دراسات سياسية

مفهوم السلطة بين الأمّة والملّة

يُروى أنّ رسولَ الله سأل معاذَ بن جبل عندما أرسله إلى اليمن ليكون حاكمًا عليها: “كيف تقضي إنْ عُرض لك القضاءُ؟” فأجابه: “أقضي بما في كتاب الله.” فقال رسولُ الله: “فإنْ لم يكن ذلك في كتاب الله؟” فقال معاذ: “بسُنّة رسول الله.” فقال الرسول: “فإنْ لم يكن في سُنّة رسول الله؟” فقال معاذ: “أجتهدُ رأيي ولا آلو.” فضرب رسولُ الله صدرَه بيده وقال: “الحمد لله الذي وفّق رسولَ الله لما يرضي الله!”
لعلّ هذا المدخلَ التاريخيّ يصلح أن يكون مقدِّمةً لتناول مفهوم “المشروعيّة” بمعناها المعاصر، أو ما يسمّى أحيانًا “سيادة القانون،” أو “المشروعيّة الاشتراكيّة” في التطبيقات الاشتراكيّة. تشتبك جذور كلمة المشروعيّة (Legality) مع جذور كلمة الشرعيّة (Legitimacy)؛ فقد جاءتا من أصولٍ واحدة، أساسُها الشرع أو الشرعة أو الشريعة. ولئن كان نطاقُ حقل المشروعيّة هو القانون، ونطاقُ حقل الشرعيّة هو السياسة، فثمّة علاقةٌ ديناميّة بين المفهوميْن، يحدث خلطٌ بينهما، في حين يقتضي التفريقُ، لأنّهما يشيران إلى معنييْن مختلفيْن.
المشروعيّة لا تقوم على فلسفة محدّدة، وإنّما هي فكرة عامّة ينطبق حُكمُها على كلّ مجتمع منظّم أيًّا كانت عقيدته، لاسيّما في الدولة الديمقراطيّة المعاصرة، التي تخضع – مبدئيًّا – للقانون من حيث التشريع والإدارة والقضاء. وبهذا المعنى، ستكون المشروعيّة موافقة لحكم القاعدة القانونيّة الخاصّ بوقوع عمل أو تصرّف.
والقانون هو مجموعة القواعد الملزمة التي تنظّم علاقاتِ أفراد المجتمع في ما بينهم، وتحدّد واجباتِهم وحقوقَهم وعلاقتَهم بالدولة، من خلال “سلطةٍ” تفرض جزاءاتٍ عند مخالفة تلك القواعد، بما يؤمّن بقاءَ المجتمعات واستمرارَها وكفالةَ “الخير العامّ.” ويمكن القول إنّه لا يوجد قانون غير القانون الذي تضعه السلطة، وتخضع له جميعُ التصرّفات القانونيّة التي تقوم بها الدولةُ أو الأفراد. أمّا الدستور (Constitution)، فينبغي لجميع القوانين ألّا تتعارضَ معه لأنّه القانون الأسمى أو “الأساسيّ.” وهكذا سيكون معيارُ “مشروعيّة” أيّ قاعدة قانونيّة جديدة هو مدى توافقها مع الدستور، الذي ينبغي أن تكون قراراتُ الدولة منسجمةً معه بحكم الاختصاص الذي تمثّله.

منذر الشاوي: على دولة المشروعيّة، لكي تكون شرعيّةً أن تُرضي الناس

وبحسب الدكتور منذر الشاوي، فإنّ الوضعيّة القانونيّة للدولة قطعت العلاقةَ بين عالم القانون وعالم السياسة. وهنا يميّز بين “المشروعيّة” و”الشرعيّة” عندما يطرح سؤالًا: إلى متى تكون السلطة شرعيّةً، ومن ثمّ واجبةَ الطاعة، ومتى لا تكون شرعيّة ولا تستوجب الطاعة؟ الجواب: إذا كانت دولةُ القانون هي دولة المشروعيّة، أي توافقتْ مع نظام الدولة القانونيّ، فعليها لكي تكون شرعيّةً أن تقوم على رضا الناس وتأييدهم.
في الإسلام نفسه لا يقوم مبدأُ الشرعيّة على فرض طاعة الناس للدولة، لاسيّما في حكم المعصية، إذ ورد في الحديث: “لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.” أمّا مبدأ سيادة القانون في الإسلام، فهو أقربُ إلى مبدأ الدولة القانونيّة العصريّة، وذلك باعتباره خصيصةً من خصائصها الجوهريّة (ونعني بهذه الخصيصة: التوافق مع الشريعة).
إنّ هذا التلازم بين الشرعيّة والمشروعيّة في دولة حكم القانون هو الذي يفرِّق بين الدولة الناجحة والدولة الفاشلة. فالأولى هي التي تحوز فيها السلطةُ رضا الناس؛ أمّا الثانية فلا يمْكن السلطةَ القابضة إقناعُ الناس بتأييدها، وهذا يعني أنّ شرعيّتها ستكون قيد الاختبار وقد تعصف بها الريح.
بمثل هذه الثنيّة التي تقوم عليها المجتمعاتُ البشريّة، أيْ المشروعيّة والشرعيّة، يمكن إدراكُ العلاقة السالكة (الإيجابيّة) والعاثرة (السلبيّة). وفي كلّ الأحوال، فإنّ الحضارة البشريّة تستمرّ، ولكنّها تكون أكثرَ إنسانيّة وعدلًا كلّما حصل التوازنُ بين المشروعيّة والشرعيّة. وهذا ما تسعى إليه الدولُ العصريّة، بغضّ النظر عن اختلاف أنظمتها السياسيّة والاجتماعيّة.

الدولة العربيّة والمواطنة
فكرة “الدولة” حديثةٌ جدًّا في المنطقة العربيّة، وفكرةُ “المواطنة” أكثرُ حداثةً منها وجاءت انبثاقًا عنها، على الرغم من وجود تجارب “دولتيّة” في العهد الراشديّ الأوّل، أو عند تأسيس الدولة الأمويّة، بدواوينها ومراتبيتها التي توسّعتْ وتطوّرتْ في ظلّ الدولة العباسيّة، والدولة العثمانيّة فيما بعد. أمّا الدولة المعاصرة في أوروبا فقد خطت خطواتٍ واسعةً على هذا الطريق، من خلال تراكمٍ دستوريّ وقانونيّ، لاسيّما فكرة المواطنة التي اغتنت في القرن العشرين باعتبارها “حقًّا” من الحقوق الأساسيّة للإنسان.
وإذا كان مفهوم المواطَنة جنينيًّا في الدولة العربيّة – الإسلاميّة، خصوصًا في ما يتعلّق بتحديد مسألة الهويّة، ناهيكم بالحقوق الإنسانيّة، فإنّ هذا الحقّ اكتسب بُعدًا جديدًا في الدولة العصريّة، ومنها الدولة العربيّة – الإسلاميّة على الرغم من الثغرات التي ما تزال تعانيها قياسًا بالتطوّر الدوليّ.
تكرَّس مبدأُ “الحقّ في المواطَنة” في أواسط القرن العشرين، خصوصًا بصدور الإعلان العالميّ لحقوق الانسان لعام 1948 والعهد الدوليّ الخاصّ بالحقوق المدنيّة والسياسيّة العام 1966، والعديد من الوثائق الدوليّة، التي أكّدتْ أنّ لكلّ فرد في أيّ مكان من العالم الحقَّ في أنْ تكون له صلةٌ قانونيّةٌ بدولة من الدول.
ويُستخدم، في القانون الدوليّ، مصطلحُ “المواطنة،” الذي يوازيه مصطلحُ “الجنسيّة” بالتبادل فيما بينهما، حين يجري الحديثُ عن منح الأشخاص الحقَّ في حماية دولةٍ ما، إلى جانب حقوقٍ سياسيةٍ ومدنيّة تشكّل ركنًا أساسيًّا في هويّة الفرد – الإنسان. ويمكن تعريفُ المواطنة الحيويّة أو العضويّة بأنّها “الحقّ في الحصول والتمتّع بالحقوق بصورةٍ عادلة.”
وإذا كان الحقّ في المواطنة قد ضمنه القانونُ الدوليّ، فإنّ ذلك لم يمنع من بقاء ملايين البشر من دون جنسيّة، الأمر الذي ينتقص من مبدأ الحقّ في المواطنة. ولعلّ المثل الأكثر سفورًا في العالم العربيّ هو تهجيرُ الفلسطينيين منذ العام 1948 وإسقاط حقّهم في وطنهم، وجعلهم عرضةً لانعدام الجنسيّة. ولا شكّ في أنّ اتّساع حالات اللاجئين هي التي دفعت الأممَ المتحدة إلى إنشاء مكتب للمفوضيّة السامية للاجئين.

المثل الأكثر سفورًا على بقاء ملايين من البشر من دون جنسية هو تهجيرُ الفلسطينيين

عرف الوطنُ العربيّ حالات كثيرة من المواطنة المنقوصة، كما حصل للمهجّرين العراقيين عشيّة الحرب العراقيّة – الإيرانيّة وخلالها، ومعظمُهم من الأكراد الفيليين، اذ انتُزعتْ جنسيّتُهم وصودرتْ أملاكُهم في العراق بحجّة التبعيّة الإيرانيّة، ولم يُعترفْ بهم في إيران أيضًا، فعاشوا من دون جنسيّة أو وطن أو مواطنة. ولعلّ ما حصل بعد الاحتلال الأمريكيّ للعراق عام 2003، واضطرار مئات آلاف العراقيين إلى الهجرة عن وطنهم، جعلهم في معاناة دائمة. ومثلهم “المكتومون” من الأكراد السوريين الذين لم يحصلوا على الجنسيّة، وبالتالي على حقوق المواطنة. وهناك “البدون” في الكويت وبعض دول الخليج التي حرَمتْ عشراتِ الآلاف منهم حقوقَ المواطنة. إضافةً إلى الكثير من الحالات والإشكالات، مثل حرمان الأولاد من الحصول على الجنسيّة عن طريق الأمّ، لأنّ الغالبيّة الساحقة من قوانين البلدان العربيّة لا تسمح بذلك؛ الأمر الذي خلق مشاكل لا تتعلّق بالحقوق المدنيّة والسياسيّة فحسب، بل بالحقّ في التعليم والتطبيب والعمل وغير ذلك أيضًا.

الجنسيّة والمواطَنة
لم يظهر مفهومُ الجنسيّة، بوصفها رابطةً قانونيّةً وسياسيّةً وأداةً للتمييز بين الوطنيّ والأجنبيّ، إلّا في وقتٍ متأخّر، يُرجعه البعض إلى بداية القرن التاسع عشر. وإذا كانت الرابطة بين الفرد والجماعة قد قامت في السابق على اعتبارات دينيّة، أو تاريخيّة (انحدار من أصول معيّنة)، أو بسبب الإقامة في رقعة جغرافيّة بصورة استقرار دائم، فإنّ العلاقة اتّخذتْ شكلًا آخر في الدولة الحديثة، لاسيّما في إطار فكرة المواطنة.
ففي العهود القديمة كانت الأسرة هي التي تمثّل الخليّةَ أو الوحدةَ التي يجتمع في نطاقها الأفرادُ، وعن طريق تجمُّع الأُسَر تنشأ العشيرة أو القبيلة التي تجمع الأصولَ العائليّة والديانة والاستقرار. أمّا مفهوم “الأجنبيّ” سابقًا فكان يعني كلَّ مَن لا يرتبط مع أفراد القبيلة أو العشيرة بالعوامل المذكورة، حتى ليمكن اعتبارُه عدوًّا يستحقّ القتلَ أو خصمًا يستوجب الإبعادَ. وظلّت العوامل والأسس العرقيّة سائدةً حتّى بعد اجتماع العشائر أو القبائل في مدينة واحدة يحكمها شخصٌ أو مجموعةُ أشخاص، كما هو شأن أثينا وسبارطة.
في كتاب القوانين لأفلاطون، يخضع القانون للمجتمع أكثرَ ممّا يخضع للأخلاق السامية المجرّدة. أماأرسطو فيؤكّد في كتابه، السياسة، على ضرورة أنْ تكون القوانينُ رشيدةً وتلائم “مجتمع الدولة.” وكان المواطنون في بعض المدن اليونانيّة يتمتّعون بحقوق المساواة أمام القانون (Isnomia)، والاحترام المتعادل للجميع (Isotimia)، والحقوق المتساوية في التغيير (Isogoria)؛ وتلك هي الحقوق الأساسيّة التي أصبحت معروفةً في عالمنا المعاصر. لكنّ ذلك لم يمنع التمييزَ بين السادة (النبلاء) وهم المواطنون، والعبيد، وفئةٍ ثالثةٍ هم المحاربون أو الجند. وقد اعتقد اليونانيون بتفوّقهم على سائر الشعوب، لذلك كانت الحروب والفتوحات هي أساس العلاقة مع الآخر/ الأجنبيّ.
أما في العهد الرومانيّ فقد كان التمييز بين ثلاثة طوائف: أ) المواطنون، وهم الرومان من سكّان عاصمة الامبراطوريّة. ب) الرومان خارج مدينة روما (اللاتينيّون)، ويتمتعون بالحقوق المدنيّة والسياسيّة، إلّا أنّ الأمر يتوقّف على تجنيسهم. ج) البرابرة أو طائفة الأجانب، وهم سكّان المناطق المحتلّة الذين يخضعون للإمبراطوريّة الرومانيّة، وهؤلاء يتبَعون قانونًا خاصًّا بهم، يسمّى قانون الشعوب Jus Gentium، ويُعتبر استمرارًا لفكرة “القانون الطبيعيّ” اليونانية التي اقتبسها شيشرون من الفلسفة الرواقيّة، بالتأكيد على مبدأ العدالة وإعطاء كل ذي حقّ حقّه. وفي الواقع، لم يتمتّع رعايا الشعوب بأيّ حماية قانونيّة.
مع بدء مرحلة القرون الوسطى، وتفتّت المجتمع اليونانيّ – الرومانيّ، لعبت الكنيسة دورًا كبيرًا في تنظيم المجتمع، فقال القديس أوغسطين (عاش في القرن الخامس) إنّ “العدالة الحقّة” لا توجد في دولة ملحدة.
خلال فترة هيمنة الاقطاع، أصبح الشخص تابعًا للإقطاعيّة التي يحكمها أمير، أو سيّدٌ اقطاعيّ، يملك الأرضَ ومن عليها. هنا اختفى التمييزُ بين المواطن أو الوطنيّ والأجنبيّ، إذ كانت سلطة الاقطاعيّ تنطبق على سكّان المقاطعة بكاملها، وكان حكمُ كلّ أجنبيّ أنْ يغادرها خلال فترة محدّدة بموجب أمرٍ من الاقطاعيّ.
لكنّ الأمر اتخذ منحًى آخر بصعود الأنظمة الملكيّة التي ألغت النظامَ الاقطاعيّ، وأصبح الأشخاص يرتبطون بالملِك الذي يُعتبر حاميَهم والمدافعَ عنهم، في حين كانوا يدفعون له الضرائب ويؤدّون الفروض العامة.
اتّسم عصر النهضة، وبخاصّةٍ القرنان السادس عشر والسابع عشر، باتساع ساحة الفكر السياسيّ والقانونيّ لمفكّرين كبار. فاهتمّ جان بودان بفكرة السيادة. وأعار هوغو غروشيوس اهتمامَه القانونَ الدوليَّ وفكرةَ الدولة والقانون. أمّا هوبز، فأكّد تلازمَ الحريّة وضرورة أن يسدّ الحاكمُ احتياجاتِ الرعية. ورأى روسّو أنّ للأفراد حقوقًا قبل أن يكونوا في مجتمعٍ منظَّم، وأنّ بعضَ هذه الحقوق غيرُ قابلة للتصرّف، وعلى الدولة مراعاتها ليس بسبب شروط العقد حسب، بل بسبب طبيعة الانسان كذلك. وأمّا مونتيسكيو فقد دعا إلى “فصل السلطات” باعتباره حجرَ الزاوية في توفير الحريّة مؤكّدًا فرض الرقابة على السلطات. وقد ذهب كانط إلى تأكيد مفهوم الحريّة الأخلاقيّة للإنسان، ودور العقل، مشيرًا إلى إلزام الفرد ببعض التقييدات على حريّته تأمينًا لحريّة الغير.

المواطَنة في الإسلام
إذا كانت هذه المقدّمات ضروريّةً للتفريق بين حقوق المواطن وحقوق الأجنبيّ، في موضوع الجنسيّة والمواطنة، فلا بدّ من وقفة سريعة عند تطوّر مفهوم المواطَنة في الإسلام، خصوصًا في إطار الدولة العربيّة – الإسلاميّة.
في عهد النبيّ محمد، بلورت الدولةُ قواعدَ جنينيّةً سياسيّة، وقضائيّة، لتنظيم المجتمع. وساهمت السُّنّة في الإجابة على الكثير من الأسئلة التي كان يطرحها المجتمعُ الإسلاميّ.
وتطوّر الأمر في عهد الخلافة الراشديّة، لناحية العطاء في الغنائم وامتيازات المواطنة والمحاربين. فاعتمد الخليفة الأوّل مبدأ المساواة من دون اعتبار للقِدم في دخول الإسلام، أو القرابة من النبيّ، أو البلاء في الحرب من أجل الإسلام؛ الأمر الذي خلق إحساسًا اسميًّا بالمساواة، وشجّع العديدَ من العرب على الالتحاق بالجيش الإسلاميّ.
أمّا الخليفة عمر بن الخطاب فاستحدث منصبَ مسؤول بيت المال، وسنّ عدّة قرارات، منها مراتبيّةُ الأعطيات. كما أوجَد ديوانًا للجند، مشدِّدًا على مبدأ القِدم في الإسلام والبلاء في خدمته والانتماء العربيّ معيارًا للمواطنة أو لمفهوم الجنسيّة المعاصر.
واتّخذ الخليفة الثالث عثمان بن عفّان التصنيفَ الذي اتّبعه عمر دليلًا للانتماء والمواطنة، بل زاد في تضييقه، فنالت قريشُ حصّةَ الأسد في إعادة التعيينات السياسيّة والعسكريّة. وهذا النهج حاول الخليفة الرابع، الإمام عليّ، مراجعتَه بروح النقد، إلّا أنّ اندلاعَ الحرب الأهليّة بينه وبين معاوية أثّر في عناصر الاستقطاب والولاء. فقد شعر بعضُ الموالين بالغبن الشديد، إذ جرى التمييزُ في حقّهم، خلافًا للإسلام الذي دعا إلى المساواة وفقًا لقول الرسول “لا فرقَ بين عربيّ وأعجميّ إلّا بالتقوى” و”الناس سواسية كأسنان المشط.” فعلى الرغم من “إسلامهم وإسهامهم في دفع الديّات والمشاركة في القتال وفي الأمور العامّة، فقد أُغلقتْ دونهم، في القرن الأول للإسلام على الأقلّ، الوظائفُ…. وإنْ تولّى بعضُهم القضاءَ فقد ندَر مَن تولّى مناصبَ إداريّةً وعسكريّةً هامّة.”
ولئن كان الإسلام دينًا عالميًّا يسعى إلى بسط نفوذه على العالم أجمع، فقد كان ينظر إلى العالم على أنّه منقسمٌ إلى قسمين: دار الإسلام ودار الحرب.

في عهد النبيّ محمد، بلورت الدولةُ قواعدَ جنينيّةً سياسيّة، وقضائيّة، لتنظيم المجتمع

– فالدار الأولى تعني الأقاليمَ التي يبسط المسلمون عليها ولايتَهم، وتضمّ إلى جانب المسلمين أشخاصًا من غير المسلمين، وهم الذميّون والمُستأمَنون. الذميّون هم أهلُ الكتاب، الذين فضّلوا الاحتفاظَ بديانتهم الأصليّة مقابلَ دفع الجزية، ولذلك فهم مواطنون يتمتّعون بالحماية والعيش بأمان، ولكنْ بشروط الدولة الإسلاميّة. أمّا المُستأمَنون، فهم القادمون من دار الحرب إلى دار الإسلام؛ إنّهم “أجانب” دخلوا إلى دار الإسلام بإذنٍ من الدولة الإسلاميّة، لغرض التجارة أو غيرها.
– أمّا دار الحرب فهي التي لا تمتدّ إليها الولايةُ الإسلاميّة، ولا تُطبَّق فيها الشريعةُ الإسلاميّة، بل لها نظامُها الخاص. وقد انعقدتْ بين دار الإسلام ودار الحرب معاهداتُ سلام أو هدنات.
لم يظهر المفهومُ الحديثُ لـ”الجنسيّة” في العالم العربيّ إلّا في سنوات متأخّرة بفعل الاحتكاك مع أوروبا، وبقصد التمييز بين مواطني الدولة الإسلاميّة وغيرِهم من الأجانب. وإذا كان مصطلح “المواطن” (citizen)، أيْ الفرد المشارك في الشؤون المدنيّة والسياسيّة بحريّة، غريبًا تمامًا في الإسلام، فإنّ عبد الوهّاب الأفندي يعتبر وجودَ “المسلم” رديفًا لكلمة “المواطن” الحديثة، بمعنى تمتّع الفرد (في بدايات المجتمع الاسلاميّ) بعضويّة كاملة وفوريّة في المجتمع السياسيّ.
وكان الإسلامُ الأوّل، وبخاصةٍ في عهد النبيّ، يولي اهتمامًا كبيرًا آراءَ المسلمين، الذين كانوا يعبّرون عنها في لقاءاتهم اليوميّة خمس مرّات (أوقات الصلاة). لكنّ امتداد سلطان الدولة الإسلاميّة إلى أقاليم بعيدة، وبخاصةٍ العراق ومصر، اضطرّ هؤلاء إلى تصريف أمورهم بأيديهم، بعيدًا عن الرأي اليوميّ والحوار المستمرّ بين مركز الدولة وقيادتها العليا. وتدريجيًّا بدأت البيروقراطيّةُ تُبعد المواطنَ (المسلم) عن المشاركة في تصريف أمور الدولة.
وظلّت فكرةُ التمييز بين حقوق “المسلم” و”الغريب” أو “المقيم” من غير المسلمين مستمرّةً حتّى العصر الحديث، حيث تداخلتْ لصالح الأخير بفعل ضغوط غربيّة للحصول على “نظام الامتيازات” (Capitulation) من الدولة العثمانيّة للمسيحيين؛ وهو ما أعطى انطباعًا أحيانًا أنّ غيرَ المسلمين الذين حظوا بدعم الغرب تجاوزوا خطَّ الدفاع عن مبدأ المواطنة الكاملة، أو المتساوية مع غير المسلمين، إلى الحصول على امتيازات تحت حماية القوى الأجنبيّة. لكنّ غياب مبدأ المساواة، ونقص مبدأ المشاركة، ولاسيّما في تولّي الوظائف العليا، هما اللذان خلقا الشعورَ بالغبن والإجحاف الذي ظلّ غيرُ المسلمين يعانونه، خصوصًا عندما يتعرضون لحملات عنف تستهدف وجودهم.
ويعود أحد أسباب استفحال ظاهرة الشعور بالتمييز وعدم المساواة لدى المسيحيّ بشكل خاصّ، وغير الإسلاميّ بشكل عامّ، إلى تنامي تيّارات طائفيّة متطرّفة في العقود الثلاثة الماضية. وقد أدّى ذلك إلى تراجع هوامش الحريّات، وقلّص من فرص التسامح. ولا شكّ أنّ هناك أسبابًا سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة أيضًا، تقف خلف انحسار دور المسيحيين واختيار بعضهم الهجرة، الأمر الذي عاظم من شعورهم بالاغتراب عن مجتمعاتهم، لاسيّما عند التعامل معهم “كأقليّة” بمعناها السلبيّ.

مقاربة مسألة المواطَنة في البيئة العربيّة والإسلاميّة
بالإمكان القول إنّ الموقف الذي حكم الدولةَ العربيّة الحديثة كان قاصرًا واستعلائيًّا في نظرته إلى المواطنة والأقليّة. وهذه النظرة عوّقتْ ترسيخَ سلطة الدولة والتوجّه نحو المجتمع المدنيّ؛ فالأقليّة، بحسب وجهة النظر هذه، قد تكون “متآمرة” أو “انفصاليّة.”
وظلّ المجتمع العربيّ يعاني الموروثَ السلبيّ، بما فيه الدينيّ، خصوصًا في النظرة الدونيّة إلى المرأة، وعدم الإقرار بالتعدديّة السياسيّة والفكريّة والاجتماعيّة والقوميّة والدينيّة.
وقد حدث تطوّر بطيء باتجاه إقرار حقّ المواطنة الكاملة لدى بعض المفكّرين الإسلاميين، مع أنّ المسألة لم ترتقِ إلى الحقّ الدوليّ المنصوص عليه في لوائح حقوق الإنسان. ويمكن على هذا الصعيد الإشارة إلى المفكّرين الإسلاميين مثل فهمي هويدي، وطارق البشري، وسليم العوّا، وأحمد كمال أبو المجد، وراشد الغنوشي، ومحمد باقر الصدر، ومحمد مهدي شمس الدين، ومحمد حسين فضل الله وغيرهم.
وعلى الرغم من محاولات التجديد، فإنّ الاتّجاه الإسلاميّ السائد ما زال ينتقص من مبدأ المواطنة الكاملة، التي يقصرها على الانتساب الدينيّ والإقامة. فالمسلمون غير المقيمين في الدولة الإسلاميّة، وغير المسلمين المقيمين فيها، لا يحقّ لهم التمتّعُ بحقوق المواطنة الكاملة. وربّما يصبحون مواطنين في حال قبولهم بشرعيّة الدولة الإسلاميّة، لكنّهم لن يصبحوا مواطنين بالكامل، ولن يحقّ لهم تسلّمُ مناصب رئيسة في الدولة (مثل رئاسة الدولة، ورئاسة القضاء، ورئاسة البرلمان، وقيادة الجيش).

على الرغم من محاولات التجديد، فإنّ الاتّجاه الإسلاميّ السائد ما زال ينتقص من مبدأ المواطنة الكاملة

في استقراء التجربة الإسلاميّة، تبدو إيران لافتةً؛ فقد حقّقت الثورةُ الإسلاميّة الإيرانيّة عام 1979 انعطافةً جديدةً في الفكر الإسلاميّ، وأنشأتْ مؤسّسات تساوقًا مع الموجة “الديمقراطيّة” (برلمان،…). بعد الحرب العراقيّة – الإيرانيّة خرجتْ إيران من مرحلة الثورة، لتدخل مرحلة الدولة. ولم يكن ذلك في معزل عن صراع سياسيّ وفكريّ حادّ داخل أوساط التيّار الدينيّ: بين تيار إصلاحيّ، وآخر محافظ، ولكلٍّ مبرّراته بشأن إدارة الدولة واستمرار الثورة في ظلّها. ففي حين يجنح التيّار الإصلاحيّ إلى ترسيخ مؤسّسات الدولة، ويعتبر الثورة جزءًا من التاريخ، يميل التيّار الثوريّ الراديكاليّ إلى مواجهة التحدّيات الخارجيّة والداخليّة التي تعترض الدولة بروح الثورة التي لا يريد لها أن تخفت. وهنا الفارق بين الشرعيّة الثوريّة والشرعيّة الدستوريّة. وقد أثارت بعضُ التصرّفات انتقادات شديدة بشأن استمرار الشرعيّة الثوريّة، بما فيها نصّ الدستور الذي يشترط للترشح لرئاسة الجمهوريّة التحدّرَ الفارسيّ؛ ناهيكم بالشروط الخاصّة بولاية الفقيه أو حكم العلماء، وهو ما ينتقص من مبدأ المواطنة والمساواة.
ويمكن القول إنّ المحاولات الإسلاميّة في إعادة تعريف المواطنة لم تبلغ، حتّى الآن، المدى الذي وصلتْ إليه التجربةُ الكونيّة. ويلزم مبدأَ المشاركة منحُ المواطنين غير المسلمين الحقوق نفسها التي يتوقّع منحها المواطنين في الجانب الآخر. وهذا يعني عدمَ أخذ الانتساب الدينيّ كليًّا عند التفكير بهذه القضيّة.


عبد الحسين شعبان 
2019 / 6 / 3 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى