تحليل السياسة الخارجيةدراسات سياسيةدراسات شرق أوسطية

العلاقات الإيرانية المصرية خلال الفترة 2010 -2020

د. أحمد حسين.. أستاذ الدراسات الإيرانية

مقدمة

لا شك في أن إيران ومصر دولتان مهمتان ومؤثرتان في منطقة الشرق الأوسط لتمتعهما بإمكانيَّات ماديَّة وثقافيَّة وسياسيَّة واستراتيجيَّة مميزة، ولهذا فإن كلًّا منهما ينظر إلى الآخر بعين الاهتمام رغم أيِّ خلافٍ بينهما. فإيران تتفهم أهميَّة مصر المستندة إلى موقعها بين الدول العربيَّة والإسلاميَّة، وما تمتلكه من إرث حضاري وثقافي عريق ومكانة جيوسياسيَّة واقتصاديَّة خاصَّة، فهي قوَّة بارزة بين الدول العربيَّة وعامل فعَّال في أمن واستقرار دول المنطقة وبوابة للقارة الأفريقيَّة، ويمكن لإيران أن تستفيد منها في تقوية مكانتها في المنطقة وكسر الحصار المفروض عليها من جانب الغرب وأمريكا. كما تتفهم مصر أيضًا أهميَّة إيران لموقعها الجغرافي البارز في منطقة الخليج، وقربها من آسيا الوسطى وجمهوريات القوقاز، وامتلاكها موارد هائلة من النفط والغاز، واتساع أسواقها التي يمكن أن تستقبل البضائع المصريَّة، ومكانتها بالنسبة للتجمعات والكيانات الشيعيَّة في العالم.

وعلى الرغم من إيمان الطرفين بأهميَّة كلٍّ منهما للآخر فإن العلاقات بين البلدين واجهت تقلبات حادة في عصور مختلفة، كان أبرزها وأشدها بعد عام 1979م، حينما قطعت إيران علاقتها بمصر بعد توقيع اتفاقيَّة “كامب ديفيد” مع الكيان الصهيوني، واستمرت القطيعة الرسميَّة بين البلدين لأسباب عديدة، منها ما هو داخلي، مثل: اختلاف طبيعة النظام الحاكم في كلا البلدين، وعدم وجود توافق فيما بين النخب الحاكمة حول تحسين العلاقات الثنائيَّة، والموقف من الأصوليَّة الإسلاميَّة. ومنها ما هو إقليمي، مثل: الحرب بين العراق وإيران، والخلاف بين الإمارات وإيران حول الجزر الثلاث، والاعتراف بإسرائيل، والموقف من الفصائل المقاومة، ونشر التشيع في الأوساط السنيَّة. ومنها ما هو دولي، مثل: العلاقة مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكيَّة.

وقد شهدت العلاقات بين البلدين شكلًا من أشكال التقارب في بعض الملفات الثنائيَّة والإقليميَّة والدوليَّة في السنوات العشر الأخيرة لالتقاء المصالح، ولكن هذا التقارب لم يرق إلى مستوى العلاقات الكاملة والطبيعيَّة، حتى بعد ثورة 25 يناير التي عوَّل عليها الإيرانيُّون في تغيير توجهات السياسة الخارجيَّة لمصر والانفتاح على إيران.

إيران ومصر في نهايات عهد مبارك

لم تخرج العلاقة بين إيران ومصر في نهايات عهد مبارك من دائرة الفتور والتوتر اللذين خيَّما عليها منذ أن وَصَل مبارك إلى السلطة، فقد تعدَّدت محاولات طهران لتطبيع العلاقات مع القاهرة، ولكن مبارك أبقى عليها في الحدود التي تسمح له بجعلها ورقة ضغط في علاقته بالخليج وأمريكا وإسرائيل، فلا هي قطيعة دائمة بدليل اللقاءات التي كانت تتم بين الجانبين، ولا هي علاقات طبيعيَّة بدليل المشاكل التي كانت تظهر بين البلدين بين الحين والآخر، وتصل إلى حَدِّ اتهام إيران بالتجسس على مصر ورعاية الإرهاب، كما في قضية التجسس عام 2004م، التي ألقي القبض فيها على “محمود عيد دبوس” بتهمة التخابر لصالح الحرس الثوري. وكان رد الإيرانيين على هذه القضيَّة وأمثالها هو أنها كذب محض، وتأتي في إطار الاستراتيجيَّة الأمريكيَّة الصهيونيَّة لتوتير الأجواء الدوليَّة حول إيران.

لم تتوقف المساعي الإيرانيَّة لعودة العلاقات وتطبيعها مع مصر في عهد مبارك على الرغم من وجود تيَّار إيراني مُتشدِّد لا يرغب في إقامة علاقات مع النظام المصري بسبب بقاء السبب الأصلي لقطع العلاقات، وهو الاعتراف بإسرائيل والتحالف مع أمريكا التي تفرض حصارًا خانقًا على إيران.

وزادت وتيرة هذه المساعي في عهد الرئيس الأسبق محمد خاتمي الذي تلقَّى برقية تهنئة من مبارك بعد فوزه بمنصب الرئاسة، والتقى به على هامش اجتماع قمة مجتمع المعلومات في جنيف 2003م، والرئيس أحمدي نجاد الذي صَرَّح بأن بلاده كانت مستعدة لإقامة علاقات مع مصر، وأن الجانب المصري هو الذي كان ينسجب في اللحظات الأخيرة. ويُرجع الإيرانيُّون عدم وجود علاقات دبلوماسيَّة كاملة بين البلدين في عهد مبارك إلى وجود مبارك نفسه على رأس النظام الحاكم، لأنه كان يرفض اتخاذ قرار عودة العلاقات لأسباب عديدة، منها أنه كان يستخدم إيران كورقة ضغط في تعامله مع دول الخليج التي تدعمه ماليًّا وتمتلك استثمارت اقتصاديَّة في مصر وتستقبل أعدادًا كبيرة من العمالة المصريَّة التي تضخ مبالغ ماليَّة ضخمة في السوق المصريَّة سنويًّا. هذا بالإضافة إلى علاقته بالولايات المتحدة الأمريكيَّة التي كانت ترفض وجود تعاون بين أقرب حلفائها في المنطقة والنظام الإيراني، وهو ما صَرَّح به القائم بالأعمال الإيراني في القاهرة بعد الثورة في قوله: “قبل ثورة 25 يناير كانت الولايات المتحدة  لها وصاية علي مبارك، وفي هذا الإطار كانت واشنطن تفرض على مصر عدم إقتران مصر مع إيران”[1].

تجمَّد مستوى العلاقات في نهاية عهد مبارك عند حدود مكتب رعاية المصالح الذي تم افتتاحه عام 1994م، والذي ظن البعض أنه سيكون بداية مبشرة تؤذن بعودة كاملة للعلاقات، خاصَّة وأن تلك الفترة قد شهدت بعض التعاون الاقتصادي والثقافي بين البلدين، وتكررت فيها اللقاءات بين مسؤولين كبار من كلا البلدين. وظلَّ الأمر على هذا الحال إلى أن خرجت المظاهرات المطالبة برحيل مبارك في 25 يناير 2011م.

لم ينتظر النظام الإيراني سقوط حسني مبارك الذي لاح في الأفق بعد أن اتسعت رقعة المظاهرات وارتفع سقف المطالب الثوريَّة المنادية برحيله، وخرج المرشد الأعلى للثورة علي خامنئي في 4 فبراير 2011م ليُعلِن عن موقف إيران الرسمي المؤيد لمطالب الشعب المصري. وجاءت كلمة خامنئي التي ألقاها باللغة العربيَّة قبل أيام من تنحي مبارك لتقطع شعرة معاوية التي أبقى عليها النظامان الحاكمان في إيران ومصر في السنوات الماضية، ويُعلِن من خلالها الإيرانيُّون عن قطع خط الرجعة على أيَّة إمكانيَّة لوجود علاقات طبيعيَّة مع نظام مبارك الذي طالما سعوا إلى تطبيع العلاقات معه. ومن جانبه، اتهم نظام مبارك حزب الله اللبناني الموالي لإيران بالتعاون مع عناصر من الحرس الثوري الإيراني في اقتحام السجون المصريَّة أثناء الثورة لتهريب المساجين، وزعم أنهم خططوا للقيام بأعمال شغب وعنف وتخريب، وتضمَّن ذلك تجهيز وتدريب عناصر مسلحة بمعرفة الحرس الثوري الإيراني، تمَّ الدفع بها فعليًّا من قطاع غزة إلى مصر إبان تظاهرات يناير 2011م لإحداث الفوضى بالبلاد، وأنه تمَّ إسناد مسؤوليَّة تدبير وسائل الإعاشة والسيارات لعناصر حزب الله وحماس وعناصر الحرس الثوري الإيراني لمكتب رعاية المصالح الإيراني في القاهرة[2].

احتوت كلمة خامنئي على مرتكزات الموقف الإيراني من مبارك، وحَمَلت في طيَّاتها أسباب الخلاف مع النظام المصري في عصره، وهي قضيَّة فلسطين، والاعتراف بالكيان الصهيوني، ووقوف النظام المصري ضد المقاومة الفلسطينيَّة، وفي القلب منها حركة حماس، والتبعيَّة الكاملة للولايات المتحدة الأمريكيَّة.

لقد وَصَف خامنئي نظام مبارك – الذي لم يدخر الإيرانيون جهدًا في محاولة تطبيع العلاقات معه – بأنه نظام “خائن” و”عميل” و”مُعَادٍ للإسلام”، واتهمه بارتكاب أكبر جريمة في حَقِّ مصر التي كانت تحتل بحَقٍّ مكانة الريادة في العالم العربي، حيث هبط  بهذا البلد من مكانته الرفيعة إلى مرتبة آلة طيّعة بيد أمريكا في لعبتها السياسيَّة على صعيد المنطقة، وأن الانفجار الذي شهدته مصر هو الرَّد المناسب على هذه الخيانة الكبرى التي ارتكبها “الدكتاتور العميل” بحَقِّ شعبه.

وذكر خامنئي أن هناك هوَّة عميقة بين الشعب المصري والنظام الحاكم، وأن السبب في ذلك هو اتفاقيَّة “العار” التي عقدها السادات مع الكيان الصهيوني وتمسَّك بها مبارك من بعده، والتي رأى الشعب من بعدها حكَّامه وقد هرولوا على طريق “العمالة”‌ و”الطاعة” لأمريكا، إلى درجةٍ جعلت مصر حليفة وفيَّة ‌للعدو الصهيوني الغاصب، ذلك التحالف الذي بَدَّد كلَّ جهود الشعب المصري السابقة في دعم فلسطين وحوَّل النظام المصري إلى عدو لدود لفلسطين وأكبر حام للصهاينة المعتدين[3].

ودَلَّل خامنئي على كلامه بموقف النظام المصري من غزة، حيث شاهد الشعب المصري لأوَّل مَرَّة في التاريخ أن حكومته تقف في حرب إسرائيل على غزة‌ إلى صف الجبهة الإسرائيليَّة، ولم تمتنع عن المساعدة فحسب، بل كانت نشطة في دعم جبهة العدو ومحاصرة المقاومة.

إيران وثورة 25 يناير

تابع الإيرانيُّون أحداث الثورة المصريَّة متابعة دقيقة منذ اللحظات الأولى. ومع اشتعال نيران الثورة في ميادين مصر، أعلنت إيران عن موقفها المؤيِّد للثوَّار، وجاء هذا التأييد على لسان المرشد الأعلى للثورة الإيرانيَّة، عليّ خامنئي، الذي حَيَّا كفاح الشعب المصري، وأكَّد على أن العالم الإسلامي في انتظار حادث مصيري عظيم يمكن أن يُغيِّر معادلات الاستكبار في هذه المنطقة لصالح الإسلام ولصالح الشعوب، ويُعيد العزة والكرامة للشعوب العربيَّة والإسلاميَّة، وينفض عن وجهها غبار عشرات السنين مِمَّا جناه الغرب وأمريكا بحَقِّ هذه الشعوب العريقة الأصيلة من ظلم واستهانة وإذلال.

كان أبرز ما احتوت عليه كلمة خامنئي هو أن “نهضة الشعب المصري المسلم حركة إسلاميَّة‌ تحرريَّة”[4]، وهي قراءة أيديولوجيَّة للثورات العربيَّة واضحة المعالم في الخطاب الأصولي الإيراني؛ فالثورات العربيَّة مقدمة لـ”صحوة إسلاميَّة، تحمل رُوحيَّة الثورة الإسلاميَّة الإيرانيَّة وتعد تواصلًا لصمود الشعب الإيراني خلال 32 عامًا”؛ وهو ما عبَّر عنه خامنئي في كلمته أمام مؤتمر الصحوة الإسلاميَّة الذي عُقِد في طهران عام 2011م، حيث قال: “الانتفاضات العربيَّة استلهمت من الثورة الإسلاميَّة الإيرانيَّة مفاهيمها ومعانيها”. وأعاد خامنئي التأكيد على مقولة: “حُكم الشعب الديني”، محذِّرًا شعوب المنطقة من الخلط بين “الديمقراطيَّة الإسلامية التي تُعلي من مكانة القيم وتلتزم بالخطوط الإسلاميَّة، والديمقراطية الغربية المعادية للدين”[5].

قدَّم خامنئي من خلال كلمته العديد من النصائح للثوار في مصر، حيث نبَّهَهم إلى أن طرد “الحاكم الخائن المنقاد لأمريكا والمجاهر بعدائه للدين” ليس هو النتيجة المرجوة من الثورة، وأن النظام العميل لا يسقط بخروج المكشوفين من رموزه، وحَذرهم من بقاء فلول هذا النظام وحلولهم محله في السلطة. وأكَّد على أن الثورة حربٌ بين إرادتين: إرادة الشعب وإرادة أعدائه، وأن النصر لِمَن يتحمَّل الصِّعاب، وأن العدو يبث فيهم روح اليأس ويحاول إخافتهم بقوَّته الأمنيَّة. وحثهم على مواجهة قوى الطغيان والحكَّام العملاء بالاتحاد والانسجام، وعدم الثقة في الغرب وأمريكا، لأنهم يعزفون على نغمة حَقِّ الشعوب بعد أن يئسوا من الاحتفاظ بالأنظمة الفاسدة.

كما خاطب خامنئي الجيش والمؤسَّسة الدينيَّة، فنصح الجيش بعدم الانصياع لرغبة العدو الذي يريد أن يدفع به لقمع الجماهير، لأن الجيش الذي يحمل على صدره وسام محاربة العدو الصهيوني يتعرَّض في مثل هذه الظروف لاختبار تاريخي، ولا شك أن عناصر من هذا الجيش – الذي هو من الشعب ومن أبناء الشعب – سَتلتحق بالجماهير. وطلب خامنئي من علماء‌ الدين ورجال الأزهر الشريف بتاريخه النضالي المعروف أن ينهضوا بدورهم بشكل بارز، لأن المتوقع من علماء الدين أن يتخذوا موقفًا بارزًا حينما يبدأ الشعب ثورته من المساجد ومن صلوات الجمعة‌ ويرفع شعار «الله أكبر».

كان خامنئي حريصًا على نفي تدخله في شؤون مصر، وذلك حين أقر بأن نهضات الشعوب ترتبط بظروفها الجغرافيَّة‌ والتاريخيَّة‌ والسياسيَّة والثقافيَّة الخاصَّة ببلدانها، ولا يُمكِن لأحدٍ أن يتوقع أن يحدث في مصر ما حدث في الثورة الإسلاميَّة بإيران قبل أكثر من ثلاثين عامًا، وذلك رغم وجود مشتركات بينهما، وأنه يُمكِن لتجارب كلِّ شعب أن تكون نافعة للشعوب الأخرى. وأكَّد على أنه يقدِّم تلك التجارب للشعب المصري باعتباره أخًا لهم في الدين، وانطلاقًا من التزامه الديني، وأن الذي يوجِّه الثورة المصريَّة هو النخبة من السياسيين والحكماء المصريين. وحذر من الأبواق الإعلاميَّة للعدو الذي سَوف يتهم إيران بأنها تتدخل في مصر وتنشر التشيُّع فيها وتريد أن تصدر إليها ولاية الفقيه، لأن هذه الأقوال أكاذيب يُردِّدها المأجورون للتفريق بين الشعوب.

تردَّدت أصداء ما ذكره خامنئي في كلمات وأقوال العديد من المسؤولين الإيرانيين الذي أعلنوا عن مواقف مشابهة، ومن هؤلاء الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رفسنجاني الذي صَرَّح في مقابلة نشرتها صحيفة “جمهوري إسلامي” الإيرانيَّة أن “مصر تحتاج إلى إمام خميني؛ فوجود مثل هذا القائد أمر ضروري لها”[6]. كما اعتبر الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد أن “العالم يشهد الآن صحوة إسلاميَّة ضد الاستبداد، تشمل مصر وتونس اللتين تؤسِّس أحداثهما لشرق أوسط جديد لا مكان فيه للولايات المتحدة وإسرائيل، وينبئ بنصر وشيك”، بل إنه ذهب إلى حَدِّ القول بأن “الثورات التي تجري في المنطقة يقودها الإمام المهدي”[7].

ولم تكن المعارضة الإيرانيَّة بعيدة عن الأحداث في مصر، فقد دفع موقف النظام الإيراني من الثورة المصريَّة بعض أقطاب المعارضة الإيرانيَّة إلى التعبير عن غضبهم من هذا السلوك الذي وصفوه بأنه ينطوي على قدر واضح من النفاق السياسي، حيث رأى مهدي كروبي أن قيام طهران بتصوير الأحداث في القاهرة وغيرها، باعتبارها الثمار التي طال انتظارها لثورتها الإسلاميَّة، والقيام في الوقت نفسه بمنع إصدار تصريح للمعارضة الإيرانيَّة بالتظاهر تأييدًا لأحداث مصر وتونس، يكشف زيف الموقف الإيراني. كما عرض الموقع الإلكتروني الخاص بالسيد مير حسين موسوي صورتين معبرتين جنبًا إلى جنب، إحداهما لضابط شرطة مصري يضرب متظاهرًا، بينما في الجانب الآخر وضعت صورة مشابهة لقوات إيرانيَّة تواجه المظاهرات في طهران بالعنف[8].

لم يلق خطاب خامنئي ما كان الإيرانيُّون ينتظرونه من ترحيب في أوساط الثوَّار المصريين. فعلى الرغم من أن هؤلاء الثوَّار كانوا يبحثون عن أيِّ شكل من أشكال الدعم والتأييد في بدايات الثورة، وعلى الرغم أيضًا من تأكيد خامنئي على عدم التدخل في الشأن المصري، فإن خطابه أثار حفيظة الثوَّار في ذلك الوقت، لخوفهم من حدوث انشقاق فيما بينهم بسبب أدلجة الثورة وتوجيهها في اتجاه قد يستبعد باقي مكونات الثورة التي تشارك فيها اتجاهات عديدة لا تنتمي إلى التيَّار الإسلامي.

وبعد تنحي مبارك، كانت كلُّ المؤشرات تشير إلى وجود شكل من أشكال التغيير في العلاقات الإيرانيَّة المصريَّة بعد الثورة، وظهر ذلك في التصريحات التي أطلقها المسؤولون من كلا الجانبين والتي تدل على رغبة مشتركة في تطبيع العلاقات، فقد صَرَّح القائم بالأعمال الإيراني بأن ثورة 25 يناير فتحت صفحة جديدة بين مصر وإيران، وقال “إن لمصر ملاحظات علي السياسة في إيران بينما نحن ليس لدينا على مصر أي ملاحظات”[9]. كما أكَّد نبيل العربي وزير خارجيَّة مصر في ذلك الوقت أن “إيران ليست عدوًّا لمصر، وأن هناك علاقات دبلوماسيَّة بينهما منذ عام 1994م على مستوى مكتب رعاية المصالح المصريَّة الإيرانيَّة”، ما يبشر بتطبيع العلاقات كاملة. وترجمت إيران هذه التصريحات بخطوة تدلل بها على رغبتها في طي صفحة الخلاف، وهي إعلان وزير الخارجيَّة الإيراني صالحي عن عزم بلاده تغيير اسم شارع “الإسلامبولي” إلى شارع “شهداء مصر”[10].

وعلى الأرض، كانت فترة الثورة حافلة بالنشاط الإيراني في مصر، إذ لم تنتظر إيران تحركًا رسميًّا من المجلس العسكري الحاكم الغارق في المشاكل الداخليَّة، وبدأت في مَدِّ جسور التواصل مع النخب المصريَّة القادرة على توجيه الرأي العام، فقد كانت تراهن على جميع الأطراف في مصر لتحقيق مصالحها، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وذلك خلافًا لما شاع عن تعاونها مع الاتجاهات الإسلاميَّة فقط.

استقبلت طهران وفودًا عديدة من السياسيِّين والأكاديميِّين ورجال الفكر والثقافة والإعلام لتحسين العلاقات والجلوس مع المسؤولين الإيرانيين للاطلاع على موقفهم من القضايا المرتبطة بملف العلاقات.

كان الوفد الأوَّل هو الوفد الشعبي الذي زار طهران في مايو 2011م، وضمَّ 45 من الشخصيَّات السياسيَّة والإعلاميَّة والسياحيَّة والثقافيَّة ورجال الأعمال وعلماء الأزهر الشريف والفنانين، منهم المستشار محمود الخضيري والدكتور جمال زهران والفنان عبدالعزيز مخيون والدكتور إبراهيم الزعفراني والشيخ جمال قطب والإعلامي وائل الإبراشي. وقد أطلع المسؤولون الإيرانيون الوفد على رغبتهم القويَّة في عودة العلاقات الطبيعيَّة الكاملة مع مصر، واستعداد إيران للوقوف إلى جانبها في المجال التكنولوجي والصناعي وكافة الخدمات الأخرى، وفتح خطوط طيران مباشرة بين القاهرة وطهران. وكان لافتًا تأكيد أعضاء في الوفد الشعبى أن “دول الخليج تمارس ضغوطًا لعدم تطبيع العلاقات بين القاهرة وطهران، وأن هناك وعودًا إيرانيَّة بإرسال 2 مليون سائح واستثمارات كبيرة بمصر”[11].

كما زار وفد كبير من أعضاء هيئة التدريس بالجامعات المصريَّة إيران في مايو 2012م، والتقى الوفد المكون من المتخصصين في اللغة الفارسيَّة والدراسات الإيرانيَّة عددًا كبير من المسؤولين الإيرانيِّين، على رأسهم وزير الخارجيَّة ومعاون رئيس الجمهوريَّة ومستشار المرشد الأعلى لشؤون السياسة الدوليَّة وبعض المرجعيَّات الدينيَّة الكبرى، وكانت العلاقات الثقافيَّة والفكريَّة ومواقف إيران من قضايا المنطقة هي محور النقاش في هذه الزيارة.

وفي يونيه 2012م، زار وفد إعلامي مصري إيران، وضمَّ الوفد مجموعة من كبار الصحفيين في الجرائد القوميَّة المملوكة للدولة، وتناولت لقاءاتهم في طهران القضايا الخلافيَّة بين البلدين، وعلى رأسها الملف النووي وأمن الخليج والثورة السوريَّة.

لم تترجم الرغبة الإيرانيَّة في تحسين العلاقات إلى خطوة رسميَّة من جانب مصر تتمثل في رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي إلى مستوى السفارة والتعاون الرسمي مع الإيرانيِّين، وهي خطوة لم يكن المجلس العسكري على استعداد لاتخاذها خوفًا من فقدان الدعم الخليجي وإغضاب أمريكا في ظِلِّ الوضع المتفجر في مصر وعدم وجود رؤية محددة للسياسة الخارجيَّة بعد الثورة. ولهذا فقد شهدت هذه المرحلة أحداثًا تدل على وجود حالة من التناقض في إدارة الملف الإيراني. فمن ناحيةٍ، فتحت القاهرة باب التواصل بين إيران والنخب المصريَّة على مصراعيه بعد أن كان هذا الأمر من المحظورات الأمنيَّة، وسَمَحت بعبور بارجتين إيرانيتين من قناة السويس لأوَّل مَرَّة في فبراير 2011م. ومن ناحيةٍ أخرى، طردت الدبلوماسي الإيراني سيد قاسم الحسيني، المستشار الثالث ببعثة المصالح الإيرانيَّة بالقاهرة، واعتبرته شخصًا غير مرغوب فيه بعد إتهامه بالتجسُّس، وهو ما وصفته طهران بأنه “مجرد سوء تفاهم”.

وكانت وكالة أنباء الشرق الأوسط المصريَّة قد أعلنت أن جهاز المخابرات العامَّة تمكَّن من رصد تحركات أحد عناصر وزارة الأمن والاستخبارات الإيرانيَّة الذي يعمل ببعثة رعاية المصالح الإيرانيَّة بالقاهرة لقيامه بمخالفة بروتوكول التعاون الدبلوماسي، وأوضحت أن الدبلوماسي قام بتكوين عددٍ من الشبكات الاستخباراتيَّة، وكلَّف عناصرها بتجميع معلومات سياسيَّة واقتصاديَّة وعسكريَّة عن مصر ودول الخليج نظير مبالغ ماليَّة. وأضافت الوكالة أن التحريات أوضحت أن الدبلوماسي الإيراني كثف نشاطه الاستخباري خلال أحداث ثورة 25 يناير مُستغِلًّا حالة الفراغ الأمني بالبلاد، خاصَّة ما يتعلق بالأوضاع الداخليَّة والأمنيَّة بشمال سيناء وموقف الشيعة والوقوف على مشاكلهم وأوضاعهم فى مصر[12]. وداهمت قوات الأمن مكتب قناة العالم الإيرانيَّة بالقاهرة وصادرت محتوياته، وأغلقت الحسينيَّة الشيعيَّة التي فتحها علي الكوراني بالقاهرة، وهو رجل دين لبناني يقيم في مدينة قم الإيرانيَّة.

وفي النهاية، جاء الموقف الرسمي على لسان وزير الخارجيَّة محمد العرابي الذي تراجع عن تصريحات سلفه نبيل العربي، حيث أكَّد على أن “أمن الخليج خط أحمر بالنسبة لمصر، وأن أمن الخليج أولويَّة مصريَّة ومَحَل اهتمام مصري بنسبة مائة بالمائة، وأن التقارب مع إيران لن يكون أبدًا على حساب الخليج”[13]، وهو ما يَعني عودة العلاقات إلى ما كانت عليه في عهد مبارك، وتأجيل اتخاذ قرار في هذا الملف إلى أن يستتب الأمر وتتضح التوجهات الجديدة لمصر ما بعد الثورة.

إيران ومصر في عهد الرئيس مرسي

رَحبَّت إيران بوصول الرئيس الراحل محمد مرسي على لسان رئيسها ووزير خارجيتها وكبار رجال الدولة، وسَادت في الأوساط الإيرانيَّة حالة من التفاؤل حول قرب تطبيع العلاقات مع مصر وإمكانيَّة عقد تحالف استراتيجي بين البلدين بعد وصول الرئيس مرسي إلى سدة الحكم، وهو التحالف الذي أراد الإيرانيون أن يعيدوا من خلاله التوازن بين القوى الإقليميَّة لصالح إيران وجبهة المقاومة في المنطقة، ويَجدوا لأنفسِهم ثغرة للخروج من الحصار المفروض عليهم من جانب أمريكا وحلفائها في المنطقة. وكان المنطلق في هذه التصورات هو التشابه بين الثورتين الإيرانيَّة والمصريَّة، فقد وَصَل الإسلاميُّون إلى قمَّة السلطة في كلا البلدين بعد ثورتين شعبيتين على نظامين حليفين لأمريكا والغرب ويرتبطان بعلاقات قويَّة مع إسرائيل[14]. كما أن الرئيس مرسي سَبَق وأن أدلى بتصريحاتٍ خلال حملة الانتخابات الرئاسيَّة اعتبر فيها إيران شريكًا في المنطقة وليس عدوًّا، وأكَّد على حَقِّ إيران في امتلاك الطاقة النوويَّة[15].

اصطدمت التصورات الإيرانيَّة حول إقامة علاقات طبيعيَّة مع مصر في عهد مرسي بعِدَّة عوامل لم يكن من السهل على الجانب المصري تجاوزها في التجاوب مع رغبة إيران في الانفتاح على مصر، ويمكن إجمال تلك العوامل فيما يلي:

1 – المنطلق العقائدي للقيادة المصريَّة الجديدة، فالرئيس مرسي ينتمي إلى مدرسة الإخوان المسلمين التي تدافع عن أهل السُّنَّة والجماعة في كلِّ مكان، ولديها تحفظات على تصرفات إيران ووقوفها وراء التمدُّد الشيعي في المنطقة.

3 – الوضع الداخلي في مصر، فقد تسلم الرئيس مرسي دولة تعاني من مشاكل سياسيَّة واقتصاديَّة واجتماعيَّة، ومن الطبيعي أن يكون القضاء على هذه المشاكل أولويَّة مطلقة، ولم يكن بإمكانه المغامرة في ذلك الوقت بعلاقاته مع الخليج وتعريض الاقتصاد المصري للخطر حال استخدام الدول الخليجيَّة ملف العمالة والاستثمارات والمساعدات في الضغط عليه، وهو ما يمكن أن يفجر الوضعين السياسي والاجتماعي.

4 – موقف الجيش المصري، فقد كانت قيادات الجيش هي نفسها قيادات عهد مبارك التي وقفت ضد تحسين العلاقات مع إيران طوال ثلاثين عامًا، بل ولعبت دورًا كبيرًا في إجهاض كلِّ محاولات التقارب التي قام بها مفكِّرون وحزبيُّون وسياسيُّون من البلدين.

5 – ضغوط التيَّار السلفي، وهو مكون مهم من مكونات التيَّار الإسلامي بشكل عام، وله تأثير على قطاع كبير من المصريين، ويرفض أيَّ تقارب مع إيران ويراه مدخلًا لنشر التشيُّع في مصر.

كانت كل الشواهد فيما بعد تدل على أن العوامل السابقة هي التي سوف تتحكَّم في رسم حدود العلاقة مع إيران، وأنها لن تدع للجانب المصري الفرصة لإقامة علاقة طبيعيَّة مع الإيرانيِّين المتطلِّعين إلى ذلك بشدة. وقد دَلَّت الأحداث فيما بعد على أن التطبيع مع إيران لن يصل إلى درجة الانسجام الكامل، فقد كانت السعوديَّة هي أوَّل دولة يزورها الرئيس مرسي، وهو ما رأى فيه المراقبون رسمًا لأولويات السياسة الخارجيَّة المصريَّة مع الخليج وإيران، في اتجاه اصطفاف مصري داخل “أهل السُّنَّة والجماعة” الذين تقودهم السعوديَّة بأموالها واستغلالها للمكانة الروحيَّة للحرمين الشريفين، مع بناء القاهرة لعلاقات طبيعيَّة مع إيران لا تصل إلى درجة الانسجام الكامل للمحافظة على العلاقات مع دول الخليج[16].

وعلى الرغم من ذلك فإن إيران لم تقطع الأمل في رغبتها في توجيه النظام السياسي المصري، وأطلقت بالون اختبار لجس نبض المسؤولين المصريين حول هويَّة الدولة المصريَّة وطبيعة نظامها السياسي بعد الثورة، وذلك من خلال رسالة موجَّهة من بعض المفكرين والعلماء ورؤساء الجامعات الإيرانيِّين إلى الرئيس مرسي في 18 فبراير 2013م، ينصحونه فيها بتبني التعاليم الإسلاميَّة في بناء الدولة الجديدة، ويعرضون عليه التجربة الإيرانيَّة كنموذج ناجح للدولة القائمة على الإسلام، ويعلنون فيها عن استعدادهم لوضع خبراتهم العلميَّة تحت تصرُّف الحكومة المصريَّة من باب الأخوة الإسلاميَّة[17].

وقد أثارت هذه الرسالة التي نشرتها وكالة فارس الإيرانيَّة للأنباء سخط المصريين الذين اعتبروها تدخلًا مرفوضًا في الشأن المصري، خاصَّة وأن مِن بين الموقعين عليها مستشار المرشد الأعلى للثورة الإيرانيَّة علي ولايتي ورئيس البرلمان السابق غلام علي حداد عادل وآية الله محقق داماد. وزاد من سخط المصريين ما زعمه الإعلام المصري والعربي من أن هذه الرسالة تحتوي على نصيحة بتبني تعاليم الخميني وولاية الفقيه. ولهذا فقد أكَّد المتحدث باسم رئاسة الجمهوريَّة أن النموذج الذي سوف تقوم عليه الدولة ينبع من إرادتها الوطنيَّة، وأن هذا النموذج لا يشبه النماذج الأخرى، ولا يمكن لأحدٍ أن يملي علينا نموذجه. كما رفض الإخوان المسلمون هذه الرسالة على لسان المتحدث الرسمي باسمهم، ورَدَّ عليها القيادي بحزب الحرية والعدالة، عصام العريان، بقوله: “إن مصر لن تكون إيران ولا أفغانستان ولا باكستان، ولن تكون شبيهًا ببلدٍ آخر في نظامها السياسي ولا تطورها الاجتماعي”[18].

وقد نفى القائم بالأعمال الإيراني في القاهرة، مجتبى أماني، أن تكون لهذه الرسالة علاقة بالمرشد الأعلى أو الحكومة الإيرانيَّة، وأكَّد أن الموقعين عليها قد كتبوها بصفتهم الشخصيَّة وليس بصفة حكوميَّة. وأن هؤلاء العلماء والمفكرين لا يهدفون إلَّا إلى تقديم مقترحاتهم ونصائحهم للرئيس مرسي للاستفادة من التجربة الإيرانيَّة في تأسيس الدولة[19]. والحق أن الرسالة لم يرد فيها شيء صريح حول الدعوة لتبني نموذج الخميني وولاية الفقيه، لا في نصِّها الفارسي ولا العربي، وأنها تحتوي على ثلاثة عناصر، هي: شرح مكتسبات النظام الإسلامي في إيران، ودعوة مصر للاستناد إلى التعاليم الإسلاميَّة في بناء الدولة، وعرض المساعدة على المصريين.

وبالتوازي مع محاولات توجيه النظام السياسي المصري، تعدَّدت العروض الإيرانيَّة بمساعدة مصر في تجاوز محنتها الاقتصاديَّة في عهد الرئيس مرسي، وقد أكَّد الرئيس الإيراني أحمدي نجاد ذلك حينما أعلن استعداد بلاده لتقديم قرض لمصر رغم العقوبات الاقتصاديَّة الدوليَّة على طهران، وصَرَّح بأنه يمكن للإيرانيين تقديم خط ائتماني كبير للإخوة المصريين وكذلك خدمات عديدة[20]. وألغى نجاد خلال زيارته لمصر تأشيرات دخول السياح والتجار المصريين لبلاده من جانب واحد، وألمح إلى إمكانيَّة توسيع إلغاء التأشيره ليشمل العلماء والجامعيين[21]. ولم يرد شيءٌ رسميٌّ عن قيمة العرض الإيراني إلَّا على لسان القائم بالأعمال الإيراني الذي ذكر أن إيران عرضت على القاهرة خطة بمليار دولار للخروج من أزمتها الماليَّة، وألقى باللوم على الجانب المصري في إصابة هذه الخطة بالركود[22].

وقد ذكرت تقارير صحفية إيرانيَّة أن الجانب المصري تلقى عروضًا بتعزيز العلاقات التجاريَّة عبر اقتراح صفقات لدعم الاقتصاد المصري المتراجع، شملت اتفاقيَّة لتشجيع السياحة الإيرانيَّة في مصر، وتقديم شحنات نفط واتفاقات تجاريَّة متنوعة، إلَّا أن المصريين لم يستفيدوا من هذه الفرصة لرغبتهم في استغلالها للضغط على السعوديين لتقديم صفقات اقتصاديَّة موازية، وأن السعوديَّة قامت بتمرير المقترحات التجاريَّة الإيرانيَّة إلى طهران لإحراج الرئيس مرسي أمام الإيرانيين[23]. وفيما بعد، صَرَّح بعض المقربين من الإسلاميِّين في مصر بأن إيران عرضت على مصر 30 مليار دولار، وإرسال 5 ملايين سائح إيرانى لمصر سنويًّا، وكذلك إعادة تشغيل 2000 مصنع معطل بواسطة خبراء إيرانيين، في مقابل إعادة العلاقات وفتح المزارات الدينيَّة الخاصَّة بآل البيت للإيرانيين، ولكن الرئيس مرسي رفض هذا العرض[24]. ولكن هذه الأمر لم يتم تأكيده أو نفيه من جانب الذين عاصروا هذه الأحداث.

لقد شهدت فترة الرئيس مرسي العديد من الأحداث التي أيقن بعدها الإيرانيون أن تقديراتهم كانت خاطئة، فقد كانت هذه الأحداث تمثل فرصة للتقارب، ولكنها انقلبت إلى سبب من أسباب الخلاف وجاءت بأثر عكسي، وزادت من حدة التوتر بين إيران ومصر. ومن هذه الأحداث ما يلي:

  • زيارة الرئيس مرسي لطهران: زار الرئيس مرسي طهران لحضور قمة عدم الانحياز في 28 أغسطس 2012م، ولقي فيها الرئيس ترحيبًا واسعًا من النظام الإيراني، لكون زيارته الأولى لرئيس مصري إلى إيران منذ عقود، ولكن الزيارة أثارت غضب الإيرانيين لرفض الرئيس مرسي مقابلة المرشد الأعلى للثورة الإيرانيَّة علي خامنئي، بحُجَّة أنه رجل دين، وأنه كرئيس قد اكتفى بمقابلة نظيره، متجاهلًا كون خامنئي الرجل الأوَّل في الدولة، وترديده عبارات مذهبية تتعارض مع المعتقد الشيعي في كلمته إلى المؤتمر، وتأييده للثورة السوريَّة ومهاجمته للنظام السوري الحليف لإيران. وفي المقابل، استنكر المصريون تحريف كلمة الرئيس مرسي في الترجمة الفارسيَّة، فقد استبدل المترجم الإيراني البحرين بسوريا في العبارات التي انتقد فيها مرسي سلوك النظام السوري في تعامله مع الثورة الشعبيَّة[25].
  • زيارة الرئيس نجاد للقاهرة: وَصَل أحمدي نجاد إلى مصر في 5 فبراير 2013م لحضور القمَّة الإسلاميَّة، وكانت هذه الزيارة هي الأولى لرئيس إيراني لمصر منذ 34 عامًا. وكان نجاد قد عبَّر قبل مغادرته طهران عن الأمل في أن تمهد زيارته الطريق أمام استئناف العلاقات بين البلدين، وقال: “سأحاول فتح الطريق أمام تطوير التعاون بين إيران ومصر”[26]. ولكن هذه الزيارة شهدت العديد من المواقف التي مثلت إهانة للضيف الإيراني وأثارت غضب التيَّار المُتشدِّد في طهران، والذي كان يرفض الزيارة منذ البداية. ومن هذه المواقف لقاء نجاد مع شيخ الأزهر الذي لم يستقبله أمام باب المشيخة كما هو متبع بروتوكوليًّا عند استقبال القادة والرؤساء، ولم يظهر معه في المؤتمر الصحفي، وأوكل هذا الأمر إلى مستشاره الشيخ حسن الشافعي الذي تلا بيان الأزهر الذي انتقد أسلوب تعامل إيران مع دول الخليج ودورها في سوريا ومحاولاتها نشر النفوذ الشيعي في الدول السنيَّة، مما جعل نجاد يبدي امتعاضه من البيان ويهدَّد بالانسحاب من المؤتمر. وزيارته لمسجد الحسين، حيث تجمَّع عددٌ من المصريين أمام المسجد ورفعوا «الأحذية» في وجه نجاد والوفد المرافق له أثناء زيارته للمسجد، وقامت قوَّات الأمن بإلقاء القبض على عدد منهم[27]. ومحاولة الاعتداء عليه في بيت السفير الإيراني بالقاهرة من أحد الحاضرين في الحفل الذي أقيم على شرفه[28].
  • الرحلات السياحيَّة الإيرانيَّة: استقبلت مصر في 31 مايو 2013م أوَّل وفدٍ سياحي إيراني بعد الثورة، وكان وصوله إلى مصر بعد تعليق تواصل لشهرين إثر مظاهرات نظمتها مجموعة سلفيَّة تعارض وصولهم وترفض محاولات التقارب الإيراني المصري. وعلى الرغم من الدعاية الكبيرة التي أحاطت وصول الفوج السياحي والحديث عن زيادة التعاون السياحى والرغبة في زيارة ملايين الإيرانيين لمصر فإن شركات السياحة الإيرانيَّة أوقفت رحلاتها بعد أوَّل رحلة، وذلك عقب مهاجمة السلفيِّين لهذه الخطوة، مؤكِّدة أنه سيتم انتهاز هذه الفترة لإعادة تقييم ومراجعة التجربة والبرامج السياحيَّة مع الجانب الإيراني. وقد فسَّر مراقبون هذا التوقف بأنه جاء على خلفيَّة مخاوف إيرانيَّة من تعرُّض سائحيها فى مصر لمحاولات عنف من قبل إسلاميِّين مُتشدِّدين، أو إذا صَحَّ التعبير كمحاولة لدفع أجهزة الأمن المصريَّة لتعزيز الحماية المفروضة حول الأفواج السياحيَّة التى ستصل لمصر مستقبلًا، فى حالة اتخاذ إيران قرارًا باستئناف الرحلات السياحيَّة إلى مصر. لكن هناك فرضيَّة أخرى أوضحتها تصريحات وزير السياحة المصرى هشام زعزوع وهى أن الخطوة الإيرانيَّة جاءت بعد قرار مصر تطبيق إجراءات احترازيَّة أمنيَّة تجاه السائحين الإيرانيِّين تمثلت فى الحصول على الأسماء قبل قدومها لمصر وعرضها على أجهزة الأمن حرصًا على الأمن القومى المصري، وهو ما يمكن أن يكون قد قوبل برفض إيرانى لهذه الخطوة، خاصَّة وأن من شأنها إعاقة تحرُّك الإيرانيِّين داخل مصر وتحديد نشاطهم. كذلك يمكن القول بأن خطوة تأجيل الرحلات السياحيَّة الإيرانيَّة لمصر جاء على خلفيَّة رفض إيرانى لتحجيم نشاط الأفواج الإيرانيَّة فى مصر وقصرها على زيارة مناطق بعينها دون غيرها، وعدم السماح لها بدخول القاهرة لزيارة المزارات الدينيَّة المقدسة لدى الشيعة، وكخطوة ضغط على الجانب المصرى بهدف السماح بدخول هذه الأماكن، خاصَّة وأن الاتفاق منذ البداية كان عدم وصول أىٍّ من الأفواج الإيرانيَّة للأماكن المقدسة، خاصَّة مسجدى الحسين والسيدة زينب، لكن ما حدث مع أوَّل فوج جاء خلاف هذا، إذ تمَّ السماح للفوج بزيارة مسجد الحسين والسيدة زينب لكن عبر مشاهدته “عن بُعد” حتى لا يتعرَّض لأىِّ خطر محتمل، وطُلِب من أعضاء الفوج عدم الترجُّل خارج الحافلة خوفًا على حياتهم[29].

ومع نهاية عهد الرئيس مرسي، وقعت بعض الأحداث التي أعادت موضوع العلاقات مع إيران إلى نقطة الصفر، وغيَّرت موقف النظام الإيراني من إدارة الرئيس مرسي وجماعة الإخوان المسلمين بشكل عام، وجعلتهم هدفًا لهجوم وسائل الإعلام الإيرانيَّة ورجال الدين المحسوبين على النظام. ومن بين هذه الأحداث ما يلي:

  • الاعتداء على بيت السفير الإيراني: في 5 مايو 2014م، توافد العشرات من المنتمين للتيَّار السلفي أمام منزل القائم بأعمال السفير الإيراني، وسط تواجد أمني مكثف، لإعلان رفضهم للسياحة الإيرانيَّة على أرض مصر. ورَدَّد المشاركون في الوقفة الاحتجاجيَّة هتافات، من بينها: «يا سفير الإيرانيَّة.. مصر مش حتكون شيعيَّة»، و«مصر وسوريا إيد واحدة». وحَمَل المحتجون لافتة كتبوا عليها: «لا للشيعة في مصر»، وحاول أحدهم تسلق بوابة المنزل إلَّا أن أمن السفارة الداخلي منعه باستخدام العصي، مما أدَّى إلى غضب بقيَّة المحتجين الذين رفعوا أحذيتهم في وجه قوات الأمن المتواجدة[30]. ووَصَف مجتبى أمانى القائم بأعمال السفارة الإيرانيَّة ما حدث بأنه محاولة لضرب التطور الحاصل فى العلاقات الثنائيَّة بين البلدين، وطالب بتعزيز التواجد الأمنى حول مقر إقامته، كما قدمت طهران احتجاجًا رسميًّا للسلطات المصريَّة على محاولة اقتحام منزل سفيرها بالقاهرة[31].
  • مؤتمر دعم الثورة السوريَّة: في 15 يونية 2013م، عقد “مؤتمر الأمَّة المصريَّة في دعم الثورة السوريَّة”، الذي نظمته قوى إسلاميَّة وثوريَّة وشعبيَّة، وحضره الرئيس مرسي الذي هاجم النظام السوري وحزب الله اللبناني بشدة، وقطعت على أثره العلاقات مع النظام السوري. وشهد المؤتمر مطالبات للرئيس مرسي من بعض السلفيِّين المشاركين فيه بغلق الباب أمام دخول الشيعة مصر، والدعوة للجهاد ضد نظام بشار الأسد من قبل الشعب السوري وجموع الشعوب العربيَّة[32]. وكان هذا المؤتمر قد سُبق بمؤتمر “علماء الأمَة الإسلاميَّة في نصرة الشعب السوري” الذي أكَّد علي ضرورة الجهاد لنصرة الشعب السوري بالنفس والمال والسلاح لانقاذه من قبضة القتل والإجرام للنظام الطائفي، واعتبار ما يحدث من عدوان النظام الإيراني وحزب الله حربًا علي الاسلام، ودَعَا المؤتمر الشعوب الإسلاميَّة إلى مقاطعة البضائع والشركات والمصالح الإيرانيَّة[33]. وقد أثار هذان المؤتمران غضب الإيرانيِّين الذين وصفوا خطاب المشاركين فيهما بالتكفيري والطائفي.
  • مقتل حسن شحاته ورفاقه: في 23 يونية 2013م، لقي الشيخ الشيعي المصري “حسن شحاته” مصرعه مع ثلاثة من رفاقه على يد سكان إحدى قرى الجيزة الذين تجمهروا وحاصروا المنزل الذي تواجد فيه لإقامة طقوس مذهبيَّة احتفالًا بمولد الإمام المهدي وليلة النصف من شعبان، وكان ذلك قبل أيام من الانقلاب على الرئيس مرسي، ولم تتدخل الشرطة لحماية المُعتدَى عليهم، حتى إن وسائل إعلام وَصَلت إلى المكان قبلها، الأمر الذي يرجح وجود مؤامرة لتشويه صورة الرئيس مرسي والإخوان المسلمين، واتهامهم بتبني خطاب تحريضي طائفي، وضرب أي إمكانيَّة مستقبليَّة لوقوف إيران وشيعة العالم العربي مع الإخوان بعد الانقلاب على الرئيس مرسي وإزاحتهم من الحُكم. وقد أثار مقتل شحاته ورفاقه الإيرانيِّين الذين أدانوا هذا العمل، فقد استنكرت وزارة الخارجيَّة الإيرانيَّة مقتله، وذكرت في بيان رسمي “أن “إيران تدين أيَّ عمل من أعمال التطرف والعنف يخالف الإسلام وتعاليمه”، مشيرة إلى ثقة إيران بأن الأمَّة المصريَّة “العاقلة والثوريَّة” ستواجه مؤامرات تهدف إلى بث الفرقة بين مختلف المذاهب الإسلامية”[34]. واستنكر وزير الخارجيَّة صالحي في حوار هاتفي مع نظيره المصري محمد كمال عمرو المجزرة المروعة التي ارتكبت بحّقِّ الشيخ شحاتة وعدد آخر من المسلمين المصريين من قبل عناصر مُتشدِّدة[35].

لم تكن هذه الأحداث تمر مرور الكرام في الإعلام الإيراني الذي كان يهاجم الرئيس مرسي ويُحمِّل إدراته المسؤوليَّة كاملة، في حين كان المسؤولون الرسميُّون يتعاملون بدبلوماسيَّة شديدة تنم عن بقيَّة أمل في تجاوز العراقيل التي تواجه عمليَّة التطبيع مع مصر. وبمجرد أن وقع الانقلاب العسكري في 30 يونية 2013م، ظهر إلى العلن ما يشير أن العلاقات بين إيران ومصر كانت قد وَصَلت إلى أدنى مستوياتها في نهاية عهد الرئيس مرسي، فقد اتهم الإيرانيُّون على لسان شخصيَّات بارزة ومقرَّبة من رأس النظام الإيراني الرئيس مرسي بأنه لم يكن مؤهلًا للحكم، وأنه أخطأ حينما ترك أركان النظام السابق في أماكنهم، ولجأ إلى آل سعود الذين لم يساعدوه في الخروج من الأزمة الاقتصادية وأيَّدوا الانقلاب، وتحالف مع السلفيين التكفيريين الممثلين في حزب النور، وفشل في معاقبة قاتلي الشيخ حسن شحاتة ورفاقه، وسعى في إسقاط النظام السوري بدلًا من الوساطة بينه وبين المعارضة، ولم ينضم إلى الثورة الإسلاميَّة وتيار المقاومة في المنطقة، ولم يقطع علاقة مصر بإسرائيل[36]. وعلى الجانب الآخر، وَجَّه البعض الاتهام إلى إيران باعتبارها من الأيدي الخفيَّة للانقلاب، وهو ما ذكره الأستاذ محمد أحمد الراشد، الذي قال إن إيران سخرت جهود الشيعة العرب ضد الرئيس مرسي وصَعَّدت هجومها عليه بسبب موقفه منها ومن حلفائها في القضيَّة السوريَّة، وأن مرسي رفض عروضًا إيرانيَّة للتغلغل في مصر من خلال الهيمنة على المزارات الدينيَّة المقدسة لدى الشيعة في مقابل الدعم المالي وتوجيه السياحة الإيرانيَّة إلى مصر[37].

إيران ومصر في عهد السيسي

يمكن القول بأن العلاقات الإيرانيَّة المصريَّة قد عادت في عهد السيسي وانقلابه العسكري إلى ما كانت عليه في عهد حسني مبارك، فهي ما بين محاولاتٍ إيرانيَّةٍ للتواجد على الساحة المصريَّة بشكل “رسمي” من خلال التعاون مع نسخةٍ جديدةٍ من مبارك الذي سبق أن وَصَفه خامنئي بالخائن والعميل والمعادي للإسلام، وهو السيسي الذي فاق مبارك في تبعيَّته للغرب وولائه لإسرائيل وحرصه على إرضاء دول الخليج التي موَّلت انقلابه ودعمته بكلِّ ما أوتيت من قوَّة، وعودةٍ مصريَّةٍ إلى اللعب بورقة إيران في التعامل مع الخليج وإسرائيل وأمريكا للحصول على أقصى ما يمكن الحصول عليه لمصلحة النظام الانقلابي وتثبيتًا لأركانه.

كان موقف الإعلام الإيراني ورجال الدين الإيرانيين من انقلاب 30 يونية أسبق من الموقف الرسمي، فقد عَلَت نبرة التشفي من الرئيس مرسي وطغت روح الانتقام منه على الخطاب الإعلامي والديني، حيث شرع الإعلام في كيل الاتهامات له ولجماعة الإخوان لتكريس صورة ذهنيَّة سلبيَّة تدعم الموقف الرسمي المُنقلِب عليه وتبرره. كما احتفى خطباء الجمعة التابعين للدولة بالانقلاب، حتى إن إمام الجمعة في أردبيل اتهم الرئيس مرسي بأنه كان بصدد خيانة القضيَّة الفلسطينيَّة بتبعيته لأمريكا والأنظمة الاستكباريَّة[38]. بل وَصَل الأمر بالبعض إلى القول بأن ما يلاقيه أنصار الرئيس مرسي من قتل على يد الانقلابيين هو عقاب لهم على سفك دماء الشيخ حسن شحاته ورفاقه.

أمَّا من الناحية الرسميَّة فقد احتاجت إيران إلى أسبوع كامل لصياغة موقفها من الانقلاب، لأنها كانت بين خيارين أحلاهما مر: إمَّا تأييد الانقلاب للتخلص من مواقف الرئيس مرسي المعادية لحلفاء إيران في المنطقة، وهو ما يمثل لها إحراجًا بسبب انتماء الرئيس إلى التيَّار الإسلامي ومجيء نظامه بعد ثورة ادَّعى الإيرانيون أنها موجة من موجات الثورة الإسلاميَّة في إيران، أو إدانته، وهو ما يُعرِّض مساعيها للتطبيع مع مصر للخطر ويؤثر على مصالحها في مصر والمنطقة. ولهذا فقد أصدر المتحدث باسم الخارجيَّة الإيرانيَّة عباس عراقجي بيانًا في 7 يوليو استنكر فيه الانقلاب العسكري على رئيس مصر المنتخب ديمقراطيًّا، ولكنه لم يُسمِّه انقلابًا، وأعطى في الوقت نفسِه مشروعيَّة لـ30 يونية بقوله إن “مصر تواجه معضلتين رئيسيتين: الأولى هي مطالب الشعب التي يجب تحقيقها، والأخرى هي عدم كفاءة الرئيس مرسي في إدارة البلاد، خاصَّة الشؤون الخارجيَّة”[39].

ولم تمر أيام حتى سَعَت إيران إلى تخفيف آثار هذا البيان الذي اعتبرته الخارجيَّة المصريَّة تدخلًا في شؤون مصر، وبدأت في التعامل مع النظام الانقلابي والاعتراف العملي به. وكانت البداية مع اتصال وزير الخارجيَّة الإيراني في 13 يوليو بمحمد البرادعي، نائب الرئيس المؤقت عدلي منصور، لتأكيد احترامه لما سَمَّاه مواقف الشعب المصري ومطالبه في ما يتعلَّق بمستقبله السياسي. ثم أكَّد الوزير الإيراني بعد ذلك أن مصر دولة محوريَّة لها دور مؤثر ومهم في المنطقة، وأن الشعب المصري هو الذي يجب أن يُحدِّد مصيره بنفسِه، وأن الجيش المصري جيش وطني، وأن ما يجري فتنة مدمرة[40].

والعجيب أن إيران التي ندَّدت فيما بعد بمجزرة رابعة والنهضة، حيث اعتبرت فض الاعتصام مجزرة بحَقِّ الشعب المصري وأن “تقتيل المسلمين” يتم بدعم أمريكي، وانتقدت سلوك الجيش المصري في تعامله مع المتظاهرين في بعض المناسبات، هي نفسها إيران التي وافقت على تلبية الدعوة المصريَّة لحضور مراسم تنصيب السيسي رئيسًا لمصر في 8 يونيو 2014م، وأرسلت مساعد وزير الخارجيَّة الإيراني للشؤون العربيَّة والأفريقيَّة، حسين أمير عبداللهيان، نائبًا عن الرئيس روحاني لحضور المراسم، وكان لافتًا لأنظار الحضور حرارة المصافحة بينه وبين السيسي، حتى إن بعض الصحف وَصَفت ذلك بأنه “تجاوز لحدود البروتوكولات”. ولكن هذا العجب يزول في ضوء السياسة البراغماتيَّة الإيرانيَّة التي لا تعترف إلَّا بالمصلحة، وعلى استعداد للتعاون مع أيِّ طرفٍ في سبيل هذه المصلحة.

لقد خرج عبداللهيان بعد ذلك ليُحدِّد موقف بلاده من مصر، في كلام لا يختلف كثيرًا عن ما قيل في نهاية عهد مبارك ومرحلة المجلس العسكري وعهد الرئيس مرسي، فقد أكَّد على أهميَّة دور مصر العربي والإسلامي، وأعلن أن العلاقات في تقدُّم، وأن إيران على استعداد للتعاون الوثيق مع الحكومة المصريَّة وجاهزة لتقديم المساعدة لمصر في جميع المجالات الاقتصاديَّة والتجاريَّة، وأن هناك أطرافًا لا ترغب في التقارب بين مصر وإيران، وأن أمن مصر هو أمن إيران وأمن إيران هو أمن مصر. كما حَمَلت كلماته اعترافًا إيرانيًّا صريحًا بنظام السيسي، حيث ذكر أن انتخابه كان خطوة إلى الأمام، وأن حضوره إلى القاهرة على رأس وفدٍ رسمي هو احترام لإرادة الشعب المصري، وأن في مصر الآن وضع جديد وسوف تتعامل معه إيران، وتمنى أن يُعيد الرئيس الجديد “مصر الحقيقيَّة”، وألَّا يرتكب “أخطاء” الرئيس مرسي[41].

وفي المقابل، اتسمت سياسة مصر الخارجيَّة بعد الانقلاب العسكري بالبحث عن مصالح النظام الحاكم الذي يعاني من حساسية مفرطة تجاه شرعيته، وهي السياسة التي تقوم على استرضاء جميع الأطراف الإقليميَّة والدوليَّة، ولهذا فقد لعب السيسي على التناقضات والخلافات بين إيران ودول الخليج، حيث أكَّد على أن العلاقة مع إيران تمر عبر الخليج العربي، وأن أمن مصر لا ينفصل عن أمن الخليج[42]، ولكنه لم يغلق باب التعاون والتفاهم مع الإيرانيين في نفس الوقت، وهو ما اتضح من دعوة الرئيس روحاني لحضور مراسم تنصيب السيسي والتفاهم بين البلدين حول بعض القضايا الإقليميَّة، مثل قضيتي سوريا واليمن.

ويُعدُّ لقاء وزير الخارجيَّة المصري سامح شكري بنظيره الإيراني جواد ظريف في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعيَّة العامَّة للأمم المتحدة في أكتوبر 2016م نموذجًا بارزًا للعب النظام المصري بورقة الخلافات الإيرانيَّة الخليجيَّة لمصلحته، فقد أعقب هذا اللقاء تصويت مصر للرؤية الروسيَّة فيما يخص القضيَّة السوريَّة في مجلس الأمن خلافًا للرؤية العربيَّة، وهو ما جعله أقرب إلى إيران وروسيا والنظام السوري منه إلى الدول العربيَّة التي أيَّدته في الانقلاب، ما دفع السعوديَّة إلى وصف موقف مصر بالمؤلم[43]. وشبيه بهذا موقف النظام المصري من أزمة اليمن، حيث شاركت مصر مشاركة محدودة في عاصفة الحزم في الوقت الذي أكَّد فيه السيسي على أن الحل السلمي هو الأفضل لليمنيين، وسط إشادة كبيرة من إيران التي تبذل جهودًا حثيثة لوقف عملية عاصفة الحزم وبدء حوار مع الحوثيين دون شروط. بل واستقبلت مصر الحوثيين وسمحت لهم بمهاجمة عاصفة الحزم من على أرضها[44].

خاتمة

تعاملت إيران خلال السنوات العشر الأخيرة مع الملف المصري بطريقة براجماتيَّة واضحة، حيث سَعَت إلى تطبيع علاقاتها مع مصر للاستفادة من وضعها العربي والإسلامي في تحقيق مصالحها في المنطقة، ولهذا فقد أيَّد النظام الإيراني الثورة المصريَّة في 25 يناير، وشجع الثوار على اجتثاث نظام مبارك – الذي يئس من التطبيع معه – من جذوره، متهمًا إيَّاه بالخيانة والعمالة ومعاداة الإسلام، لاعترافه بالكيان الصهيوني وتبعيته لأمريكا ومعاداته للمقاومة الفلسطينيَّة. واستغل الإيرانيُّون الفترة الانتقاليَّة التي حكم فيها المجلس العسكري في التواصل مع النخب المصريَّة من جميع الأطراف، دون انتظار لعودة العلاقات الرسميَّة. ثم رَحَّب النظام الإيراني بوصول الرئيس مرسي إلى الحكم، ظنًا منه أنه سوف يتجاوب مع رغباته في قيام تحالف استراتيجي بين إيران ومصر، ولكن سرعان ما دَبَّ الخلاف بين الطرفين وتغيَّرت نظرة الإيرانيِّين لمرسي الذي كان يرغب في تقوية علاقته مع دول الخليج، وكان يدعو لإسقاط نظام بشار الأسد الحليف لإيران ويهاجم حزب الله اللبناني لدوره في سوريا. وشهدت فترة حكمه بعض الأحداث التي وترت العلاقة بين الطرفين، مثل مهاجمة بيت السفير الإيراني في القاهرة ومقتل الشيخ الشيعي حسن شحاته ورفاقه. ثم وقع انقلاب 30 يونية، ووجدت إيران نفسها مطالبة باتخاذ موقف تجاه هذا الانقلاب العسكري الدموي الذي أسقط الرئيس المنتخب بعد ثورة شعبيَّة أيَّدتها بشدة واعتبرتها امتدادًا لثورتها، وهنا ظهرت التناقضات التي أوجدتها سياستها البراجماتيَّة، فقد اعترفت بالنظام الانقلابي الذي أطاح بالتجربة التي سَبَق أن أيَّدتها، وسارت في مسار التطبيع مع السيسي الذي فاق مبارك في حصاره لقطاع غزة وتبعيته لأمريكا وتعاونه مع إسرائيل.

المصادر:

[1]أحمد عرفات، أشرقت. العلاقات المصرية – الإيرانية من الفترة “2011 – 2016”، المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية، 3 أغسطس 2016م، https://democraticac.de/?p=35024

[2]المصري اليوم، حيثيات «اقتحام السجون» تكشف دور الإخوان وحماس وحزب الله وإيران في القضية، 6 يوليو 2015م، https://www.almasryalyoum.com/news/details/769077

[3]قناة العالم، الخطبة العربية لسماحة آية الله خامنئي عن ثورة مصر، 4 فبراير 2011م، https://www.alalamtv.net/news/57328

[4]المصدر السابق.

[5]مركز الجزيرة للدراسات، إيران والثورات العربية: سرديات بناء المركزية الإيرانية، 8 نوفمبر 2016م، https://studies.aljazeera.net/ar/reports/2016/11/161108101658375.html

[6]راديو سوا، رفسنجاني يقول إن مصر تحتاج إلى قائد مثل الإمام الخميني، 10 فبراير 2011م، https://www.radiosawa.com/archive/2011/02/10

[7]مرسي، مصطفى. أبعاد الموقف الإيراني من الثورة الشعبية في مصر، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 21 فبراير 2011م، https://www.ecssr.ae/reports_analysis

[8]المصدر السابق.

[9]البوابة، إستحداث سفارة إيرانية في مصر قريبا، 18 أبريل 2011م، https://www.albawaba.com/ar

[10]عصر ايران، موافقت مقامات ایرانی با تغییر نام خیابان “شهید خالداسلامبولی” در تهران، 12 خرداد 1390ش، https://www.asriran.com/fa/news/167908

[11]ميدل إيست أونلاين، إيران تغري مصر بالسياحة والاستثمار، 6 يونية 2011م، https://meo.news/en/node/444115

[12]القدس العربي، طهران: قضية الدبلوماسي الذي طرد من مصر “سوء تفاهم تم حله”، 31 مايو 2011م، https://www.alquds.co.uk/

[13]أحمد عرفات، أشرقت. العلاقات المصرية – الإيرانية من الفترة “2011 – 2016”، المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية، 3 أغسطس 2016م، https://democraticac.de/?p=35024

[14]دنياي اقتصاد، استقبال ایران از پیروزی نامزد اسلام گرای مصر، 6 تير 1391ش،  https://donya-e-eqtesad.com/

[15]فرانس 24، مرسي يزور طهران في بادرة تطبيع بين مصر وإيران، 28 أغسطس 2012م، https://www.france24.com/ar/20120828

[16]المصدر السابق.

[17]خبرگزاري دانشجو، نامه مهم 17 انديشمند ايراني به مرسي، 27 بهمن 1391ش، https://snn.ir/fa/news/227979

[18]بي بي سي عربي، رسالة “علماء إيران” إلى الرئيس مرسي تثير سخطاً في مصر، 18 فبراير 2013م، https://www.bbc.com/arabic/middleeast/2013/02/130218_egypt_iran_story

[19]صحيفة الجمهورية، دبلوماسي إيراني: خامنئي لم ينصح مرسي بتطبيق ولاية الفقيه، 18 فبراير 2013م، https://www.aljoumhouria.com/ar/news/56720

[20]صحيفة الجمهورية، أحمدي نجاد: إيران عرضت قرضًا على مصر، 6 فبراير 2013م،  https://www.aljoumhouria.com/ar/news/54366

[21]بي بي سي عربي، استئناف الرحلات السياحية بين مصر وإيران، 31 مايو 2013م،  31 مايو 2013م، https://www.bbc.com/arabic/middleeast/2013/05/130531_egypt_iran_tourism

[22]خبرگزاري دانشجويان ايران (ايسنا)، مبادلات تجاری ایران و مصر یک گام جلوتر از سیاست، 8 خرداد 1392ش، https://www.isna.ir/news/92030804923/

[23]جاده ايران، إيران والإخوان في عهد مرسي… عن عوائق التقارب المرغوب، 23 يونيو 2019م،  https://jadehiran.com/archives/9467

[24]اليوم السابع، نائب سابق بمجلس الأمة الكويتى يكشف بالفيديو..إيران تعرض على مصر 30 مليار دولار و5 ملايين سائح سنويا وإعادة تشغيل 2000 مصنع معطل.. مقابل وضع المساجد الفاطمية تحت إدارة طهران.. وجريدتان بالفارسية، 31 مارس 2013م، https://www.youm7.com/story/2013/3/31/

[25]الجزيرة، تحريف إيران لخطاب مرسي يثير جدلا، 1 سبتمبر 2019م، https://www.aljazeera.net/news/reportsandinterviews/2012/9/1

[26]بي بي سي عربي، أحمدي نجاد يصل الى مصر في أول زيارة لرئيس إيراني، 5 فبراير 2013م، https://www.bbc.com/arabic/middleeast/2013/02/130205_iran_egypt_nijad_visit

[27]مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية، نجاد في القاهرة وردود الفعل، 7 فبراير 2013م، http://www.asharqalarabi.org.uk/barq/b-qiraat-1326.htm

[28]بوابة أخبار اليوم، محاولة فاشلة للاعتداء على نجاد داخل منزل السفير الإيراني، 7 فبراير 2013م، https://m.akhbarelyom.com/news/newdetails/291824/1

[29]البلد اليوم، السياحة من طهران الى القاهرة رايح جاى.. ما بعد واقعة الهجوم على منزل السفير الإيراني، 5 مايو 2013م، http://www.balad2day.com/site/index.php?go=news&more=41617

[30]المصري اليوم، اشتباكات بين الأمن والمتظاهرين بعد محاولة اقتحام منزل القائم بالأعمال الإيراني، 5 مايو 2013م، https://www.almasryalyoum.com/news/details/300849

[31]البلد اليوم، السياحة من طهران الى القاهرة رايح جاى.. ما بعد واقعة الهجوم على منزل السفير الإيراني، 5 مايو 2013م، http://www.balad2day.com/site/index.php?go=news&more=41617

[32]النهار، الشيخ حسان يفتح النار علي الشيعة في مؤتمر نصرة سوريا، 15 يونيو 2013م، https://www.alnaharegypt.com/131428

[33]طريق الإسلام، البيان الختامي لمؤتمر العلماء لنصرة سوريا، 14 يونية 2013م، https://ar.islamway.net/lesson/138655

[34]الجزيرة، إيران تستنكر قتل الشيعة في مصر، 25 يونية 2013م،  https://www.aljazeera.net/news/arabic/2013/6/25

[35]قناة العالم، صالحي: هناك من يعمل على زعزعة الأمن في مصر، 25 يونية 2013م، https://www.alalamtv.net/news/1487764

[36]ابنا، اشتباهات اخوان‌المسلمین و خطاهای محمد مرسی، 5 تير 1398ش، http://fa.abna.cc/72Cw

[37]أبوعامر، عدنان. الإخوان المسلمون والانقلاب.. قراءة نقديّة، المونيتور، 8 أغسطس 2013م، https://www.al-monitor.com/pulse/ar/originals/2013/08/muslim-brotherhood-morsi-iran.html

[38]الهتيمي، أسامة. إيران وأحداث مصر.. فتّش عن المصلحة، الراصد، 7 سبتمبر 2013م، http://www.alrased.net/main/articles.aspx?selected_article_no=6366

[39]بي بي سي عربي، إيران تنتقد الإطاحة بمرسي ومصر ترفض التدخل في شؤونها، 7 يوليو 2013م، https://www.bbc.com/arabic/middleeast/2013/07/130707_iran_egypt_overthrow

[40]الصباغ، سعيد. العلاقات المصرية الإيرانية، القاهرة، الدار الثقافية للنشر، ص258.

[41]مشرق، در سخنان السیسی احساسات خالصانه نسبت به ایران حس کردم،25 خرداد 1393ش،  https://www.mashreghnews.ir/news/318025

[42]صحيفة الشروق، السيسي: أمن مصر لا ينفصل عن أمن الخليج.. ونسعى لإقامة علاقة عادلة مع إيران، 21 مايو 2014م، https://www.shorouknews.com/news/view.aspx?cdate=21052014&id=73cd69d0-0919-4444-9fb7-7051a4f2789c

[43]القدس العربي، حول تصويت مصر لصالح القرار الروسي حول سوريا، 9 أكتوبر 2016م، https://www.alquds.co.uk/

[44]سامي، أحمد. هل حرفت القاهرة بوصلتها السياسية تجاه إيران؟، إضاءات، 23 أكتوبر 2016م، https://www.ida2at.com/cairo-political-compass-towards-iran/

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى