مقدمة
في 9 أكتوبر/ تشرين الأول، بدأت القوات العسكرية التركية تنفيذ العملية العسكرية التي حملت اسم “نبع السلام” بدخول شمال سوريا، وهي خطوة تأتي – من وجهة النظر التركية، في إطار المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، التي تمنح حق الدفاع المشروع عن النفس، والقرار رقم 2254 الصادر عن مجلس الأمن الدولي بشأن مكافحة الإرهاب في سوريا.
استهدفت العملية التركية تأمين حدودها الجنوبية وحماية ترابها الإقليمي من العمليات العسكرية التي تنفذها “قوات سوريا الديمقراطية – قسد”، المنخرطة في علاقة وثيقة مع المنظمة الكردية التي تحمل اسم “حزب العمال الكردستاني”، والتي تصنفها تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كمنظمة إرهابية، حيث سبق أن خاضت صراعا مسلحا مع الدولة التركية بغية نيل حقوق ثقافية وسياسية، والحصول على حق تقرير المصير لأكراد تركيا.
ونتيجة لحربها ضد تنظيم “الدولة” ، حصلت “قسد” على دعم أمريكي أوروبي مالي وعسكري وسياسي، وهو ما أقلق تركيا حيال أمنها القومي، خاصة وأن شركاء تركيا في الناتو لم يلقوا بالا لهواجس تركيا، ما دفع الأخيرة لتنفيذ عملية “نبع السلام” بعد قرار الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” سحب القوات الأمريكية من شمال سوريا، تنفيذا لوعوده الانتخابية، رافضة قبولها أية وساطة مع الولايات المتحدة وفرنسا[1].
وكرد فعل على هذه العملية، وتحفظا على منهج الرئيس الأمريكي حيال الملف السوري، وإقدامه على رفع العقوبات عن المسؤولين الأتراك فور توقيع الاتفاق التركي الأمريكي في 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، قام مجلس النواب الأمريكي، في 29 أكتوبر/تشرين الأول 2019، بالموافقة على مشروعي قانون يستهدفان تركيا، يتعلق أحدهما بفرض عقوبات على تركيا، والآخر بخصوص ادعاءات أرمنية ذات طابع إنساني ضد الدولة العثمانية.
جدير أن يوم 29 أكتوبر/ تشرين الأول يمثل يوما يوافق عيد تأسيس الجمهورية التركية[2]، ما أدى لسلوكيات تصعيدية متبادلة بين الجانبين، وهو ما يحتاج لرصد، بقدر ما يحتاج اختبار التساؤلات حول العلاقات الأمريكية التركية مستقبلا، وهو ما تحاول هذه الدراسة القيام به.
قرارا مجلس النواب وآثارهما القريبة
لا تعد هذه المرة الأولى التي يتخذ فيها مجلس النواب الأمريكي هذه الخطوة، ففي 28 أيلول /سبتمبر عام 2007، صوتت لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الأمريكي، على مشروع قرار يعتبر أن ما وقع للأرمن في الدولة العثمانية خلال عام 1915 بمثابة “إبادة جماعية”.
وأصدر المجلس توصية للإدارة الأمريكية بالاعتراف بذلك، ولم يخفف من حدة الموقف التركي الذي اتخذ كرد فعل على هذا القرار سوى تنصل الإدارة الأمريكية من موقف مجلس النواب، حيث أعلن الرئيس الأمريكي السابق “جورج دبليو بوش” آنذاك: أن هذا القرار “سيلحق ضررا كبيرا بعلاقتنا بحليف أساسي في الناتو، وسيؤثر على التكتل في الحرب العالمية على الإرهاب”.
كما حذر وزير الدفاع الأمريكي الأسبق – آنذاك – “روبرت جيتس” من تداعيات هذا القرار على الموقف التركي، قائلا: إن “الأتراك كانوا واضحين بما فيه الكفاية في هذه القضية، وأضاف منبها مجلس النواب: أن “70% من الإمدادات الجوية الأمريكية و30% من إمدادات الوقود و95% من الآليات المدرعة الجديدة المخصصة للعراق تعبر من خلال تركيا”[3].
المشروع الأول: الذي أقره مجلس النواب الأمريكي يتمثل في مشروع قانون رقم 296 بشأن مزاعم “إبادة الأرمن”، وكان رئيس لجنة الاستخبارات بمجلس النواب، النائب الديمقراطي عن ولاية كاليفورنيا، آدم شيف، قد تقدم بهذا المشروع في 8 أبريل/نيسان 2019.
لم يكن احتمال وصول مشروع القرار للجمعية العامة لمجلس النواب قويا لولا عملية “نبع السلام”، التي دفعت اللجنة القانونية بالمجلس لقبول المشروع في 28 أكتوبر/ تشرين الأول، ورفعه إلى الجمعية العامة للمجلس، وفي اليوم نفسه أدرجت رئيسة المجلس الديمقراطية نانسي بلوسي المشروع على جدول أعمال الجمعية؛ في سرعة لافتة، والتصويت عليه خلال يومين اثنين فقط، ما اعتبره مراقبون ردا على سوء إدارة الرئيس الأمريكي لتداعيات عملية “نبع السلام[4]“.
كانت الجمعية العامة لمجلس النواب تضم 435 مقعدا وتم قبوله بموافقة 405 نواب، مقابل رفض 11 عضوا كلهم من الجمهوريين، فيما امتنع 3 عن التصويت (عضوان ديمقراطيان وعضو جمهوري)، بينما لم يحضر 13 نائبا جلسة التصويت. ووافق على مشروع القانون 226 نائبا من الحزب الديمقراطي الذي يمتلك 234 مقعدا بالمجلس، مقابل موافقة 178 نائبا من الحزب الجمهوري من أصل 197 وامتناع نفس الثلاثة عن التصويت[5].
كان الرئيس الأمريكي قد فرض عقوبات على وزيري الدفاع والطاقة التركيين، بالإضافة لعدة مسؤولين أتراك رفيعي المستوى[6]، لكنه لم يلبث أن رفع هذه العقوبات إثر نجاح نائب الرئيس ووزير الخارجية الأمريكيين في التوصل إلى اتفاق مع الجانب التركي، تم بموجبه ترسيم أهداف تركيا من الحرب، والعمل على تنفيذها من دون مواجهات بين القوات التركية وقوات “قسد”، وهو ما أدى لتعليق العمليات العسكرية التركية، ثم توقفها لاحقا[7].
أما المشروع الثاني: فيتمثل في مشروع قانون رقم 4695، فقد تقدم به رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الديمقراطي، السيناتور إيليوت آنجيل، والنائب الجمهوري مايك ماككول، وينص على فرض عقوبات على بعض المسؤولين الأتراك بسبب عملية “نبع السلام”.
ويشبه هذا المشروع مشروعا آخر كان قد تقدم به السيناتور ليندسي جراهام والسيناتور كريس فان هولين في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 برقم S-2644[8]، إلا أنه تم تأجيله لأجل غير مسمى بسبب الاتفاق بين تركيا والولايات المتحدة.
ووافقت الجمعية العامة بمجلس النواب على قبول مشروع القانون بموافقة 403 نواب مقابل رفض 16 آخرين. وينص المشروع على فرض مجموعة عقوبات ضد تركيا بسبب عملية “نبع السلام”، علاوة على تعليق بيع الأسلحة لتركيا وفرض بعض العقوبات المالية على تركيا وإعداد بروفايل مالي للرئيس أردوغان وعائلته، وإن كانت الخطوة الأخيرة تقتضي تعاونا من الإدارة الأمريكية في حال إقرارها كقانون[9]. وقد وافق 226 نائبا من الديمقراطيين على المشروع، بالإضافة إلى 176 من الجمهوريين، بينما رفضه 16 نائبا، وكانت النائبة الوحيدة التي صوتت بـ”لا” على مشروع القانون من الديمقراطيين هي “إلهان عمر”[10].
وفي التأثيرات قريبة الأجل للمشروعين، لا يؤدي مشروع القانون حول ادعاءات الأرمن لأي إلزام أو عقوبة قد تطال تركيا. وفي حال إقراره من قبل مجلس الشيوخ سيصدر عن مجلس النواب الأمريكي قرار توصية يعترف بمزاعم “الإبادة” الأرمنية. أما عن فرض عقوبات على تركيا، فسيتحول إلى قانون حال مروره من مجلس الشيوخ والمصادقة عليه من الرئيس الأمريكي ترامب. لكن الحديث عن إقرار المشروع الثاني ينطوي على قدر من التفصيل.
يحتاج مشروع قانون العقوبات إلى موافقة مجلس الشيوخ ليصبح نافذا، وهو الأمر الشائك بسبب تفضيل مجلس الشيوخ إبعاد مسألة الأرمن عن العلاقات التركية الأمريكية. وفي حال تمرير مجلس الشيوخ صيغة مختلفة للمشروع، سيتعين تشكيل لجنة مشتركة من غرفتي الكونغرس لإزالة الاختلافات بين الصيغتين وإعداد نص مشترك.
وفي حال تمرير هذه الصيغة المشتركة من قبل مجلسي النواب والشيوخ سيتم إرساله للرئيس ترامب للتصديق عليه، وهو تصديق سيكون صوريا في حال الموافقة على القانون بأغلبية الثلثين، إذ سيعد القانون نافذا حتى وإن لم يصدق عليه الرئيس الأمريكي.
غير أن الوصول لهذه المرحلة أمر يحتاج بذل جهود قوية، وإذا لم يحصل المشروع المشترك على أغلبية الثلثين، فلن يصمد أمام “فيتو” الرئيس، إلا في حالة حدوث مساومة كبيرة على مستقبل ملف موقف الكونجرس من الرئيس الأمريكي. لكن ثمة احتمال كذلك لرفض الموافقة على القانون، وهو اعتبار تحكمه رغبة جمهورية ورغبة من بنيان المؤسسة الأمريكية بشكل عام في عدم التفريط في تركيا لصالح روسيا.
ويرجح مراقبون أن يلعب الجمهوريون الرافضون للتفريط في تركيا إستراتيجيا لصالح التمدد الروسي عبر العالم، وبخاصة في منطقة الشمال الأوروبي والشرق الأوسط، دورا في عرقلة وصول قرار مجلس النواب الأمريكي إلى حيز القانون النافذ، وهو ما يرجح أن يتجه بعضهم لرفض المشروع، وأن يتجه البعض الآخر لاستبدال العقوبات الواردة في المشروع بأخرى مخففة.
أدى تعليق العمليات بموجب الاتفاق التركي الأمريكي إلى تخفيف حدة لهجة بعض أعضاء مجلس الشيوخ، ومنهم النافذ ليندسي جراهام وكتلته، ويرون كذلك أن السيناتور ميتش ماككونيل زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ سيكون له موقف في تخفيف وقع القرار الصادر عن مجلس النواب، وبخاصة مع تصريحاته التي شدد فيها على ضرورة الابتعاد عن الخطوات التي يمكن أن تدفع تركيا نحو روسيا أكثر.
وتشير توقعات مراقبين إلى: اتجاه السيناتوريين جراهام وماككونيل وبول لتفضيل مشروع قانون ينص على عقوبات مخففة، أو مشروع قرار بدلا من مشروع قانون، فإن ذلك سيجعل القانون الذي تم تمريره في مجلس النواب عديم الفائدة[11]
تراكم الخلاف التركي الأمريكي
تآكل العلاقات التركية الأمريكية ليس وليد ما بعد 2011 وتداعياته في سوريا بشكل خاص، بل بدأ منذ العام 2003، وإن كان يمر الآن بأسوأ مستويات العلاقة بين البلدين منذ الحرب العالمية الثانية.
ولم تشهد العلاقات الأمريكية التركية هذا القدر من التوتر منذ 15 عاما، عندما رفض البرلمان التركى تحويل الأراضى والقواعد التركية إلى منطلق لغزو الأراضي العراقية في 2003.
وتعمق الخلاف بين البلدين في أعقاب طفرة الربيع العربي في 2011، حيث بدأت تركيا ترغب فى استعادة مكانتها الإقليمية وتطوير الحضور التركي إقليميا باتجاه لعب دور أكبر في قيادة الشطر الأكبر من العالم الإسلامى، وهو ما ارتأته الولايات المتحدة مفارقا لمصالحها الحيوية فى المنطقة، كما يتعارض مع رؤية الولايات المتحدة لتركيا، حيث تنظر الولايات المتحدة لتركيا على أنها أحد أدواتها، التى تقوم بدور محدد و هو الشرطى الأمامى للولايات المتحدة وحلف الناتو، وهو الدور المرتبط بموقع تركيا الإستراتيجى المؤثر في حماية الضفة الشرقية للقارة الأوروبية من روسيا.
وأدى هذا التصور – بحسب خبراء – لعدم تقبل الولايات المتحدة بأن يكون لتركيا مصالح خاصة تتعارض مع المصالح الأمريكية أو خارج إطار حلف الناتو، وأن يكون لها عدو آخر غير روسيا. ومن هنا جاء الخلاف مع تركيا، إلا أن حدة هذه الخلافات زادت مع وصول ترامب إلى السلطة[12].
ويمكن القول: بأن ثمة عدد كبير من الملفات التي أثرت وتؤثر على العلاقات التركية الأمريكية، منها ما يؤثر على الموقف التركي ومنها ما يؤثر على موقف المؤسسة الأمريكية.
- الخبرات المؤثرة على الموقف التركي
أما تلك الاعتبارات التي سبق لها أن أثرت على الموقف التركي فتمثل في: “محاولة الانقلاب الفاشلة” في يوليو/تموز 2017 التي يرى النظام التركي أن الأيادي الأمريكية ليست مبرأة من المشاركة فيها[13]. ويرتبط بتلك القضية قضية أخرى، هي قضية التربوي التركي فتح الله جولن؛ زعيم “جماعة الخدمة” التركية، والتي تعتبرها حكومة العدالة والتنمية وإدارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ضمن المكونات الأساسية للدولة العميقة التركية، وتعتبره إدارة أردوغان شريكا في المحاولة الانقلابية، فيما تستضيفه الولايات المتحدة وترفض طلبات تركية متكررة بتسليمه إليها[14].
ومن جهة ثالثة، فإن قضية المصرفي التركي هاكان أتيل كانت من بين العوامل التي أثارت توترا في العلاقات الثنائية بعد أن احتجزته السلطات الأمريكية في 27 مارس/ آذار 2017، بتهمة خرق العقوبات الأمريكية على إيران، وقضى عليه القضاء الأمريكي بالسجن لمدة 32 شهرا، ثم أفرجت عنه بعد 28 شهرا، وسلمته لتركيا[15].
أما المشكلات ذات الطابع الإستراتيجي التي مثلت مصدر تهديد لتلك العلاقات بصورة جدية فتتمثل في 3 مداخل، أولاها تتعلق باختلاف تصورات كل من تركيا والولايات المتحدة لترتيبات الأمن في المنطقة، وعلى رأس هذه التباينات تقع القضية الرئيسية المتمثلة في العلاقات الأمريكية مع قوات سوريا الديمقراطية، والتي رأت فيها تركيا وجها أمريكيا لا يبالي بالأمن القومي التركي، ولا يكترث لما سبق ومثله الأكراد من تهديد إرهابي لتركيا، برغم تصريحات وزير الدفاع الأمريكي التي أقرت بمشروعية المخاوف الأمنية التركية[16].
أما الأمر الثالث فتمثل في التعامل الأمريكي مع تركيا وكأنها تابع لا حليف إستراتيجي، وهو ما بدا من تجاهل مطالب التسليح التي توجهت بها تركيا للدول الغربية[17] قبل أن تتجه لطلبها من روسيا، ويثير أسلوب التعامل هذا حنق الأتراك الذين يشهد مجتمعهم تعاظما لتقدير الذات القومية، ما يدفعهم للنظر في تجاهل مطالب الأمن الأساسية ليس فقط باعتبارها تواطؤا مع مهددات الأمن القومي التركي، بل يرونها إهانة قومية كذلك.
- الخبرات المؤثرة على الموقف الأمريكي
وأما فيما يتعلق بالعوامل التي تثير حفيظة المؤسسة الأمريكية نجد أن ثمة عدة ملفات في هذا الصدد، منها ملف اعتقال القس البروتستانتي أندرو برونسون في تركيا بتهمة التجسس ضمن أعمال التطهير والتمشيط الأمنيين التي أجرتها الحكومة التركية بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، وهي الأزمة التي انفرجت بعد مفاوضات بين الجانبين[18].
وفي هذا الإطار، وفي ضوء المسعى التركي لزيادة نفوذها وتأثيرها في العالم الإسلامي، تعد قضية المقدسات الإسلامية في القدس من أهم الرموز التي تعنى تركيا بالتعاطي مع حمايتها، وهو ما أدى لتصاعد الخلاف الأمريكي التركي إثر إعلان “ترامب” الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل فى 7 ديسمبر/كانون الأول 2017 إلى مواجهة سياسية ودبلوماسية بين الولايات المتحدة وتركيا، التى تزعمت احتجاجا إسلاميا فى مواجهة قرار نقل السفارة.
ومن جهة ثانية، هناك أيضا ملف العلاقات الممتدة بين تركيا وروسيا الاتحادية، والتي ترى فيها الولايات المتحدة، وكذلك الدول الأعضاء في حلف الناتو، تهديدا محتملا للأمن الجماعي الأوروبي، من دون النظر إلى المسؤولية الأوروبية عن توجه تركيا شرقا، وبخاصة مع اتجاه العلاقات التركية مع روسيا نحو التدهور بعد قصف ضباط أتراك خارجين عن السيطرة لطائرة روسية، في توقيت كانت فيه العلاقات التركية مع دول حلف الناتو تشهد توترا بسبب مواقف دول الناتو في سوريا[19].
ومن الملفات المرتبطة بذلك الملف أيضا ما تابعناه من قلق أمريكي من المشتريات التركية من الأسلحة الروسية، وهو مدخل مهم بالنسبة للولايات المتحدة من منظور أمني أو من منظور تجاري، لما أدى إليه ذلك من فتح الباب لقوى إقليمية عدة لشراء منظومة “إس 400″، بما في ذلك قطر، وهو ما فتح الباب لترويج روسيا أسلحتها لدى دول حليفة للولايات المتحدة، وتعتمد عليها تسليحيا مثل السعودية والإمارات[20].
ومن بين الملفات ذات الطبيعة الإقليمية، التي تربك الموقف الأمريكي من تركيا ما تبديه الأخيرة من تمسك بعلاقاتها مع إيران، ضاربة بعرض الحائط التحذيرات والعقوبات الأمريكية في تلك المساحة، وهو ما أدى لأكثر من محك لتوتير العلاقة، كان من بينها ملف اعتقال المصرفي التركي “هاكان أتيل”[21]، وسبق لتركيا أن أعلنت رفضها توجها أمريكيا لم يتبلور حتى الآن بمواجهة البرنامج النووي الإيراني عبر عمل عسكري[22].
وعلى صعيد الملفات الإقليمية أيضا نجد أن العلاقات التركية المتوترة مع تل أبيب تمثل أحد مداخل القلق الأمريكي من تركيا. وأدى تنامي العلاقات الإيجابية بين حكومة العدالة والتنمية في تركيا وبين حركة حماس في الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى تعقد العلاقات التركية – “الإسرائيلية” التي كانت قد بلغت مرتبة التعاون العسكري الصناعي والدفاعي قبل وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة السلطة.
وأدى هذا التقارب التركي الحمساوي إلى تصاعد التوتر بين تركيا وإسرائيل إثر حرب تل أبيب في غزة في 2014[23]، وما زال يتصاعد حتى اليوم، ولعل أحدث أمارات التصاعد ما نشر بمواقع التواصل الاجتماعي حول مقتل البغدادي، والذي جاء إثر اكتشاف محاولات “إسرائيلية” لنقله للداخل التركي، ثم القيام بعملية لاعتقاله من الداخل التركي، ما يسبب حرجا لإدارة الرئيس أردوغان.
وسواء أكان التسريب تركيا في إشارة لواقعة أو كان تسريبا دعائيا، فكلا السيناريوهين يشيران لتوتر العلاقات. ويستصحب التوتر الإستراتيجي لأية دولة في منطقة الشرق الأوسط مع تل أبيب توترا أمريكيا مع الدولة مصدر التوتر.
وأخيرا، فإن موقف تركيا من التطورات التي شهدتها مصر عقب الانقلاب العسكري في 3 يوليو/تموز 2913 على التجربة الديمقراطية الوليدة، أدى إلى تذبذب العلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا، وهو تذبذب يرجع إلى ما تقدم به سلطة 3 يوليو نفسها للإدارة الأمريكية باعتبارها حليف إستراتيجي لإسرائيل، وهو ما دفع الرباعي الدولي “إسرائيل” والسعودية والإمارات ومصر يدفعن باتجاه عدم استقرار نمط العلاقات الأمريكية التركية[24].
العوامل الحاكمة لمستقبل العلاقة التركية الأمريكية
بالنظر للطبيعة المصلحية في العلاقات الدولية، يمكن تفهم أسباب الفتور الأمريكي تجاه المطالب التركية، سواء الأمنية أو التسلحية، وذلك بالنظر لتردي العلاقة المصلحية بين العميل الأمريكي والوكيل التركي في إطار العلاقة الزبائنية (علاقة الوكالة في مقابل الرعاية الأمنية والتسليحية والاقتصادية) التي بدأت في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية توجه أنظارها صوب جمهورية تركيا ما بعد “أتاتورك”، مع تقدير أهمية تركيا وموقعها الإستراتيجي لتحقيق قدر من المصالح الإستراتيجية في المنطقة. هذه الأهمية كانت عائدة بالأساس إلى عاملين، هما:
- أهمية الموقع الإستراتيجي التركي
تتمتع تركيا بموقع إستراتيجي متميز بين طرفي القارة الأوروبية والآسيوية، حيث إنها تطل على رقعة إستراتيجية هامة تتمثل فى أوروبا غربا، والبحر الأبيض المتوسط جنوبا، ومنطقة القوقاز من جهة الشمال الشرقي، كما تطل على البحر الأسود الواقع في شمال تركيا، ومنه تتحكم فى مضيقي البسفور والدردنيل. هذا الموقع الإستراتيجي جعلها تقع فى منطقة متوترة تتقاطع فيها مصالح الدول الكبرى.
وفي هذا الإطار، بدت التوجهات الروسية فى المنطقة، خاصة منطقة القوقاز وآسيا الوسطى تستدعي حاجة الولايات المتحدة الأمريكية إلى التحالف مع تركيا. ولذلك تلعب تركيا دورا هاما فى خدمة المصالح الأمريكية المتمثلة فى مواجهة روسيا.
وفي هذا الإطار، حددت الإستراتيجية الأمريكية الدور التركي فى تمثيله خط دفاع متقدم فى مواجهة روسيا، والعمل على الحد من قدرتها ومن سعيها إلى نشر نفوذها فى منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، وتلعب تركيا هذا الدور بكفاءة منذ انضمامها إلى حلف “الناتو” عام 1952[25].
وعرفت السياسة الأمريكية لتوظيف تركيا في مهمة حماية الضفة الجنوبية الشرقية للقارة من الاتحاد السوفيتى باسم سياسة “سد المنافذ”. وبعد إعلان تفكك الاتحاد السوفيتي السابق، وانفضاض العلاقة بينه وبين “الكتلة الشرقية، بدأت مراكز التفكير الغربية تتداول تصورات حول تراجع الأهمية الإستراتيجية لتركيا إثر هذا الانهيار، وانعدام الحاجة في هذا الإطار لسياسة “سد المنافذ”، ولا لوكيل يتولى تنفيذها[26].
- تطور أهمية العلاقات مع تركيا
لم تعد العلاقات الأمريكية التركية رهنا بالاتحاد السوفيتي الذي سقط في 1991، بل تطورت هذه العلاقة بالنظر لتطور الدور التركي الإقليمي، ليطال مناطق أخرى تهم الإستراتيجية الأمريكية الراهنة، مثل آسيا الوسطى والقوقاز، بالإضافة لتنامي قدرة تركيا على المشاركة الفعالة في معالجة قضايا مثل أمن الطاقة ومكافحة الإرهاب، والأهمية اللوجيستية لقاعدة أنجرليك[27].
هذه الأهمية الإستراتيجية لتركيا بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية تعود لثلاثة أسباب رئيسة، الأول: يكمن في موقعها الجيوبوليتيكي المتميز الواقع وسط القارات الثلاث التي تمثل قلب العالم وفق رؤية ماكيندر، وهو الموقع الذي يربط تركيا بالعديد من المناطق التي تقع في صلب المصالح الأمريكية، فتركيا ترتبط بمناطق الشرق الأوسط، والبلقان، والقوقاز، والبحر الأسود، وآسيا الوسطى، بروابط اقتصادية وثقافية وتاريخية. إلى جانب تحكمها في الممرات البحرية في البوسفور والدردنيل، وكونها معبرا لخطوط النفط والغاز من آسيا الوسطى، وبحر قزوين إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
وأما السبب الثاني: فيتمثل في المنظور الجديد (العمق الإستراتيجي) الذي اتبعه حزب العدالة والتنمية فيما يتعلق بالسياسة الخارجية التركية، حيث مكن هذا المنظور تركيا من الانخراط في معظم القضايا المتوترة في منطقة الشرق الأوسط، سواء في العراق، أو إيران، أو لبنان، أو القضية الفلسطينية.
ويتمثل السبب الثالث: في أن الولايات المتحدة الأمريكية تنظر إلى تركيا باعتبارها الدولة الإسلامية “النموذج”. فهي دولة ديمقراطية حديثة، حققت قدرا كبيرا من التنمية الإقتصادية، وتمثل من وجهة النظر الغربية تعايشا بين الإسلام وقيم الحداثة الغربية.
هذه الأسباب جعلت من تركيا مصدر عون للسياسة الأمريكية في المنطقة، لكنه عون من دون توقيع تركي “على بياض”، وإنما يأتي في إطار إعادة تقييم تركيا لنفسها ولمشروعها الخاص ولقدراتها، وهو ما يدفعها للسير على خيوط رفيعة ضمن معترك دولي يرفض حدوث ثورة في توازن القوى في منطقة الشرق الأوسط.
التداعيات الاقتصادية في حال تردي العلاقة
التأثير المحتمل لتردي العلاقات السياسية بين تركيا والولايات المتحدة على تركيا لا يرتبط بحجم الاعتماد المتبادل بينهما على الصعيد الاقتصادي. وفي هذا الإطار، يشير خبراء إلى أن العلاقة الاقتصادية بين البلدين بشكل عام تعد علاقة ضعيفة، ربما باستثناء التجارة البينية بينهما.
فالاستثمارات الأمريكية في تركيا بلغت العام الماضي نحو 171 مليون دولار، وهي تبلغ نحو 20% من الاستثمارات التركية في الولايات المتحدة، والتي تبلغ 820 “مليون” دولار وهو رقم زهيد. كما تمثل السياحة الأمريكية المرتبة 13 بين السياح الذين يزورون تركيا. وحدها أرقام التجارة بين البلدين ذات وزن بالنسبة للاقتصاد التركي، حيث تمثل الولايات المتحدة الشريك التجاري الرابع لتركيا بعد كل من ألمانيا والصين وروسيا، بنسبة 5.5% من إجمالي التجارة التركية وفقا لأرقام 2017.
ويميل الميزان التجاري بين البلدين خلال آخر 10 سنوات لصالح الولايات المتحدة، إلا أن عجز الميزان التجاري التركي مع الولايات المتحدة انخفض تدريجيا خلال هذه السنوات من 11 إلى 3 مليار دولار في عام 2017، حيث بلغت قيمة الصادرات التركية للولايات المتحدة نحو 9 مليار دولار، في حين بلغت وارداتها منها نحو 12 مليار دولار[28].
في هذا الإطار، يثار التساؤل حول قدرة الولايات المتحدة على تنفيذ تهديدها الصادر على لسان الرئيس “دونالد ترامب” بأنه سيدمر الاقتصاد التركي[29].
رغم ضعف علاقة الاعتمادية الاقتصادية بين البلدين، وهو ما دفع البعض للتشكيك في قدرة الولايات المتحدة على تنفيذ تهديدها، إلا أن قدرة الولايات المتحدة على تنفيذ تهديدها تتأتى من سيطرتها على النظام المالي العالمي، حيث تتحكم بالكثير من المفاصل والمسارات المالية لتمويل التجارة بين الدول.
ومما يعنيه ذلك قدرتها على فرض عقوبات توقف التحويلات المالية عبر البنوك التركية وتجفف منابع الدولار اللازمة للتجارة الخارجية ودعم موقع العملة التركية. كما تحتاج تركيا أيضا إلى الدولار لتمويل خدمة دينها الخارجي المرتفع واستثماراتها في البنية التحتية.
وعليه فإذا كانت تهديدات ترامب المتعلقة بتدمير الاقتصاد مبالغ فيها، فإن بإمكان واشنطن شل عمل قطاعات اقتصادية حيوية عديدة من خلال حظر معاملاتها المالية إذا وصلت العلاقات إلى نقطة القطيعة.
ويظهر التأثير الأمريكي على القطاع المالي التركي بشكل خاص من خلال تهديدات “ترامب” في أعقاب عملية “نبع السلام”، والتي أفقدت الليرة نحو 6 بالمائة من قيمتها في غضون الأسبوعين الماضيين. وإبان أزمة القس أندرو برونسون، أدت التهديدات الأمريكية سابقة إلى فقدان الليرة التركية أكثر من 30% من قيمتها خلال أيام[30].
رد الفعل التركي
لا يمكن القول بأن ما يصدر عن تركيا فيما يتعلق بإدارة العلاقات مع الولايات المتحدة يكون من قبيل رد الفعل، بل يصدر عن مسار مختلف للعلاقة بين البلدين، بدأ مع وصول حزب العدالة والتنمية التركي إلى سدة الحكم في أنقرة، كما يمكن القول: بأن هذا التوجه المستقل في السياسة الخارجية التركية لم يعد مرتبطا اليوم بحزب العدالة والتنمية، بل ارتبط بتشكل شخصية تركية جديدة، لن يكون بمقدور الحكومات القادمة، إن كانت من غير حزب العدالة والتنمية أن تتلاعب بها، وتغيرها تغيرا جذريا.
فالنفوذ الإقليمي التركي لم يبرز خلال العقدين الماضيين ليتلاشى في المستقبل. وفي هذا الإطار، فإن الردود التركية على تقلبات السياسة الأمريكية باتت تنطلق من تصور تركيا الجديدة لذاتها ولدورها[31]:
ذاتها: بمعنى أنها صارت قوة إقليمية معتبرة، ينقصها قدر عالي من الاستقرار الاقتصادي لتصبح فاعلا إقليميا لا يمكن تجاهله. ودورها: بمعنى أنها لم تعد تلك الدولة ذات الاقتصاد الهش والعملة الواهية التي كانت عليها في تسعينات القرن المنصرم، وأنها لم تعد تقبل أن تلعب دور محض التابع للسيد الأمريكي، بل بات لديها رؤيتها الخاصة، ودورها الإقليمي الذي تحتاج إلى أن ينظر الغرب إليه بعين الاعتبار.
ومن جهة ثانية، يمكن التأكيد على أن تركيا لا تريد مزيدا من تدهور علاقتها بالعالم الغربي، وتحاول احتواء بواعث التدهور، وتسير على خط رفيع من التوازن بين الشرق والغرب في هذا الصدد، حسب ما تبرزه وسائل إعلام غربية[32] ومراكز تفكير[33]، وهو التوازن الذي تنظر إليه مراكز التفكير الغربية باعتباره محاولة فاشلة لبناء سياسة متوازنة[34]. غير أن مستقبل تركيا قوية رهن باستمرار هذا التوازن على نحو ما يحذر مراقبون أتراك وغربيون[35].
وفي هذا الإطار، يظل النزوع القومي التركي في التعاطي مع أحد أوجه غطرسة القوة التي يتسم به سلوك القوى العالمية أحد مصادر استمرار توتير بين الطرفين.
وفيما يتعلق بالتداعيات المباشرة لقانوني مجلس النواب، فإن رد الفعل التركي – بخلاف الدبلوماسي – تمثل في تعليق زيارة كان من المقرر أن يقوم بها الرئيس التركي للعاصمة الأمريكية في 13 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، وهو التعليق الذي وصفه المتحدث باسم رئاسة الجمهورية: بأنه أتى بالنظر لرغبة الرئيس التركي في تحقيق نتائج ملموسة من الزيارة، من دون أن يزيد على هذا التبرير[36].
ويبدو أن تركيا تعول على إمكانية تكرار السابقة التاريخية التي شهدتها إدارة جورج بوش الابن، والتي تحركت خلالها الإدارة الأمريكية لاحتواء أثر القانون الذي سبق وأصدره مجلس النواب الأمريكي باتجاه الاعتراف بادعاءات الأرمن حول ما تعرضت له من أعمال “إبادة جماعية” قبل أكثر من قرن من الزمان على أيدي القوات العثمانية، وهو أمر راجح بحسب مراقبين.
بدون ذلك، فإن العلاقات التركية الأمريكية قد تتجه نحو “شتاء قارس” بالنظر لاستعداد إدارة الرئيس رجب طيب إردوغان لمواجهة أي سلوك “مهين لتركيا” قد يصدر عن قوة عظمى. وتتبقى تكلفة الرد التركي – إن تطورت الأحداث سلبا – مرتفعة، قياسا على منهج إدارة أزمة القس أندرو برونسون.
خاتمة
التساؤلات حول مستقبل العلاقات التركية الأمريكية جادة. ويبدو أن ثمة تحسب لاحتمال تضرر العلاقة بين البلدين بالنظر لتزايد عدد الملفات التي تسبب التصادم، وبسبب الضغوط والصرامة التركيين في إدارة الملفات التي تهم تركيا، على نحو ما حدث فيما يتعلق بعملية “نبع السلام” التي تسببت اندفاع كرة الثلج التي نعالج آثارها في هذه الورقة. ويخشى مراقبون أن يكون التضرر الحادث – إن وقع – طويل الأمد، وغير قابل للمعالجة بسهولة، حتى وإن تغيرت النخبة السياسية الحاكمة في تركيا.
تعول تركيا في إدارة تداعيات ما بعد “نبع السلام” على أعضاء مجلس الشيوخ ذوي الرؤية الإستراتيجية الواضحة، والتي لا تقيم العلاقات الإستراتيجية من منظور الدين أو من منظور النعرة القومية؛ على نحو ما تحرك به سلوك مجلس النواب بالنظر لتقدير المجلس اعتداء تركيا على حليف للولايات المتحدة. وفي هذا الإطار، يبدو أن الأمور تتجه إلى إقدام مجلس الشيوخ على تعديل نمط العقوبات؛ بحيث يتحول إلى عقوبات مخففة، وهو ما يمكن إدارة “ترامب” من تجاوز تطبيقها، ويتفاءل مراقبون بأن مشروع قانون العقوبات، حتى وإن تضمن عقوبات مخففة، فإنه لن يحصل على أغلبية الثلثين في مجلس الشيوخ، وهو ما يجعله عرضة لفيتو رئاسي، أو قد يدفعه لمربع تنفيذ ضئيل الاحتمال، وضئيل التأثير.
ما زالت الولايات المتحدة أسيرة النظرة التي حكمت توجهها نحو تركيا منذ الحرب العالمية الثانية، ولا تريد المؤسسات الأمريكية أن تعترف بأن هناك حالة تركية جديدة ذات رؤية إقليمية، وطموح ذاتي، وترفض أن تظل موضوعا لنظرة تتعامل معها بمنطق التابع.
وبرغم الهدوء على الجبهة التركية – “الإسرائيلية”، يظل الكيان الصهيوني مصدرا أساسيا لتوتير العلاقة التركية الأمريكية، وهو مصدر تغذيه روافد متعددة على المستوى الإقليمي بالنظر للتطور الذي يشهده المحور السعودي الإماراتي المصري “الإسرائيلي”.