تحليل السياسة الخارجيةدراسات شرق أوسطيةنظرية العلاقات الدولية

السياسة الخارجية الجزائرية وتحولات النظام الدولي 1999-2018

لماذا وكيف يمكن أن تتغير السياسة الخارجية للدول هو أحد الأسئلة الرئيسية التي اهتم بها المنظرون في العلاقات الدولية، وتفيد إحدى أشهر المقاربات النظرية التي تم طرحها أن الأصل في السياسة الخارجية للدول هو الثبات والتغير لن يحدث إلا بحدوث تغير في بنية وطبيعة النظام الدولي، والدول تتجه تلقائيًا إلى تغيير توجهات ومرتكزات سياستها الخارجية كنوع من التكيف الطبيعي مع تلك التحولات في النظام الدولي، وسيكون من المنطقي أن نتساءل عما إذا كانت تلك الافتراضات النظرية تفيدنا في فهم التحولات التي بدأت تتجسد في السياسة الخارجية الجزائرية وذلك من خلال العديد من المظاهر سواء ما تعلق بمواقفها اتجاه الأزمات الإقليمية أو علاقاتها مع القوى الكبرى.

عن تحولات النظام الدولي الراهن

لا يمكن للنظام الدولي أن يتغير إلا إذا حدث تغير في بنيته، وكل نظام دولي له نوعين من البنى، البنية المادية والتي تتعلق بعدد القوى العظمى الموجودة وطبيعة العلاقات السائدة فيما بينها، أو باختصار ما يسمى التوزيع المادي للقوة، أما البنية الثقافية فهي تتعلق بطبيعة القيم والأفكار السائدة والتي تشكل المرجعية القيمية والفكرية للنظام الدولي السائد في مرحلة ما.

فالنظام الدولي أحادي القطبية الذي ساد منذ نهاية الحرب الباردة اتسمت بنيته المادية بوجود قوة عظمى وحيدة وهي الولايات المتحدة الأمريكية، تفرض علاقات هيمنة نسبية على القوى الكبرى الأخرى، أما البنية الثقافية لذلك النظام فهي المتعلقة باعتماد مكونات الثقافة الغربية كالديمقراطية وحقوق الإنسان وحكم القانون والليبرالية الاقتصادية باعتبارها المرجعية القيمية والفكرية لذلك النظام.

وإذا كان لنا أن نتلمس التحول في النظام الدولي فيمكن القول إن المرحلة الحالية هي مرحلة التي يتم فيها السعي إلى هدم النظام أحادي القطبية وبناء نظام دولي جديد، وأكثر الدول التي وجهت سياستها الخارجية لتحقيق هذا النظام هي الفيدرالية الروسية، وذلك مرتبط بوصول نخبة سياسية جديدة لسدة القيادة في روسيا يمثلها الرئيس فلاديمير بوتن، وهي النخبة التي يصطلح على تسميتها باللغة الروسية بنخبة “السولوفيكي” وهم في أغلبهم خريجي مؤسسة الاستخبارات الروسية، وهذه النخبة تؤمن أن أكبر خطر على وجود الدولة الروسية هو العالم أحادي القطبية الأمريكي، وبالتالي فإن استمرار هذا النظام يفرض تحديات وتهديدات أمنية مستديمة على الدولة الروسية، كما تؤمن هذه النخبة بأن النظام الأحادي القطبية الذي شكلته الولايات المتحدة هو نظام متحيز وموجه لخدمة مصالح الولايات المتحدة كدولة أولاً.

وعلى هذا الأساس وجهت روسيا كل توجهات سياستها الخارجية باتجاه هدم نظام الأحادية القطبية الذي ساد منذ نهاية الحرب الباردة والتدخل المباشر في مجموعة من الأزمات الإقليمية بالنسبة إلى روسيا ما هو إلى مظهر من مظاهر إصرارها على تحقيق ذلك الهدف، وهذا من خلال السعي إلى هدم البنية المادية للنظام أحادي القطبية، حيث طورت روسيا منظومتها العسكرية بالشكل الذي لا يجعل الولايات المتحدة فيه هي القوة العظمى الوحيدة عسكريًا، وهذا التطوير شمل تطوير منظومة التسلح في جميع المجالات وتوسيع دائرة النفوذ العسكري على المستوى العالمي وتطوير القدرات النووية الاستراتيجية.

وبالتوازي مع ذلك تعمل روسيا على هدم البنية الثقافية لنظام الأحادية القطبية، المرتكز على مكونات الثقافة الغربية في حد ذاتها، من خلال طرح مرجعية قيمية جديدة تستبدل الديمقراطية بالاستقرار فما هو مطلوب وفقًا لهذه الروية أن تنتشر النظم المستقرة وليس النظم الديمقراطية، وتستبدل حقوق الإنسان بالسيادة، فحقوق الإنسان يجب أن تكون خاضعة لمبدأ السيادة ولا تتجاوزه، كما أن العلاقات الاقتصادية الدولية يجب أن تنظم على أساس مبدأ الحمائية وليس على أساس عمل المؤسسات الاقتصادية الدولية وهي مؤسسات تعتبرها روسيا مؤسسات متحيزة وغير حيادية.

إن النقاش عن بداية تآكل النظام أحادي القطبية قد طرح منذ النتائج الكارثية التي ترتبت على السياسة الخارجية الأمريكية بعد حربي العراق وأفغانستان، وقد عبر عنها بشكل مفصل عالم العلاقات الدولية المشهور فريد زكريا في كتابه ذائع الصيت “عالم ما بعد أمريكا”، ولكن ذلك الإطار كان يحتاج إلى جوانب عملية تدعمه، ومن ذلك اعتبار الرئيس السوري بشار الأسد أن التاريخ عادة ما يتضمن نقاطًا مرجعية يختلف النظام الدولي قبلها وبعدها وأن معركة حلب هي نقطة مرجعية سيختلف شكل النظام الدولي بعدها، وعلى الرغم من كل ذلك لا يمكن القول إن النظام الدولي الذي تسعى روسيا إلى تجسيده استقر عمليًا، ولكن النظام الدولي في المرحلة الراهنة يمر بمرحلة انتقالية لم ينته فيها نظام الأحادية القطبية بشكل نهائي، ولم يستقر فيها نظام دولي آخر، وهذه المحددات هي التي تلخص إلى حد بعيد الوضع الراهن للنظام الدولي.

السياسة الخارجية الجزائرية وتحولات النظام الدولي

إلى أي مدى يمكننا القول إن تحولات الموقف الجزائري من الأزمات الإقليمية هو انعكاس للتحولات التي يعرفها النظام الدولي؟ من وجهة نظري أن أثر التحولات الراهنة في النظام الدولي لم تغير من المواقف المبدأية للجزائر بقدر ما وفرت لها حرية أكبر في التعبير عن تلك المواقف.

فالجزائر منذ البداية كانت ترفض ما تسمى بموجة الربيع العربي، والتي كانت ترى فيها حراك موجه يهدف إلى خدمة أهداف جيواستراتيجية، ويقع ذلك في سياق عام مفاده أن الرؤية التي تنشدها الجزائر للعلاقات الدولية في سياستها الخارجية لم تكن تتوافق كثيرًا مع مضامين النظام الأحادي القطبية، وما يثبت ذلك أن الجزائر من الدول العربية والإفريقية القليلة التي حافظت على علاقة متميزة مع روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في حين اختارت الكثير من الدول الأخرى الارتماء في أحضان النظام العالمي الجديد آنذاك والمعبر عنه بالنظام الأحادي القطبية، وعندما أصبح هذا النظام الآن يمر بمرحلة انتقالية فقد أتاح ذلك للجزائر حرية أكبر في التعبير عن مواقفها.

وإذا كان لنا أن نجيب على السؤال إن كان فهم السياسة الخارجية الجزائرية يتم استنادًا إلى رؤيتها المبدأية للعلاقات الدولية أم إلى معطيات النظام الدولي، فيمكن القول إن الجزائر لها رؤية مبدأية للعلاقات الدولية تختلف درجة التعبير عنها على حسب تحولات النظام الدولي، فهذه التحولات لم تغير في أي وقت من الأوقات من طبيعة تلك الرؤية ولكن تؤثر في المساحة المتوفرة للتعبير عنها وإذا كان هناك توافقًا جزائريًا روسيًا اتجاه الكثير من الأزمات الإقليمية فهو يعكس التوافق في الرؤية عن النظام الدولي الذي يجب أن يسود وليس تحالف بنيوي بين الدولتين، فلو كانت الصين مثلاً هي التي تقود تلك التحولات في النظام الدولي لوجدنا بالضرورة توافقًا جزائريًا صينيًا في المواقف اتجاه الأزمات المختلفة، وتلك الرؤية تستند بشكل كبير إلى تقديس مبدأ السيادة والذي تعتبر الجزائر في رؤيتها للعلاقات الدولية أن المساس به هو المدخل الأكيد لكل الفوضى التي يعرفها العالم.

مستقبل النظام الدولي والسياسة الخارجية الجزائرية

قبل سنتين ناقش الكونغرس الأمريكي سبب تراجع النفوذ الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، في مقابل تزايد النفوذ الروسي، وخلص النقاش إلى أن أحد الأسباب الرئيسية التي تفسر ذلك هي أن الكثير من الدول في تلك المنطقة وخاصة حلفائها التقليديين غيروا صورتهم عن الولايات المتحدة باعتبارها حليف غير موثوق به في مقابل توسع صورة الحليف الموثوق بالنسبة إلى روسيا.

فباعتراف المؤسسات الأمريكية نفسها فإن النزعة البراغماتية في السياسة الخارجية الأمريكية أضرت كثيرًا بمصالحها، ولم تبن الجزائر في أي مرحلة من المراحل علاقاتها مع الولايات المتحدة ارتباطًا بخصائص صورة الحليف الموثوق به وينطبق نفس الأمر على العلاقات الجزائرية الأوروبية، ومستقبل النظام الدولي الذي يمر بمرحلة انتقالية في الوقت الراهن ينفتح على ثلاثة سيناريوهات كل منها يفرض توجهات مختلفة على السياسة الخارجية الجزائرية.

السيناريو الأول هو الذي تستطيع فيه روسيا السيطرة على بنية النظام الدولي ماديًا وثقافيًا، وتحقق هذا النظام سيعطي للجزائر دورًا أكبر في العلاقات الدولية ومع ذلك فإن تحقق هذه الصورة للنظام الدولي تشوبها الكثير من العوائق، فمن الناحية المادية لا تزال روسيا ضعيفة وغير مستقرة اقتصاديًا إلى درجة تأثرها بالعقوبات الاقتصادية التي تفرضها الدول الغربية، ومن جهة أخرى فإن التحولات التي تحدث في المجتمعات الغربية من خلال انتشار النزعتين القومية والشعبوية واللتين تتوافقان إلى حد كبير مع الرؤية الروسية لا تعبر عن تحولات بنيوية في المجتمعات الغربية، إذ لا تزال النخب التقليدية وفئات مجتمعية كبيرة بعيدة عن تلك التوجهات، بالإضافة إلى أن تحقق هذا السيناريو مرتبط بقدرة روسيا على تحقيق شرخ بنيوي في العلاقات الأوروبية الأمريكية وهو ما لم يتحقق إلى الآن، كما أن هذا السيناريو مرتبط بالتحالف الوثيق بين روسيا والصين والتي لم تصل علاقاتها إلى هذه الدرجة من التوافق.

ما السيناريو الثاني فهو السيناريو الذي تتحفز فيه القوى الغربية إلى إعادة سيطرتها الكاملة على بنية النظام الدولي، وقد لاحظنا على الأقل من خلال التصويت على القرار المتعلق بمعاقبة مجرمي الحرب في الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي تم التصويت عليه بأغلبية الكثير من دول العالم لا تزال ترتبط بمكونات بالبنية الثقافية للنظام الدولي والتي تعكسها مكونات الثقافة السياسية الغربية التي تقدس حقوق الإنسان.

وفي هذه الصورة للنظام ستتأثر السياسة الخارجية الجزائرية مع الدول الغربية على حسب الاحتياج الغربي للجزائر، ارتباطًا بالنزعة البراغماتية التي طالما ميزت السياسة الخارجية للدول الغربية، فعلى سبيل المثال الدول الغربية الآن غير راضية عن الموقف الجزائري اتجاه النزاع السوري ولكنها تتجاوب إلى حد كبير مع الدور الجزائري في تسوية الأزمة الليبية إدراكًا منها لأهمية هذا الدور، وفي هذا السيناريو كلما قل الاحتياج الغربي للجزائر تم تكريس سلوكات عقابية اتجاهها، ومن هذه السلوكات العقابية المتوقعة أن يتم التقليل من الأهمية الاستراتجية للجزائر بالنسبة للدول الغربية عبر إيجاد مصادر طاقوية بديلة، وهذا المدخل سيشكل تحولاً جوهريًا في علاقة الجزائر بالدول الغربية ستترتب عليه تحديات ذات أهمية بالنسبة للجزائر كدولة.

أما السيناريو الثالث فهو أن يتجه النظام الدولي في اتجاه حرب باردة جديدة ومن وجهة نظري فإن هذا السيناريو هو الأكثر تحديًا بالنسبة للسياسة الخارجية الجزائرية، لأنها ستكون مجبرة على إيجاد علاقة متوازنة بين مساحة الاستقلالية ومساحة الانحياز في سياستها الخارجية.

بلخيرات حوسين

باحث جزائري في العلوم السياسية

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى