إن العولمة الرقمية التي شهدتها أغلب الدول المتقدمة و حتي السائرة في طريق النمو أوحت لنا بأن عالمنا هذا المعولم في أبسط جزئياته قد تغيرت في صلبه المفاهيم و الممارسات ليصبح معتمدا بشكل مباشر علي العالم الإفتراضي و مقلصا لولوجه للعالم الواقعي. إن تلك المتغيرات العالمية أضحت واقعا ملموسا في جميع معاملاتنا اليومية مما جعل الإتصال بجهاز الحاسوب و شبكة الإنترنت جزء لا يتجزأ في خدمات الإدارات العمومية لجميع دول العالم و جل الشركات العالمية الخاصة. أما أبرز حدث شهدته العولمة الرقمية يتمثل بالأساس في ظهور العديد من الشركات الرقمية التي تستغل تكنولوجيات المعلومات و الإتصال الرقمي كجزء رئيسي من معاملاتها التجارية أو الخدماتية و المالية. فتلك التحولات الجذرية لا يمكن بأي حال من الأحوال إستنكارها حتي من قبل أصحاب القلم و القرطاس بحيث تغيرت الوسائل البحثية و المهنية بشكل ملحوظ و غير الإنسان من بيئته و من وسائل عمله علي مرور الزمن في أي مكان و زمان. فمنذ نشأت الكون و المتغيرات أخذت تتسارع و تتضح مع مرور السنين للجميع بحيث خلق الإنسان بعقله السيارة و الطائرة و القطار و أبرز شئ حديث خلقه لنفسه مؤخرا متمثلا بإمتياز في عالما إفتراضيا متكامل الأبعاد و الأهداف و موازيا في محتواه و في أبسط جزئياته لعالمه الواقعي. فبالتحديد منذ سنة 2000 إلي غاية الآن تسارعت الإختراعات التكنولوجية و برزت العديد من التقنيات الحديثة بحيث برز الروبوت الآلي بديلا للإنسان و تقلصت الوثائق الورقية و الأدوات التقليدية لتحل محلها الأوراق الإلكترونية و الأدوات التكنولوجية في شتي المجالات و بدون أي إستثناء في هذا المضمار و لعل أبرز دليل علي ذلك هو الرهان المستقبلي لأغلب دول العالم علي مجتمع المعرفة و الذكاء الإصطناعي و الإقتصاد الرقمي. فتلك المتغيرات في قطاعات الدولة الحيوية أصبحت بدورها إفتراضية جزئيا أو إجمالا في جميع إداراتها العمومية مما جعل من وثائقها رقمية خاصة منها بالدول المتقدمة. أما الأهم من كل ذلك في صلب تلك العولمة الرقمية هو بروز ظاهرة التعليم عن بعد التي أصبحت واقعا ملموسا في جميع المؤسسات التعليمية العامة أو الخاصة. كذلك إنتشار التسويق الإلكتروني و التجارة الإلكترونية كوسائل للبيع و الترويج علي منصات التواصل الإجتماعي و مواقع الواب. أيضا بروز المحلات التجارية الإلكترونية و المالية الرقمية و الإفتراضية التي غيرت من المفاهيم التقليدية التي تعتمدها الأسواق المالية و خاصة منها بورصة الأوراق النقدية و التداولات المالية بحيث برزت عملات رقمية إفتراضية و أصبح التداول في الأسواق المالية متاحا للجميع علي شبكة الإنترنت.
إدارات إلكترونية و وثائق رقمية
مما لاشك فيه تحولت أغلب الإدارات العمومية لأغلب دول العالم تقدما من إستعمال القلم و دفتر السجلات إلي عالم الواب الإفتراضي و الوثائق الرقمية بحيث أصبحت أحيانا المعاملات المالية و المبادلات التجارية و الخدماتية اليومية في مجملها تدار عن بعد. فالإدارات الإلكترونية أصبحت تعتمد مباشرة علي التكنولوجيات الحديثة لتسريع عملها و تنظيم أرشيف وثائقها و ضبط سجلاتها بأكثر دقة و سرعة فائقة. إذ في الماضي كانت المعاملات الإدارية اليومية تتطلب وقتا طويلا و إنتظارا عقيما و ذلك من أجل إستخلاص فواتير الكهرباء, الماء, الإنترنت أو لإستخراج مضمون ولادة و سجل تجاري أو حتي تأشيرة سفر, إلا أنه اليوم أصبحت كل تلك الخدمات متوفرة علي شبكة الإنترنت البوابة الرئيسية لجل تلك المعاملات و ذلك بمجرد ضغط بسيط علي زر حاسوب. فاليوم بدأت تنتشر تلك الخدمات كظاهرة عصرية لتسريع المعاملات الإدارية و الإستخلاصات المالية و ذلك بسهولة كبري علي شبكة الإنترنت. أما البنوك فقد خصصت بدورها الساحب الآلي و بطاقات الإئتمان الذكية لتسهيل جميع المعاملات المالية السريعة الخارجية للمواطنين. كما أن الوثائق الإدارية لم تعد تعتمد بشكل كبير علي الأوراق المكلفة و الملوثة للبيئة و غيرها في صلب معاملاتها بحيث أصبحت أغلب الوثائق الإدارية إلكترونية و تمثل جزء لا يتجزأ من عمليات إعادة تأهيل و هيكلة الإدارات العمومية لتواكب المتغيرات العالمية.
التعليم عن بعد
دخل التعليم اليوم جيله الرابع في شتي فروعه من أقسام التحضيري و الإبتدائي إلي التعليم العالي و البحث العلمي معتمدا بذلك علي شبكة الإنترنت كبوابة رئيسية للتواصل و الإتصال من أجل تقديم المحاضرات و أشغال الدروس التطبيقية الرقمية و غيرها من برامج التعليم. ففي الماضي كان التعليم يعتمد علي أبسط الوسائل للتدريس و مع مرور السنوات تحسنت بشكل ملحوظ تلك الوسائل لتبلغ مؤخرا آخر صيحة لها بالتحول من القاعات التقليدية إلي القاعات الإفتراضية. فهذا ليس بالهزل أو التهريج بل بكل واقعية و ثبات يمثل إستراتيجيا تغييرا جذريا للتعليم المستقبلي بحيث تكمن أهمية دراسات خبراء تكنولوجيات الإتصال و المعلومات من أجل تطوير البنية التحتية للتعليم الرقمي. إن الدول المتقدمة و علي رأسها دول الإتحاد الأوروبي و كندا و أمريكا قطعت أشواطا طويلة علي درب إصلاح البنية التحتية الرقمية لجل جامعاتها لتخلق في صلبها بوابات رقمية تقدم محاضرات و أيضا أشغال تطبيقية و حتي تأطير للبحوث العلمية و ذلك عن بعد داخل تلك القاعات الإفتراضية و هي تعتبر بدورها موازية للتعليم الواقعي التقليدي. كما بدأت في هذا الصدد تبرز مدارس رقمية, معاهد و جامعات إلكترونية و إفتراضية لتقديم الدروس عن بعد بدون حضور إجباري للطلاب و الأساتذة و التعليم كله أصبح يدار من خلف الستار و بالتحديد عبر القاعات الإفتراضية المتواجدة علي شبكة الإنترنت. فتلك المؤسسات التعليمية الإلكترونية أصبحت تحظي بإهتمام كبير من قبل وزارات التعليم و التعليم العالي في الدول المتقدمة بحيث أصبحت تسهل لها من عمليات الترخيص للعمل عن بعد و توفر لها جميع الإمكانيات المادية و التقنية لإنجاحها حتي تواكب العولمة الرقمية بشكل ناجح و ناجع. كذلك تحولت قاعدة البيانات المكتبية و البحوث العلمية من كتب و مقالات علمية و رسائل أطروحات الدكتوراه إلي وثائق رقمية بحيث أصبح يسهل للباحث الولوج لها في أسرع وقت ممكن داخل تلك الجامعات أو خارجها.
التسويق الإلكتروني و التجارة الإلكترونية
مع إنتشار شبكة الإنترنت كوسيلة للتواصل و التعارف بين الأفراد و الشعوب بدأت معها تبرز شركات إلكترونية عملاقة لترويج و لبيع منتجاتها و لعل أكبرها و أضخمها محلات شركة الأمازون الإلكترونية الأمريكية لبيع جميع المنتجات من إلكترونيك و ملابس جاهزة و أحذية و كتب و عطورات و مجوهرات و غيرها. فهنا تكمن أهمية تلك التجارة الحديثة في حياتنا اليومية التي سهلت بدورها من عمليات التسويق و شراء المنتجات المرغوب فيها بفائق الدقة في الإختيار و السرعة و الإستخلاص عن بعد. أما في المقابل فالتجارة الإلكترونية أصبحت تحظي بإهتمام كبير من قبل الجميع خلال السنوات الأخيرة بحيث برزت العديد من الدراسات العلمية و البحثية داخل الجامعات أو حتي لدي الخبراء في ذلك القطاع و أيضا أصبحت مورد رزق و إستثمار لجيل التجار الرقميين الجدد لتبرز علي شبكة الإنترنت العديد من الشركات للترويج و التسويق الإلكتروني لتلك المنتجات أو حتي بروز محلات تجارية خاصة للبيع بالعمولة. بالإضافة إلي ذلك بدأت الإعلانات الإلكترونية تكتسح جميع مواقع التواصل الإجتماعي و البريد الإلكتروني و برزت تلك الخدمات التجارية الإلكترونية بشكل ملحوظ من أجل جلب الحرفاء المستهدفين و رفع نسق البيع و الشراء عن بعد علي شبكة الإنترنت.
أسواق الفوركس
فأسواق الفوركس تعتبر الحدث البارز في العولمة الرقمية بحيث أصبحت منتشرة علي شبكة الإنترنت بشكل رهيب و غريب و لو فيها الصالح و الطالح. فهنا يكمن مربط الفرس في تلك الأسواق التي تعتمد بشكل مباشر علي شراء و بيع العملات أو الذهب و الفضة و النفط و ذلك بإستثمار مالي بسيط يتراوح بين 1.000 إلي 2.000 دولار. فمن المعروف أن البورصات العالمية الكبري منها وول ستريت لا تتداول بتلك الإستثمارات البسيطة بحيث تقوم ببيع مساحة لها لبعض شركات الفوركس التي تمثل الوسيط بينها و بين تجار العملة الصغار. بالتالي تحولت شبكة الإنترنت إلي مواقع تداول للعملات و غيرها مثل ما يحدث بأسواق البورصة تماما و أصبحوا تجار العملة يحققون أرباحا محترمة خاصة منهم أصحاب الخبرة المالية و الصبر الطويل و قراءة المتغيرات المستقبلية. فمما لا شك فيه تعتبر المعلومات هامة في إتجاه تذبذب المؤشرات و الشموع اليابانية داخل البرمجيات الخاصة لتجارة الفوركس. كما أن دراسة تلك التجارة أصبحت تحظي بإهتمام كبير لدي خبراء مالية الأسواق من خلال الإستئناس بتجربة رجل المال و الأعمال و المضارب المشهور بالأسواق المالية العالمية جورج سورس و المنظر الرئيسي لإستراتيجيات إستخدام سوق الفوركس. فهنا تكمن أهمية شبكات الإتصال و البحث عن المعلومات علي شبكة الإنترنت من أجل قراءة المؤشرات المستقبلية بشكل جيد قبل حدوثها و الإستثمار الناجح في تلك الأسواق الصاعدة و الواعدة علي شبكة الإنترنت و التي أصبحت تحقق لتجار الفوركس أرباحا بالمليارات يوميا.
فؤاد الصباغ – كاتب تونسي و باحث اقتصادي.