دراسات شرق أوسطية

السياسة البريطانية مع العشائر العراقية.. مقدمات ثورة العشرين

محمد عبدالرحمن عريف

البدايات تنأتي بعد أن فرضت الحكومة البريطانية المحتلة سيطرتها على البصرة في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 1914, حيث قامت بتشكيل دائرة الحاكم العسكري, والتي كانت مهمتها القيام بالمهام المستجدة وتألفت من الرائد (داريس براذيلو) رئيسًا والنقيب (ريدبولارد) وهو وكيل قنصل بريطانيا السابق في البصرة (وتوم دكستر) احد قباطنة (السفينة كمين) التابعة للمقيمة البريطانية في بغداد مساعدًا ومترجمًا, وعدد من الضباط والموظفين البريطانيين والهنود والعراقيين, ثم تبعها تشكيل دائرة للشرطة تولاها العقيد (أي جي كريكسون) أحد منتسبي شرطة البنجاب والعديد من العناصر التي جائت من الهند.

هنا كان على الساسة البريطانيين, الاختيار بين طريقتين في التعامل مع نسبة السكان الكبيرة في العراق المتمثلة في العشائر العراقية المختلفة, الأولى إتباع السياسة العثمانية في العهد العثماني المتأخر والتي تجلت في تقوية الإدارة المركزية العثمانية على حساب المشايخ, ونشر الانقسامات والنزاعات بين التحالفات العشائرية لغرض تفكيكها, والثانية هي أعادة المكانة الاجتماعية للعشائر وشيوخها التي كانت تتمتع بها ومحاولة خلق كيان عشائري منفصل عن الكيان المدني السابق واستخدامه كسلاح وقوة توازن مع المتغيرات الجديدة في العراق الجديد.

الواقع أن بريطانيا اختارت الاعتماد على تقوية النظام العشائري في المناطق الريفية بتشريع السلطة القضائية في المناطق العشائرية المدنية, بموجب الأسس الواردة في نظام دعاوى العشائر المدنية والجزائية الذي وضعه هنري دوبس عام 1915, وذكر أنه مستمد من نظام الحكم الذي طبق في بلوجستان بعد أن أنشأه (البر روبرت ساندمان) عام 1875 بعد أن وجد أن النظام العشائري بحالة انحلال.

 في العراق عد هذا النظام ساري المفعول منذ 21 شباط/ فبراير 1916 وكانت فحواه أن أي نزاع باستثناء نزاع الأراضي يكون أحد طرفية أو كليهما من أفراد العشائرية يحال من الحاكم السياسي للمنطقة التي حدث فيها النزاع إلى هيأة قضائية عشائرية تتألف من شيوخ أو محكمين عشائريين لإنهاء النزاع وفقًا للعرف ويرجع إلى الحاكم السياسي القرار النهائي في المصادقة على الحكم أو رفضه.

لقد تكون النظام من (احدى وعشرون مادة) على أن يشمل تطبيقه المناطق التي احتلت والمناطق التي سوف تحتل مستقبلًا، وقد جاء في سبب اختيار هذا النظام لكي يناسب العادات والتقاليد المحلية، وأنه ليس من السهولة تطبيق القانون المدني وقانون العقوبات على افراد العشائر، وأن تشكيل المجالس الادارية المحلية في كل وحدة ادارية عامل مشجع للشيوخ على حفظ الامن والنظام في مناطقهم العشائرية، ولذلك فان المجالس الادارية بدأت تنتشر في مراكز الالوية مؤلفة من رؤساء العشائر حتى أن العديد من الشيوخ أصبحو أعضاء في المجالس الادارية، وفي نفس الوقت شكلت قوات جديدة من ابناء المناطق التي دخلها الانجليز سميت (الشبانة)، والتي وضعت تحت قيادة ابناء الشيوخ وبأشراف مباشر من الحكام السياسيين لتقوم بأعمال الحراسة الليلية ونقل البريد.

قام البريطانيون بتوسيع نظام دعاوى العشائر بعد سيطرتهم على جميع الاراضي العراقية، اذ صدر نظام دعاوى العشائر المدنية والجزائية في 28 تموز/ يوليو 1918، الذي اصبح له قوة القانون التشريعية عند صدور القانون الاساس العراقي (الدستور) في سنة 1925، إذ نصت المادة 114 من الدستور على أن جميع البيانات والانظمة والقوانين التي اصدرها القائد العام والمندوب السامي والتي اصدرتها حكومة الملك فيصل منذ المدة بين اليوم الخامس من تشرين الأول/ أكتوبر 1914 وتاريخ تنفيذ هذا القانون تعد قوانين صحيحة من تاريخ تنفيذها، وبموجب تفسير قانون دعاوى العشائر المدنية والجزائية في (الفصل 40) فإنه يمكن نقل أي ابن مدينة غير مرغوب فيه من الاراضي العشائرية بموجب امر اداري.

قامت الحكومة العثمانية بحملة دعائية في ارجاء الولايات العراقية لحشد التأييد والمساندة ضد الاحتلال البريطاني، فقامت بارسال وفود إلى المدن العراقية المختلفة خاصة مدينة النجف وكربلاء والحلة لغرض الحصول على الفتاوى من المراجع الدينية ضد الاحتلال البريطاني، وعلى اثر زيارة احد الوفود إلى مدينة النجف عقد اجتماع جماهيري في جامع الهندي بحضور عدد من العلماء والمشايخ، اجتمعت فيه الكلمة على وجوب الدفاع عن البلاد الاسلامية، وفي مدينة الحلة عقد اجتماع موسع في الحلة في تشرين الثاني/ نوفمبر 1914 في جامع ابي احواض وكان يعد من ابرز الاجتماعات الحاشدة التي شهدتها مدينة الحلة ودعا فيها السيد محمد القزويني إلى مقاومة المحتلين الاجانب وشارك في الاجتماع عشائر الحلة وابرزهم ابراهيم السماوي شيخ عشيرة خفاجة وسماوي الجلوب وعمران الحاج سعدون وعدد من زعماء الفتلة.

الواقع أن مشاركة ابناء الولايات العراقية بقيادة العلماء كانت فعالة في معارك جبهة الأحواز منذ 20 كانون الاول/ ديسمبر 1914 بقيادة السيد محمد سعيد الحبوبي وشيخ الشريعة والسيد ابو القاسم الكاشاني والسيد مهدي السيد صدر والسيد محمد اليزدي والشيخ جعفر الراضي والسيد كاطع العوادي، والتي ساهمت فيها عشائر الحلة في الجبهة المركزية للقتال ومن بينها عشائر قبيلة زبيد (الجحيش، البوسلطان والسعيد) كما ساهمت عشائر المسعود والفتلة (اهل الهندية) وبني حسن والجبور وعشائر من بغداد وديالى ودليم وبعض عشائر المنطقة الشمالية.

بعد أن انهزمت القوات العثمانية في معركة الأهواز 21 اذار/ مارس 1915, ثم تبعتها الهزيمة في الشعيبة والعمارة، ساهم التقهقر العثماني بانخفاض الروح المعنوية لدى ابناء الولايات العراقية الأمر الذي ادى إلى عودة الكثير من المقاتلين إلى مواطنهم وكانت الحاميات العثمانية في هذه المدن في حالة يرثى لها من الجوع والتعب والارهاق، اضف إلى ذلك أن الحكومة العثمانية كانت من أهم واجباتها في مدينة الحلة البحث عن الجنود الفارين من جبهات القتال وكانت الملاحقة تتم في جميع المناطق حتى الأرياف، زاد من هذا الاحتقان بين اهالي الحلة والعثمانيين انسحاب جنودهم من مدينة النجف في حالة مزرية مشيا على الاقدام الامر الذي شجع اهل الحلة على اعلان التمرد على الدولة العثمانية فأصبحت الحلة ثالث مدينة تعلن العصيان على الحكومة العثمانية .

نعم دخل الأنجليز مدينة الحلة في 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 1917 وقد عينت الحكومة المحتلة (الميجر بولي) حاكماً سياسياً على الحلة واصبحت الحلة مركزاً عسكرياً مهم في الفرات الأوسط. كذلك قامت الادارة البريطانية بتشكيل مجلس قبلي لحل المشاكل العشائرية وقد ضم عدد من الشيوخ البارزين وساهم بتقليل عمليات السلب والقتل وتبنى عملية جمع الضرائب وحشد الفلاحين للعمل في مختلف المشاريع كما قامت الادارة البريطانية بتخصيص مكافأة مجزية لاعضاء المجلس بلغت قيمتها (300) روبية شهرياً وشملت كل من الشيوخ عداي الجريان وهزاع المحيميد وسماوي الجلوب وفيصل ال مغير وسلمان ال كعيد ورشيد ال عنيزان.

كذلك قامت القوات البريطانية بتشكيل قوة من الشبانة في مدينة الحلة وتكونت من صنفين، المجندين المشاة وبلغ عددهم في البداية 280 مجندًا بقيادة خمسة من الضباط البريطانين، اما الصنف الثاني فهم المجندون الخيالة وعددهم 477 تحت امرة خمسة من الضباط البريطانين، وانخرط العديد من ابناء وأقرباء الشيوخ كعبد المحسن السعدون من شيوخ بني حسن في الهندية الذي تولى قيادة الشبانة في المنطقة وتكفلت هذه القوة بواجبات الحراسة في الحلة والمسيب وطريق (حلة- كربلاء) و(الحلة- ديوانية).

 كانت مدن الفرات الاوسط وبالاخص مدينتي النجف وكربلاء الشغل الشاغل للبريطانيين، ليس فقط في قضية الاستفتاء وإنما منذ دخول القوات البريطانية العراق في عام 1914، ذلك أن الفرات الاوسط كان مركز التشيع وما يحمل التراث الشيعي من نزعة الى النقد السياسي للسلطة على مدى السنين اضافة إلى الفلسفة الأمر الذي انعكس على نفسية المجتمع في مناطق الفرات الاوسط.

أشار الحاكم السياسي برسي كوكس في حديثه عن الفرات الاوسط (أن المشكلة المعقدة في منطقة الفرات الاوسط في هذا الوقت أي عام 1917 ليس وجود قبائل كثيرة وإنما وجود مدينتي كربلاء والنجف) وهذا الرأي مشابه لما ذكرته المس بيل عندما ذكرت (نحن كأجانب لا نستطيع التفريق بين السني والشيعي غير أنك لو تركت الأمر بأيديهم فأإهم يتغلبون على الصعوبة بنوع من التحايل والتمويه وكما فعل الاتراك تمامًا… على أن السلطة النهائية… يجب أن لا تكون في دولة يسيرها المجتهد وهو أمر خبيث جدًا.

يمكن القول ان سياسة الاحتواء البريطانية للعشائر الفرات الاوسط تعرضت للاختبار الأول عام 1919 بعد أن استقر الرأي في بريطانيا على قرار يقضي بأقامة استفتاء شعبي لمعرفة رأي البلد في تأسيس حكومة عربية، إذ صدر القرار في 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 1918 وتضمن ثلاثة اسألة: هل يفضل العراقيون دولة عربية واحدة تقوم بارشاد من بريطانيا، تمتد من حدود ولاية الموصل الشمالية إلى الخليج العربي؟، وهل يرون أن يكون أمير عربي على رأس هذه الدولة الجديدة؟، ومن الذي يرشحونه لرئاسة الدولة؟.

عملت الادارة البريطانية بقيادة ويلسون في العراق بأقصى ما تستطيع لكي تأتي نتائج الاستفتاء ملبية لرغباتها المطالبة بحكم العراق بصورة مباشرة من قبل بريطانيا ورفض فكرة اقامة دولة عربية تحت حكم عربي ونجحت في مناطق عديدة من العراق ولم تحقق النجاح المرجو في النجف وكربلاء والديوانية والكاظمية علمًا أن هذه المناطق لم تخلو من مؤيدين للحكم البريطاني المباشر، غير أن رغبة الرافظين هي التي كانت سائدة من خلال الاجتماعات التي عقدت في كربلاء والنجف والكاظمية والمؤتمرات الأخرى في مناطق الفرات الاوسط وكان للعامل الديني والوطني الدور الأبرز في رفض الاستفتاء خاصة الدور الريادي الذي قام به المرجع اية الله الشيرازي.

هنا لابد من القول أنه حتى في المناطق التي خرجت مضابطها مؤيدة لسياسة الحكم المباشر في العراق، كان هناك الكثير من الرافضين لهذه اليساسة خاصة إذا ما علمنا أن الطريقة التي اجريت فيها عملية الاستفتاء كانت صورية أكثر منها واقعية وقد تدخلت الحكومة البريطانية في بصورة مباشرة في العديد من المناطق كما حصل في مدينة الحلة إذ طلبت من الحاكم السياسي فيها حصر عملية الاستفتاء في عدد من الموالين لم يتجاوز عددهم السبعة والذي يمكن الاستدلال من خلاله على مدى الرفض الجماهيري لعملية الاستفتاء، لم يحقق الاستفتاء رغبة ويلسون في طريقة حكم العراق الأمر الذي أدى إلى اتباع سياسة الشدة مع مناطق الفرات الاوسط، إذ قام بتغير كل الضباط المسؤلين عن تلك المناطق.

 الأمر الثاني الذي يمكن الاستدلال على فشل السياسة البريطانية الرفض الواسع لقرار الانتداب الذي صدر عن مؤتمر سان ريمو بتاريخ 25 نيسان/ أبريل 1920، أذ زاد نشاط الحركة الوطنية في مختلف مدن العراق وكذلك نشاط الحركة الدينية من خلال ممثلي المرجعيات وخير مثال على ذلك، التحرك الذي قام به السيد كاطع العوادي أحد قادة ثورة 1920 بأتجاه عشائر الحلة ووجهائها والذي تمخض عنه الاجتماع الجماهيري في جامع الحلة الكبير، اذ ندد فيه الحاضرون بالسياسة البريطانية وكانت نتيجته نفي عدد من الوطنيين إلى خارج العراق، الامر الذي زاد في نقمة الجماهير على الاحتلال البريطاني.

الأمر الثالث الذي برهن على فشل سياسة الاحتواء البريطانية هو المشاركة الواسعة لتلك العشائر في ثورة العشرين خاصة في معركة الرارنجية ومعارك القطار على طريق (حلة –ديوانية)، ومعارك حصار الحلة.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى