قضايا فلسفية

العبقرية والابداع – أيوب الوكيلي

العبقرية فعالية بشرية مشترك بين جميع الأمم، إذ لا يوجد مجتمع يفتقد المبدعين بشكل كلي يجود عباقرة في كل المجتمعات، والعبقري لديه القدرة على تناول موضوعات شتى، حيث يمتلك مواهب وقدرات متنوعة لكنه، حين يتخصص في موضوع محدد يغير المعايير والمقاييس في مجاله، و للعبقرية صلة بالجنون بالمعنى المجازيّ يقصد به التفوق العقلي، والنبوغ الظاهر والنباهة الجلية. و نرى أن ارتباط العبقرية بالجنون جاء ليؤكد أن الأفذاذ من الناس لديهم قدرات وطاقات إبداعية أو إنتاجية أكثر من غيرهم، سواء كان ذلك في مجال العلم والقيادة والأدب، أو في أي مجالٍ آخر يظهر فيه نبوغهم وتفوقهم ، في هذا السياق يقول الفسلسوف سينكا “ليس من عبقرية عظيمة دون أن يكون فيها مس من جنون” و يقول غوته ” أن ما نسميه روح العصر، ليس إلا روح الحكماء التي كشف العصر من خلالهم عن نفسه ” وهذا هو المعنى الذي أقره راسل حين اعتبر أن التاريخ هو نتاج لبعض المئات من العباقرة والمبدعين، الذين إذا ثم الغائهم لعاد الإنسان إلى عصر الجاهلية، هؤلاء المبدعين هم من صنعوا التاريخ على سبيل المثال أنجز أينشتاين 248 مادة منشورة، وأنجز داروين 119 مقالة علمية، وانجز موزارت 600 مؤلف موسيقي، إذ نحن ندين لهؤلاء العباقرة في تقدم الحضاري الإنسانية.
في هذا المقال سوف نحاول سبر أغوار العبقرية و الإبداع، بحيث نعرف الخصائص والعوامل التي تساعد على نومها وتطورها، وفي هذا الصدد يمكن طرح التساؤلات التالية: ماهي العبقرية؟ ؟ هل العبقرية شيء طبيعي أم يمكن اكتسابها وتعلمها؟ ما طبيعة العلاقة الموجود بين الذكاء والعبقرية؟ هل الطبيعة هي التي تخلق العبقرية أم المجتمع ؟

خصائص الشخص العبقري والمبدع:

العبقري الحقيقي كما يقول صامويل جونسن” هو بمثابة عقل ذي قوة عامة كبيرة، تحول الصدفة نحو هدف خاص محدد” لهذا فإن معظم العباقرة يمتلكون ذكاء فوق المتوسط ويتميزون باهتمامات فكرية وأدبية متنوعة تقودهم إلى تخليد أسمائهم على المستوى الإنساني، لأنهم يشتغلون على عبقرتهم وذكائهم، ولديهم حب الاطلاع وطرح الأسئلة منذ السنوات الأولى من عمرهم ولديهم حس ونزوع إلى القمة والقيادة، لهذا فإن مجمل المبدعين مبادرون، وهذا هو الشيء الذي جعل ستيفن كوفي يجعل عادة المبادرة أول عادة لدى الشخصيات الأكثر نجاحا وفعالية.

و العبقري هو الشخص الذي يتمتع بقدر من الذكاء والفاعلية والإبداع العالي، الذي يساعده على تحقيق منجزات عملية باهرة في حقل من الحقول، وبهذا المعنى تكون عناصر العبقرية هي الأصالة، والإبداع، والقدرة على التفكير والعمل والإنجاز في مجالات لم تستكشف من قبل ، و يظهر نبوغاً عالياً جداً، ويأتي بأعمال عبقرية في مجال أو أكثر من المجالات التي يقدرها المجتمع. كما تشير العبقرية أيضا إلى مستوى من الكفاءة و القدرة على الإنجاز الذي يتجاوز حتى معظم المعاصرين في نفس المجال، وقد ذهب غولتون، الذي كان أول من درس العبقرية دراسة نظامية، إلى القول بأنها حصيلة ثلاثة معايير : الذكاء، والحماسة، والقدرة على العمل والإنجاز.

العبقرية فطرية أو مكتسب:

يوجد صراع بين النظريات التي تفسر الإبداع والعبقرية البشرية، إذ توجد النظرة الطبيعية الفطرية، التي تؤكد على أن الإبداع و العبقرية تتحدد من خلال البعد الوراثي، بمعنى أخر أن العبقرية ثورت بيولوجيا، بيد أنه توجد نظريات أخرى تؤكد على أهمية البعد البيئي والمحيط الثقافي في تحديد البنية التي تساهم في نمو الإبداع وتطوره، لأن النظام المجتمعي والتعليمي يعد مصدر مهما في تنمية العبقرية داخل شخصية المبدع.
فمن الملاحظ أن غالبية المفكرين والقادة والفلاسفة والمخترعين العباقرة العظام والمبدعين أمثال : بوذا وكونفوشيوس وأرسطو وأفلاطون و زينون وأرخميدس وكانط وهيوم وماركس وماكسويل والاسكندر ونيوتن وأينشتاين، لم يكن أباءهم مبدعين، وهذا دليل قوي على عدم توريث الأبناء العبقرية , لا تورث بيولوجياً ولا تورث اجتماعياً.
لهذا فإن الدراسات العلمية الحديث تقارب العبقرية من زاوية مركبة وتفاعلية تؤكد على أن الإنسان هو مزيج بين الطبع والتطبع، أي أنه قادر على مواجهة طبيعته وإعادة بناءها وهيكلتها، إذ أن العوامل الوراثية والبيئة الثقافية والأسرة والمجتمع، إضافة إلى المرحلة التاريخية، والمنظومة التعليمية والتربوية، كل هذه العوامل وغيرها تساهم في صناعة المبدع والعبقري.

علاقة بين الإبداع والذكاء:

العقل البشري يحتوي على قدرات عجيبة وغريبة، لكن نحن معشر البشر لا نستخدمها بشكل متميز، وكأنه يوجد صوت داخل أدمغتنا يوقفنا ويمنعنا من تحقيق ما نريد من أهداف وإبداعات، وهذا من خلال عملية العجز المكتسب باعتباره أخطر عدو يتهدد عقل، لأنه مرن يتكيف مع البيئة الخارجية والظروف المحيطة به، الفرد يتأقلم مع الظروف والمحيط الذي يعيش فيه، وفي هذا السياق توجد قصة تحكي أنه في العصور القديمة قام ملك بربط فيل صغير داخل القصر بشجرة صغيرة، فحاول الفيل مرات عديدة من الهروب، لكن فشل وأحس بألم كبير، وظل على حاله عندما كبر، بإمكانه الافلات بسرعة بدون أي مجهود، لكن المشكل يكمن في العجز الذي اكتسبه جعله مقتنعا أنه ليس له من سبيل إلى ذلك، وهذا حالنا نحن معشر البشر من خلال العجز المكتسب ثقافيا واجتماعيا، تموت القدرات الإبداعية والعبقرية، غيره تبقى قلة من البشر تؤمن بأفكارها هم من يصنعون التاريخ.
لهذا فإن امتلاك ذكاء متوسط مع العمل والعزم والارادة يقود إلى الإبداع، إذا كان الشخص الراغب في الإبداع، مؤمن بأفكاره ويشتغل عليها و لديه الدافعية القوية و الشغف من أجل تحقيق ما يريده من طموحات وأهداف في الحياة، يمكنه تحقيق النجاح والتميز، حيث أن عالم النفس “ألفرد أدلر” أكد على أن كل ما انجزه البشر من ابداعات توجد لدى أصحابه دافعية داخلية من أجل تحقيق ما يريدونه من طموحات، من أجل تحقيق الذات وتعويض النقص، بحيث تجعل من ذاتك مشروع كما يقول سارتر، “الإنسان مشروع ليس له بداية ولا نهاية”.

أهم خصاص المشترك بين المبدعين:

الدافعية: حضور فكرة وهدف واضح يؤمن به المبدع، تجعله قادرا على الخروج عن المعتاد، وهذا ما اسماه “الفرد ادلر” الدافعية الجوانية،” بعض الناس يرون الاشياء كما هي عليه في الواقع ويقولون لماذا؟ اما انا فاحلم بأشياء لم تحدث قط واقول لم لا” أرخميدس.
الحاجة للإنجاز: السعي وراء انجاز مهمة أو هدف يجعل المبدع مستغرقا طيلة الوقت في تحقيق، غاياته و تغير العالم نحو شيء أفضل، في هذا السياق، يقول الحكيم كونفوشيوس “ليست العظمة في الا تسقط ابدا ، بل تسقط ثم تنهض من جديد”.
الحاجة إلى القوة: أن تكون لك القوة في وضع المسميات فتلك هي الحقيقة، معظم القيادين والساسة العظام كان لهم غايات كبيرة منها اكتساب القوة والنفوذ وذلك ما يمكنهم من حس المغامرة والتحدي، فالقدرة على الانجاز تتطلب القوة والفعالية من أجل تحقيق الطموحات الكبيرة والعظيمة.
التغريد خارج السرب: حيث أن معظم المبدعين الذين يفكرون بأسلوب يخالف المعتاد إلى درجة قد يوصفون بالجنون، وهذا ما عبر عنه الشاعر جون درآين حينما قال ” ما أشبه الذكاء الخارق بالجنون وما أرق الفاصل بينهما”، كما أقر بيتهوفن أن الشيء الذي يمنعه عن الانتحار حين أدرك أنه فقد السمع هو الفن نفسه، ولعل المعاناة التي كان يشهدها دوستيوفسكي في صراعه مع مرض الصرع، كانت محفز أساسي لمجمل رواياته، لدرجة أن كان يقول “اللهم لا تحرمني من معاناتي”، لكن هذا الأمر لا يعني أن كل العباقرة مجانين، وقد نرى القضية من زاوية أخرى كما أقر فوكو في نظرية تحليل الخطاب، عندما درس خطاب الجنون في التاريخ الإنساني، وجد أنه يرتبط بنظام اجتماعي وثقافي، حيث أن كل من يخرج عن النظام السائد يوصف بالجنون والهبل ، الشيء الذي يؤدي إلى اقصائه على المستوى المجتمعي، لهذا فإن العبقرية هي استعداد غير محدود لتحمل الألم والمشاكل والتحديات.
الأسلوب الاجتماعي: عندما نتكلم عن الإبداع على المستوى القيادي والسياسي، فإن العباقرة في هذا المجال تكون له قدرة فريد على بناء العلاقات والتأثير في الناس، لأن مجالهم القيادي يتطلب هذا الأمر، لأن الأشخاص الانبساطين أكثر تأثير في الناس، وأقوى في التوجيه العامة و العصاب.

نماذج من بعض العباقرة الذين لم يكملوا الدراسة الأكاديمية:

قال توماس كارليل في كتابه الأبطال وعبادتهم “إن تاريخ العالم ليس الإ سيرة الرجال العظماء” وقد أعاد نفس الفكرة، امرسون في كتابه التاريخ حين قال ” ليس هناك تاريخ بمعنى الكلمة هناك فقط سير شخصية” وهذا الأمر يعني أن ما نعيش من تقدم علمي وحضاري، جاء نتيجة مجهود قام به بعض العباقرة، الذين لولاهم لكان الإنسان قابعا في حالة البدائية والجاهلية.
توجد دراسة علمية قامت بها كاترين كوكس سنة 1926 حيث درست أكثر من 300 شخصية من العباقرة والمبدعين في التاريخ على المستوى القيادي والفكري والعلمي، مضمون هذه الدراسة أن النبوغ والذكاء الطبيعي ليسوا هما شرط الإبداع، فكم من العباقرة كان لديهم ذكاء متوسط، ولهذا ترى أنه توجد جوانب أخرى هي المحدد الأساسي للعبقرية والإبداع، تكمن في امتلاك الفعالية وطاقة كبيرة في الإنجاز والعمل، وهي محصلة التفاعل بين القدرات التي تنتمي إلى المستويات العليا من الذكاء وأيضا المستويات العليا من الخيال والإبداع.
ومن جهة أخرى وجدت أنه كلما حصل الشخص على درجة عالية في التعليم الرسمي، قل إبداعه وشهرته، في حين أن أكثر العباقرة شهرة لم يكملوا دراستهم الرسمية بالمعنى الأكاديمي. مثل نيوتن ومايكل فراداي وتوماس أديسون وغيرهم من المبدعين، وفي العصر الحالي نجد معظم القيادات التي تسير العالم لم تكمل مشوارها الدراسي مثل بجليز ومارك وغيرهم من رواد الأعمال والمبدعين العظام الذين حولوا مجرى العالم، إذ أن العالم بعد جوجل وفاسبوك ويوتيوب لم يعد هو العالم نفسه الذي كان قبل عقود قليلة مضت.

اعتبر تومس إديسون من أعظم العلماء والمخترعين في القرن العشرين إذ خلف وراءه كما كبيرا من الاختراعات والابتكارات، التي لا تعد ولا تحصى يقول في هذا السياق ” أن كل محاولة خاطئة قمت بها كانت خطوة أخرى إلى الأمام”، وقد سجل اديسون 1093 براءة اختراع ويعد هذا الرقم من أعظم ما أنتجه العقل البشري، وحين سئل عن السر الكامن وراء هذا الكم الهائل من الاختراعات أجبار بقوله العبقرية “2% إلهام و98% جهد وتعب وعمل”، كل هذه الإبداعات أنتجها رجل لم يتجاوز تعليم الإبتدائي.

ومن جهة أخرى فإن المجتمع لا يعترف بالعباقرة في وقتهم، ذلك نتيجة للثقافة المجتمع السائدة، الكل يحب الاستقرار والنمطية، بيد أن العباقرة يخرجون عن السائد، مثال على ذلك غوستاف لبون الذي أسس علم قيادة الجماهير اسمه سيكولوجيا الجماهير، لم تقدم له الفرصة لكي يكون مدرسا داخل الجامعة لأنه في عصره لم يعترف به المجتمع، ولكن في اخر حياته أضحى من أكبر الحكماء والعلماء الذين يأتي اليه السياسيون والقيادات العليا لكي تتعلم منه وتأخذ المبادئ الأساسية التي توجه الجماهير وكيفية التحكم فيها.

كذلك الشأن مع أينشتاين إذ أنه حين كتب معادلة النسبية لم يتجاوز عمره السادس والعشرين، الشيء الذي لم يتقبله المجتمع العلمي في البداية، وفي هذا السياق يقول أينشتاين “يستطيع أي أحمق أن يجعل الأشياء تبدو أكبر وأعقد، لكنك تحتاج إلى عبقري شجاع لجعلها تبدو عكس ذلك”، أي التغريد خارج السرب والقدرة على الإبداع بحيث تغير النظم والتصورات والنماذج، ويصبح العالم بعد إنتاج العباقرة مختلفا عن ما كان عليه قبل ذلك.

يتبين من خلال ما سبق أن ظاهرة الإبداع والعبقرية والقيادة ترتبط بالدرجة الأولى بسلوك الأفراد المبدعين، الذين يتصفون بمجموعة من المظاهر السلوكية أهمها الذكاء والقدرة على توجيه الناس، والشهرة في مجال تخصصهم، إضافة إلى تعدد اهتماماتهم ومجال ابداعهم كما هو الشأن مع ليوناردو دافينشي، إذ أن سعيهم إلى الإنجاز هو الملمح الاساسي للعباقرة حيث يؤمنون بقدراتهم وطموحاتهم حتى ولم يعطى لهم أي قيمة في عصرهم، كما أنه ليس كل مبدع يظهر إبداعه وينتشر ويصبح عبقري، حتى وإن كان إبداعه على أعلى المستويات، فكثيراً من المبدعين الذين أنتجوا أفكار أو أعمال المميزة، لم يعطوا حقهم وذلك لعدم تقبل مجتمعهم لها، فحاجات وقيم وأفكار مجتمعهم هي التي تقرر غالباً مصير ما أنتجوه .

المراجع المعتمدة:
1. كتاب: العبقرية والإبداع والقيادة تأليف دين كيث سيمنتون، ترجمة شاكر عبد الحميد، عالم المعرفة العدد 176.
2. مقال: العبقرية والإبداع لا تورث، نبيل حاجي نائف
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=234347&nm=1
3. العبقرية بين العقل و الجنون – د. عدنان إبراهيم.

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى