دراسات قانونية

العلاقة بين القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان

لم تظهر الإرهاصات الأولى للقانون الدولي الإنساني إلا بعد الحرب الشرسة التى قامت على أرض سلفرينيو بمقاطعة لوبارديا بإيطاليا بين القوات النمساوية من جانب وقوات فرنسا وسردينيا من جانب آخر تلك المعركة التي خلفت خسائر بشرية هائلة من القتلى بحيث يقدر عدد قتلاها بأكثر من40000 ألف شخص بالإضافة إلى عدد مماثل من الجرحى الذين لقوا حتفهم بعد ذالك نتيجة للقصور في الخدمات الطبية، وسطر هذه المعركة المواطن السويسري هيري دونان في كتابه {تذكار سلفرينيو} الذي هزَ وجدان العالم لما جاء فيه من أحداث مروعة، وقد دعا دونان في نهاية كتابه المذكور إلى إعداد أفراد إغاثة طبية حياديين وقت السلم لتقديم الحد الأدنى من الخدمات الطبية وقت الحرب.

كما مثل منتصف القرن العشرين مرحلة حاسمة على صعيد تطور وارتقاء حقوق الإنسان. فنتيجة للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية خلال الحرب العالمية الثانية، خرجت مسألة حقوق الإنسان من نطاق الاختصاص الحصري للدولة، وحازت على اهتمام المجتمع الدولي، فأخذت بعدا دوليا، تمّثل في صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 ، أما القانون الدولي الإنساني فقد كانت اتفاقيات جنيف بشأن حماية ضحايا النزاعات المسلحة لعام 1949  أبرز النصوص القانونية التي أقرته، ولاحقا في عشرات الاتفاقيات والمواثيق والإعلانات الدولية الهادفة إلى حماية حقوق الإنسان وحرياته وحياته وكرامته، سواء في حالة السلم أو في حالة الحرب.

 تعرف اللجنة الدولية لحقوق الإنسان القانون الدولي الإنساني بأنه:

“مجموعة من القواعد الرامية إلى الحد من آثار النزاعات المسلحة لدوافع إنسانية”
ويحمى هذا القانون الأشخاص الذين لا يشاركون في القتال أو كفوا عن المشاركة فيه، كما أنه يقيد حق اختيار الوسائل والأساليب المستعملة في الحرب.

والقانون الدولي الإنساني يسمى أيضا قانون الحرب أو قانون النزاعات المسلحة.

أما قانون حقوق الإنسان فيمكن أن نعرفه بما عرفه به الدكتور محمد نور فرحات في كتابه )تاريخ القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان) بأنه “مجموعة القواعد والمبادئ المنصوص عليها في عدد من الإعلانات والمعاهدات الدولية، والتي تؤمن حقوق وحريات الأفراد والشعوب في مواجهة الدولة أساسا”.

و في إطار ما يشهده العالم اليوم من حروب في سوريا و ما حدث منها مؤخرا في كل من ليبيا واليمن نلحظ الأهمية البالغة للقانون الدولي الإنساني وارتباطه الوثيق بالأحداث الآنية.

كما أن ما تشهده العديد من الدول من تضييق على حريات الإنسان وحقوقه الأساسية كما هو ملحوظ في عديد البلدان مثل الصين و اميانمار و غيرهما… إلخ، كل ذالك يظهر أن حقوق الإنسان هي الأخرى موضوع بالغ الأهمية وحاضر في يوميات السياسة والواقع الدولي.

وانطلاقا مما تقدم ذكره نرى أن من المشروع طرح التساؤل التالي:

ما لعلاقة بين القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان؟

وللإجابة على هذا السؤال ارتأينا أن نتناوله في جزأين، حيث يستعرض الجزء الأول نقاط الاختلاف بين القانونين، أما الجزء الثاني فسيركز على نقاط الاتفاق بينهما.

الجزء الأول: منظومتان قانونيتان مختلفتان:

رغم نقاط الالتقاء المتعددة التي تجمع القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان إلا أنهما مختلفان في عديد الأوجه والنقاط، و يمكن توضيح ذلك في النقاط التالية:
1 ـــــ تمايز من حيث الطبيعة القانونية:
من ناحية المفاهيم يقوم القانون الدولي الإنساني على التخفيف من معانات الإنسان أثناء النزاعات المسلحة كما توضح ذلك اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 والبروتوكولان الإضافيان 1977، فمفهومه يجمع بين فكرتين مختلفتين في طبيعتهما، فلأولى قانونية و الثانية أخلاقية، أما القانون الدولي لحقوق الإنسان فهو تعبير عن التزامات قانونية دولية باحترام حقوق و حريَة الأفراد و الشعوب و تمكينها من العيش في رفاهية.

كما أن المخاطب بالقانون الدولي الإنساني ليس هو نفسه المعني بقانون حقوق الإنسان، فإذا كان المخاطب أساسا بأحكام القانون الدولي الإنساني هم العسكريون و السياسيون الذين لهم دور فعال في إدارة العمليات العسكرية و الحربية أيَا كان موقعهم أو انتمائهم للدول أو المنظمات الدولية أو متمردين داخل الدولة أو الثوار في الأقاليم المحتلة، فإن المخاطب في الأصل بأحكام و قواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان الدولة ممثلة في سلطتها أو أجهزتها المعنية بإدارة شؤون كل ما هو داخل إقليم الدولة. وإذا كانت فلسفة حقوق الإنسان كما جاءت في إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي 1789، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر بتاريخ 10 ديسمبر 1948، تقوم على نظرة متفائلة تسعى إلى تجريم الحروب مطلقا ونزع الشرعية عنها، فإن القانون الدولي يتعامل بحذر بالغ مع الموضوع وبنظرة أكثر واقعية فلا تسعى إلى وقف الحرب بشكل نهائي وإنما تهدف إلى الحد من آثارها السلبية على الأبرياء من نساء وأطفال وصحفيين مدنيين ومقاتلين كفوا عن حمل السلاح وأسرى كما في اتفاقايات جنيف والبروتوكولات الإضافية 1949 و1977 و2005، فنظرتهما مختلفة للغاية.

إن قانون حقوق الإنسان يمكن عدم تطبيق جميع بنوده في حالات الطوارئ وفي الأوضاع الاستثنائية، على عكس القانون الدولي الإنساني الذي هو قانون ملزم في جميع الأحوال، إنه أعد ليطبق في الحالات الاستثنائية. وهو ما يجرنا إلى الحديث عن الاختلاف في التطبيق بين القانونين.

2 ــــ اختلاف في مجالات التطبيق:

على الرغم من ما يرى المثاليون بأن السلم هو الأصل في العلاقات الدولية، و الحرب هي الاستثناء، إلا أن القراءات الإحصائية تدل على عكس ذلك، حيث تبيَن أنه خلال 185 جيلا من الأجيال لم ينعم بالسلم المؤقت من بينها إلا عشرة أجيال فقط.

و مهما يكن من أمر هذا الاختلاف في تحديد حالة الأصل أو الاستثناء في العلاقات الدولية، فإن الواقع القانوني يدل على وجود اختلاف جوهري من الناحية القانونية بين مجال تطبيق كل من القانونين، فالقانون الدولي الإنساني يطبق من حيث الزمان عند بداية النزاعات المسلحة، أما من حيث النطاق الشخصي فإنه يمنح حماية الفئتين و هما ضحايا النزاعات المسلحة من جرحى، و موتى و أسرى، و المدنيين، بينما يطبق القانون الدولي لحقوق الإنسان في زمن السلم أساسا، أي على الأوضاع الطبيعية للدول و يوقف العمل ببعض أحكامه في الظروف الاستثنائية للدول و ذلك بمقتضى المادة الرابعة من العهد الدولي لحقوق المدنية و السياسية.

كما أن مراقبة تطبيق القانونين مختلفة كذلك، يتم مراقبة أعمال أحكام القانون الدولي الإنساني، عبر آليات دولية خاصة تملكها المنظمات و الهيئات الحكومية الدولية و غير الحكومية قصد حماية الأشخاص المتضررين من العمليات العسكرية، و ما قد ينجم عنها من احتلال حربي، و أهم هذه المنظمات هي اللجنة الدولية للصليب الأحمر هذه التي أرتبط اسمها كحارس أمين للقانون الدولي الإنساني منذ إرهاصاته الأولى، فهي التي تأخذ على عاتقها أداء المهام ذات الصفة الإنسانية، وذلك بحكم التجربة الغنية التي اكتسبتها طوال فترة عملها، هذا إضافة للدور الهام الذي لعبته ـ كمنظمة غير حكومية إنسانية محايدة تتمتع بمركز قانوني دولي جعل منها اشبه بالمنظمات الحكومية الدوليةـ بالتدخل بالنزاعات المسلحة من خلال وضع الإجراءات التي تساهم في تفعيل الحماية للمعنيين بها، و من خلال دورها الميداني بإرسال و توزيع مواد الإغاثة و الطواقم التي تقوم بها.
و إلى جانب اللجنة الدولية للصليب الأحمر هناك آليات خاصة أخرى تنفرد بمراقبة التطبيق ك “الدولة الحامية” أو بالتحقيق في الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني هذه المهمة التي أوكلها واضعوا البروتوكول الإضافي الأول، و عبر المادة90 إلى “اللجنة الدولية لتقصي الحقائق”

أما القانون الدولي لحقوق الإنسان فقد حرص المجتمع الدولى على إقرار وسائل و آليات دولية لحماية حقوق الإنسان، و ذلك إلى جانب وسائل الحماية الداخلية المقررة بموجب القانون الوطني للدول، و عليه فقد ضمَنت الاتفاقيات الدولية و الإقليمية آليات لمراقبة مدى احترام الدول المختلفة للالتزامات التي تفرضها الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، وفقا لما نصَ عليه ميثاق الأمم المتحدة و مختلف هيئاته الفرعية في مجال حقوق الإنسان.

ـــــ الجزء الثاني: مظاهر التكامل بين القانونين:

بعد العرض السابق لأوجه الخلاف بين القانونين، فإن وجودها لا يعني عدم وجود نقاط الالتقاء أو قواسم مشتركة بينهما، وسنخصص هذا الجزء لدراسة هذه النقاط ومجال التكامل بينهما، وسنتحدث أولا عن اشتراكهما في كونهما فرعين من فروع القانون الدولي العام لنتحدث بعد ذلك عن وحدة الهدف الذي يسعى القانونان إليه والمنطلق الذي ينطلقان منه وهو الإنسان وحماية الحياة والكرامة الإنسانية.

1 ــــ فرعان من فروع القانون الدولي العام :

إن القانون الدولي الإنساني هو جزء من القانون الدولي العام الذي ينظم العلاقات بين الدول. ويتمثل القانون الدولي في اتفاقات أبرمتها الدول، تسمى معاهدات واتفاقيات، والعرف الدولي النابع من ممارسات الدول والمقبول من جانبها باعتباره إلزاميا، فضلا عن المبادئ العامة للقانون. كما أن قانون حقوق الإنسان هو الآخر فرع من تفريعات القانون الدولي العام، ذلك أنه فرع من فروع القانون الدولي العام تهدف قواعده العرفية والمكتوبة إلى حماية الحقوق المتأصلة في طبيعة الأفراد والجماعات والأقليات والشعوب والتي لا يتسنى بغيرها العيش عيشة البشر.

وهكذا فإن القانون الدولي الإنساني يلتقي مع القانون الدولي لحقوق الإنسان بتمتع قواعدهما بالصبغة الدولية، و يرجع هذا لواقع قانوني دولي صحيح يعطي لكل منهما وثائق دولية تعكس الذاتية الخاصة لكلا هما، هذه الوثائق الدولية التي انتهى المجتمع الدولي إلى مناسبة سنها وذلك رغبة منه في إفراز هذين القانونين باعتبارهما فرعين مستقلين من فروع القانون الدولي العام و متكاملين في آن واحد.

كما أن من المؤكد قانونا أن بعض القواعد القانونية المكتوبة لهذين القانونين تتمتع بطابع الأمر و ليس بطابع التقرير، هذا الطابع الآمر الذي لا يجوز الخروج عنه أو الاتفاق على عكسه، هذه الصفة أكدت في المادة 60 من اتفاقية افينَا لقانون المعاهدات 1969، حيث منحت الصفة الآمرة لكل القواعد المتعلقة بحماية الفرد الإنساني التي وردت في الاتفاقيات ذات الطابع الإنساني، هذا إلى جانب اتسام بعض من قواعد  كل من القانونين بالطابع العرفي الملزم، لاحتوائهما على قواعد عرفية جرت الدول على تطبيقها حتى خارج نطاق أية رابطة تعاقدية..

2 ـــــــ  اشتراك في الهدف “حماية الحياة الإنسانية”

يرى الدكتور جان بكتيه أن كلا من القانون الدولي الإنساني و القانون الدولي لحقوق الإنسان، قد نبعا من مصدر واحد، فقد نشئا من الحاجة إلى حماية الفرد ممن يريدون سحقه، و عليه أدى هذا المفهوم أو المصدر الواحد إلى جهدين متميزين و هما:

الحد من شرور الحرب فكان القانون الدولي الإنساني، و الدفاع عن الإنسان و حقوقه ضد العمل التعسفي، فكان القانون الدولي لحقوق الإنسان والذى ينطوي على أكبر قدر من المبادئ العامة لحماية الإنسان، بينما تتسم مبادئ القانون الدولي الإنساني بطابع استثنائي خاص، لأن هذا الأخير يدخل حيز النفاذ عند البدء في النزاع المسلح، إلا أن هذا القول لا يمنع من وجود مبادئ مشتركة بين كل منهما و تتمثل في:

ـ حصانة و حماية الذات البشرية.

ـ منع التعذيب بشتى أنواعه.

ـ احترام الشخصية القانونية لضحايا الحرب.

ـ احترام الشرف و الحقوق العائلية و المعتقد و التقاليد.

ـ حماية و ضمان الملكية الفردية.

ـ عدم التمييز بصورة مطلقة، فالخدمات الطبية تقدم للجميع دون فرق إلا ما تفرضه الأوضاع الصحية.

ـ ضمان و توفير الأمان و الطمأنينة.

ـ حظر الأعمال الانتقامية و العقوبات الجماعية.

ـ مراعاة الضمانات القضائية على مستوى الإجراءات قبل التحقيق و بعده و عند المحاكمة و بمناسبة تنفيذ الأحكام.

ـ ترسيخ الحماية الخاصة لكل من الأطفال و النساء.

كما أن من المسلم به تماما أن كلا من القانونين يهدف إلى إلى تحقيق غرض و هدف مشترك و هو في التحليل النهائي حماية الإنسان و احترام كرامته، و حماية الشعوب، مع أن القانونين يستوحيان أفكارهما من واقعتين ماديتين مختلفتين وهما السلم و الحرب، لهذا لا يحل القانون الدولي الإنساني محل قانون حقوق الإنسان في حالة النزاعات المسلحة، و لا يتوقف تطبيق كل منهما في هذه الحالة.
ويؤكد هذا المعني الدكتور أبو الخير أحمد عطية بأنه إذا كان القانون الدولي الإنساني هو عبارة عن مجموعة القواعد القانونية العرفية و المكتوبة التي تهدف إلى حماية الإنسان في زمن النزاعات المسلحة، و كان القانون الدولي لحقوق الإنسان مجموعة القواعد القانونية التي تستهدف حماية حقوق الإنسان في زمن السلم فإنَه يترتب على ذلك ترابط هذين الفرعين ترابطا قويا و عميقا، لأنهما يشتركان معا في الاهتمام بصفة أساسية بحماية الفرد الإنساني و بالمحافظة على حياته و حرياته.

المراجع:
–  منشورات اللجنة الدولية للصليب الأحمر على الموقع www.icrc.org.
 ـــ د. جان بكتيه ، القانون الدولي الإنساني تطوره ومبادئه ، الناشر معهد هنري دونان ، جنيف ، 1984 .
ــ د. جان بكتيه ، مبادئ القانون الدولي الإنساني ، الناشر اللجنة الدولية للصليب الأحمر ، جنيف ، 1975.
ـــ الدكتور/ عامر الزمالي، ورقة عمل حول القانون الدولي الإنساني تطوره ومحتواه و تحديات النزاعـات.
د. أحمد الرشيدي – حقوق الإنسان – دراسة مقارنة في النظرية والتطبيق – مكتبة الشروق الدولية – ط – أولى – 2003.
بقلم  الشيخ يب ولد أعليات باحث موريتاني في مجال العلوم السياسية ة العلاقات الدولية بكلية الحقوق و العلوم السياسية بتونس، حاصل على الماجستير من نفس الكلية و على الإجازة في علوم الاعلام و الاتصال من معهد الصحافة و علوم الإخبار بتونس.

 

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى