ذلك دراسة العلاقة بين متغيرين مثل التعليم والمشاركة السياسية، أو ظاهرة الثورة والمعارضة السياسية في أكثر من دولة.

وينبغي الإشارة إلى أن القيام ببحوث مقارنة حول ظاهرة أو أكثر في مجتمعات عديدة Cross-Cultural research أمر ضروري لبناء، كما يقول “جابرئيل آلموند”، نظرية احتمالية للنظام السياسي A probabilistic theory of the polity أي الوصول إلى تعميمات Generalizations أكثر صدقا.

(4) أهداف التحليل المقارن

يرمي التحليل المقارن إلى تحقيق أغراض عديدة أهمها:

1- إثراء المعرفة النظرية والواقعية بأنظمة الحكم والسياسة في العالم الذي نعيش فيه.

2- تقييم الخبرات والمؤسسات والتفاعلات وأنماط السلوك السياسي. إن الدراسة السياسية المقارنة تمكن من تفسير ماذا يحدث في ظل ظروف معينة وبالتالي اختيار ما نفضله من غايات ووسائل، أي تقرير ما نعتبره جيدا او سيئا في الحياة السياسية.

3- التنبؤ بالأحداث والاتجاهات والنتائج والنظرة الإستشرافية. إلا أن هناك من علماء السياسة اليوم من يقول باستحالة التنبؤ العام بسبب قصور المعلومات وعدم قابلية بعض المتغيرات السياسية للقياس. ويرى هؤلاء أن علم السياسة مقدر له أن يكون علم تفسير أو تشخيص اكثر منه علم تنبؤ. ورغم وجاهة هذا الرأي بصفة عامة، إلا أن قدرا من التنبؤ ممكن في بعض الحالات مثل الانتخابات والسلوك التصويتي والرأي العام.

4- تحديد أي أنظمة الحكم أكثر كفاءة، وطرح حلول أفضل لعديد من المشكلات السياسية، فالدراسات الراهنة عن النظم السياسية في دول العالم الثالث تدفع إليها، جزئيا، رغبة في معرفة أكثر صيغ الحكم ملائمة وقدرة على النهوض بهذه الدول.

(5) صعوبات ومشاكل الدراسة المقارنة

يواجه التحليل المقارن للنظم السياسية عددا من المشكلات أبرزها:

1- عدم دقة المصطلحات. فلا يوجد بين الدارسين اتفاق حول معنى أي مفهوم بما في ذلك المفاهيم الشائعة كالدولة والحكومة والحزب والسلطة والديموقراطية..الخ. بل أن كل مصطلح له معنى في ذهن الباحث السياسي يختلف عن معناه في ذهن الشخص العادي. فمثلا كلمة استعمار يقصد بها  الباحث السياسي شيئا محددا يختلف عن معناها لدى غير المتخصص. كما ان مدلول المتغيرات السياسية قد لا يساير الواقع المتغير. فالاستعمار أصبح له الآن مدلول يختلف عن مدلوله في القرن الماضي والقرن الحالي. وللتغلب عل هذه المشكلة يمكن النصح بتعريف المفاهيم والمصطلحات إجرائيا Operational أي تحديد مؤشرات تقبل الاختبار التجريبي. فعلى سبيل المثال يمكن تعريف الحزب السياسي إجرائيا بأنه مجموعة منظمة ذات برنامج واضح وسبق أن تقدمت بمرشحين في انتخاب عام. وللتأكد من أن جماعة ما حزبا أم لا، لابد من إجراء ثلاثة اختبارات لمعرفة ما إذا كانت الجماعة منظمة، وما إذا كان لها برنامج واضح، وما إذا كان سبق لها التقدم بمرشحين.

2- مشكلة تحديد المتغيرات أو العناصر الأولى بالبحث السياسي المقارن. وفي هذا الخصوص، يمكن لباحث أن يختار بين بديلين:

A)الاعتماد على أحد النماذج التي قدمها علماء السياسة في تحليل الأنظمة السياسية مثلا. ومن أمثلة هذه النماذج:

  n  آلموند وباول: البنية والثقافة السياسية، التعبير عن المصالح، تجميع المصالح، الأبنية والوظائف الحكومية، الاتصال، قدرات النظام، أنماط السياسة، والتنمية السياسية.

  n  روي مكريدس: صنع القرار، القوة، الأيديولوجية، المؤسسات السياسية.

  n  بلوندل: الأبنية، السلوك، القانون.

  n  ميركل: التنشئة والمشاركة والتجنيد السياسي، الثقافات السياسية، المركز والحواف، الأحزاب، الجماعات، صنع السياسة، الدساتير والمحاكم.

  n  كيرتس: المجتمع والدولة، تصنيف النظم السياسية، التمثيل والتصويت، المصالح والأحزاب، النظم الحزبية، البرلمانات وصنع القاعدة التشريعية، السلطة التنفيذية، النظم الإدارية.

  n  ايكشتين وأبتر: الحكم التمثيلي والدستوري، النظم الانتخابية، جماعات الضغط، الأحزاب السياسية، الشمولية والأوتوقراطية، التغيير السياسي، الحكم والسياسية في المجتمعات غير الغربية.

B)استخدام أحد المناهج (منهج النظم، أو المنهج البنائي الوظيفي أو منهج الاتصال أو منهج الصفوة، أو التحليل الطبقي أو الاقتراب النفسي). إذ يشمل كل منها مفاهيم أساسية تعمل كنقط ارتكاز وتوجيه للباحث. على أن الباحث يواجه دائما مشكلة اختيار المنهج او الاطار الفكري الأكثر ملائمة للظاهرة موضوع البحث.

3- مشكلة تحديد وحدة المقارنة، فالبعض يرى أن النظام السياسي ككل أكثر الوحدات السياسية ملائمة للتحليل المقارن. وهناك من يركز على الحكومة ويراها آخرون في الدولة. ويدافع البعض عن السلوك كوحدة للتحليل. هذه المشكلة يعقد منها الطابع المركب للنظم السياسية والسلوك السياسي، بالإضافة إلى عدم رشد السلوك السياسي في بعض الأحيان. ومن جهة أخرى، لا توجد ظاهرة سياسية خالصة. فما هو سياسي يتداخل ويتفاعل مع ما هو اجتماعي واقتصادي وثقافي. لذا لا يصح علميا أن نرد السلوك السياسي لأحد القادة إلى متغير واحد: عقدة النقص، حب الظهور، الشخصية المتسلطة، الرغبة في الإنجاز،  ..إلى غير ذلك من العوامل المتصورة، وإنما ينبغي تفسيره في ضوء أكثر من متغير حتى يجيء ذلك التفسير دقيقا كلما أمكن. ومن جهة ثالثة، لا ينهض السلوك السياسي بالضرورة على أساس رشيد Rational مما يجعل دراسته علميا مهمة شاقة.

ومهما يكن من أمر قضية وحدة التحليل، يلاحظ أن المنهج المقارن ليس فيه ما يستدعي قصر المقارنة على مستوى واحد او وحدة واحدة بعينها. ويترتب على ذلك ضرورة تعدد جوانب ووحدات المقارنة حتى يتسنى تفسير الاختلافات في العلاقة بين متغيرين أو أكثر في سياق نظم متعددة ومتباينة.

4- كيفية معالجة الظاهرة السياسية. هنا يمكن أن تخضع الظواهر السياسية للبحث المقارن بوصفها غايات، أي نتيجة عوامل يندر أن تكون من طبيعة سياسية. فمثلا قد يفسر السلوك التصويتي للمرأة في المجتمعات الصناعية على ضوء الانتماء الديني والمستوى الاقتصادي والوضع الديموغرافي (السكاني).

5- بناء المؤشرات. بمعنى لأنه قلما يتفق الدارسون على مجموعة مؤشرات تدل بوضوح ودقة على الظاهرة السياسية قيد البحث المقارن. ونضيف أن المؤشرات الخاصة بمتغير أو ظاهرة ما ربما كانت دالة بالنسبة لمجتمع معين وغير ذلك بالنسبة لمجتمع آخر. فالمؤشرات التي تعبر عن المشاركة في الديموقراطية الغربية (التصويت، الانضمام إلى الجماعة السياسية، الاتصال بالمسئولين، مناقشة القضايا العامة، السعي من أجل الوصول إلى السلطة، تقلد منصب سياسي) قد لا تصلح كلها أو بعضها لقياس ذات الظاهرة في دول ما يسمى بالعالم الثالث. ومن ثم يجب، ما دمنا بإزاء بحث مقارن، وضع مؤشرات للظاهرة محل البحث تصدق بالنسبة لمختلف النظم أو وضع مجموعات من المؤشرات لها نفس الأوزان على أن تلائم كل مجموعة منها نظاما معينا.

6- مدى وفرة المعلومات. فأحيانا قد لا يجد الباحث الحقائق أو المعلومات التي تسمح له بالمقارنة. أن عملية جمع المعلومات تمثل مشكلة كبرى في حد ذاتها. فالاعتبارات السياسية تمثل قيدا على جمع المعلومات في دول العالم الثالث. كما ان قصور الموارد المالية ونقص الباحثين الميدانيين الأكفاء تحد من إمكانية جمع المعلومات. كذلك فإن الإحصاءات الرسمية في دول كثيرة لا تتميز بالدقة. ولا تكاد المذكرات والتراجم الشخصية (السيرة الذاتية) تخلو من الكذب والمبالغة والتجني.

ومع الاعتراف بهذه الصعوبات ينبغي التأكيد على أهمية التحليل المقارن من حيث انه يكشف عن جوانب الاتفاق أو الاختلاف بين الظواهر ويقدم لنا الفرضيات والتفسيرات العامة بخصوصها. فالثورات مثلا يمكن أن تدرس من وجهة نظر مقارنة من حيث ادواتها، وأيديولوجيتها، ونوعية القيادات أو النخب السياسية فيها، وأهدافها، والمرحلة السابقة على الثورة. وفي دراسة ل “روبرت داهل” عن المعارضة السياسية في البلاد الديموقراطية عقد المقارنة على أساس ستة معايير هي: درجة التماسك التنظيمي، والوحدة الداخلية للمعارضة، وقدرة المعارضة على طرح ذاتها كبديل للحكومة، والإطار الذي يتم فيه التفاعل بين الحكومة والمعارضة، ومدى تميز وجود المعارضة كأفراد ومؤسسات، وأهداف المعارضة، وإستراتيجيات المعارضة. ويساعدنا التحليل المقارن إلى الوصول إلى افتراضات وقواعد عامة بالنسبة للظواهر السياسية، مثال ذلك  في أية ظروف تنشأ الأحزاب السياسية او ما هي ظروف تدخل العسكريين في الحكم.

ويبقى التساؤل عما إذا كانت السياسة المقارنة تمثل أحد ميادين علم السياسة أم أنها تعتبر تطبيقا للمنهاج المقارن في موضوع النظم السياسية. نحن نرى أن السياسة المقارنة هي في الحقيقة تطبيق للمنهج المقارن في دراسة الحكومات والنظم السياسية والعلاقات الدولية وجميع فروع علم السياسية. الدراسة المقارنة إذن هي تلك الدراسة التي تحلل الظواهر السياسية تحليلا مقارنا، وهي اتجاه للبحث ومنهج للاقتراب من الظواهر السياسية وليست موضوعا في حد ذاتها.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى