الفرد في المجتمع الجزائري هل هو مواطن؟

د/برقوق عبد الرحمان

أ/العيدي صونية

جامعة محمد خيضر-بسكرة(الجزائر)

الإشكالية:

تعتبر الأنظمة الديمقراطية وليدة أحداث ثورية في المجتمعات الغربية، وهي بذلك قد أحدثت بدورها تغيرات جذرية في النمط المجتمعي لهذه الشعوب تحول فيها الفرد من مجرد وجود إنساني إلى كيان اجتماعي واقتصادي وشريك سياسي، بمعنى أنه أصبح مواطنا بالمفهوم الحديث يخضع –كما تخضع أنظمته- إلى ثنائية (حق/واجب) بما يحقق له احتياجاته أو حقوقه على الأنظمة، وبما يحقق لأنظمة متطلباتها أو حقوقها على المواطن. والمجتمعات العربية الإسلامية كما يبدو قد التحقت بتطبيق هذه الأنظمة الديمقراطية بمفهومها الحديث، ونحن لما نتحدث عن “التطبيق” فإننا نشير ضمنا عن “قوالب جاهزة” صبت فيها هذه المجتمعات بشكل أو بآخر بعيدا عن كينونتها الاجتماعية والتاريخية، لكن ما يهمنا في هذا المقام هو انتماء الفرد في هذه المجتمعات، سيما انتماء الفرد الجزائري إلى مجتمعه وإلى نظامه السياسي، لأننا لما نخوض الحديث عن الجزائر فإن الحديث سيتعقد إلى مناحي عدة إلى استعمار دام قرابة القرن وربع، وإلى شمولية دامت حوالي ربع قرن وإلى أزمة سياسية مازالت آثارها تطال جل الميادين، ولكل ذلك ترسبات عميقة اجتماعيا وسياسيا خاصة أثرت بشكل كبير على طبيعة انتماء الفرد إلى مجتمعه ونظامه.

ومن هنا تتجلى معالم الأشكال لدينا حول هذا الانتماء هل هو خاضع لآليات الأنظمة الديمقراطية ومعادلة المواطنة؟ أم أنه خاضع للميراث الاجتماعي التقليدي (قبلية، عروشية…الخ)؟ أم أنه خاضع لآليات أخرى يجب البحث عنها بداية ثم البحث فيها؟ وسنبلور هذه الإشكالية في تساؤل رئيس متمثل في: ما هي آليات انتماء الفرد في المجتمع الجزائري؟ أو بصيغة أدق هل الفرد في المجتمع الجزائري تتحقق فيه صفة المواطنة؟

أولا: في تعريف مفهوم المواطنة:

I-مدى ملاءمة لفظة “المواطنة” للدلالة على المصطلح الغربي([1])(Citizenship):

لقد أثارت الترجمة العربية للمصطلح الغربي (Citizenship) بمفهوم المواطنة إشكالات عدة حول مدى ملاءمة هذه الترجمة من عدمها، ويذهب أصحاب التوجه الثاني من أمثال “هيثم مناع” إلى الاعتقاد بأن الترجمة العربية تسير إشكاليات أولها يكمن في الأصل اللغوي للكلمة؛ فالمواطنة والمواطن في العربية من الوطن (موطن الإنسان ومحله) مما جعل المفهوم ينحسر معناه في أذهان القائلين وإسماعهم على أبناء هذا الوطن، ذلك غيّب في الواقع وأبعد عن الذهن ما للمفهوم من أهمية في بناء وعي حضاري وإنساني جديد يسهم في تجاوز المجتمع العضوي إلى المجتمع المدني والحق المطلق إلى حقوق الإنسان، ويخلص “مناع” في كتابه “المواطنة في التاريخ الإسلامي” إلى أن تجربة الإنسانية مع المواطنة تظهر أنها لم تسمح حتى اليوم للجميع بنيل حقوق مشتركة متساوية، وهو بذلك يشكل خطوة متأخرة مع أطروحات الشرعية الدولية لحقوق الإنسان التي ترفض اعتبار المواطنة حالة خالصة، وانطلاقا من كل هذه المبررات وغيرها كان ضروريا وضع المعنى اللغوي العربي التقليدي جانبا، وبالموازاة نجد أصحاب الاتجاه الأول من المفكرين العرب على –عكس الاتجاه السابق- يرون أن مفهوم “المواطنة” يعبر أحسن تعبير عن مضمون (citizenship) من أمثال “خالد محمد خالد” في كتابه “مواطنون لا رعايا” وفهمي هويدي في كتابه “مواطنون لا ذميون” وكذلك “برهان غليون” في كتابه “نقد السياسة”: الطين والدولة وفي معرض دعوته لمبدأ المواطنة يرى أن هذه الفكرة-أي المواطنة- كتحالف وتضامن بين أناس أحرار على أساس من المساواة في القرار والدور والمكانة دون تمييز على مستوى درجة مواطنيتهم وأهليتهم العميقة لممارسة حقوقهم المواطنية، هي التي ستولد السياسة بمفهومها الجديد، حيث أن الأمم التي استطاعت أن تبدع مبدأ المواطنة على أساس اعتبار المشاركة الواعية والحرة لكل مواطن هي قاعدة التضامن والتباهي (الجماعي ومصدر الحرية كقيمة مؤسسة وغاية للجميع ولكل فرد معا هي الأمم القوية صاحبة القرار ومحركة زمام الحضارة في عالم اليوم.

هذا ويذهب “عبد الكريم غلاب” في كتابه “أزمة المفاهيم وانحراف التفكير” إلى القول بالتقاء المفهوم الأسمى للمواطن مع المفهوم الأسمى للإنسان، وتصبح بذلك “المواطنة إنسانية مضافا إليها مفهوم الشراكة مع الآخر في الوطن، وليس أكثر دقة في ذلك من مفهوم “المواطنة” ويربط “غلاب” بين المواطنة والوطنية، ويعتبر الأخيرة بأنها صاحبة الانتصار الدائم كلما تعرضت الأوطان إلى محن الحروب وغيرها، وأنها طوق النجاة كلما حاقت بالإنسان والأوطان الأزمات المدمرة.

وهكذا وحسبما ذهب إليه “علي خلفية الكواري” فالترجمة العربية للمصطلح الغربي (Citizenship) بالمواطنة هي ترجمة مقبولة وموفقة، وهو الرأي الذي نأخذ به في معرض دراستنا هذه.

II-في تعريف المواطنة:

1-في اللغة العربية: جاء في لسان العرب لابن منظور أن الوطن: المنزل تقيم به، وهو موطن الإنسان ومحله ووطن بالمكان وأوطن: أقام، وأوطنه: اتخذه وطنا، ويقال: أوطن فلان أرض كذا وكذا أي اتخذها محلا ومسكنا يقيم فيها، وأوطنت الأرض ووطنتها توطينا واستوطنتها أي اتخذتها وطنا. وكذلك الاتطان والوطنية والمواطنة من ذلك([2]).

2-في اللغة اللاتينية: اشتق اصطلاح المواطن (citoyen, civix, Burger, Bourgeois) ([3]) عن كلمة “ستيفافنس (civic) أو(civitas) اللاتينية المعادلة تقريبا لكلمة “بولس” (polis) اليونانية والتي تعني كلمة المدينة كجماعة سياسية مستقلة لا كجماعة من السكان فحسب. فمعناه السياسي الكلاسيكي يعني باللاتينية عضوا في الدولة أو جزء منا (جزء من كل) وليس كل مواطن في الدولة عضوا فيها، بل فقط ذلك المسؤول (oikia) عن بيت، أي كل من هو “أب عائلة”([4]).

3-اصطلاحا: عرفت المواطنة في “موسوعة كولير الأمريكية” بـأنها: “أكثر أشكال العضوية في جماعة سياسية اكتمالا، وهي لا تتميز عن مفهوم الجنسية([5]).

وأشارت “دائرة المعارف البريطانية” إلى المواطنة بأنها: “علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق فيها” وتؤكد أيضا بأنها تدل ضمنا على مرتبة من الحرية مع مات يصاحبها من مسؤوليات، وتختتم المفهوم بأنه عموما يسبغ بحقوق سياسية مثل حق الانتخاب وتولي المناصب العامة([6]).

كما تذكر “موسوعة الكتاب الدولي” المواطنة على أنها “عضوية كاملة في دولة أو بعض وحدات الحكم وتؤكد أن المواطنين لديهم بعض الحقوق مثل حق التصويت، وحق تولي المناصب العامة، وكذلك عليهم بعض الواجبات مثل واجب دفع الضرائب والدفاع عن بلدهم”([7]).

هذا وقد عرفت في قاموس علم الاجتماع على أنها: “مكانة أو علاقة اجتماعية تقوم بين شخص طبيعي وبين مجتمع سياسي (دولة) ومن خلال هذه العلاقة يقدم الطرف الأول الولاء، ويتولى الثاني مهمة الحماية، وتتحدد هذه العلاقة بين الشخص والدولة عن طريق القانون كما يحكمها مبدأ المساواة” ويضيف أن المواطنة تشير في القانون الدولي إلى فكرة القومية وذلك رغم أن الأخيرة أوسع في معناها من الأولى، وطالما أن المواطنة تقتصر فقط على الأشخاص الذين تمنحهم الدولة حقوقا معينة فإن المنظمات والشركات المساهمة لها قومية لا مواطنة، ويشير المفهوم في علم الاجتماع إلى الالتزامات المتبادلة بين الأشخاص والدولة، بحصول الأولين على بعض الحقوق السياسية والمدنية بانتمائهم إلى مجتمع سياسي معين ويكون عليهم في الوقت نفسه بعض الواجبات يؤدونها([8]).

وليس بعيدا عن التعريفات السابقة عرفت المواطنة في “موسوعة العلوم الاجتماعية” على أنها “المشاركة بالعضوية الكاملة في دولة (State) لها حدود إقليمية، ويتضمن المصطلح في طياته أساسا شاملا، فالمواطنون هم إما جميع البالغين، وإما بعض الفئات العامة منهم (الذكور وأصحاب الملكية) والمصطلح في أغلبه مفهوم غربي نشأ في اليونان وروما، وجرى استخدامه في الدول المدنية الصغيرة في أوربا في العصور الوسطى ثم امتد استخدامه بشكل هائل في المجتمعات الرأسمالية (Capitalisme) في القرنين 19-20م”([9]).

وجاء أيضا في تعريف “المواطن” (Citizen) أنه: “فرد من المجتمع وعضو كامل الحقوق والواجبات في الدولة، بحيث يضبط دستور دولته حقوقه الأساسية والثابتة” ونشأ هذا المفهوم مع انتصار الثورة الفرنسية (1978م) على النظام الملكي، بحيث تحول الأفراد من مجرد “رعايا للملك لا حقوق فعلية لهم عند مسؤوليتهم إلى مواطنين في ظل نظام ديمقراطي تتشكل فيه السلطة من الأسفل إلى الأعلى، بحيث لا تنفك السلطة أن تكون مجرد عقد بين الاثنين قابلا للإبطال حالما فقد المواطنون الثقة في حاكميهم، ولهذا فمفهوم المواطنة يرتبط عضويا بالديمقراطية([10]).

وبشكل جذاب ملفت للانتباه فيه الكثير من المنطقية والدقة يهب “عبد الكريم غلاب” إلى القول بأن: “المواطن يأخذ جذره من الوطن” في أوسع معانيه الذي يمنح المنتمي إليه الإقامة والحماية والتعليم والاستشفاء والحرية وحق الحكم والتوجيه واستعمال الفكر واليد واللسان… وتلك حقوق يتيحها –لا نقول يمنحها- الوطن للمواطن من مداولات الكلمة…” ويضيف “ويلتقي المفهوم الأسمى للمواطن مع المفهوم الأسمى للإنسان” ينتقل مفهوم المواطن إلى مفهوم أشمل هو المواطنة” فتصبح المواطنة إنسانية مضافا إليها التعلق بشخص آخر يشاركه الوطن، ويقسم معه مضامين “الوطن” و”الموطن” والمواطن هو الذي يصنع القانون الذي يضبط مسيرة الوطن في طريقه إلى المكان الأرفع، على اعتبار أنه القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة، ويعتبر اختيار نظام الحكم المظهر الأول للمواطنة حيث أن “البلاد التي استقامت فيها المواطنة بمفهومها الوطني والإنساني سارت الحياة فيها نحو الأسمى ولا حد للسمو([11]).

هذا ويذهب “عزمي بشارة” بشكل مثير يستقطب التفكير في حديثه عن المواطنة والديمقراطية لاعتبار المواطنة: “هي القاعدة التي تنطلق منها المطالبة بالديمقراطية ليس بغرض الوصول إلى السلطة فحسب، بل بغرض ممارسة الديمقراطية وتوسيع مفهوم المواطنة ذاته… والمواطنة هي الوجه الآخر لسيادة الأمة… (و هي تنظيم محدد جدا للعلاقة بين الفرد والدولة، ويتبين الفرد والمجتمع أو بقية الأفراد المعرفين كمجتمع (Gesellshaft) أو (Individum) المنفرد في المجتمع مع انحلال الجماعة العضوية، وإنما تقصد الفرد بمعنى الواحد (Daseinelme) وقد تترتب حقوق هذا الفرد عند انتسابه لمجموعة بشرية نظمت ذاتها تنظيما سياسيا بغض النظر عن تسميتها “مجتمع المدينة اليونانية “القومية” في عصرنا وغيرها… هذه الحقوق تنجب نوعا محددا من المواطنة تشتق فيه الحقوق من الانتماء إلى جماع أي من الهوية في الواقع”([12]).

هذا وتعد المواطنة مفهوما مهما يتوسط بين المجتمع المدني والدولة، وتحدد للمواطن كيفية ممارسة حقوقه ومسؤولياته، وهي عامل مهم في صحة واستقرار أي نظام حكم، إنها بمعنى آخر تشير لنا إلى من هو المدين بالواجبات إلى الدولة، ويتمتع أيضا بحمايتها لحقوقه وهي توفر الإطار الشرعي للمجتمعات الفردية داخل المجتمع المدني، وهي أكثر من تلك الحالة الشرعية لتحقيق المكاسب الاقتصادية والرعاية الصحية العامة والتعليم والتربية والأمن الاجتماعي، إنها أيضا توفر الإحساس المشترك بالهوية لكل الذين يملكونها([13]).

وقد ذهب “زهير خطب” إلى تعريف الهوية بأنها: “فعل إرادي انتقائي يقرب ما بين العناصر المكونة لها، لتوحيدها في إطار مشروع مشترك وحياة مشتركة ورموز ومصالح مشتركة يلتقي عليها أكبر تجمع من الأمم والشعوب لتأكيد انتمائها إلى العصر من جهة أو ليضمن حقوقه على أساس الخيار القانوني من جهة أخرى، وهي بهذا تختلف عن الانتماء الذي يمثل الارتباط بأصل مفروض على الإنسان لا يتوقف على قراره([14]).

III-التعريف الإجرائي لمفهوم المواطنة:

ثانيا: السيرورة التاريخية لمفهوم المواطنة:

I-في العصور القديمة:

يرتبط تاريخ المواطنة بتاريخ سعي الإنسان من أجل الإنصاف والعدل والمساواة، وذلك قبل حتى أن يستقر مصطلح المواطنة أو ما يقاربه في المعنى في الأدبيات بزمن بعيد. وبتعبير آخر فقد بدأ مشوار المواطنة مع بداية نضال الإنسان من أجل إعادة الاعتراف بكيانه، وبحقه في الطيبات، ومشاركته في اتخاذ القرارات إلى أن أخذ ذلك النضال شكل الحركات الاجتماعية بقيام الحكومات الزراعية في “وادي الرافدين” مرورا بحضارة “سومر” و “آشور” و “بابل” وحضارات “الصين” والهند و “ارس” وحضارات “الفينيقيين” و “الكنعانيين” إلى حضارتي “الإغريق” فالرومان.

وقد جاء الفكر السياسي الإغريقي ومن بعده الروماني –بوجه خاص- بأسس حول مفهوم المواطنة والحكم الجمهوري، مع التأكيد على ضرورة المنافسة لتولي المناصب وأهمية المشاركة في مناقشة السياسة العامة باعتبار ذلك أمرا قيما ومطلوبا في حد ذاته([15]).

هذا وقد كان النظام الاجتماعي في ظل الديمقراطية الإثنية المباشرة يقوم على أساس طبقي يتدرج هرميا من ثلاث طبقات يعتليها طبقة المواطنون المناط لها تولي الشؤون السياسية، تليها طبقة الأجانب التي تتولى النشاط التجاري، لتتربع في قاعدة الهرم طبقة الأرقاء (العبيد) والتي تناط لها العملية الإنتاجية([16])، وتعتبر المواطنة الإثنية من أقرب أشكال المواطنة القديمة إلى المفهوم المعاصر لها، من حيث تحقيق المساواة الإثنية من اقرب أشكال المواطنة القديمة إلى المفهوم المعاصر لها، من حيث تحقيق المساواة على قاعدة المواطنة بين الأفراد المتساويين([17])، حيث اقترن المفهوم بمفهوم المشاركة السياسية كمعيار أول وأساس للمواطنة الحقة([18])، ويكمن الاختلاف بين المواطنة الإثنية والحديثة في كون الأولى كانت تعني مبدأي الحق والواجب من الناحية السياسية، في حين يقوم هذين المبدأين في الأخيرة على أساس قانوني([19])، وعلى هذا الأساس فقد نحصر الشعب الإثني (المواطنون في عشر (1/10) مجموع الشعب بالمفهوم الاجتماعي([20]).

ونشير أن الديمقراطية الإثنية قد اهتمت بالحريات والحقوق السياسية دون غيرها من حريات وحقوق واقتصرت صفة المواطن فيها على الذكور الإثنيين (من أبوين إثنينين) فقط من سنة 20 عاما دون غيرهم من الإناث والأجانب، وهو ما يطلق عليه اصطلاح “المواطنة القاصرة”([21]). وبالموازاة مع توسيع الإمبراطورية الرومانية فقد توسع أيضا مفهوم “المواطنة” عكس ما كان في دولة إثنية، حيث أصبح المواطن شخصا قانونيا يتمتع بحقوق يجب حمايتها من الآخرين، وقد حملت المواطنة الرومانية مفهوم “الرعوية” وركزت على “المساواة بحيث أعطت حرية اكتساب الجنسية، بمعنى أنهم وسعوا قاعدة المواطنين، وجعلوا للجميع قانونا واحدا باعتبارهم رعايا الإمبراطورية، وكأن بالمواطنة الرومانية أخذت طابعا عالميا لا محليا كما حال المواطنة الإثنية([22]).

II-عند العرب والمسلمين الأوائل وحتى الدولة العثمانية:

تعد الحياة القبلية العربية وما نشأ عنها من حكومات –بتعذر تحويل تلك الحكومات إلى حكم فردي مطلق- كانت أيضا كالتجربتين السياسيتين الإغريقية والرومانية- إلى حد ما- وذلك بحسب ما يتطلبه تماسك القبلية وعلاقات القبائل المتحالفة من مشاركة في اتخاذ القرارات الجماعية الخاصة بهم، وكان اختيار شيخ القبيلة –أو سيدها- على أساس انتخاب حر بين الأفراد الذكور لا بالوراثة، ويكون بذلك الشيخ الأول بين مجموع المتساوين عليه أن يتشاور مع ناسه في الشؤون العامة وقد عرفت القبائل العربية كما في الدولة القتبانية مجالس تمثل الشعب وتصدر القوانين والأنظمة، كما عرفت دولة “سبأ” قدرا من المشاركة السياسية والتمثيل النيابي أيضا، وكل ذلك إلى جانب التطور التجاري والاستقرار أدى إلى نشوء “حكم المدنية” في مكة مع تولي “قصي” الرئاسة عليها ونظم شؤون المدينة، وقد عمل على إنشاء “الملأ” تحت ولايته ودار الندوة([23]).

ثم جاء “الإسلام” ليؤصل للوحدة الإنسانية على أساس من المساواة في الحقوق والواجبات كما تشير إليه الآيات الكريمة في قوله تعالى: “يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم”([24]). وقوله عزوجل: “يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين”([25]). وكانت نظرة الإسلام للمساواة على أساس من السلم بين المسلمين بعضهم ببعض، وبينهم وبين غير المسلمين ممن ألقوا إليهم السلم، وكانت مبادئ العدل والقسط والإنصاف من جوهر المبادئ الإسلامية وأسماها، كما أقر مبدأ الشورى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكلها أسس لتحقيق مبدأ المواطنة والأخوة الإسلامية والإنسانية([26]).

ففي حقيقة المنظور الإسلامي ليست هناك معركة بين الإسلام وبين المسيحية أو اليهودية ولا حتى معركة بين المسلمين وغيرهم من مسيح ويهود([27]).

لقد كانت الهجرة النبوية أول خطوة في اتجاه تأسيس الدولة الإسلامية، ويعد إعلان “صحيفة المدينة” أول دستور مكتوب يحدد علاقات المسلمين ببعضهم، وعلاقاتهم بغيرهم (اليهود في ذلك الحين)([28]). وقد تم أول خطاب مباشر “رسمي” من النبي صلى الله عليه وسلم إلى زعماء العالم في زمانه في العام السادس الهجري بعد “صلح الحديبية الشهير” بينه وبين المشركين([29]). وكل تلك التجارب كانت لبنات حية وأرض خصبة للمسلمين التابعين كان بإمكانهم تحويلها إلى نظام سياسي يحقق المساواة والعدل والإنصاف بين المسلمين أنفسهم، وبينهم وبين غير المسلمين ممن يشاركونهم الوطن، ولكانوا بذلك قد استطاعوا أن يقرروا مفهوما أكثر تقدما من عصرهم هو مبدأ المواطنة([30]).

إذن فتاريخ المعايشة السلمية بدأ مع الدعوة المحمدية، حيث كانت هناك معايشة كريمة بين المسلمين وأهل الكتاب بصورة تلقائية بغير حساسية ولا خصومة ولا عقد([31]). كما كانت لغير المسلمين مواقع المسؤولية في المجتمع الإسلامي عبر تاريخه([32])، وكل ذلك وغيره كثير إنما هو دال على “روح الإسلام الحقة التي تسعى إلى عمارة الكون على أساس من العدل والقسط تحفظ الكرامة الإنسانية وتصونها([33])، وإعلان حصانة هذه الكرامة الإنسانية وتقرير حقوق الإنسان الأساسية باعتباره مخلوق الله المختار وخليفته في الأرض أقرته نصوص قرآنية كريمة بالدرجة الأولى، مما يعطيها بعدا وعمقا عقيديا([34]).

هذا وقد أقر أول دستور عثماني (1876م) مبدأ المساواة في جميع الحقوق والواجبات بين جميع مواطني الدولة العثمانية على اختلاف أديانهم، وكان ذلك إسقاط لمفهوم “أهل الذمة” من البناء القانوني في العالم العربي([35]).

III-إعادة اكتشاف مبدأ المواطنة في أوربا:

تراجع مبدأ المواطنة في الفكر السياسي بعامة طوال الفترة الممتدة بين 300م و1300م بسبب إندثار الديمقراطية الإغريقية والرومانية من جهة، وتوجه نظام الحكم في الحضارة الإسلامية إلى الحكم الملكي المطلق غير المقيد–باستثناء البدايات الواعدة للممارسات الإسلامية في صدارة الإسلام- من جهة أخرى، ثم بدأ هذا المبدأ يطفو على سطح الفكر بإعادة اكتشافه من جديد والعمل على بناء الدولة الوطنية وتحقيق الاندماج الوطني ومستويات فعالة من المشاركة السياسية وسيادة القانون، وكان ذلك حجر الزاوية للمذهب الديمقراطي والممارسات الديمقراطية لأنظمة الحكم الأوربية والغربية معا([36]).

فقد ظهر مفهوم التسامح كنتاج عصر النهضة والتنوير خلال القرن 17م على أنقاض حكم الإقطاع المتحالف مع الكنيسة الكاثوليكية المتميز حينها بالصراعات ذات الطابع الإثني والمنطقي والجغرافي والمدني وإن كانت في جوهرها صراعات طبقية واقتصادية أساسا. وقد كان لرموز عصر التنوير من أمثال “هوبز” “لوك” و “روسو” و “مونتسكيو” بطرحهم نظرياتهم المتعلقة بالعقد الاجتماعي أثرا عميقا في إعادة بناء مفهوم المواطنة وتحول المواطن إلى ذات حقوقية وكينونة مستقلة([37]).

ويذهب “علي خليفة الكواري” إلى رصد ثلاث تحولات كبرى متداخلة ومتكاملة مرت بها التغيرات السياسية التي أرست مبدأ المواطنة في الدولة الوطنية الديمقراطية في دائرة الحضارة الغربية وتمثلت هذه المحطات في([38]):

1-بروز الدولة القومية (الوطنية): لقد أدى الانتصار على الكنيسة واعتماد المبدأ الذي أعلن في “سلم وستفاليا” العام 1648م، وكذلك اختراع البارود، وما نتج عنه من زيادة قوة الملوك لفرض سيطرتهم وإخضاع الممالك وأمراء الإقطاع سلطتهم وانتشار العامل القومي ونزوع كل قومية في أوربا إلى تكوين دولتها على أساس قومي تاريخي يسعى إلى قوة الأمة ونجاحها تعبيرا عن وعي السكان بوحدتهم وتجسيدها في إطار الدولة الوطنية، من أهم العوامل التي أدت إلى ظهور وانتشار الدولة الوطنية الحديثة في أوربا.

2-المشاركة السياسية: فبعد إقامة الدولة الوطنية أخذت المشاركة السياسية دورا بارزا في تكوين الدولة الحديثة، وأصبحت العلاقة بين الدولة (الملك) والشعب مباشرة، وبذلك أخذت فكرة سيادة الشعب تطبيقا حركيا حيا، حيث تم استدراك الشطر الثاني الذي كان غائبا في المعادلة في العصور الوسطى أين سادت هذه الفكرة وغاب مفهوم الشعب، ثم برز مبدأ التمثيل النيابي عندما وجدت ضرورة وجود تمثيل لدافعي الضرائب أو المؤثرين في دافعيها ومن هنا ساد القول المشهور (No toxation without representation)  ويشير التاريخ الاقتصادي لأوربا ومستعمراتها إلى العلاقة بين الحاجة إلى جلب الضرائب من السكان من جهة، وفكرة المشاركة السياسية من جهة أخرى.

3-حكم القانون: ويعد هذا العامل ثالث تلك العوامل الذي أرسى أسس المواطنة المعاصرة، وما ترتب عليه من انتشار مبدأ المساواة، ومما ساعد على دعم هذين المبدأين ما نتج عن إقرار إعلان الاستقلال في أمريكا وإعلان حقوق الإنسان والمواطن في فرنسا.

وفيما يأتي سنحاول عرض أهم المحطات التاريخية البارزة في تاريخ المجتمعات الغربية ومسيرة تاريخ المواطنة والديمقراطية في عالم اليوم.

أ-في بريطانيا:

لقد كان للوثيقة العظمة “الماجناكارتا” التي عرفتها بريطانيا، والتي أجبر على توقيعها الملك العام 1615م عظيم الأثر في تحويل الحكم وتعطيل سلطة الفرد المطلقة، وإخضاعها لسلطة القانون واحترام الحريات الشخصية للأفراد، تلتها فترة أخرى كانت بمثابة بؤرة للتوتر بين البرلمان والسلطة الملكية الخارجة عن بنود الوثيقة السابقة، نتجت عنها ثورة كان لها أعمق الأثر في تاريخ حقوق الإنسان عام 1688م، وقد توج حينها انتصار البرلمان بتوقيع “وثيق الحقوق” العام 1689م، والتي قضت بمسؤولية الملك أمام البرلمان وخضوعه لقوانين البلاد([39])، ثم توالت المحطات التي توقف عندها تاريخ البشرية بكثير من الأحداث والإفرازات المتعلقة بحقوق الإنسان حيث صدر “قانون الإصلاح الانتخابي” العام 1832 في بريطانيا، والذي أعطى حق المشاركة للطبقة الوسطى، ليعدل هذا القانون في “فبراير 1918م ويعطي حق الاقتراع العام([40]).

ويذهب “مارشال” (T.H.Marshall) في كتابه “المواطنة والطبقة الاجتماعية” (citizenship and social class) (1950م) إلى تحديد مراحل ثلاث لتطور المواطنة في بريطانيا([41]).

1-في القرن 18م: وعرفت “المواطنة المدنية” وشملت حقوق المساواة أمام القانون الحرية الشخصية حرية الكلام والفكر والدين وحق الملكية وإبرام العقود.

2-في القرن 19م: “المواطنة السياسية” وشملت حق التصويت وحق تقلد المناصب.

3-في القرن 20م: “المواطنة الاجتماعية” وشملت مستوا أساسيا من الرعاية الاقتصادية والاجتماعية ودولة الرفاه (Welfare state) والمشاركة الكاملة في الثقافة الوطنية.

ب-في أمريكا:

استطاعت مسيرة حقوق الإنسان تحقيق مكسب كبير مع نجاح الثورة الأمريكية و”إعلان استقلال الولايات المتحدة الأمريكية” العام 1776م، حيث وجد القادة الأمريكان أنه لا يمكن أن يكتمل الدستور إلا بإعلان وثيقة تعلن حقوق المواطن القارة والتي لا تتغير بتغير الحكومات والأنظمة والدساتير([42]). وقد تضمنت وثيقة الإعلان تلك ديباجة تعبر عن أفكار “لوك” و “روسو” ووضعت على إثر ذلك دساتير تتضمن لائحة بحقوق الأفراد (Bill of rights) ([43]).

ج-في فرنســـا([44]):

لقد مر إعادة إقرار مبدأ المواطنة المفضي إلى الديمقراطية الليبرالية بمراحل ثلاث تمثلت محطتها التاريخية الأولى في “الثورة الفرنسية” العام 1789م وما أفرزته من قرارات صارمة و “إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي” الذي تصدر دستور 1791م وإقراره لمبادئ الحرية والمساواة والملكية والسيادة الوطنية وفصل السلطات وضمان الحقوق، تلتها المحطة الثانية العام 1848 والتي تضمنت وضع دستور 1848م، إثر “الثورة العمالية” وما أفرزته من إقرارات جديدة تتعلق بقضايا الحرية والأمن وحق التجمع وحرية التعليم والمساعدة الاجتماعية وما إلى ذلك لتتوج المحطة الثالثة بدستور 1946م والذي أفضى بجملة من الحقوق والحريات الجديدة كحق اللجوء وعدم التمييز تلتها  فترة إعلان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

IV-انتشار مبدأ المواطنة وحقوق الإنسان والديمقراطية عبر العالم:

لقد استطاع الوعي الاجتماعي المحصل بوثائق الحقوق على مساعدة الجماهير في أواخر القرن19م وبداية القرن 20م، على الاستفادة من الديمقراطية السياسية لزيادة محصلتها من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية فضلا عن تلك الحقوق السياسية المحصلة آنفا.

وقد ترتب على الثورة البلشفية 1917م حصول العمال والكادحين على حقوقهم في دستور نفس السنة، وفي سنة 1948م صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وكان بمثابة توصية غير ملزمة للدول، إلا أن آثاره كانت عميقة على الصعيد العالمي، وفي سنة 1966م صدر عن الجمعية العامة اتفاقيتين عالميتين بشأن الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وفي العام 1971م دعا المجلس الاقتصادي والاجتماعي الدول الأعضاء في الأمم المتحدة إلى تقديم تقارير دورية عن أوضاع الحقوق والحريات في بلدانها، وأنشئت لجنة خاصة لدراسة هذه التقارير تنضوي تحت لجنة حقوق الإنسان، صادقت عام 1979م على هذه الاتفاقية فقط ستة دول عربية([45])، وهكذا فقد ارتبط مسار الديمقراطية في العالم بمسار حقوق الإنسان وإعلان مبدأ المواطنة في الدول الغربية ثم تدريجيا وعبر فترات تاريخية متباعدة عبر كامل أنحاء المعمورة ليصبح هذا المسار مخرجا حتميا أفرزته المستجدات العالمية.

ثالثا: قضايا المواطنة في الفكر العربي النهضوي:

لقد ظهر الاهتمام الكبير والجدي بالمواطنة وقضاياها في أعمال علماء النهضة العربية ومفكريها، وإن كانت لم ترد صراحة وبالشكل الدقيق الذي كان في أعمال أقرانهم الغربيين، ويعود بروز حلم النخبة الفكرية والسياسية العربية في سبيل بناء الدولة المدنية القائم على المؤسسات الدستورية واحترام الحريات وحقوق المواطن إلى قرن ونصف القرن، أي منذ ظهور مؤلف “رفاعة رافع الطهطاوي” المرشد الأمين” والذي ركز فيه على العدل كأساس للدولة الحديثة” وإن ما عداه من الفضائل إنما هي متفرعة منه([46])، هذا وقد اعتبر “الطهطاوي” التربية السياسية سمة هذه الدولة حيث تبدد فيها احتكار النخبة المالكة للسياسة ومعارفها، ذلك أن العلاقة بين الحكام والمحكومين أصبحت مبنية على أساس قانوني وعليه يبدو لزاما على كل مواطن معرفة ذلك القانون الذي يربطه بحكامه على اعتبار أن “الشعب”  قد أصبح أحد أركان الدولة، فهو بهذا يشير إلى ضرورة نشر الفكر السياسي وتعميم مبادئه في المؤسسات التعليمية، وقد افترض نوعين من التعليم والتربية لحفظ نظام الدولة وتحقيق قوتها يتعلق الأول منها بتربية الملوك والرؤساء، ويتعلق الثاني بتربية أبناء الوطن (المواطنين)([47]). وقد كان معاصره “أحمد فارس الشدياق” (1804-1887) في كتابه “الساق على الساق فيما هو الفرياق” ذا موقف مواقف جريئة في معالجته لقضايا حساسة وقتها كتلك المتعلقة بحرية المعتقد وحرية الجسد، وموضوع المرأة إذ اعتبر أن لا نهضة للشرق إلا بنهضة المرأة، ويتفق “خير الدين التونسي” مع “الطهطاوي” في مسألة العدل والذي عرفه بـ “العدل السياسي” في كتابه “أقوم المسالك”([48])، وقد استخدم مفهوم “الاحتساب على الدولة” بحيث يرى أنه لابد أن تكون تنظيمات ومؤسسات الدولة ممثلة تمثيلا حقيقيا، وأن تكون لها رقابة على السلطة التنفيذية، وهذا ما تمثله وظيفة البرلمان والذي يطلق عليه تسمية “مجلس الوكلاء” والذي يضم بدوره من ينتخبهم الأهالي للمناضلة عن حقوقهم والاحتساب على الدولة.

هذا وقد تحدث عن الحرية الشخصية، والحرية السياسية وحرية النشر والتعبير([49])، كما اتفق معه أيضا حول ضرورة تحضير رجال وتكوينهم سياسيا ليستطيعوا النهوض بدولتهم وبأمتهم، غير أن “خير الدين” قد اختص بالتثقيف السياسي النخبة دون عامة المواطنين واعتبر أن العلماء والسياسيين هم مبعث النهضة والقادرون على تحقيق تقدم الأمة وتمدنها، وأوكل مهمة التثقيف إلى مسؤولية الدولة([50]).

في حين نجد أن “الأفغاني” لا يقر بدور التربية السياسية لتحقيق التغيير السريع، وعكس ذلك فإن “الانتفاضة الشعبية” كفيلة بتحقيق ذلك([51])، ويذهب “محمد عبده” إلى ضرورة التثقيف السياسي للطبقات الوسطى لأنها الأقدر على التغيير وإزالة الاستبداد وعلى عكس ما ذهب إليه كل من “الطهطاوي” و”خير الدين” فإن هذا الأخير يوكل مسؤولية التربية إلى عاتق الأمة لا الدولة، إذ يرى أن قيمة الوعي السياسي للأمة هو أن “تسير نفسها” وتشكل “حكومة نيابة” تكون ممثلة فيها حيث أن الأمة الواعية والمؤهلة علميا وسياسيا هي التي تحمل الحكومة على العدل والإصلاح، والتي بدورها ستحمل الأهالي على البحث في المصالح العامة([52]).

هذا وقد ذهب “عبد الرحمان الكواكبي” إلى كون “إنسانية” الإنسان لا يمكنها أن تتحقق بمجرد الاندماج في المجتمع السياسي والانخراط في الدولة، وإنما إنسانيته تتأتى بالتربية والتعليم([53])، وقد اجتهد في وصف العلاقة الثلاثية بين المستبد والعلماء والعامة، فرأى أن العلماء يسعون في تنوير عقول العامة، ويسعى المستبد لإطفاء نورها، والطرفان يتجاذبان العوام، أولئك الذين إذا جهلوا خافوا، وإذا خافوا استسلموا، ولكنهم متى علموا قالوا، ومتى قالوا فعلوا، ولذلك كان خوف المستبد من رعيته أكثر من خوفهم من بأسه([54]). ويذهب إلى أن التربية السياسية هي التي تزيل الاستبداد والتي تشمل فيما تشمل تلقين حقوق الأمم وطبائع الاجتماع والسياسة والمدنية، والتاريخ المفصل والخطابة الأدبية ونحوها من العلوم التي تكبر النفوس وتوسع العقول، وتعرف “الإنسان” ما هي حقوقه وبهذا كانت الثقافة السياسية هي التي تعرف بها الأمة حقوقها، ومعرفة الأخيرة لحقوقها ضرورية للحياة العادلة([55])، كما ركز بشكل كبير على قضية الحرية([56])، ودعا إلى نشر الجرائد اليومية وتعميم معرفة التاريخ وإعداد الساحات والمنتديات للاجتماع والمذكرات وإلقاء الخطب وإبداء التظاهرات على غرار ما هو موفور في الدول الأوربية([57]).

وبنفس الدرجة أكد “عبد الله نديم” على ضرورة التربية السياسية في تكوين أبناء الأمة وتحقيق وحدتهم وبث روح العمل والثقافي فيه في نفوسهم من أجل الوطن، واعتبر أن الدولة وحكامها هم الأقدر على تربية أبناء بلادهم على حب الوطن والملة والدولة، وتدريبهم على الأعمال الإدارية والحربية والصناعية، وسد باب الأجنبي أمامهم بإعطائهم “الحقوق الوطنية” والملكية، وتسليمهم الأعمال العالية التي ترشحوا لها واستعدوا للقيام بأعبائها.

إذن نخلص إلى أن قضايا المواطنة والديمقراطية كالتنشئة الاجتماعية السياسية، والتمثيل النيابي والعدل والحرية والتعددية كانت تشغل كثيرا تفكير وكتابات مفكري النهضة العربية بغية انتشالها من حلقة التأخر ودائرة التخلف الذين تعيشهما، كمؤشر انطلاقة نحو تنمية سياسة حقة ترسي دعائمها على مبدأ مواطنة حقيقي وديمقراطية ناجحة تغوص جذورها في الأغوار الثقافية والتاريخية والواقعية، تعلى من شأن الصالح الوطني العام فوق الاعتبارات الذاتية والطائفية، وتسمو عن التمذهب للعرق والدين، وتستأصل التهميش والإقصاء.

قائمة الهوامش:

([1]) علي خليفة الكواري: المواطنة والديمقراطية في البلدان العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، 2001،  ص ص 32، 34.

([2]) ابن منظور: لسان العرب، دار صادر، بيروت: 1997، ص460.

([3]) عزمي بشارة: المجتمع المدني دراسة نقدية (مع إشارة للمجتمع المدني العربي)، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت: ط2، 2000، ص72.

([4]) علي خليفة الكواري: المواطنة والديمقراطية في البلدان العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، 2001، ص ص 32، 34.

([5]) علي خليفة الكواري وآخرون: مرجع سابق، ص31.

([6]) المرجع نفسه، ص30.

([7]) المرجع نفسه، ص ص 30، 31.

([8])محمد عاطف غيث،قاموس علم الاجتماع،دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1989،ص56.

([9]) ميشيل مان: موسوعة العلوم الاجتماعية، ترجمة عادل مختار الهواري وسعيد عبد العزيز مصلوم، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1999م، ص ص 110، 111.

([10]) فريدريك معتوق، مرجع سابق، ص87.

([11]) علي خليفة الكواوري وآخرون، مرجع سابق، ص ص 35، 36.

([12]) www.amin.org/views/azmi_bishara/2003/oct16.htm

([13]) Keith Faulks : Ibid, P123.

([14]) فلاح كاظم المحنة:العولمة والجدل الدائر حولها،الوراق للنشر والتوزيع،عمان،2002،ص167

([15]) علي خليفة وآخرون: مرجع سابق، ص16 ، 18.

([16]) عبد الرحمان خليفة ومنال أبو زيد، مرجع سابق، ص 21، 19.

([17]) علي خليفة الكواري وآخرون: مرجع سابق، ص 18.

([18]) ابراهيم ابراش، مرجع سابق، ص 256، 257.

([19]) عبد الرحمان خليفة ومنال أبو زيد، المرجع السابق، ص22.

([20]) ابراهيم ابراش، المرجع السابق، ص257.

([21]) المرجع نفسه، ص29.

([22]) المرجع نفسه، ص58.

([23]) علي خليفة الكواري وآخرون: مرجع سابق، ص ص 18، 19.

([24]) سورة الحجرات، الآية 13.

([25]) سورة النساء، الآية 135.

([26]) علي خليفة الكواري وآخرون: مرجع سابق، ص ص 20، 21.

([27]) فهمي هويدي: مواطنون لا ذميون موقع غير المسلمين في مجتمع المسلمين، دار الشروق، القاهرة، ط3، 1999، ص13.

([28]) المرجع نفسه، ص17.

([29]) المرجع نفسه، ص19.

([30]) علي خليفة الكواري وآخرون: مرجع سابق، ص21.

([31]) فهمي هويدي، مرجع سابق، ص66.

([32]) المرجع نفسه، ص69.

([33]) المرجع نفسه، ص73.

([34]) المرجع نفسه، ص99.

([35]) المرجع نفسه، ص126.

([36]) علي خليفة الكواري وآخرون: مرجع سابق، ص24.

([37]) www.rchrs.org/journal2/j211.htm(9/03/2004).

([38]) علي خليفة الكواري وآخرون: مرجع سابق، ص ص 25، 29.

([39]) محمد مجذوب: الوحدة والديمقراطية في الوطن العربي، منشورات عويدات، بيروت، باريس 1980، ص ص 145-146.

([40]) السيد عبد الحليم الزيات، ج2، مرجع سابق، ص180.

([41]) ميشال مان: موسوعة العلوم الاجتماعية، مرجع سابق، ص 110، 111.

([42]) محمد مجذوب، مرجع سابق، ص146.

([43]) محمد طه بدوي وليلى مرسي، مرجع سابق، ص84.

([44]) روبير بيلو، مرجع سابق، ص ص 13، 54.

([45]) علي خليفة الكواري وآخرون: مرجع سابق، ص31.

([46])الحبيب الجنجاني:”لماذا ينتكس التنموير العربي”مجلة العربي،العدد530،جامفي2003،ص22.

([47]) اسماعيل زروحني: الدولة في الفكر العربي الحديث، ص ص 473، 474.

([48]) الحبيب الجنجاني، المرجع السابق، ص27.

([49]) المرجع نفسه، ص22.

([50]) اسماعيل زروخي، المرجع السابق، ص ص 475، 477.

([51]) المرجع نفسه، ص479.

([52]) اسماعيل زروخي، المرجع السابق، ص ص 481، 482.

([53]) المرجع نفسه، ص483.

([54]) خالد الكركي وآخرون:المشروعالحضاري العربي،بين التراث والحداثة،مرجع سابق، ص33.

([55]) اسماعيل زروخي، المرجع السابق، ص ص 483، 484.

([56]) خالد الكركري وآخرون، المرجع السابق، ص32.

([57]) اسماعيل زروخي، المرجع السابق، ص484

SAKHRI Mohamed
SAKHRI Mohamed

أحمل شهادة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، بالإضافة إلى شهادة الماستر في دراسات الأمنية الدولية من جامعة الجزائر و خلال دراستي، اكتسبت فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الرئيسية، ونظريات العلاقات الدولية، ودراسات الأمن والاستراتيجية، بالإضافة إلى الأدوات وأساليب البحث المستخدمة في هذا التخصص.

المقالات: 14860

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *