...
دراسات سياسية

العلاقة بين العلمانية السياسية الغربية والخرافة

وليد عبد الحي

العلاقة بين “اليهودية والمسيحية” هي علاقة مأزومة منذ يهودا الاسخريوطي وذو نواس اليمني مرورا بطرد اليهود من اسبانيا ما لم يعتنقوا المسيحية، لكن ظهور البروتستنتينة التي اعتبرها ماكس فيبر مقدمة التنوير والليبرالية المسيحية شكلت تحولا جذريا في الموقف المسيحي من اليهودية بخاصة مع كتاب مارتن لوثر “يسوع ولد يهوديا” عام 1523 على الرغم من بقاء الكاثوليكية على توجسها من اليهود حتى جاء البابا بولس السادس وبرأهم من “دم المسيح” عام 1965 وغطى على ذلك بموقف تصالحي مع الإسلام قد لا يشاركه فيه الكثير من الأوروبيين.

ومع مؤتمر ويستفاليا 1648 الذي انتقل باوروبا من الإمبراطورية الدينية التوسعية(التي جسدتها بشكل صارخ فترة الحروب الصليبية في القرن الثاني عشر)) الى الدولة القومية بعد ان زعزعت الحركة العلمية موقع الكنيسة في عقول المجتمع الاوروبي، وبدأ التنافس القومي(الفرنسي البريطاني الألماني الإيطالي الإسباني..الخ) على مناطق العالم ، وهو ما أنتج تراكما لراس المال وتزايد التحول نحو التصنيع اقتصاديا بفعل ظاهرة الاستعمار التي تمت تحت مسميات الحماية والانتداب والوصاية احيانا وأحيانا أخرى بالاحتلال المباشر وبغطاء أخلاقي بأنه استعمار “لتطوير هذه الشعوب”(وتبنى ماركس والليبراليون ذلك الشعار في معظمهم)، ثم جاءت الشيوعية لتقدم منظورا أكثر بعدا عن المنظور الديني للحياة ، وكان لنظريات داروين وفرويد ودوركايم وصولا إلى ستيف هوكينغ حاليا دورا في تكريس هذا الاتجاه، لكن هذه الفترة هي ذاتها التي نشأت فيها الصهيوينة وتلقت أكبر دعم عرفه التاريخ لحركة سياسية من “العلمانيين الرأسماليين الليبراليين واليساريين على حد سواء” رغم أنها تستند “لما يعتبره الطرفان اليساري والليبرالي العلماني بأنه “خرافة” او “تاريخ فقد صلاحيته “.

فلماذا مثلا لا يتوقف العقل الغربي وعلمانيته الناقدة أمام الظاهرة الدينية اليهودية التي تبدأ من منظور عنصري( فاليهود في التوراة هم قبيلة الله”، وينتسبون لمن سمى نفسه “اسرائيل”(أي الذي صارع الله) فالنص التوراتي يقول” حملتكم على اجنحة النسور واتيت بكم إلي،وإن امتثلتم أوامري وحفظتم عهدي “تكونون لي خاصة” من بين جميع الشعوب”، بل إن حاخام الصهيونية اليهودية الهام “كوك” يقول” الفرق بين ارواح اليهود وغير اليهود اعمق من الفرق بين روح الانسان وروح البهائم”، فكيف تقف حركة علمانية مع هذه الخرافة الدينية؟ لا بد من التأمل..

الجانب الآخر،هو ان الحركة العلمانية الأوروبية-ولحقت بها الامريكية فيما بعد- وقفت ضد تيار التنوير في اليهودية، والذي حاول “أنسنة” الديانة اليهودية، لقد ضيقت المسيحية النطاق على اليهودية في البداية،مما أفرز ثقافة الجيتو ونزعة العزلة والاحساس بكراهية الشعوب لهم وتحويل المساهمة اليهودية في الحضارة الانسانية من مساهمة جماعية الى مساهمة فردية،” وتولت العلمانية الغربية القبول بذلك بتحويله لمفهوم جمعي تحت عنوان الشعار الرائج ” تهمة معاداة السامية”،

ولماذا لم تقف العلمانية الغربية –بشقيها- مع حركة “الهسكالا” اليهودية،وبدلا من ذلك وقفت البروتستنتينة الاوروبية التي يعتبرونها حركة ” مستنيرة ” مع الحركة الصهيونية بقوة وبقدر كبير من التناغم مع منظور اوروبي جديد يقوم على التوسع الرأسمالي وتوظيف القوى الاجتماعية التي يمكن ان تسهل هذا المشروع وهو ما اتضح في كل النظم العنصرية في اسرائيل وجنوب افريقيا وروديسيا..الخ.

كيف يمكن الاقتناع “بوعي انساني” وليس ” بعلمانية براغماتية انتهازية استعمارية وغير اخلاقية” تقف مع نيتنياهو وشارون وبيغن وبيريز ومائير كهانا ..وهم ليسوا إلا صورة مكررة للانهيار الاخلاقي الذي جسده النموذج التاريخي اليهودي مجسدا في يشوع بن نون جاسوس موسى لارض كنعان وقائده العسكري والذي قتل كل سكان قرية كنعانية دخل اليها بدءا من أريحا؟ اليس هؤلاء هم اليهود الذين اسماهم منظر الثورة الفرنسية فولتير بأنهم “يجمعون بين حقارة البخل وبشاعة الخرافة”؟ لماذا لا يستمع العلماني الغربي لوجهة النظر الآخرى من داخل اليهودية ذاتها، فقد ساهم الغرب بتبنيه المنظور الصهيوني اليهودي بهزيمة كل من الهسكالا التي سعت لتخليص اليهودية من عقدة الاستعلاء ،وبهزيمة اتباع إرميا من اليهود الذي رأى ان قيام الدولة هو ” من عمل ابليس” وهو ما تتبناه حركة ” ناطوري كارتا” هذه الايام ، ولماذا لا يستمع العلمانيون الغربيون بشقيهم اليساري والليبرالي لتيار “الحريديم”(الخائفون) ، وانصتوا لمن يروج بتفوق سلالي جيني يعطي اتباعه وعدا ربانيا بالقول في التوراة ” في ذلك اليوم بت الرب مع ابرام عهدا قائلا لنسلك اعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير الفرات”(سفر التكوين)، فكيف تقبل العلمانية –بشقيها مشروعا سياسيا يجعل من الله “سمسارا للعقارات”؟ ولماذا تم تغييب تيار الانسانية في اليهودية الذي مثله حزقيال؟ ثم أخيرا لماذا لم يقف العلمانيون الأوروبيون حاليا لمناصرة “المؤرخين الجدد”( بن موريس واتباعه) والذي قدموا رواية “ما بعد الصهيونية” المتناقضة مع الرواية الاسرائيلية لما جرى في فلسطين كحد أدنى؟

خلاصة القول أن العلمانية الغربية بشقيها المشار لهما تقف إلى جانب الخرافة ، وهو ما يعني أنها علمانية سياسية لا علمانية انسانية..ربما.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى