العلاقات الأمريكية – كوريا الشمالية: حقيقة القوة

لا شك أن صورة المصافحة بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والزعيم الكوري الشمالي كيم جون أون هي من الصور التي ستبقى عالقة في أذهان المؤرخين. ولكن هذا لا يعني أنها ستكون بالضرورة صورة تاريخية بالمعنى الذي ذهب إليه معظم الصحفيين. فأن تكون كذلك يفترض أن الحدث المتسبب فيها، أي قمة سنغافورة، ليس إلا بداية لمسار له أن يغيّر مجرى التاريخ في ما يرتبط بالمسألة الكورية. ولئن أصبح هذا المسار اليوم احتمالا واردا بحكم تغيّر طبيعة توازنات القوة في المنطقة بعد النجاحات النووية والبالستية الكورية الشمالية، فإن تبعاته مختلفة جوهريا عمّا جاء في نص الاتفاق، وفي ما تلاه من مواقف رسمية ومن تخمينات صحفية.

  1. من سياسة المجنون إلى إستراتيجية السينما المتبادلة

لقد كان في صورة المصافحة بين دونالد ترامب وكيم جون أون ما فيها من الغرابة المراوحة بين العبثية والخيال العلمي. ففي سبتمبر الماضي كان الرجلان قد انزلقا إلى تلاسن يدعو للضحك لو لم يكن موضوعه التهديد باستخدام السلاح النووي من أجل تدمير الطرف الآخر. واليوم، أي بعد أقل من تسعة أشهر، أصبح “رجل الصواريخ المقدم على الانتحار والسائر ببلده ونظامه إلى الدمار”، في نظر ترامب، شابا ذكيا وموهوبا، بل ووسيما. أمّا كيم، فإنه أصبح يتحدث عن نسيان الماضي بعد أن أفنى وأبوه عقودا يتوعّدان بإحراق الولايات المتحدة نوويا. وقد حصد كل منهما ريع انقلابه المفاجئ. ففي مقابل اعترافه الفعلي بنظام كوريا الشمالية، وتحويله لكيم جون أون، في لحظة، من دكتاتور معزول إلى رجل دولة يحظى بالاحترام و دعم  البيت الأبيض، نجح ترامب في تقديم نفسه كرجل سلام وحكمة. ومن ذلك قوله: “يمكن لكل من هبّ ودبّ أن يصنع الحرب. أمّا السلام، فلا يصنعه إلا الشجعان”. أمّا الزعيم الكوري الشمالي، فإنه لم يقدّم لقاء تحقيق حلم أبيه وجده بفرض الاعتراف بنظامه على العدو الأمريكي سوى التزام فضفاض بالعمل على نزع سلاحه النووي في إطار اتفاق مقتضب لم يتجاوز نصّه صفحة يتيمة. وأهم ما فيه بنده الثالث الذي تلتزم من خلاله بيونغ يانغ بالعمل على جعل شبه الجزيرة الكورية منطقة خالية من الأسلحة النووية، من دون تحديد أي رزنامة أو مواعيد أو تبعات أو حتى مفاهيم. أي أن كيم جون أون لم يقدّم في الحقيقة شيئا يذكر، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن بيونغ يانغ، في عهد والده كيم جون إيل، كانت قد تعهدت بنزع سلاحها النووي مرتين. وكان ذلك على التوالي سنة 1994 و2005، فضلا عن توقيعها السابق على المعاهدة الدولية لحظر انتشار الأسلحة النووية.

ويجمع بين الطرفين إصرار كليهما على إسناد إنجاز الاتفاق الموقع لإستراتيجيته. فكل منهما يقول لمن يريد أن يسمعه أن سياسة التهديد التي توخاها خلال الأشهر الماضية هي التي أكرهت الطرف الآخر على الجلوس لطاولة المفاوضات. وفي ذلك تمجيد لسياسة المجنون، وتشجيع لإقامة الدبلوماسية على المقامرة من خلال إيهام الخصم بأقصى درجات التأزيم، بما يبثّ الخوف ويدفع لتقديم التنازلات. وتلك أدوار دبلوماسية يسهل كشف تهافتها، خاصة في ظل الاختلال الصارخ في علاقة الربح والخسارة بين الطرفين. وليس من العسير فهم موقف بيونغيانغ، الطرف المستفيد من هذا الاختلال. إذ أن نظام الحكم فيها قد حصل بفضل شريكه الجديد على الاعتراف الدولي الذي كان يحلم به منذ ما يزيد عن سبعة عقود. إن الصعوبة تكمن في تأويل الموقف الأمريكي. فقبول ترامب بأدنى درجات الالتزام من طرف كوريا الشمالية يوحي بأن صورة مراسم التوقيع كانت غاية في حد ذاتها. وإلا فكيف يمكن تفسير التناقض البيّن في موقف الرئيس الأمريكي الذي كان قد مزّق الاتفاق الدولي حول النووي الإيراني. مزّقه رغم ما فيه من صرامة غير مسبوقة في تاريخ الاتفاقات الدولية حول الحد من انتشار السلاح النووي، ورغم احتوائه على ضمانات واضحة وعملية من أبرزها وجود مراقبين دوليين على عين المكان، بل ورغم إقرار الجميع بأن طهران جادة في تنفيذ شروط الاتفاق المذكور.  ذاك هو نفس الرئيس الذي قبل في سنغافورة منح الشرعية لنظام سياسي كان هو ذاته قد وصفه بأقذع النعوت الممكنة في أعراف الدبلوماسية. ولم يكن المقابل سوى مجرد إعلان لنيّة كانت واشنطن قد جربت حدودها في السابق أكثر من مرة. ولفك هذا اللغز ينبغي التذكير بسياق الاتفاق، ومقارنته جديا بالحالة الإيرانية وغيرها من الوضعيات المماثلة.

  1. القوّة تصنع التاريخ

لقد جاء الاتفاق مع بيونغ يانغ تتويجا لتغيير تدريجي أدخله دونالد ترامب على الدبلوماسية الأمريكية منذ وصوله لسدة البيت الأبيض. وقد برزت بصمته بجلاء بضعة أيام قبل قمة سنغافورة. إذ أنهت سياساته عمليا المعسكر الليبرالي الذي تزعمته الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية، وذلك من خلال فرضها لمعاليم جمركية على الفولاذ والألمنيوم، ثم من خلال الخطاب الصّدامي الذي اعتمده ترامب قبيل قمة السبع الكبار وأثناءها ضد حلفاء الولايات المتحدة التاريخيين. وقد ختم هذه المسيرة من طائرته التي كانت تقله إلى سنغافورة حين أعلن رفضه للبيان المشترك للسبع الكبار، متهما رئيس الحكومة الكندية ومستضيف القمة، جوستين ترودو، بالتحيّل والنفاق. لم يسع ترامب إذا لإرضاء حلفاء بلده التقليديين. ولكنه كان مصمّما على إيجاد أرضية لبناء الثقة مع نظام كيم جون أون، كلفه ذلك ما كلفه. ويعود هذا الإصرار لوعي صنّاع القرار الأمريكي أن الوقت قد حان لإنهاء الحرب المتواصلة، وإن ضمنيا، في شبه الجزيرة الكورية. ولتذكير، فإن وقف إطلاق النار بتاريخ 27 جويلية 1953 لم يؤد إلى حد الآن لاتفاق سلام نهائي بين الكوريتين. وهو ما يخلق حالة من الخطورة المتصاعدة في ظل امتلاك بيونغ يانغ للقنبلة النووية ونجاحاتها البالستية الأخيرة.  ويعني هذا الكلام أن سياسيي واشنطن قد اقتنعوا بأن نزع السلاح النووي الكوري الشمالي قد أصبح في حكم المستحيل. فنظامها يمتلك المعرفة العلمية والتقنية لإعادة إنتاجها، بما يتضمن القدرة على إعادة بناء منشآت نووية جديدة حتى في حال التفكيك الفعلي للمنشآت الموجودة حاليا. ولا يمكن لواشنطن أن تعترف علنا بهذه الحقيقة لأنها تتضمن اعترافا بانتصار نظام بيونغ يانغ.إن القوة هي التي تصنع التاريخ. والقوة هي الفرق الرئيس بين الحالة الكورية الشمالية والحالة الإيرانية مثلا. وتتمظهر من ثلاثة أوجه. أولها أن بيونغيانغ، على عكس طهران، لم تدع يوما أن برنامجها النووي مدني ذو غايات سلمية محضة. فمنذ اكتشاف الخبراء الأمميين لآثار البلوتونيوم لديها في أوائل التسعينات، اعترفت كوريا الشمالية بخرقها لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وأعلنت أنها تعمل على امتلاك القنبلة الذرية، وأن مرماها الرئيس سيكون بطبيعة الحال العدو الأمريكي. أمّا نقطة التمايز الثانية مع الحالة الإيرانية، فتكمن في استثمار كوريا الشمالية المكثف في مشروعها النووي، وإيمانها بأنه الضامن الوحيد لدوام نظام الحكم فيها وعدم تعرضه لمصير الأنظمة التي قبلت بالتخلي عن وسائل الردع لديها. وأمارة ذلك سخرية المسؤولين الكوريين الشماليين من سياسات صدّام حسين ومعمر القذافي الذين وقّعا، حسب بيونغيانغ، على صك موتهما حين قبلا بتفكيك أسلحة الدمار الشمال التي كانت “الضامن الوحيد لاستمرارهما وحيطة القوى الاستعمارية منهما”. ومن مظاهر تشبث كوريا الشمالية بمشروعها النووي حرصها الاستثنائي على تجنيبه مصير المشروع العراقي الذي كان قد دمره الطيران الإسرائيلي قبل أن يؤتي أكله في أوائل الثمانينات . ومن ثم إنشاء بيونغيانغ لمختبراتها النووية تحت الأرض كي تكون عصية على أي استهداف مباشر.

وثالث العناصر، وأهمها، نجاح بيونغيانغ الفعلي في إنتاج القنبلة النووية، وتقدمها الكبير في تطوير وسائل حملها البالستية عبر القارات. وهو ما أعطاها الحصانة التي كانت أجيال نظام حكم عائلة كيم الثلاثة قد حلمت بها وعملت من أجلها، بل ودمّرت اقتصاد البلد في سبيل طلبها. فحقيقة المشروع النووي الكوري مختلفة عن الخطاب الذي يدور حوله داخل البلد وخارجه. فهذا المشروع لا يهدف لتدمير الولايات المتحدة ولا لتهديد غيرها. إن الغاية الوحيدة لامتلاك القنبلة الكورية هي مجرد امتلاكها. فتلك السبيل الوحيد، حسب نظام الحكم، لإعادة توازن الرّعب الذي حكم فترة الحرب الباردة. أي أن هذا المشروع لا يعدو أن يكون شكلا من أشكال التأمين على الحياة لنظام معزول في عالم أحادي القطبية.

  1. رهان واشنطن الجديد

لقد قرر ترامب القطيعة مع سياسات سلفه. ففي حين كان أوباما قد فضّل الاقتراب من كوبا وإيران، فإن خلفه يعتبر أن لا فائدة في تقديم أي تنازلات لأنظمة معادية إن كانت لا تشكِّل خطرا على مصالح الولايات المتحدة. وهذا يفسر إصراره على تجديد العقبات على طهران وسعيه لتشديد الضغط على نظام الحكم فيها اقتصاديا وسياسيا. بل ولعله يأمل في إضعاف الجناح المعتدل فيها حتى يتسنى له تبرير مزيد من العدوانية عليها. وقد بلغ في ذلك أقصى حد ممكن حين هدد صراحة كل دولة أو شركة تساعد إيران على تطوير قدراتها. والمقصود بالطبع الأطراف الأوربية التي تسعى إلى الاستفادة من رفع العقوبات على طهران في إطار اتّفاق 2015. ورغم تناقضه الجوهري مع أوباما، فإن ترامب لا يتردد في الاستشهاد بكلامه حين قال: “إنما يصنع السلام مع الأعداء، لا مع الأصدقاء”. ولكن أي أعداء؟ حسب ترامب، لا يكون التنازل والتقارب إلا مع الطرف الأقوى والأخطر، وذاك ما يميّز كوريا الشمالية. إن طريق ترامب قد تتقاطع مع طريق أوباما، لا من خلال السياسة، ولكن من خلال جائزة نوبل للسلام. فمن سخرية القدر أن أصبح واحدا من أبرز المرشحين للحصول عليها في نسختها المقبلة. وذلك بفضل وثيقة لا قيمة لها من الناحية العملية. ولكنها وثيقة تعلن تحولا جذريا في أولويات واشينتون في شبه الجزيرة الكورية، بما قد يؤسس فعلا لسلام دائم، وإن كان لغير الدوافع المعلنة رسميا.إن الرهان لم يعد اليوم نزع سلاح كوريا الشمالية النووي. فهذا قد أصبح من ضرب المستحيل. وما تضمينه في البند الثالث من اتفاق سنغفورة إلا من قبيل الضرورة الدبلوماسية. ولعل واشنطن ترى فيه أيضا خط رجعة وورقة ضغط يمكن اعتمادهما في صورة تعثر رهانها الجديد.إن رهانها الجديد غير المعلن هو إمكانية تغيير حقيقي في كوريا الشمالية. وليس المقصود هنا تغيير نظام الحكم. إنمّا المقصود تغيير النظام الحالي لأولوياته. فبعد حصوله على ضمان بقائه، قد يكون نظام بيونغ يانغ مستعدا بالفعل للانتقال من نظام كلياني ذي اقتصاد شيوعي منهار، إلى نظام سلطوي أقل دكتاتورية، ولكن أكثر ثراء. وبطريقة أخرى، يعتقد ترامب وفريقه أن كوريا الشمالية، المنتشية بنجاحات نووية وبالستية لا نقاش فيها، على عتبة تحوّل تاريخي داخلي، تنتقل بموجبه من نموذجها الستاليني المتكلس إلى نموذج أكثر ديناميكية، تلعب لديه التجربة الصينية دور المثال الأعلى. وعليه، يكون اتفاق سنغافورة نتيجة مباشرة للتغيير الذي أحدث السلاح النووي الكوري في توازنات القوة في منطقة شرق آسيا. ويتضمن هذا الكلام تهافت إدعاء ترامب بأن إستراتيجية الحزم، أو بعبارة أدق سياسة المجنون التي اتّبعها هي التي مهدت الطريق أمام التقارب بين واشنطن وبيونغ يانغ. ذلك أن هذا التقارب إنما هو في حقيقة الأمر انتصار لنظام كوريا الشمالية. بل إنه يعكس الأولويات الجديدة لنظام حكمها. ودليل ذلك ما أشار إليه زعيمها خلال آخر مؤتمر لحزبه في شهر أفريل الماضي حين أعلن نهاية البناء النووي وبداية البناء الاقتصادي.  تلك هي الفرصة التي يعتقد ترامب أن بوسعه استغلالها. أي أنه يراهن على فرضية استعداد نظام كيم جون أون للتطور التدريجي. وهو ما قد يمكن، في حال تأكده، من تحييد خطره بإدماج كوريا الشمالية في منظومة العلاقات الدولية العادية. أي أن استحالة نزع السلاح النووي الكوري قد فرضت على واشطنون إيجاد خطة بديلة. ومن ثم سعي ترامب لامتصاص الخطر النووي بتكريس سلم تضمن لنظام بيونغ يانغ الاستمرار والتطور الاقتصادي، في مقابل تجنب خطر مواجهة عسكرية ترى فيها كل الأطراف دمارا مؤكدا.

خاتمة

ترقى القنبلة النووية في نظر بيونغ يانغ لقضية حياة أو موت. وبالتالي، فإن الإصرار على نزعها نهائيا يتضمن إصرارا على المواجهة. وهي الحقيقة التي تسعى الإدارة الأمريكية لإعادة بناء سياستها في شبه الجزيرة الكورية على أساسها. تلك مغامرة ذات مخاطر جمّة في ظل استحالة إلغاء احتمال أن يكون كيم جون أون مثل أبيه وجده: يهادن لربح الوقت ولاستجماع القوة، كي يعود بعدها لمواصلة الصدام. ولكن توفر الضمان النووي بين يديه يرجّح وجود رغبة حقيقية من جانبه للمرور من جنون التسلح إلى عقلانية التنمية. وهي الورقة التي تراهن عليها واشنطون  إيمانا منها بقدرة الرخاء الاقتصادي والمادي على إذابة الجليدي الأيديولوجي والسياسي. ولا شك أن نظام بيونغ يانغ سيكون مطالبا بتقديم بعض التنازلات، كتدمير جزء من ترسانته النووية حفظا لماء وجه شريكه الأمريكي الجديد. وذاك هو المحك الحقيقي الذي ستقيّم على أساسه الانعطافةا لاستراتيجية التي بدأها اتفاق سنغافورة.

الدكتور أيمن البوغانمي

مركز الدراسات الإستراتيجية والديبلوماسية

 

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button