دراسات سياسية

الدولة في المجتمع: اقتراب دراسة النضال من أجل السيطرة

الدولة في المجتمع: اقتراب دراسة النضال من أجل السيطرة “مترجم”

جول مجدال

ملتقي الباحثين السياسيين العرب Arab political researchers forum

مقدم إلي:
أ.د/ علي الدين هلال

إعداد الطالب/ إسلام محمد السيد علي

كلية الاقتصاد والعلوم السياسية
جامعة القاهرة
قسم العلوم السياسية
برنامج الدكتوراه – العام الجامعي 2011/2012
نظرية السياسية المقارنة

عرض فصل:
الدولة في المجتمع: اقتراب دراسة النضال من أجل السيطرة

التعريف بالمؤلف والهدف العام من الدراسة:
مؤلف هذه الدراسة هو الدكتور جول مجدال (Joel S. Migdal) أستاذ الدراسات الدولية في جامعة واشنطن، والذي قام بتأسيس برنامج الدراسات الدولية في الجامعة، وقد عمل الدكتور مجدال أيضاً كأستاذ مشارك في جامعة هارفارد ومحاضر في جامعة تل أبيب، وله عدد كبير من المؤلفات والدراسات العلمية المنشورة من أبرزها: (الفلاحيين والسياسة والثورة:1974)، (المجتمع الفلسطيني والسياسة:1980)، (المجتمعات القوية والدولة الضعيفة:1988)، (الدولة في المجتمع:2001)، (الشعب الفلسطيني: التاريخ:2003)، (الحدود والانتماء:2004).

وربما ترجع أهمية دراسة مجدال التي قدمها تحت عنوان “الدولة في المجتمع: اقتراب دراسة النضال من أجل السيطرة”، أنه قدم إلي الساحة الإكاديمية والفكرية بحثًًا علميًا رفيع المستوي، حاول من خلاله تقديم رؤية نظرية وتاريخية جديدة حول طبيعة وأنماط العلاقة بين الدولة والقوي الإجتماعية المختلفة، بهدف الخروج من النقاشات الكلاسيكية التي تركزت بشكل رئيسي حول نظريات مركزية الدولة أو المجتمع، وقد حاول الوصول إلي تحقيق هذا الهدف من خلال طرح مجموعة من التساؤلات الكبري المرتبطة بطبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع، منها متي وكيف أصبحت الدولة قادرة علي تأسيس سلطة سياسية قوية؟ ومتي نجحت في تعريف وتحديد النظام الأخلاقي السائد أو تحديد معلمات العلاقات الإجتماعية اليومية أو حتي المحافظة علي الأنماط المتواجدة؟ متي وكيف أصبحت الدولة قادرة علي بناء الأجندة الاقتصادية لمجتمعاتها عبر الموارد المناسبة؟ وبالمثل متي وكيف أحبطت القوي الإجتماعية المختلفة مشروع الدولة وعملت علي التقليل من دورها؟ ما هو حدود الدور الذي يمكن أن تلعبه القوي الإجتماعية في ابتكار نظم رمزية فعالة ونمذجة السلوك الإجتماعي اليومي وتشكيل أنماط الحياة الاقتصادية؟

وللإجابة علي هذه التساؤلات تم تقسيم الدراسة إلي ثلاثة أجزاء رئيسية، قام الأول والثاني منها بتحليل وتصنيف ونقد مفاهيم الدولة والمجتمع، بينما دار ثالثهما حول تبلور هذا الاقتراب الجديد في تناول طبيعة وأنماط الروابط بين الدولة والقوي الإجتماعية. وقد اعتمد مجدال بشكل أساسي علي أسلوب التحليل المفاهيمي، وقام بدعم المقولات الأساسية لاقترابه بمجموعة من الحجج التاريخية والإمبريقية من بعض دول العالم الثالث، والتي أكد أن أنماط وأشكال التفاعلات بين الدولة والقوي الإجتماعية فيها تكون أوضح منها في الدول الصناعية الكبري.

أولاً: مفهوم الدولة:
أكد مجدال –بداية- أن أغلب تعريفات الدولة بالرغم من تعددها وكثرتها تدور حول مجموعة الأفكار التي قدمها ماكس فيبر(Max Weber) عن خصائص الدولة كمنظمة أو مجموعة من المؤسسات، تكون مهمتها الرئيسية تنظيم وضع القواعد والقوانين، وذلك من خلال احتكارها الشرعي لآساليب وأدوات استخدام القوة، كما ذهب البعض الآخر إلي النظر للدولة كمنظمة مركزية هدفها تنظيم مجالات متعددة للعلاقات الإجتماعية من خلال التأكيد علي مفهوم “البنية التحتية للسلطة”، والمعبرة عن قدرة الدولة الفعلية علي اختراق وتغلغل المجتمع وتطبيق قرارات سياسية حاسمة بحكم الواقع، ومن ثم يمكن القول أن الدولة وفق هذا الاتجاه كانت عبارة عن تتوجاً لعملية تجاوز المنظمات المحلية التقليدية في المجتمعات، وهو ما أطلق عليه نموذج الدولة القومية “Nation State”، والذي تبلور بشكل رئيسي مع بناء الجيوش الحربية، والبيروقراطيات الهائلة، وتدوين القوانين.
وبالرغم من وجود الكثير من الحجج التي تدعم هذا الاتجاه في تعريف الدولة، فقد أكد مجدال أنه يحتوي علي مجموعة من المشاكل، منها أنها ركزت في أغلبها علي خاصية واحدة من خصائص الدولة، إلا وهي الخاصية البيروقراطية أو الإلزام القانوني، وذلك دون النظر إلي باقي وظائف الدولة الأخري. بالإضافة إلي ذلك، يمكن القول أن أغلب هذه التعريفات لم يعطي اهتماماً كافياً لعملية تكوين وتحول وظائف الدولة، وطبيعة المقاومة التي تتعرض لها من جانب القوي الإجتماعية المختلفة، فضلاً عن كيفية اندماج بعض الجماعات والقوي الإجتماعية داخل الدولة، كما أن أنصار هذا الاتجاه لم يوضحوا طريقة فرض سيطرة الدولة علي المجتمع، خاصة وأن الأهداف الطموحة للدولة والمتعلقة بتحقيق النفاذية الكاملة إلي المجتمع، وتنظيم التفاصيل الجوهرية للعلاقات الإجتماعية، أصبحت من الأمور نادرة الحدوث مع وجود قيود حقيقية علي سلطتها.

وفي هذا السياق، يؤكد مجدال علي ضرورة النظر إلي مفهوم الدولة من خلال تقديم رؤية أنثروبولوجية جديدة، قد تساهم في تحقيق مجموعة من المميزات علي النحو التالي:

1- الدراسة المتعمقة لمفهوم الدولة عبر الانتقال من الاهتمام والتركيز علي قادة مؤسسات ووكالات الدولة إلي التحقيق في المستويات المختلفة للدولة، والتي تشمل الدرجات الدنيا في التنظيم المؤسسي، حيث تتواجد غلباً عمليات التفاعل والاندماج مع المجتمع.
2- أن الدراسة الأنثروبولوجية للدولة ممكن أن تفتح المجال أمام دراسة مؤسسات الدولة من خلال أدوات جديدة، مثل أسلوب الملاحظة بالمشاركة، والذي يمكن من خلاله التعرف علي كيفية تفاعل وانخراط قيادات الدولة الرسمية مع صراعات ونزاعات السلطة داخل وخارج مؤسسات الدولة.
3- وكذلك ممكن لهذا الاقتراب أن يتخطي الاهتمام بالدراسة النظرية لعلاقات السلطة إلي دراسة الممارسات العلية في علاقات الدولة والمجتمع، وكذلك قد يقودنا إلي تحليل دور البيئات المختلفة التي تدور فيها هذه العلاقات، وأنماط التفاعل بين مستوياتها المختلفة.

ومن ناحية أخري، يري مجدال أن أحد طرق تحليل ودراسة الدولة يمكن من خلال تفكيكها إلي أربع مستويات، والتي تختلف بشكل ملحوظ في أنواع الضغوط التي تمارس عليها من باقي مكونات الدولة ومن الفاعلين الإجتماعيين من غير الدولة، وهم ما يمكن إجمالهم وترتيبهم من أسفل إلي أعلي علي النحو التالي:

1- الخنادق (Trenches): ويشمل هذا المستوي علي المسئولين عن تنفيذ توجيهات الدولة بشكل مباشر في مواجهة المقاومة المجتمعية المحتملة، ومنهم علي سبيل المثال موظفي الضرائب، ورجال الشرطة، والمدرسين، وبعض البيروقراطيين المسئولين عن تنفيذ أوامر الدولة بشكل مباشر.
2- المكاتب الميدانية (The dispersed Field Offices): وهو عبارة عن المكاتب المحلية أو الإقليمية التي تنظم وتعيد صياغة سياسات وتوجيهات الدولة علي المستوي المحلي، ويشمل علي المؤسسات التشريعية، والمحاكم، ووحدات الشرطة والجيش.
3- المكاتب المركزية للوكالة (The Agency’s Central Offices): تكون بمثابة مراكز الأعصاب في العاصمة، حيث يتم صياغة السياسات القومية، وبالرغم من أن المسئولين في هذا المستوي غالباً ما يكونوا من القيادات السياسية العليا، إلا أنه دائماً ما يقوموا بمفاوضات مع بعضهم البعض، كما يتعرضوا لتأثير جماعات المصالح الكبيرة والمنظمة علي المستوي القومي.
4- المناصب أو المرتفاعات القيادية (The Commanding Heights): وتعبر عن القيادة التنفيذية الأعلي في مؤسسات الدولة، ويمارس عليهم أيضاً ضغوطاً من القوي المحلية والدولية التي تسعي للسيطرة علي القيادة العليا.
وإذا ما تم وضع موضوع القوي من غير الدول علي المستوي المحلي والدولي، والتي تؤثر علي كافة إجزاء ومكونات الدولة جانباً، يمكن القول أن هناك ثلاثة أشكال أخري للضغط داخل أجهزة الدولة نفسها في كل مستوياتها، أولهما هو المراقبين علي الأقل هؤلاء المنتخبين أو المتواجدين علي قمة التنظيم الهيراركي، وثانيهما هو المرؤوسين الذين يشرف عليهم الشخص بشكل مباشر أو غير مباشر، وثالثهما هو جماعات الأقران في باقي الوكالات أو السياسيين في نفس المستويات المتماثلة، ومن ثم لا يمكن توقع وجود استجابات واحدة في القضايا والأزمات التي تواجها الدولة، وإنما تتنوع هذه الاستجابات وفقاً للسياق الذي يتم العمل بداخله، وكذلك النظر إلي حجم الضغوط الواقعة عليها من جانب القوي الاجتماعية ووزنهم النسبي في المجتمع.

ثانياً: مفهوم المجتمع:

يبدأ مجدال نقاشه حول مفهوم المجتمع من الوصف الذي قدمه كل من جرينفليد (Greenfeld) ومارتين (Martin) بأن “السمة الوحيدة للمجتمع هو أنه يمثل البنية الإجتماعية الأبعد والأعقد لجماعة معينة من الناس، يرون أنفسهم كأعضاء فيها، ويعبرون عن هوياتهم كما يتم تحديدها من قبلها”، ويؤكد أن هذه السمة الفضفاضة للمجتمع تتجاهل افتراض وجود حاجة أساسية لقوة مركزية تقود الإجزاء المتفاوتة من المجتمع، كما أن هذا الوصف يدور في فلك محاولة بعض المفكرين والأكاديمين لفرض إطار نظري عام صالح للتطبيق علي معظم المجتمعات دون الأخذ في الاعتبار طبيعة الأختلافات بينهم والسياقات المتبانية التي تتواجد خلالها.
ويري مجدال أن القوي الإجتماعية تقدم ديناميكيات قوية للفعل الجمعي، وأن هذه القوي تشمل المنظمات غير الرسمية (مثل شبكات الزبائنية السياسية وجماعات الرفاق)، وكذلك المنظمات الرسمية (مثل دور العبادة ومنظمات الأعمال)، بالإضافة إلي الحركات الإجتماعية، مؤكداً أن هذه القوي الإجتماعية لا تعمل في فراغ إجتماعي، وإنما في إطار بيئة معينة يحاول من خلالها بعض قيادات القوي الإجتماعية تعبئة الاتباع وممارسة القوة، وذلك في نفس الوقت الذي تحاول فيه القوي الإجتماعية الأخري فعل نفس الشئ، كما يلاحظ أن هذا التنافس لا يحدث فقط في مساحات “السياسات العامة”، وإنما يحدث أيضاً حول السعي لفرض النظام الأخلاقي الأساسي المحدد للسلوك اليومي.

بمعني آخر، يمكن القول أن هذه القوي الإجتماعية المختلفة تسعي إلي فرض أنفسهم داخل المساحات العامة، بهدف استخراج أكبر فائض أو تحقيق أكبر دخل ممكن، أو تحقيق الإذعان والاحترام، أو فرض القوة لحكم سلوك الآخرين. والحقيقة أنه نادراً ما تستطيع القوي الإجتماعية تحقيق أهدافها دون اللجوء إلي التحالفات أو الائتلافات، فعلي سبيل المثال، فقد لجأ النظام الاستبدادي العسكري في البرازيل إلي إعادة التكيف والتحالف مع بعض القيادات المحلية والأوليجاركية القديمة التي كانت لديها قدرة علي معالجة الموارد من أجل تحقيق السيطرة في المساحة المحلية.

ومن الملاحظ أن دوائر القوي الإجتماعية ليست ثابتة وإنما تتغير بشكل مستمر، حيث يمكن أن تتعاون علي أسس مادية جديدة أو حتي حدوث تغيير في مجموعة القيم والمبادئ المشكلة لدستورها. فعلي سبيل المثال، كان هناك تحول رئيسي في دوائر القوي الإجتماعية في الصين أثناء النظام القومي في الثلاثينيات والنظام الشيوعي في الأربعينيات، حيث قام كل منهما بتعيين شرائح مختلفة من الطبقة العاملة في شنغهاي، حيث أدي اهتمام الكومينتانغ بضبط ومكافحة الجريمة إلي تعزيز التعاون مع بعض العمال أصحاب المهارات المتوسطة من شمال الصين، بينما أهتمت الدولة الشيوعية بتحقيق أهداف النخبة العاملة، ومن ثم ارتبطت إلي حد كبير بالحرفيين والعمال ذو المهارات المتميزة من الجنوب.

ويؤكد مجدال أن كفاح ونضال القوي الإجتماعية من أجل توسيع نطاق الهيمنة وممارسة الضبط الإجتماعي، يمكن أن يحدث عبر واحدة من ثلاث طرق: (1) داخل المساحة الإجتماعية المتاحة، حيث تسيطر القوي الإجتماعية عبر زيادة عدد الموضوعات محل الهيمنة، والتي قد تبدأ من تحديد نوع المحصول الذي يزرع، مرواً بطرق تقديم القروض، انتهاءاً بتعريف طبيعة النمو الاقتصادي. (2) المساحات ذاتها، والتي من الممكن أن تتسع لتضم عدد أكبر من السكان أو من مساحة الإقليم المتواجدة عليه. (3) يمكن للقوي الإجتماعية استخدام الموارد المتواجدة لديها في مساحة ما، لتحقيق السيطرة علي بعض المساحات الأخري.
وهنا تجدر الإشارة إلي نضال وتكيف القوي الإجتماعية في أي مساحة محلية أو إقليمة من أجل السيطرة أو المعارضة ليس شأناً داخلياً مغلقاً، حيث يتم غالباً إعادة توزيع الموارد من مساحة إلي أخري، بهدف التأثير علي مخرجات النضال الإجتماعي.

ثالثاً: الروابط بين الدولة والمجتمع:

يذهب مجدال إلي التأكيد علي إستحالة فهم مفاهيم “الدولة” أو “المجتمع” في العالم المعاصر دون التعرف علي حقيقة الروابط والعلاقات بينهم، حيث أن عملية بناء وإنشاء الدولة قد ساعدت في تنشيط المجتمع، فإذا كانت المجتمع هو الإطار الأبعد والأعقد للتنظيم الإجتماعي، فإن الدولة تحدد القيود والحدود الإجتماعية، ولكن ذلك لا يعني أن الدولة تستطيع أن تعمل علي نمذجة الجماعات التي تكون المجتمع ببساطة، فالعلاقة بين الدولة والمجتمع هي علاقة متداخلة ومتشابكة. ومن ثم يمكن القول، أن التحدي الأكبر لدي علماء الإجتماع هو كيفية فهم النضالات الإجتماعية المنتشرة حول الموارد، وطبيعة تكوينها الطبقي، وصفات علاقاتها النوعية، ومحتوي هوياتهم الجماعية…ألخ.

ويري مجدال أن فكرة الأصول أو الجذور المشتركة بين الدولة والقوي الإجتماعية، والتي يحدث فيها عمليات النزاع، والتواطؤ، والمعارضة، والتحالف، والفساد، والتعاون، قد ساعدت علي تفسير وتحليل بعض التغييرات الاجتماعية والسياسية الواسعة في البلاد، مؤكداً أنه بالرغم من أن مساحات السيطرة والمعارضة قد حققت فترات من العلاقات المستقرة بين القوي الإجتماعية المتواجدة فيها في أوقات وأماكن مختلفة، إلا أنه يمكن القول أنها كانت الاستثناء وليس القاعدة العامة. فعلي سبيل المثال، يمكن القول أن ظواهر مثل زالزال نيكارجوا، وموجة المد والجزر في البنغال، واحتواء ظاهرة الإسلام الأصولي في جنوب لبنان، وتغير معدلات الميلاد في المكسيك وغيرها، قد خلقت مجموعات مختلفة من الرابحين والخاسرين، ومن ثم غيرت في توازن القوي السائد في المساحات الاجتماعية المختلفة.

كما يؤكد مجدال علي أن الأساس الأيديولوجي المشترك الذي جمع قيادات الدول المتحولة، تبلور في محاولة خلق تواجد مهيمن في مساحات متعددة من أركان المجتمع، حيث تمثل الهدف العام في اختراق المجتمع بعمق كافي لتشكيل كيفية تعريف الأفراد أنفسهم فيه، وقد شمل ذلك عمل وكالات رأسية تهدف إلي الوصول لكل جيوب إقليم الدولة، وتحديد مكونات الدولة التي تعمل علي نشر نظام الشرعية (مثل المدرسة)، ووضع القوانين العامة (المؤسسات التشريعية)، وتنفيذ هذه القواعد والقوانين (البيروقراطية)، والفصل في النزاعات (المحاكم)، والإكراه (الشرطة والجيش). ومن ثم يمكن القول إجمالاً أن مبادرات الدولة قد أدت إلي ظهور فيضان هائل من أدوات السيطرة والضبط الإجتماعي الجديدة، بما في ذلك آساليب إستغلال أو التخلص من الآخرين مثل التجنيد الإجباري أو القتل الجماعي وغيرها.

ويذهب مجدال إلي التأكيد علي أن أشكال النضالات والتكيف في روابط العلاقة بين عناصر الدولة وباقي القوي الإجتماعية، قد انتجت نطاق واسع من المخرجات، والتي يمكن الوقوف عليها – بشئ من التفصيل- في أربعة نتائجة رئيسية علي النحو التالي:

(1) التحول الكامل: وهنا تتوغل الدولة في المجتمع بهدف التدمير، أو قهر القوي الإجتماعية المحلية لتحقيق قدر أكبر من السيطرة. وفي هذه الحالة، تنجح الدولة في التأثير علي كيفية تعريف الشعب أنفسهم، وتستخدم في ذلك وسائل متعددة مثل الهجرة الجبرية، وإحلال السكان المحليين بمجموعة من المستوطنين، وانتشار ظاهرة استخدام العنف، وبعض العناصر الآخري التي تعمل علي إبطال أو تدمير سيطرة القوي الإجتماعية المحلية، ويعتبر النموذج الصيني الحالة الأقرب إلي ذلك، حيث أعطت الحروب الأهلية الطويلة، والحرب ضد اليابان، بالإضافة إلي الثورة الثقافية فرصة كاملة إلي الدولة لتسخير القوي الإجتماعية.
(2) تأسيس الدولة القائم علي القوي الإجتماعية: في هذا النوع تقوم الدولة بتطوير مساحة تمكنها من تواجد بعض القوي الإجتماعية والرموز المحلية لتشكيل نمط جديد من السيطرة، وهو الأمر الذي يحد بشكل جزئي من سيطرة الدولة بالرغم من تطويرها الأشكال والقوي في هذه المساحة، وتقدم البرازيل نموذجاً علي هذه الحالة، حيث لجأ الانقلاب العسكري في عام 1964 إلي بناء نظام قائم علي تحولات المجتمع، وهنا وجدت الدولة نفسها تعيد تأسيس الأوليجاركية القديمة علي المستوي الإقليمي، وبالتالي التخلي عن جزء كبير من سلطتها التوزيعية في مساحات رئيسية.
(3) إدماج القوي الإجتماعية الموجودة في الدولة: في هذا النوع تتواجد عناصر الدولة عبر سيطرة القوي الإجتماعية، ولكن دون حدوث تغييرات راديكالية في نمط السيطرة، أو بمعني آخر يمكن القول أن تواجد الدولة قد يعمم أنماط جديدة من السيطرة التي تتصاعد فيها القوي الإجتماعية من غير الدولة إلي الأعلي. فعلي سبيل المثال، فقد ساعد إنشاء المجالس التجارية، ونقابات العمال والمهنيين والفلاحين في كثير من الدول علي حدوث تغييرات غير متوقعة في طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع، حيث تفاعلت قطاعات واسعة من القوي المجتمعية مع مبادرات الدولة عبر وضع شبكاتهم غير الرسمية.
(4) فشل الدولة كلياً في محاولات التغلغل: في هذه الحالة فإن عدم انخراط أو ضعف انخراط الدولة في المساحات المحلية، قد يؤدي إلي تأثير ضعيف جيداً علي المجتمع، وبالمثل تأثير مقيد من قبل القوي الإجتماعية علي الدولة، وهو أمر نادراً ما يحدث في الواقع الفعلي.

ومن ناحية أخري، يؤكد مجدال علي وجود محاولات من جانب بعض المفكرين والأكاديمين المنتمين إلي تيارات فكرية مختلفة لإستخدام مفهوم “المجتمع المدني” في دراسة الروابط بين الدولة والقوي الإجتماعية، حيث يرون أنه مصطلح ملائم للتعبير عن المصالح المتناثرة في المجتمع، حيث أنه يفترض وجود توافق قيمي أو اتساق بين القوي الإجتماعية، بما يمكنه من التعبير عن مصالح مختلفة. ومع ذلك، يري مجدال أن هناك مشكلات عدة في إستخدام مفهوم المجتمع المدني، من أهمها أنه من الصعب حدوث الاتساق في الأفكار الرئيسية بين بعض القوي الإجتماعية، ومن ثم فهناك حاجة قوية إلي تطوير فهم أكثر وعي لطبيعة العناصر المؤسسة لمفهوم المجتمع المدني، وعدم افتراض أنها تنشأ فقط عبر جماعات المصالح والمنظمات الطوعية الخاصة.

خلاصة ما سبق، أن دراسة طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع يجب أن تهتم بكيفية فهم النضالات الإجتماعية من أجل السيطرة أو التحول، ومن هنا يمكن التأكيد علي أن قدرة جميع القوي الإجتماعية وعناصر الدولة علي تطوير التماسك، والحصول علي الموارد المادية والرمزية، يعتمد بشكل كبير علي تواجدها في المساحات المختلفة، وأدائها المتوقع في أكبر عدد منها، مع العلم أن الوصول إلي هدف تحقيق السيطرة الكاملة لأي من القوي الإجتماعية بداية من الطبقات الإجتماعية وحتي الدولة المعقدة، يعتبر من الأمور مستحلية الحدوث في الواقع الفعلي.

وفي النهاية يمكن القول أن الأصول الفكرية لاقتراب مجدال “الدولة في المجتمع” قد ترجع -في جزء كبير منها- إلي المدرسة الوظيفية الهيكلية (Structural Functionalism) التي قدمت القوة الدافعة وراء ما سمي في الستينيات بنظريات التحديث، واهتمت بالنظر إلي المجتمعات كأنظمة متفاعلة مع بعضها البعض، لكل منها خصائصه الوظيفية المميزة، وذلك من خلال تركيزه علي كيفية قيام مؤسسات الدولة والجماعات بوظائف مختلفة كجزء لا يتجزأ عن المجتمعات، ومناقشته تأثير العوامل الخارجية علي أنماط التنمية.

ومع ذلك يمكن القول أن اقتراب مجدال “الدولة في المجتمع″، قد فتح المجال أمام إجراء العديد من البحوث والدراسات العلمية الجادة في مجال النظم السياسية المقارنة عبر ثلاث مستويات متنوعة، وذلك من خلال تركيز بعض الباحثين علي الدراسة النظرية والتأصيل المفاهيمي لحدود العلاقة بين الدولة والمجتمع بصفة عامة، وقيام البعض الآخر بتحديد أنواع الدول وأنماط الفاعليين الإجتماعيين المؤثرين، وطبيعة العلاقات والتفاعلات القائمة بينهم. بالإضافة إلي محاولة مجموعة أخري من الباحثين لدراسة تأثير المتغيرات والعوامل المؤثرة في التفاعلات بين الدولة والمجتمع، ولم يقتصر الأمر علي دراسة المتغيرات المحلية فقط، وإنما امتدت الدراسات إلي بحث تأثير بعض العوامل الخارجية مثل بنية النظام الدولي، والمشروطية السياسية، والتجارة الخارجية، وظاهرة العولمة، وغيرها.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى