الربيع العربي..من منظور غربي

  لندن: د. أحمد عيسى

كانت فرحتنا في الغرب لا توصف مع اندلاع شرارة أول ثورة شعبية من الثورات العربية التي أطاحت برؤوس أربعة أنظمة دكتاتورية في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن، وقوَّضت أركان نظام خامس في سورية لا يزال يصارع معارضيه من أجل البقاء، كنا نحن المسلمين وكل محب للحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية في نشوة حلم وردي جميل، يبني قصوراً لعدالة الحكم واقتصاد الرفاهية، شارَكنا في رؤية الحلم مفكرون وساسة وصحفيون وناشطون في قضايا حقوق الإنسان.. فهل كانت قصور أحلامنا من الرمال سرعان ما انهارت بأمواج الحقيقة، أم أن الغرب لا يسمح بديمقراطية العرب؟

في رد فعل أولي، كتبت الصحف البريطانية أن هذه الثورات حررت الشعوب وأذهلت العالم، تلك الثورات أيضاً فاجأت الغرب وأربكته وجعلته يفكر في مواقفه من المنطقة وأنظمتها، وفي النهاية حولت عقوداً من الدبلوماسية الغربية إلى هباء منثور، كما كتب «دونالد ماكنتاير» في صحيفة «الإندبندنت»(1): لم يصنع الغرب الثورات في العالم العربي كما لا يستطيع إيقافها، وبإمكانه أن يتجاهل ما تجلبه أو يقرر التعامل معها بإيجابية، ولكن بعيون مفتوحة، لا خيار آخر أمامه، وستشكل مرحلة ما بعد الثورات في العالم العربي تحدياً من نوع جديد للغرب، وتساءل: كيف سيتعامل مع ديمقراطية جلبت الإسلاميين؟

«نيك كليج» رفع سماعة الهاتف وهنَّأ حزب «النهضة» التونسي بالفوز، والتقى السفير البريطاني في القاهرة بهدوء مسؤولين رفيعي المستوى في حزب «الحرية والعدالة» عقب الجولة الأولى للانتخابات، في بادرة أشارت حينها إلى أن بريطانيا على استعداد للتعامل مع من تجلبه الانتخابات، كائناً من كان، وكتب محرر صحيفة «لوس أنجلوس»: إن الأحزاب الإسلامية هي قوة مشروعة سواء رضينا أم أبينا(2).

وتعاطف الناس في الغرب مع الثوار، كما قال «بيتر هالوارد»، وبغض النظر عن النتائج السياسية المباشرة للثورة، فيمكن أن نرى أن الجميع تعاطف مع الحماس الكبير للثوار، فمشهد الثورة في حد ذاته كان مؤشراً قوياً على أهميتها في نهاية المطاف، وأياً كان ما سيحدث تالياً؛ فإن الحشد المصري سوف يظل ثورة بارزة في تاريخ العالم؛ لأن ممثليها أثبتوا مراراً وتكراراً قدرة خارقة على تحدي حدود الإمكانية السياسية، والقيام بالثورة انطلاقاً من حماسهم والتزامهم، وقد نجحوا في تنظيم احتجاجات ضخمة في ظل غياب أي تنظيم رسمي، والحفاظ على هذه الاحتجاجات في مواجهة عمليات الترهيب والقتل(3).

ولم يكن خافياً حينها أن هناك تحديات ستواجه الثورات، فنشرت صحيفة «الفايناشيال تايمز» تحليلاً مطولاً عن التحديات التي تواجه هذه القوى لدى تسلمها السلطة، والمتغيرات في مواقف هذه الأحزاب من العديد من القضايا عند استلامها دفة الحكم في بلدان مثل تونس ومصر وليبيا والمغرب(4)، ولكن التحدي هو كيف سيديرون الاقتصاد المصري المنهك ودولة ضعيفة بفعل عقود من سوء الإدارة؟ وتضيف الصحيفة أن التحدي الذي يواجه الإسلاميين في مصر هو التوفيق بين طموحاتهم الإسلامية من جانب، وسياساتهم البرجماتية في مجالي الاقتصاد والسياسة من جانب آخر، فهم لا يمكنهم المخاطرة بإبعاد ذوي الكفاءات القادرين على قيادة الاقتصاد المصري والعديد منهم رجال أعمال ذوو توجهات ليبرالية كما يقول «جون الترمان»، المسؤول في مركز الأبحاث الإستراتيجية والدولية الأمريكي.

للبعض رأي آخر!

وفي دراسة لمعهد الأمن القومي «الإسرائيلي» عن الاتحاد الأوروبي و«الربيع العربي»، أكدت أن الدول الأوروبية شاركت من قبل في دعم الحكام العرب من أجل المحافظة على إمدادات النفط من جهة، واحتواء انتشار الإسلام الراديكالي من جهة ثانية، ومنع الهجرة غير الشرعية من جهة ثالثة، إلا أن الثورات اضطرت الاتحاد الأوروبي لتقييم الوضع والتوصل إلى إستراتيجية جديدة تقوم على تعزيز الديمقراطية ومساعدة منظمات المجتمع المدني، وزيادة المساعدات من أجل التنمية الاقتصادية، على أن تكون مساعدات مشروطة بالممارسة الديمقراطية وإلا سيتم منعها، ومع ذلك فإن الأزمات المالية المتكررة التي يتعرض لها الاتحاد الأوروبي ستحد من إمكانية تقديم الدعم لدول الشرق الأوسط، كما أن «الربيع العربي» أظهر مدى التخبط في السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، والذي ظهر حين أعلن «ساركوزي» اعترافه بالمجلس الانتقالي الليبي من دون التنسيق مع باقي الزعماء الأوروبيين، كما تعثر حدوث اتفاق بين دول الاتحاد بشأن التدخل العسكري وفرض العقوبات على النظام الليبي(5)، والكل يعلم أن مفوضة الشؤون الخارجية في الاتحاد «كاثرين آشتون»، كانت تزور القاهرة مراراً بعد الانقلاب تأييداً لـ«السيسي»، وأكدت أنها لن تطالب مصر بالإفراج عن الرئيس المنتخب «محمد مرسي».

استقلال ناقص

كتب «شايماس ميلن» مقالة مطولة في صحيفة «الجارديان»(6) عن سبب تدخل الغرب لإفشال الثورات العربية جاء فيها: هناك شعور حقيقي في الشرق الأوسط أكثر من أي بقعة أخرى من العالم الاستعماري سابقاً؛ بأنَّ الشرق الأوسط لم يحصل على استقلاله بالكامل، وبسبب تربعه على عرش مخزون البترول الأكبر في العالم، تم استهداف العالم العربي بتدخلات وغزو مستمرين، حتى بعد حصوله رسمياً على الاستقلال، وبعد تقسيمه إلى دول صورية بعد الحرب العالمية الأولى، جرى قصف واحتلال أجزاء منه بواسطة الولايات المتحدة الأمريكية و«إسرائيل» وبريطانيا وفرنسا، كما تم محاصرته بالقواعد الأمريكية وأنظمة استبدادية مدعومة من الغرب.

وقد ركزت الثورات العربية على الفساد والفقر وانعدام الحريات، وليس الهيمنة الغربية أو الاحتلال «الإسرائيلي»، ولكن حقيقة انطلاقهم ضد الدكتاتوريات المدعومة من الغرب تعني أنَّهم شكلوا تهديداً فعلياً للنظام الإستراتيجي، ومنذ يوم سقوط «حسني مبارك» في مصر، ظهر اتجاه مضاد متعنت بقيادة القوى الغربية وحلفائها في الخليج لرشوة أو تحطيم أو السيطرة على الثورات العربية، ولديهم معين من الخبرة المتأصلة يمكّنهم من استنتاج أنَّ كل مركز للثورات العربية، من مصر إلى اليمن، عاش عقوداً تحت الهيمنة الاستعمارية، وإذا أرادت الثورات العربية أن تتحكم في مستقبلها، فهي في حاجة إلى مراقبة ماضيها القريب، ثم سرد «ميلن» سبعة دروس من تاريخ التدخل الغربي في الشرق الأوسط:

1- لا يكلّ الغرب ولا يمل أبداً في سعيه للسيطرة على الشرق الأوسط، مهما كانت العقبات.

2- عادةً ما تخدع القوى الاستعمارية أنفسها بشأن حقيقة ما يفكر به العرب.

3- القوى العظمى هي أيادٍ خبيرة في تجميل الأنظمة العميلة لإبقاء تدفق البترول.

4- لا تنسى شعوب الشرق الأوسط تاريخها، حتى لو نسيت الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا ذلك.

5- يقدم الغرب دائماً العرب الذين يصرون على إدارة شؤونهم الخاصة كمتعصبين.

6- التدخل العسكري الأجنبي في الشرق الأوسط يأتي بالموت والدمار والتقسيم والحكم.

7- الرعاية الغربية للاستعمار في فلسطين هي عقبة دائمة في وجه العلاقات الطبيعية مع العالم العربي.

هل فشل الربيع العربي؟

ما نراه اليوم، من فوضى في هذه البلاد له أسباب، يعتقد البعض أن شعوبها ليست مستعدة للتغيير، وأن الأحزاب والقوى السياسية التي وصلت إلى السلطة لم تكن جاهزة لتقبل لعبة الديمقراطية ونتائجها، ويعتقد البعض أن هذه الشعوب منقسمة إلى حد كبير حسب القبيلة، كما هي الحال في اليمن وليبيا، أو حسب الطائفة كما في سورية، أو بين إسلاميين وليبراليين، مثلما هو الوضع في مصر وتونس.

غير أن بعض الباحثين أوضحوا، في تقرير خاص لمجلة «الإيكونوميست» البريطانية عن «الربيع العربي»(7)، أن التحولات الديمقراطية لم تكن أبداً سهلة في مناطق أخرى مثل شرق أوروبا، وأن الطريق لكي تصبح المجتمعات أكثر ديمقراطية وحرية هو طريق شاق وصعب، وردوا على الجدال القائم:

1- من غير المستغرب أن يعتقد البعض أن «الربيع العربي» انتهى، فالشرق الأوسط، كما يدعون، ليس مستعداً بعد للتغيير، أحد هذه الأسباب هو أنه لا يملك مؤسسات ديمقراطية، ولهذا فإن سلطة الشعب سوف تستحيل إلى فوضى أو أنها سوف تعيد الدكتاتورية.

الرد: هذه النظرة متسرعة أو خاطئة، فالتحول الديمقراطي عادة ما يكون عنيفاً وطويلاً، وأولئك الذين يقولون: إن «الربيع العربي» فشل يتجاهلون الشتاء الطويل الذي مر قبله، وتأثيره على حياة الشعوب.

في عام 1960م كانت مصر وكوريا الجنوبية تتشاركان في نفس معدلات الحياة المتوقعة والناتج المحلي الإجمالي للفرد، ولكنهما تعيشان اليوم في عوالم مختلفة تماماً، في حين يسكن الكثير من المصريين في المدن وثلاثة أرباع السكان يعرفون القراءة والكتابة، فإن معدل الناتج المحلي الإجمالي للفرد في مصر يساوي خمس معدل الفرد في كوريا الجنوبية، وأصبح الفقر وحالات التقزم نتيجة لسوء التغذية أموراً شائعة جداً في مصر، وحكومة الإخوان المسلمين التي أمسكت زمام السلطة لفترة وجيزة كانت خلالها عاجزة عن الحركة لم تفعل شيئاً لتعديل الأمور، ولكن مشكلات مصر الأعمق ناتجة عن النظام القديم ورجاله الأقوياء.

2- السبب الآخر؛ هو أن إحدى قوى التماسك في المنطقة هو الإسلام، والذي – كما يجادلون – لا يمكن له أن يستوعب الديمقراطية، ولهذا فإن الشرق الأوسط – وفقاً لهم – من الممكن أن يكون أفضل حالاً لو أن «الربيع العربي» لم يحدث أصلاً؛ لأن الديمقراطيات العربية سوف تخضع لقيادة الإسلاميين، الذين ليسوا أكثر قدرة على الإصلاح من الأنظمة القديمة، والعديد من العلمانيين العرب وزملائهم في الغرب يجادلون الآن أنه وبسبب أن الإسلاميين يميلون لتصوير حكمهم على أنه حكم إلهي، فإنهم لن يقبلوا أن الديمقراطية الحقيقية التي يجب أن تخضع للرقابة والتصحيح، من خلال وجود المحاكم المستقلة والإعلام الحر وتخويل الصلاحيات ودستور تعددي لحماية الأقليات.

الرد: هذه النظرة خاطئة أيضاً، فإن الإسلاميين خارج العالم العربي – في ماليزيا وإندونيسيا – أظهروا أن بإمكانهم تعلم ممارسة الديمقراطية، وتركيا – مع جميع عيوبها – أكثر ديمقراطية اليوم مما كانت عليه عندما كان الجيش موجوداً في الخلفية، ولو بقي الإخوان المسلمون في الحكم، لربما كان بوسعهم تعلم التسامح والبرجماتية وهي أمور لازمة لإدارة شؤون البلاد.

إن أفضل وصف لـ«الربيع العربي» هو أنه كان بمثابة صحوة؛ الثورة الحقيقية ليست في الشوارع كما هي في العقول، إن الإنترنت والشبكات الاجتماعية والمحطات الفضائية والتعطش للتعليم – بين النساء العرب كما هي الحال بين الرجال – لا يمكن أن تتعايش مع دكتاتوريات قديمة متعفنة، المصريون والآخرون يتعلمون الآن أن الديمقراطية ليست مجرد مسألة انتخابات ولا القدرة على حشد ملايين المحتجين في الشوارع، وهو تصرف عادة ما يكون فوضوياً، وحتى دموياً أحياناً، الرحلة قد تستغرق عقوداً، ولكنها لا تزال موضع ترحيب.

الهوامش

(1) How the West was caught out by the Arab Spring

The Independent, 26 December 2011.

(2) McManus: Mosque and state

Islamist parties are a legitimate political force, whether we like it or not.

Los Angeles Times- 23 October 2011.

(3) Egypt`s popular revolution will change the world

The Guardian- 9 February 2011.

(4) Egypt: A religious revival

Financial Times, 29 December 2011.

(5) دراسة: عام بعد الربيع العربي

http://islamonline.net/selected/212

(6) الربيع العربي والغرب: سبعة دروس من التاريخ

http://www.theguardian.com/commentisfree/2011/dec/22/arab-spring-seven-lessons-from-history

22 December 2011.

(7) The Arab spring- Has it failed?

The Economist, 13 July 2013.

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button